قراءة في أبعاد الهجرة النبويَّة ورأس السنة الهجريَّة

قراءة في أبعاد الهجرة النبويَّة ورأس السنة الهجريَّة

كنا نتكلّم بالأمس حول رأس السنة الهجرية من الداخل، يعني كيف نتمثّلها في أنفسنا وفي إسلامنا وفي الواقع العملي للمسلمين...

مناسبة حزن أم فرح؟

أما في هذه الليلة، سنحاول أن نتحدث من وحي مناسبة رأس السنة الهجرية، من خلال بعض المشاكل التي تحيط بهذا الموضوع، من حيث إن رأس السنة الهجرية يلتقي مع بداية موسم عاشوراء. وقد أصبح من المألوف في العرف العام، أنّ الاحتفال برأس السنة الهجرية يكون عند الإخوة من المسلمين السنّة، ولا يتحرّك بشكل شعبي في واقع المسلمين الشيعة.

وربما يتصوَّر بعض المسلمين الشيعة، أنّ اعتبار رأس السنة الهجرية عيداً، قد يصطدم بمناسبة عاشوراء، باعتبار أنّ رأس السنة إذا اعتُبر عيداً، فكأنّه يوم فرح، بينما تمثّل بداية عاشوراء يوم حزن. وربما يظنّ البعض أنَّ الاحتفال برأس السنة الهجريّة يمثّل ردّ فعل للاحتفال بموسم عاشوراء. وربما يستذكر بعض الناس أنّ بني أمية اعتبروا يوم عاشوراء من أعيادهم، في الوقت الذي يعتبر الأئمّة(ع) وكلّ التابعين لهم أنّه يوم حزن ومأساة وبكاء.. فكأنهم يظنّون أنّ هذا من ذاك. وربما يعيش المسلمون هنا وهناك عقدة ضدّ بعضهم البعض في هذه المسألة.

إنني أحبّ أن أوضح هذه المسألة، حتى لا نستغلّ أيّ مسألة يختلف فيها التفاهم، من أجل إيجاد حقد جديد بين المسلمين، وإيجاد اختلاف جديد بين المسلمين.

أوّلاً: إنّ اعتبار رأس السنة الهجريّة عيداً، هذا ليس تقليداً إسلامياً، لأنه في الإسلام، العيد الشرعي الذي يحرم فيه الصّوم وتجب فيه بعض الأعمال أو تستحبّ، هو عيد الفطر وعيد الأضحى، وليست هناك أعياد بالمعنى الشرعي في كلّ ما تعارف عليه الناس من أعياد، حتى مولد النبي(ص)، وهو اليوم الذي أشرقت فيه الدنيا بنوره، ليس عيداً إسلامياً بالمعنى الشرعي، بل هو مناسبة نحتفل بها ونتذكّره ونزوره بها، ولكن ليست عيداً بالمعنى الشرعي للعيد.

وعلى ضوء هذا، فرأس السنة الهجرية ليس عيداً إسلامياً بالمعنى الشرعي للعيد، ولكنّه مناسبة توحي بالمسلمين بالكثير من المشاعر والأحاسيس والأفراح، لأنّ رأس السنة الهجرية تشير إلى هجرة النبيّ(ص) ومن معه من المسلمين، ليؤسّسوا المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ولتبدأ عملية التحدّي للشرك والكفر، وعملية ردّ التحدي الموجَّه إلى المسلمين من خلال المشركين والكافرين.

فهي مناسبة تستحقّ منا أن نحتفل بها احتفالاً إسلامياً، بحيث نتمثل في رأس السنة كلّ هذه السنين التي قطعها المسلمون منذ أن عاش الإسلام حركته في الهجرة وحتى الآن، ولنتصوّر كما تحدّثنا بالأمس، أننا جزء من المسيرة الإسلامية، فالذين سبقونا صنعوا قسماً من تاريخ الإسلام، سواء كان سلبياً أو إيجابياً. ونحن مسؤوليتنا عندما تأتي كلّ سنة هجريّة جديدة، أن نصنع تأريخ الإسلام بجهدنا، وبحسب مسؤولياتنا وإمكاناتنا، وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

لذلك، فإنّ الاحتفال برأس السنة الهجريّة هو احتفال بسنة إسلاميّة جديدة، نشعر فيها بأنَّ علينا أن نتمثّل حركة الواقع الإسلامي كلّه في العالم، وحركة الإسلام في أنفسنا، لنبدأ سنة جديدة نخطِّط لها في أنفسنا، من أجل أن نصوع أنفسنا صياغة إسلاميّة جديدة في العقيدة وفي الشَّريعة وفي السياسة وفي الاجتماع وفي الحرب وفي السِّلم وكلّ مواقع التقدّم في الحياة وفي العالم، وأن نخطّط أيضاً للعالم الإسلامي في علاقاته الداخلية، وفي علاقاته السياسية والاقتصادية، وفي موقعه من العالم، باعتبار أن العالم الإسلامي يمثل خُمس المسلمين في العالم، ولذلك، فهو يملك من الناحية العددية، ومن ناحية الثروات الاقتصادية، ومن ناحية الإمكانات الفكرية والإبداعية، يملك الكثير لو هيِّئ له أن يخطّط لعمل إسلامي يتوحَّد فيه المسلمون، لينطلقوا إلى صنع التجربة الإسلاميّة في العالم من جديد، لأنّنا نفهم في وعينا الإسلامي، أن المسلم لن يكون فرداً، لا يعيش الفردية، لأن الله يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. فالله يريدنا أن نعمل على أساس أسلمة العالم، بحيث إنّه كما أنّ الله بعث رسوله كافّةً للناس بشيراً ونذيراً، فنحن الذين نأتي بعد الرسول(ص)، ونتحمَّل مسؤوليتنا كلّ في موقعه، وكلّ في دوره، نحن مدعوّون لأن ننشر الإسلام في العالم، وأن نحافظ على الإسلام في داخل بلداننا الإسلاميّة، من كلّ الذين يريدون أن ينقلوا المسلمين من الإسلام إلى الكفر، من أحزاب علمانيّة كافرة أو تيارات إلحاديّة، أو ما إلى ذلك من كلّ شؤون الظّلام.

لذلك، نحن عندما نحتفل برأس السنة الهجرية، فإننا نحتفل بحركية الإسلام في داخل نفوسنا، وبحركية الإسلام في كلّ مواقع العالم.

لماذا الاحتفال بالهجرة في محرَّم؟!

وقد يقول بعض الناس، إنّ الهجرة لم تقع في أوّل محرَّم، ولكنها وقعت على الأغلب في ربيع الأوَّل، فلماذا نحتفل بالهجرة في أوّل محرّم؟

واقعاً، نحن نحتفل في أوّل محرَّم برأس السنة الهجريّة، وقد كان من عادة العرب في ذلك الحين، أنهم يعتبرون أوّل السنة أوّل محرَّم، ولكنهم اختاروا تاريخ الهجرة عنواناً للتّأريخ. ولذلك، نحن عندما نتصوَّر رأس السنة الهجريّة، فنحن نتصوّر التاريخ الإسلامي الذي بدأ من الهجرة، ونتصوّر معه تأثير الهجرة في واقع الإسلام في حركته. ولذلك، نحن نفرح بالهجرة، ونفرح بانتصارات المسلمين عندما نجد هناك انتصاراً في هذه السنة وفي تلك السنة، لأن هناك فرقاً بين فرح العبث وبين فرح الرّسالة، هناك فرح العبث الّذي يعيش فيه الناس ألواناً من اللّهو والعبث، كما يفعلون في رأس الميلادية، مما فرضته الوثنية الغربية على المسيحيّة، لأن المسيحية في معناها لا تتوافق مع كلّ هذا الفسق والفجور والعبث الّذي يقف فيه المسيحيّون في العالم ليحتفلوا برأس السنة الميلادية، ولكننا نعيش الفرح بالرّسالة والفرح بالرّسول والفرح بالإسلام، وبذلك يلتقي فرحنا بالرّسالة وبالرسول بفرحنا بالحسين(ع).

نحن نفرح بالحسين كما نبكي في مأساته، لأن الحسين علّمنا أنه كان يعيش الفرح في قلب المأساة، فنحن نقرأ في سيرة الحسين(ع) في عاشوراء، أنه عندما تلقّى دم ولده عبدالله الرضيع، وقد اعتنقه، وكان يرفرف على صدره كالطّير المذبوح، كما تقول كتب السيرة، كان الحسين(ع) في أقصى حالات الألم، وأنا لا أتصوّر ألماً إنسانيّاً يمكن أن يفترس كلّ مشاعر الإنسان وأحاسيسه كهذا الألم الذي عاشه الحسين(ع).

إنه أقصى من الألم الذي واجهه عندما سقط عليّ الأكبر، وعندما سقط القاسم وأبو الفضل العباس، لأنه عاش مأساة الطفولة البريئة التي تعتنقه وتضمّه وترفرف على صدره.. إنها مأساة فوق المأساة.

ولكنّ الحسين ماذا قال؟ هل بكى؟ رمى بدم ولده نحو السّماء وقال: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله". فمادام الله يراني وأنا أعيش المأساة وأضحّي في سبيله، فليُقتل طفلي وأولادي، فلا مشكلة عندي طالما الله يراني.

وهكذا، كان الحسين(ع) رساليّاً في حركته، كانت المأساة في قلب الرّسالة، وكان الفرح في قلب المأساة.

هناك حبّ يعيشه الإنسان في مشاعره، وهناك فرح يعيشه الإنسان في عقله وفي أهدافه في الحياة.

لذلك، علينا أن لا نعتبر أنّ احتفال المسلمين برأس السنة الهجريّة موجّهاً ضدّ عاشوراء، لنخلق من ذلك مشكلة سنّة شيعيّة، بل يمكننا أن نحتفل برأس السنة الهجرية احتفالاً يخلو من أيّ مظهر من مظاهر الفرح العبثيّ الذي يتمثل في اللّهو وما إلى ذلك، وأن نعيش أيضاً الحزن القلبي في عاشوراء.

في أجواء الهجرة

ولعلنا نحتاج في رأس السنة الهجريّة أن نذكّر المسلمين جميعاً، بأنّ هجرة الحسين(ع) هي امتداد لهجرة رسول الله(ص).

فالرسول هاجر لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون كلمة الشيطان هي السفلى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَ}.

فالهجرة كانت من أجل تسقط كلمة الذين كفروا، ومن أجل أن تبقى كلمة الله هي العليا. والحسين(ع) قال: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

إنّه خطّ رسول الله نفسه.. فالنبيّ(ص) بدأ التأسيس، والحسين(ع) بدأ التصحيح بعد أن انحرف المسلمون عن الحقّ. لذلك أيّها الأحبّة، عاشوراء تلتقي بمعنى هجرة الحسين(ع)، بهجرة النبيّ(ص)، لأنّ الحسين(ع) من رسول الله نسباً وحركةً ونهجاً وجهاداً، ورسول الله من الحسين، لأن رسول الله عاش في كلّ الحسين، حتى كأنّه قطعة منه.

كلّ عناوين كربلاء إسلاميّة

لذلك أيها الأحبة، علينا أن لا نمذهب المناسبات الإسلامية، بل أن نعتبر أن رأس السنة الهجرية في معناها الإسلامي الحركي، مناسبة إسلامية لكلّ المسلمين، ولنعتبر عاشوراء مناسبة إسلاميّة لكلّ المسلمين، لأنّ دين جدّه(ص) هو دين المسلمين جميعاً، ولإن إصلاح الدين هو هدف المسلمين جميعاً، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو التشريع الذين يؤمن به المسلمون جميعاً، لأنه خطّ القرآن وعنوان القرآن.. وهكذا، عندما طرح الحسين قضيّة العزّ والذلّ، فإنّه طرح عنواناً قرآنيّاً، عندما يقول الله: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، والحسين ركّز على هذ العنوان عندما قال: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السّلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون"، كأنه يشير إلى هذه الآية.

لذلك، كل عناوين كربلاء عناوين إسلامية. إنّ كربلاء لم تطلق أيّ عنوان في داخل الواقع الإسلاميّ، مما اختلف فيه المسلمون، وإن كان لكربلاء رأي في المسألة، وإذا كان العدوّ في كربلاء هو يزيد، باعتبار أنه هو الذي أطلق الحرب، وابن زياد الذي نفذ الحرب، فإنّ ابن زياد ويزيد لا يمثلان المسلمين جميعاً، ولا يمثّلان أهل السنّة، لنعتبر أن مسألة عاشوراء هي مسألة الشيعة ضدّ السنّة.. ليست القضيّة كذلك، لأنّ الحسين مقدَّس عند كل المسلمين، لأن المسلمين رأوا كيف كان رسول الله(ص) يحتضن الحسن والحسين، وكان يدعو المسلمين إلى محبّتهما، وكان يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا، فَأَحِبَّهُمَا، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا".

وقد سمع المسلمون منه ذلك، ورووا أنّه(ص) قال: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"، و "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".

لقد سمع المسلمون ذلك، وعاش المسلمون حبّ الحسن والحسين، بالرغم من كلّ الأحداث التي مرّت على المسلمين، فيما اختلف فيه الواقع الإسلامي منذ بداية الحكم الأمويّ الّذي ألقى بظلّه الثَّقيل على المسلمين، حتى إنَّ الّذين حاربوا الحسين(ع)، قال عنهم الفرزدق الشّاعر للإمام الحسين(ع)، عندما صادفه في طريقه إلى الكوفة، واصفاً مشاعرهم وأحاسيسهم: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

كانوا يعيشون الحبّ للحسين، ولكنه حبّ لا يقف في المستوى القويّ ضدّ مصالحهم وأطماعهم. وهذه مشكلة الكثيرين من الناس الّذين يعيشون الحبّ عاطفيّاً، ولكنهم يقتلون من يحبونه، ويسقطون من يحبّونه.. هذا واقع إنساني، عندما لا يعيش الإنسان في خطّ حبّه وفكره، بحيث يعيش الازدواجية بين ما يؤمن به وبين ما يحتاج إليه.

مصلحة المسلمين في وحدتهم

أيّها الأحبّة، ما أريد أن أذكّر به، أن علينا مهما أمكننا، أن لا نستسلم لما يراد إثارته من مشاعر سلبيّة في الواقع الإسلامي.

أقولها للمسلمين السنّة الذين ربما تتحرك في داخلهم بعض التيارات المتخلّفة أو المبغضة المرتبطة بالمخابرات الدولية، من أجل أن تعقّد مواقفهم وكلماتهم ومواقهم ضدّ المسلمين الشيعة، إننا نقول لهم، ليس ذلك مصلحة السنّة، وليس ذلك مصلحة الإسلام كله، لأننا إذا بحثنا عن خلفيات كلّ هذه الأعمال والكلمات، فإننا نرى الاستكبار العالمي يقف وراءها، إضافةً إلى التخلف والجهل.

وهكذا نقول للمسلمين الشيعة، ليس هناك أيّ مصلحة لكم في أن تتحرّكوا من أجل إيجاد حقد ضدّ المسلمين السنّة، أو تعملوا من أجل إثارة الحساسيات هنا وهناك، لأن أئمة أهل البيت(ع) أمرونا أن نحافظ على وحدة المسلمين. ونحن عندما ندرس سيرة عليّ(ع)، وهو صاحب الحقّ في يوم الغدير وفي غيره، كيف أُبعد عن حقّه في الخلافة، وبقي في بيته 25 سنة، فإننا نجد أنّ كل تلك الفترة كانت رعاية للإسلام والمسلمين، فقد أعطى الرأي والمشورة والرعاية والحماية للّذين أبعدوه عن حقّه من أجل الإسلام.. لم يتنازل عن حقّه، ولكنّه جمد المطالبة به، وقد قال: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّةً".

وإذا كنا نلتزم عليّاً(ع) أيها الأحبّة، فعلينا أن نأخذ من عليّ هذا الخطّ، لأنّه كان يفكّر في أن تسلم أمور المسلمين. ولذلك، كان يرعى الساحة، ولم تصدر عنه أيّ كلمة تثير، حتى إنه في خطبة الشقشقية التي تحدّث فيها عن نفثات صدره، إنما كان يتحدث عن القضية بحسب طبيعتها، دون أن يثير أية مشاكل مما يختلف فيه الناس، وقد قال في نهاية هذه الخطبة: "لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ".

وقد قال لابن عباس، وقد رآه يخصف نعله، قال له: يابن عباس، أترى هذه النّعل؟ وكأنّه يقول ما قيمتها؟ قال: بلى. قال: "إنها أحبّ إليّ من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً".

وهذا هو خطّ عليّ، أن يقيم الحقّ، وأن يدفع الباطل، وأن يحافظ على الحقّ من كلّ المشاكل التي تحاول أن تبعده عن السّاحة، وتحاول أن تحيطه بالكثير من الهوامش الّتي تسقط موقعه وروحه. لذلك، كان عليّ مع الحقّ في واقعه، وكان مع الحقّ في وحدة المسلمين، وفي رعاية الخطّ العامّ، وإن كان هناك مشاكل داخل هذا الخطّ. وكان عليّ مع الحقّ، لكنه أراد أن لا تستعمل كلمة الحقّ ليراد بها الباطل، ولذلك قال عندما تحدّث الخوارج عن أنّه "لا حكم إلا لله"، قال: "كلمة حقّ يراد بها باطل".

لذلك، أراد للأمّة أن لا تقف أمام الكلمات، ولكن أن يدرسوا ما خلف الكلمات، أن يدرسوا شخصيّة الذين يطلقون الكلمات.

ونرى عليّاً(ع) بعد وفاة رسول الله(ص)، عندما صارت الخلافة إلى أبي بكر، وجاء أبو سفيان، وكان قد دخل في الإسلام بعد فتح مكّة، جاء إلى العباس عمّ النبيّ وعمّ عليّ، وقال له: امض بنا إلى ابن أخيك لنبايعه، والله لأملأنّ عليهم خيلاً ورجالاً. فجاء إلى عليّ(ع)، وتحدّث معه أبو سفيان، وكان ينتظر من الإمام(ع) أن يتحمّس، ولكنّه ردّ عليه ما مضمونه: يا أبا سفيان، متى كنت مخلصاً للإسلام؟ كلّ حياتك كانت ضدّ الإسلام، كلّ حياتك حربٌ لرسول الله.. لم تدعه يرتاح منذ أن بعث بالرّسالة، حاصرته في مكّة إلى الآن، متى كنت مخلصاً للإسلام؟

عليّ بن أبي طالب عنده رسالة: "فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ اَلْإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ المُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعظَمَ مِن فَوتِ وِلاَيَتِكُمُ اَلَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ اَلسَّرَابُ، أو كَمَا يَتَقَشَّعُ اَلسَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ اَلْأَحْدَاثِ، حَتَّى زَاحَ اَلْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاِطْمَأَنَّ اَلدِّينُ وَتَنَهْنَهَ".

السّير على نهج عليّ(ع)

لذلك أيها الأحبّة، ليكن منطقنا منطق عليّ(ع)، الذي حفظ الإسلام منذ أن فتح عينيه على الحياة، وعاش الإسلام بكلّه، وباع نفسه لله، وكان المجاهد والمعلّم والعابد. وعندما أبعد عن حقّه، حضن الإسلام بصدره وبحكمته وبوعيه وما إلى ذلك.. لا تتحركوا في هوى ألسنتكم، ومن خلال غرائزكم، إن المرحلة، أيها الأحبة، التي يعيشها المسلمون في العالم الآن من أقسى المراحل، لأن المسلمين تحوّلوا مزقاً، وانطلق الاستكبار يأخذ كلّ واحد منهم مزقة من هنا ومزقة من هناك، ولذلك نجد أن بلادنا أصبحت طعمة لكلّ المستكبرين في العالم.

لذلك، علينا أن لا نشغل أنفسنا بالأشياء التي أشغلنا أنفسنا بها بمستوى غرائزنا مئات السنين.

أختم كلامي بمثلٍ أظنّ أنني تحدّثت فيه سابقاً، يقول إن هناك شخصاً وقع في بئر، هذه البئر كان فيها شجرة، تعلّق بالشّجرة ونظر إلى البئر، فرأى جرذاً كبيراً يقرض غصن الشّجرة المتعلّق به، وهناك تنّين في أسفل البئر، فاتحاً فاه، ينتظر متى يسقط حتى يلتقمه، حانت منه التفاتة، فوجد قفير نحل، مدّ يديه وتذوّق العسل، فأحسّ بحلاوة العسل، فبدأ يأكل من العسل، وشغله حلاوة العسل عن التّفكير في الجرذ الّذي يقرض الغصن، وفي التنين الذي يفتح فاه..

ألسنا نعيش كذلك؛ خلافات حزبية، خلافات عائلية وشخصية، وخلافات إقليميّة قوميّة عرقيّة مذهبيّة؟ مشغولين... وجاءت إسرائيل وهي تقرض، وقرضت فلسطين وجزءاً من لبنان وسوريا، والتنين الأمريكي فاتح فاه، حتى يأكل كلّ ثرواتنا وكلّ اقتصادنا، ونحن مشغولون بأكل عسل أحقادنا وغرائزنا وخلافاتنا.. هل نحن أمّة تعي مصيرها؟ وتعي مستقبلها وحاضرها؟

أيها الأحبّة، لم يكن عليّ يريد لنا أن نتلهّى بحلاوة العسل لنغفل عن الجرذان الذين يقرضون، قرضوا البوسنة والهرسك وأشياء كثيرة، والتنين الذي يدّعي قيادة العالم يريد أن يحتوي واقع المسلمين.

أيها الأحبّة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُو}، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.

نسأل الله أن يعطينا المزيد من الوعي، والمزيد من العلم والمعرفة والتقوى، والمزيد في السير على الصّراط المستقيم، صراط الله وصراط النبيّ وصراط عليّ والأئمّة... فإذا أردتم الصراط المستقيم، فحاولوا أن تعرفوا كيف ينطلق الخطّ المستقيم، لأنّ الله سبحانه يقول: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. والحمد لله ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*اللّيلة الثّانية من عاشوراء، العام 1999.

كنا نتكلّم بالأمس حول رأس السنة الهجرية من الداخل، يعني كيف نتمثّلها في أنفسنا وفي إسلامنا وفي الواقع العملي للمسلمين...

مناسبة حزن أم فرح؟

أما في هذه الليلة، سنحاول أن نتحدث من وحي مناسبة رأس السنة الهجرية، من خلال بعض المشاكل التي تحيط بهذا الموضوع، من حيث إن رأس السنة الهجرية يلتقي مع بداية موسم عاشوراء. وقد أصبح من المألوف في العرف العام، أنّ الاحتفال برأس السنة الهجرية يكون عند الإخوة من المسلمين السنّة، ولا يتحرّك بشكل شعبي في واقع المسلمين الشيعة.

وربما يتصوَّر بعض المسلمين الشيعة، أنّ اعتبار رأس السنة الهجرية عيداً، قد يصطدم بمناسبة عاشوراء، باعتبار أنّ رأس السنة إذا اعتُبر عيداً، فكأنّه يوم فرح، بينما تمثّل بداية عاشوراء يوم حزن. وربما يظنّ البعض أنَّ الاحتفال برأس السنة الهجريّة يمثّل ردّ فعل للاحتفال بموسم عاشوراء. وربما يستذكر بعض الناس أنّ بني أمية اعتبروا يوم عاشوراء من أعيادهم، في الوقت الذي يعتبر الأئمّة(ع) وكلّ التابعين لهم أنّه يوم حزن ومأساة وبكاء.. فكأنهم يظنّون أنّ هذا من ذاك. وربما يعيش المسلمون هنا وهناك عقدة ضدّ بعضهم البعض في هذه المسألة.

إنني أحبّ أن أوضح هذه المسألة، حتى لا نستغلّ أيّ مسألة يختلف فيها التفاهم، من أجل إيجاد حقد جديد بين المسلمين، وإيجاد اختلاف جديد بين المسلمين.

أوّلاً: إنّ اعتبار رأس السنة الهجريّة عيداً، هذا ليس تقليداً إسلامياً، لأنه في الإسلام، العيد الشرعي الذي يحرم فيه الصّوم وتجب فيه بعض الأعمال أو تستحبّ، هو عيد الفطر وعيد الأضحى، وليست هناك أعياد بالمعنى الشرعي في كلّ ما تعارف عليه الناس من أعياد، حتى مولد النبي(ص)، وهو اليوم الذي أشرقت فيه الدنيا بنوره، ليس عيداً إسلامياً بالمعنى الشرعي، بل هو مناسبة نحتفل بها ونتذكّره ونزوره بها، ولكن ليست عيداً بالمعنى الشرعي للعيد.

وعلى ضوء هذا، فرأس السنة الهجرية ليس عيداً إسلامياً بالمعنى الشرعي للعيد، ولكنّه مناسبة توحي بالمسلمين بالكثير من المشاعر والأحاسيس والأفراح، لأنّ رأس السنة الهجرية تشير إلى هجرة النبيّ(ص) ومن معه من المسلمين، ليؤسّسوا المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ولتبدأ عملية التحدّي للشرك والكفر، وعملية ردّ التحدي الموجَّه إلى المسلمين من خلال المشركين والكافرين.

فهي مناسبة تستحقّ منا أن نحتفل بها احتفالاً إسلامياً، بحيث نتمثل في رأس السنة كلّ هذه السنين التي قطعها المسلمون منذ أن عاش الإسلام حركته في الهجرة وحتى الآن، ولنتصوّر كما تحدّثنا بالأمس، أننا جزء من المسيرة الإسلامية، فالذين سبقونا صنعوا قسماً من تاريخ الإسلام، سواء كان سلبياً أو إيجابياً. ونحن مسؤوليتنا عندما تأتي كلّ سنة هجريّة جديدة، أن نصنع تأريخ الإسلام بجهدنا، وبحسب مسؤولياتنا وإمكاناتنا، وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

لذلك، فإنّ الاحتفال برأس السنة الهجريّة هو احتفال بسنة إسلاميّة جديدة، نشعر فيها بأنَّ علينا أن نتمثّل حركة الواقع الإسلامي كلّه في العالم، وحركة الإسلام في أنفسنا، لنبدأ سنة جديدة نخطِّط لها في أنفسنا، من أجل أن نصوع أنفسنا صياغة إسلاميّة جديدة في العقيدة وفي الشَّريعة وفي السياسة وفي الاجتماع وفي الحرب وفي السِّلم وكلّ مواقع التقدّم في الحياة وفي العالم، وأن نخطّط أيضاً للعالم الإسلامي في علاقاته الداخلية، وفي علاقاته السياسية والاقتصادية، وفي موقعه من العالم، باعتبار أن العالم الإسلامي يمثل خُمس المسلمين في العالم، ولذلك، فهو يملك من الناحية العددية، ومن ناحية الثروات الاقتصادية، ومن ناحية الإمكانات الفكرية والإبداعية، يملك الكثير لو هيِّئ له أن يخطّط لعمل إسلامي يتوحَّد فيه المسلمون، لينطلقوا إلى صنع التجربة الإسلاميّة في العالم من جديد، لأنّنا نفهم في وعينا الإسلامي، أن المسلم لن يكون فرداً، لا يعيش الفردية، لأن الله يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. فالله يريدنا أن نعمل على أساس أسلمة العالم، بحيث إنّه كما أنّ الله بعث رسوله كافّةً للناس بشيراً ونذيراً، فنحن الذين نأتي بعد الرسول(ص)، ونتحمَّل مسؤوليتنا كلّ في موقعه، وكلّ في دوره، نحن مدعوّون لأن ننشر الإسلام في العالم، وأن نحافظ على الإسلام في داخل بلداننا الإسلاميّة، من كلّ الذين يريدون أن ينقلوا المسلمين من الإسلام إلى الكفر، من أحزاب علمانيّة كافرة أو تيارات إلحاديّة، أو ما إلى ذلك من كلّ شؤون الظّلام.

لذلك، نحن عندما نحتفل برأس السنة الهجرية، فإننا نحتفل بحركية الإسلام في داخل نفوسنا، وبحركية الإسلام في كلّ مواقع العالم.

لماذا الاحتفال بالهجرة في محرَّم؟!

وقد يقول بعض الناس، إنّ الهجرة لم تقع في أوّل محرَّم، ولكنها وقعت على الأغلب في ربيع الأوَّل، فلماذا نحتفل بالهجرة في أوّل محرّم؟

واقعاً، نحن نحتفل في أوّل محرَّم برأس السنة الهجريّة، وقد كان من عادة العرب في ذلك الحين، أنهم يعتبرون أوّل السنة أوّل محرَّم، ولكنهم اختاروا تاريخ الهجرة عنواناً للتّأريخ. ولذلك، نحن عندما نتصوَّر رأس السنة الهجريّة، فنحن نتصوّر التاريخ الإسلامي الذي بدأ من الهجرة، ونتصوّر معه تأثير الهجرة في واقع الإسلام في حركته. ولذلك، نحن نفرح بالهجرة، ونفرح بانتصارات المسلمين عندما نجد هناك انتصاراً في هذه السنة وفي تلك السنة، لأن هناك فرقاً بين فرح العبث وبين فرح الرّسالة، هناك فرح العبث الّذي يعيش فيه الناس ألواناً من اللّهو والعبث، كما يفعلون في رأس الميلادية، مما فرضته الوثنية الغربية على المسيحيّة، لأن المسيحية في معناها لا تتوافق مع كلّ هذا الفسق والفجور والعبث الّذي يقف فيه المسيحيّون في العالم ليحتفلوا برأس السنة الميلادية، ولكننا نعيش الفرح بالرّسالة والفرح بالرّسول والفرح بالإسلام، وبذلك يلتقي فرحنا بالرّسالة وبالرسول بفرحنا بالحسين(ع).

نحن نفرح بالحسين كما نبكي في مأساته، لأن الحسين علّمنا أنه كان يعيش الفرح في قلب المأساة، فنحن نقرأ في سيرة الحسين(ع) في عاشوراء، أنه عندما تلقّى دم ولده عبدالله الرضيع، وقد اعتنقه، وكان يرفرف على صدره كالطّير المذبوح، كما تقول كتب السيرة، كان الحسين(ع) في أقصى حالات الألم، وأنا لا أتصوّر ألماً إنسانيّاً يمكن أن يفترس كلّ مشاعر الإنسان وأحاسيسه كهذا الألم الذي عاشه الحسين(ع).

إنه أقصى من الألم الذي واجهه عندما سقط عليّ الأكبر، وعندما سقط القاسم وأبو الفضل العباس، لأنه عاش مأساة الطفولة البريئة التي تعتنقه وتضمّه وترفرف على صدره.. إنها مأساة فوق المأساة.

ولكنّ الحسين ماذا قال؟ هل بكى؟ رمى بدم ولده نحو السّماء وقال: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله". فمادام الله يراني وأنا أعيش المأساة وأضحّي في سبيله، فليُقتل طفلي وأولادي، فلا مشكلة عندي طالما الله يراني.

وهكذا، كان الحسين(ع) رساليّاً في حركته، كانت المأساة في قلب الرّسالة، وكان الفرح في قلب المأساة.

هناك حبّ يعيشه الإنسان في مشاعره، وهناك فرح يعيشه الإنسان في عقله وفي أهدافه في الحياة.

لذلك، علينا أن لا نعتبر أنّ احتفال المسلمين برأس السنة الهجريّة موجّهاً ضدّ عاشوراء، لنخلق من ذلك مشكلة سنّة شيعيّة، بل يمكننا أن نحتفل برأس السنة الهجرية احتفالاً يخلو من أيّ مظهر من مظاهر الفرح العبثيّ الذي يتمثل في اللّهو وما إلى ذلك، وأن نعيش أيضاً الحزن القلبي في عاشوراء.

في أجواء الهجرة

ولعلنا نحتاج في رأس السنة الهجريّة أن نذكّر المسلمين جميعاً، بأنّ هجرة الحسين(ع) هي امتداد لهجرة رسول الله(ص).

فالرسول هاجر لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون كلمة الشيطان هي السفلى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَ}.

فالهجرة كانت من أجل تسقط كلمة الذين كفروا، ومن أجل أن تبقى كلمة الله هي العليا. والحسين(ع) قال: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

إنّه خطّ رسول الله نفسه.. فالنبيّ(ص) بدأ التأسيس، والحسين(ع) بدأ التصحيح بعد أن انحرف المسلمون عن الحقّ. لذلك أيّها الأحبّة، عاشوراء تلتقي بمعنى هجرة الحسين(ع)، بهجرة النبيّ(ص)، لأنّ الحسين(ع) من رسول الله نسباً وحركةً ونهجاً وجهاداً، ورسول الله من الحسين، لأن رسول الله عاش في كلّ الحسين، حتى كأنّه قطعة منه.

كلّ عناوين كربلاء إسلاميّة

لذلك أيها الأحبة، علينا أن لا نمذهب المناسبات الإسلامية، بل أن نعتبر أن رأس السنة الهجرية في معناها الإسلامي الحركي، مناسبة إسلامية لكلّ المسلمين، ولنعتبر عاشوراء مناسبة إسلاميّة لكلّ المسلمين، لأنّ دين جدّه(ص) هو دين المسلمين جميعاً، ولإن إصلاح الدين هو هدف المسلمين جميعاً، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو التشريع الذين يؤمن به المسلمون جميعاً، لأنه خطّ القرآن وعنوان القرآن.. وهكذا، عندما طرح الحسين قضيّة العزّ والذلّ، فإنّه طرح عنواناً قرآنيّاً، عندما يقول الله: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، والحسين ركّز على هذ العنوان عندما قال: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السّلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون"، كأنه يشير إلى هذه الآية.

لذلك، كل عناوين كربلاء عناوين إسلامية. إنّ كربلاء لم تطلق أيّ عنوان في داخل الواقع الإسلاميّ، مما اختلف فيه المسلمون، وإن كان لكربلاء رأي في المسألة، وإذا كان العدوّ في كربلاء هو يزيد، باعتبار أنه هو الذي أطلق الحرب، وابن زياد الذي نفذ الحرب، فإنّ ابن زياد ويزيد لا يمثلان المسلمين جميعاً، ولا يمثّلان أهل السنّة، لنعتبر أن مسألة عاشوراء هي مسألة الشيعة ضدّ السنّة.. ليست القضيّة كذلك، لأنّ الحسين مقدَّس عند كل المسلمين، لأن المسلمين رأوا كيف كان رسول الله(ص) يحتضن الحسن والحسين، وكان يدعو المسلمين إلى محبّتهما، وكان يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا، فَأَحِبَّهُمَا، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا".

وقد سمع المسلمون منه ذلك، ورووا أنّه(ص) قال: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"، و "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".

لقد سمع المسلمون ذلك، وعاش المسلمون حبّ الحسن والحسين، بالرغم من كلّ الأحداث التي مرّت على المسلمين، فيما اختلف فيه الواقع الإسلامي منذ بداية الحكم الأمويّ الّذي ألقى بظلّه الثَّقيل على المسلمين، حتى إنَّ الّذين حاربوا الحسين(ع)، قال عنهم الفرزدق الشّاعر للإمام الحسين(ع)، عندما صادفه في طريقه إلى الكوفة، واصفاً مشاعرهم وأحاسيسهم: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

كانوا يعيشون الحبّ للحسين، ولكنه حبّ لا يقف في المستوى القويّ ضدّ مصالحهم وأطماعهم. وهذه مشكلة الكثيرين من الناس الّذين يعيشون الحبّ عاطفيّاً، ولكنهم يقتلون من يحبونه، ويسقطون من يحبّونه.. هذا واقع إنساني، عندما لا يعيش الإنسان في خطّ حبّه وفكره، بحيث يعيش الازدواجية بين ما يؤمن به وبين ما يحتاج إليه.

مصلحة المسلمين في وحدتهم

أيّها الأحبّة، ما أريد أن أذكّر به، أن علينا مهما أمكننا، أن لا نستسلم لما يراد إثارته من مشاعر سلبيّة في الواقع الإسلامي.

أقولها للمسلمين السنّة الذين ربما تتحرك في داخلهم بعض التيارات المتخلّفة أو المبغضة المرتبطة بالمخابرات الدولية، من أجل أن تعقّد مواقفهم وكلماتهم ومواقهم ضدّ المسلمين الشيعة، إننا نقول لهم، ليس ذلك مصلحة السنّة، وليس ذلك مصلحة الإسلام كله، لأننا إذا بحثنا عن خلفيات كلّ هذه الأعمال والكلمات، فإننا نرى الاستكبار العالمي يقف وراءها، إضافةً إلى التخلف والجهل.

وهكذا نقول للمسلمين الشيعة، ليس هناك أيّ مصلحة لكم في أن تتحرّكوا من أجل إيجاد حقد ضدّ المسلمين السنّة، أو تعملوا من أجل إثارة الحساسيات هنا وهناك، لأن أئمة أهل البيت(ع) أمرونا أن نحافظ على وحدة المسلمين. ونحن عندما ندرس سيرة عليّ(ع)، وهو صاحب الحقّ في يوم الغدير وفي غيره، كيف أُبعد عن حقّه في الخلافة، وبقي في بيته 25 سنة، فإننا نجد أنّ كل تلك الفترة كانت رعاية للإسلام والمسلمين، فقد أعطى الرأي والمشورة والرعاية والحماية للّذين أبعدوه عن حقّه من أجل الإسلام.. لم يتنازل عن حقّه، ولكنّه جمد المطالبة به، وقد قال: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّةً".

وإذا كنا نلتزم عليّاً(ع) أيها الأحبّة، فعلينا أن نأخذ من عليّ هذا الخطّ، لأنّه كان يفكّر في أن تسلم أمور المسلمين. ولذلك، كان يرعى الساحة، ولم تصدر عنه أيّ كلمة تثير، حتى إنه في خطبة الشقشقية التي تحدّث فيها عن نفثات صدره، إنما كان يتحدث عن القضية بحسب طبيعتها، دون أن يثير أية مشاكل مما يختلف فيه الناس، وقد قال في نهاية هذه الخطبة: "لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ".

وقد قال لابن عباس، وقد رآه يخصف نعله، قال له: يابن عباس، أترى هذه النّعل؟ وكأنّه يقول ما قيمتها؟ قال: بلى. قال: "إنها أحبّ إليّ من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً".

وهذا هو خطّ عليّ، أن يقيم الحقّ، وأن يدفع الباطل، وأن يحافظ على الحقّ من كلّ المشاكل التي تحاول أن تبعده عن السّاحة، وتحاول أن تحيطه بالكثير من الهوامش الّتي تسقط موقعه وروحه. لذلك، كان عليّ مع الحقّ في واقعه، وكان مع الحقّ في وحدة المسلمين، وفي رعاية الخطّ العامّ، وإن كان هناك مشاكل داخل هذا الخطّ. وكان عليّ مع الحقّ، لكنه أراد أن لا تستعمل كلمة الحقّ ليراد بها الباطل، ولذلك قال عندما تحدّث الخوارج عن أنّه "لا حكم إلا لله"، قال: "كلمة حقّ يراد بها باطل".

لذلك، أراد للأمّة أن لا تقف أمام الكلمات، ولكن أن يدرسوا ما خلف الكلمات، أن يدرسوا شخصيّة الذين يطلقون الكلمات.

ونرى عليّاً(ع) بعد وفاة رسول الله(ص)، عندما صارت الخلافة إلى أبي بكر، وجاء أبو سفيان، وكان قد دخل في الإسلام بعد فتح مكّة، جاء إلى العباس عمّ النبيّ وعمّ عليّ، وقال له: امض بنا إلى ابن أخيك لنبايعه، والله لأملأنّ عليهم خيلاً ورجالاً. فجاء إلى عليّ(ع)، وتحدّث معه أبو سفيان، وكان ينتظر من الإمام(ع) أن يتحمّس، ولكنّه ردّ عليه ما مضمونه: يا أبا سفيان، متى كنت مخلصاً للإسلام؟ كلّ حياتك كانت ضدّ الإسلام، كلّ حياتك حربٌ لرسول الله.. لم تدعه يرتاح منذ أن بعث بالرّسالة، حاصرته في مكّة إلى الآن، متى كنت مخلصاً للإسلام؟

عليّ بن أبي طالب عنده رسالة: "فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ اَلْإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ المُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعظَمَ مِن فَوتِ وِلاَيَتِكُمُ اَلَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ اَلسَّرَابُ، أو كَمَا يَتَقَشَّعُ اَلسَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ اَلْأَحْدَاثِ، حَتَّى زَاحَ اَلْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاِطْمَأَنَّ اَلدِّينُ وَتَنَهْنَهَ".

السّير على نهج عليّ(ع)

لذلك أيها الأحبّة، ليكن منطقنا منطق عليّ(ع)، الذي حفظ الإسلام منذ أن فتح عينيه على الحياة، وعاش الإسلام بكلّه، وباع نفسه لله، وكان المجاهد والمعلّم والعابد. وعندما أبعد عن حقّه، حضن الإسلام بصدره وبحكمته وبوعيه وما إلى ذلك.. لا تتحركوا في هوى ألسنتكم، ومن خلال غرائزكم، إن المرحلة، أيها الأحبة، التي يعيشها المسلمون في العالم الآن من أقسى المراحل، لأن المسلمين تحوّلوا مزقاً، وانطلق الاستكبار يأخذ كلّ واحد منهم مزقة من هنا ومزقة من هناك، ولذلك نجد أن بلادنا أصبحت طعمة لكلّ المستكبرين في العالم.

لذلك، علينا أن لا نشغل أنفسنا بالأشياء التي أشغلنا أنفسنا بها بمستوى غرائزنا مئات السنين.

أختم كلامي بمثلٍ أظنّ أنني تحدّثت فيه سابقاً، يقول إن هناك شخصاً وقع في بئر، هذه البئر كان فيها شجرة، تعلّق بالشّجرة ونظر إلى البئر، فرأى جرذاً كبيراً يقرض غصن الشّجرة المتعلّق به، وهناك تنّين في أسفل البئر، فاتحاً فاه، ينتظر متى يسقط حتى يلتقمه، حانت منه التفاتة، فوجد قفير نحل، مدّ يديه وتذوّق العسل، فأحسّ بحلاوة العسل، فبدأ يأكل من العسل، وشغله حلاوة العسل عن التّفكير في الجرذ الّذي يقرض الغصن، وفي التنين الذي يفتح فاه..

ألسنا نعيش كذلك؛ خلافات حزبية، خلافات عائلية وشخصية، وخلافات إقليميّة قوميّة عرقيّة مذهبيّة؟ مشغولين... وجاءت إسرائيل وهي تقرض، وقرضت فلسطين وجزءاً من لبنان وسوريا، والتنين الأمريكي فاتح فاه، حتى يأكل كلّ ثرواتنا وكلّ اقتصادنا، ونحن مشغولون بأكل عسل أحقادنا وغرائزنا وخلافاتنا.. هل نحن أمّة تعي مصيرها؟ وتعي مستقبلها وحاضرها؟

أيها الأحبّة، لم يكن عليّ يريد لنا أن نتلهّى بحلاوة العسل لنغفل عن الجرذان الذين يقرضون، قرضوا البوسنة والهرسك وأشياء كثيرة، والتنين الذي يدّعي قيادة العالم يريد أن يحتوي واقع المسلمين.

أيها الأحبّة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُو}، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.

نسأل الله أن يعطينا المزيد من الوعي، والمزيد من العلم والمعرفة والتقوى، والمزيد في السير على الصّراط المستقيم، صراط الله وصراط النبيّ وصراط عليّ والأئمّة... فإذا أردتم الصراط المستقيم، فحاولوا أن تعرفوا كيف ينطلق الخطّ المستقيم، لأنّ الله سبحانه يقول: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. والحمد لله ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*اللّيلة الثّانية من عاشوراء، العام 1999.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية