مسؤوليَّة الزّمن في حركة الحاضر والمستقبل

مسؤوليَّة الزّمن في حركة الحاضر والمستقبل

في هذه اللّيلة، نقف عند محطة جديدة من محطات الزمن، في خطّ إسلامي لحركة التأريخ في الزمن. فنحن في هذه اللّيلة، نستقبل السنة العشرين بعد الألف والأربعمائة من تاريخ هجرة النبيّ(ص)، ولا بدّ لنا أيّها الأحبّة، من أن نعيش وعي الزمن ووعي التأريخ، فالزمن يمثّل بالنّسبة إلى الفرد والمجتمع والأمَّة، حركة العمر الذي يقطعه هذا أو ذاك، ليعيش حياته...

والزمن هو الماضي الذي انقضى، وهو الحاضر الذي نعيشه، وهو المستقبل الذي ننتظره ونتطلّع إليه.

ليس هناك فرق بين زمنٍ وزمن فيما هو الخطّ الطبيعي في النظام الكوني، فالأيّام الآن كالأيام الماضية، وهي كالأيّام في المستقبل، ولكن حركة الزمن تنطلق من خلال حركة الإنسان فيه.

لا بدّ من أن ندرس الزمن في الإنسان، لأنّ الإنسان هو الذي يعطي الزمن معناه، هو الذي يعطيه معنى الوعي، وهو الذي يعطيه معنى النصر، ومعنى الهزيمة، ومعنى التقدّم والتأخر.

وعي الزّمن والتّأريخ

نحن لا بدّ لنا من أن نعيش الزمن، باعتبار أنه هو عمرنا الذي قد يطول أو يقصر كمسؤوليّة.

أن يكون لك الإحساس بالزمن، بحيث تستشعر وأنت تعيش، لتحصي الدقائق والليالي والشهور، تحصي أنّ هناك قطعة من عمرك تموت، وأنّ قطعة من عمرك تهرب منك ولن تعود، وأن عمرك هذا يمكن أن ترتفع به إلى أعلى مستوى عند الناس وعند الله، ويمكن أن تهبط به إلى أقلّ مستوى عند الله وعند الناس.

أن تحسّ بمسؤوليتك عن عمرك، أن تملأه علماً تُحرّك به العلم في داخل عقلك وفي داخل عقول الآخرين، وأن تملأ الزّمن حركة في اتجاه القضايا الكبرى التي تعيشها في أهدافك وفي خطّك الذي تلتزمه في الإسلام.

أن تتحمل مسؤولية الزمن الذي هو عمرك في ما حمّلك الله من مسؤولية تجاه نفسك، ومن مسؤولية تجاه الناس من حولك وتجاه الحياة كلّها، لأن الله عندما أعطاك هذه الطاقات التي تعيش في داخل شخصيتك، أو التي تتحرك حولك، فإن الله حمّلك مسؤولية هذه الطاقة.

لا تعتبر أن الطاقة التي أعطاك الله إياها هي امتياز تزهو به، ولكنّها مسؤولية تتحملها. وقد ورد عندنا أيها الأحبة في الحديث المأثور، أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه.

إذاً، عمرك كله وشبابك، وهو ربيع الحياة، هو مسؤوليتك، أن لا تترك هنا فراغاً فيه، وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "فَإِنْ قَدّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ، فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلَامَةٍ لَا تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَ لَا تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ"، حَتَّى الفراغ الذي يكون بين عملين، لا بدَّ من أن يكون فراغاً لا يسقطك عن مسؤوليتك، بل هو فراغ تتخفّف فيه من جهد وتعب، لتملأه بما يخفّف عن نفسك، بشرط أن لا يكون حراماً ومعصيةً لله.

لذلك أيّها الأحبّة، عندما نعيش هذه المحطة من الزمن، علينا أن نتحرّك في خطين: في مسؤوليّاتنا في الخطّ الذاتي الذي يمثّل حياتنا الخاصة الشخصية، وفي الخطّ العام الذي يمثل حياة الأمّة.

التحرّك في الخطّ الذاتيّ

أما في الخطّ الخاصّ، فعليك عندما تدخل سنة جديدة (سنة 1420هـ) أن تفكر كيف كنت في بداية السنة الماضية، كيف كانت سنتك الماضية، كيف كانت قوتك العلمية، ما حجم علمك في سنة 1419، ما حجم قوّتك ما حجم وعيك، ما حجم حركتك في القضايا التي تتحمّل مسؤوليتها أمام الله وأمام الناس؟ كيف كنت في تلك السنة؟ اجلس وتذكّر، ثم كيف أنت الآن في آخر السنة؟

هل زاد علمك أو نقص؟ هل زادت قوّتك أم نقصت؟ هل زادت حركتك في خط المسؤولية أم نقصت؟

أن تفكّر ما هو حجمك عند الله، فيما يعطيه الله للناس من حجم من خلال إيمانهم، ومن خلال تقواهم، ومن خلال كلّ ما يحيط بهم وما يتّخذونه من مواقع.

فكر كيف كنت؟ ما هو حجمك في الماضي وما هو حجمك في المستقبل؟

في الحاضر، لتركز حجمك في المستقبل، في عملية إنتاج تستفيد منها مما كنت عليه في الماضي، ومما أنت عليه الآن في الحاضر.

لأنّ المستقبل أيها الأحبة، هو نتاج الماضي ونتاج الحاضر. من الممكن أن تحدّد لأيّ إنسان طبيعة مستقبله من خلال ملامح حركته في الماضي وفي الحاضر، لأنّ المستقبل لا يأتي من فراغ، وإنما يأتي من تخطيط لما تريد أن تحصل عليه من خلال حركتك العامّة والخاصّة في الماضي وفي الحاضر.

لذلك، على الإنسان أن يجلس جلسة حساب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا". وأن تزن نفسك، أن تعرفها في سلبيّاتها وإيجابيّاتها.. أن تزن نفسك ما هو علمك، وما هو وعيك، وما هي مخطّطاتك ومشاريعك؟

أن تحاسب نفسك عن كلّ أخطائك، لأنّ من لا يحصي أخطاءه، سوف تتراكم عليه الأخطاء، ليغرق في الخطأ كلّه، فلا يصل إلى الثواب، لأنّ بعض الناس عندما يخطئ ولا يصلح خطأه، ويتكرّر الخطأ منه، سوف يتحوّل الخطأ إلى طابع في الشخصية. وبهذا يرى الإنسان الخطأ صواباً، والحسن قبيحاً، والقبيح حسناً، وهذا ما جاء في بعض الأحاديث، "إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً، نكتَتْ في قلبِه نكتةٌ سوداء"، والقلب في الإسلام هو المنطقة الداخلية، هو العقل، الشعور، الإحساس... "فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ، زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَه.

... ونحن عندما نعيش الكثير من الأخطاء التي ورثناها ولم ندرسها، أو التي اكتسبناها ولم نتعمّق فيها، فإننا نجد أنها مسؤولة عن كلّ ما نعيشه من الواقع الذي تنقلب فيه الموازين. إنك عندما تعيش العصبيّة كخطّ في حياتك، فإنّ عصبيّتك تتحوّل إلى مشكلة في داخل شخصيّتك، لأنك لن ترى القضايا بعين الحقّ والعقل، ولكن تراها بعين العصبية.

المتعصّبون عميان، لأن العصبية تضع غشاوة على عينيك، فلا تتصور الأمور بصورتها الحقيقية، بل تتصوّر العالم كما لو كانت عائلتك تختصره، أو كما لو كان حزبك يختصره، أو كما لو كان طائفتك أو قوميتك تختصره، والعالم أوسع من ذلك.

لذلك، المتعصبون الذين يعيشون في سجن عصبياتهم، لا يملكون الحريّة أن يفكّروا، ولا يملكون القدرة أن يحاوروا.

لذلك، نحن نعيش، أيها الأحبّة، في مجتمع عصبيات، ولذلك ادرس حركة عصبيتك في سنتك، في علاقتك بالناس من حولك، وما هي نتائج هذه العصبية.. وهكذا، ادرس حركة الانفعال في سنتك.. نحن ننفعل ولا نتحرك بالعقل، ولا نتحرّك بهدوء في المزاج، نغضب في البيت، ونغضب في المحلّ، ونغضب في حركة المجتمع، ونغضب في حركة السياسة وفي أكثر مواقعنا... الغضب هو الطابع الذي يتحرّك به الإنسان الشرقي، لأننا عاطفيون، بمعنى أنَّ العاطفة تقودنا.

نحن لسنا ضدّ العاطفة، ولكنّ هناك فرقاً بين عاطفة تنظر بعينين منفتحتين، وعاطفة تنظر بعينين مغلقتين.. هذه هي المسألة.

لذلك، علينا أن ننظر وقد قضينا سنة نغضب فيها؛ في البيت يغضب الزوج على زوجته، أو الزوجة على زوجها، والأولاد على آبائهم وأمهاتهم والمجتمع... علينا أن نعرف ماذا استطعنا أن نحصل من هذه العاطفة، هل حصلنا على ربح أو خسارة؟

سنجد أننا خسرنا الكثير، العاقل لا يصرّ على أيّ عمل يخسر فيه.. إنّ خسارة المال لا قيمة لها أيّها الأحبّة أمام خسارة نفسك، وأمام خسارة إنسانيّتك.. المال يذهب ويجيء، ولكنّ إنسانيّتك إذا فقدتها، فقدت معنى الحياة ومعنى وجودك، وفقدت فرصتك في القرب من الله.

لذلك، فكّر في حساباتك، في نفسك، جدّد أخلاقك، أعد النظر في أخلاقك، لأنّ أخلاقنا قد تكون من موروثات بيئتنا، وقد يورثنا آباؤنا بعض المشاكل وبعض النقائص وبعض نقاط الضعف، وعلينا أن نعيد النظر فيما ورثناه، لندرس هل هذا الموروث يمكن أن يغنينا أو أنه يفقرنا.

كذلك، نحن اكتسبنا من البيئة أشياء كثيرة؛ اكتسبنا من المدرسة ومن رفاقنا أشياء، ومن الصحيفة التي نقرأها أشياء، ومن التلفزيون والمجتمع، وفي كلّ ما نعيشه، اكتسبنا أخلاقاً معينة، ولم نخترها، بل دخلت في تكويننا الشخصي من دون أن نختارها.

لندرس: هل إن ما اكتسبناه في عناصر الشخصيّة، هل هو في جانب السلب أو الإيجاب؟

هذه هي المسألة، والله قال لنا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.

ما هي تقديماتك لغدك، سواء كان غداً مستقبلاً في الدنيا أو الآخرة؟ ليكن لديك وعي؛ وعيك لأخلاقك، وعيك لطاقاتك، وعيك للفرص التي تعيشها، وعيك للظروف التي تتحرّك فيها... أن لا تتحرّك في أيّ خطوة في حياتك إلا وأنت تعي معناها وتقتنع بها. هذه صعبة أيّها الأحبّة، ولكن الأشياء الصعبة عندما تتصل بحركة المصير للإنسان، فإنها تسهّل كثيراً. كم من الأمور الصعبة مارسناها وتحمّلنا مشاقها، وعند الصباح، أي عندما نصل إلى النتائج الطيّبة، ننسى كل المتاعب، وعندما نقدم على الله، ونرى أعمالنا بين أيدينا {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ* إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه}.. كنت أنا أعيش في الحياة، أفكّر أنّ هناك حساباً في كلّ كلمة أتكلّمها، وفي كلّ عمل أعمله، وفي كلّ موقف... ولذلك، كانت حركة حياتي، فيما أفعله أو أتركه، منطلقةً من وعي أنّ لكلّ شيء حساباً لا بدَّ من أن أقدّمه أمام الله. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه ْ* وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ *ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ...}.

وعي الزّمن

أيّها الأحبة، ليكن لنا وعي الزمن، أن تحسّ في هذه اللّحظة، أن لا تمضي عنك إلا بعد أن ملأتها بما يبني لك إنسانيّتك وشخصيتك، وبما يقرّبك إلى الله ...

عند بداية السنين، لا تدخلوا في حفلة لهوٍ وعبث، لا تدخلوا في فرح اللّهو، ولكن اعملوا أن تدخلوا في فرح النَّتائج التي تجدون فيها أنفسكم، وقد نجحتم في تجربة الزَّمن في حركتكم فيه.

المسؤوليّة في خطّ الأمّة

هذه حركة الزّمن في الواقع الشخصيّ. أما في واقع الأمّة والمجتمع، فعلينا أن ندرس أوّلاً موقعنا في الأمّة، وموقعنا في المجتمع. نحن جزء من الكلّ، المجتمع ليس شيئاً في الهواء معلّقاً تنظر إليه وتتعامل معه؛ المجتمع هو أنا وأنت والآخرون، والأمّة هي هذا الشعب وذاك الشعب.. نحن الأمّة عندما نجتمع ونتكامل، نحن المجتمع عندما نجتمع ونتكامل.. لذلك، فإنّ كلّ ما يصيب المجتمع من خلال ما يتحرّك به الأفراد مجتمعين أو منفصلين من هزائم أو انتصارات، ومن تقدّم وتأخّر، ومن وعي وتخلّف، كل ذلك يؤثّر فيك باعتبارك جزءاً من الكلّ.

لذلك، التأريخ أيّها الأحبّة، هو تأريخ هذه المسيرة الإسلاميّة التي انطلق فيها رسول الله(ص) منذ أن بدأ الهجرة. وقد أكّدت على الهجرة أن تكون هي بداية التأريخ الإسلامي، وليس الولادة، وليس البعثة، لأن الهجرة هي التي أعطت للإسلام حركيّته، حتى دخل في حياة الناس في مواقع التحدّي وردّ التحدّي، لأنّ الأمّة تبدأ عندما تدخل السّاحة الصراع في موقف التحدّي.. عندما تتحدّى، وعندما تواجه التحدّي لتردّه.

ولذلك، كانت الهجرة هي مرحلة التحدّي الذي عاشه الإسلام في حركيّته، عندما دخل الصراع مع قريش، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. لذلك، بداية تأريخنا ليست ولادة النبيّ، وإن كان النبيّ يختصر الأمّة في شخصه، لأنه أعطى الأمة كلّ ما يحمله من عناصر الوعي والتقدم والحياة، لكنّ الله أراد لنا عندما نتطلع إلى بداية التأريخ، أن نتطلّع إلى تاريخ يتحرّك، حتى نأخذ حركتنا من حركته، وحتى نستوحي من مواجهته للتحدّي كيف نتحدّى، وكيف نواجه التحدّي في القضايا الكبيرة، حتى نشعر بأننا أمّة لا تهرب في ساحة الصّراع، ولا تنعزل عن حركة الإنسان في العالم، وتريد أن تدخل العالم فاعلة منتجة لإنسان جديد وعالم جديد.

وعلى ضوء هذا، كانت الهجرة بداية حركة.. ومرت السنون والقرون، وعاش المسلمون تجاربهم، تجارب حضارة استطاعت أن تصل إلى أكبر مكان في العالم، عاشوا حضارتهم التي قال عنها البعض إنها أمّ الحضارات الحديثة، ثم عاشوا بعد ذلك عملية التراجع وعملية الانحسار وعملية التخلف، ثم دخلوا في تجربة جديدة، عندما دخلوا الواقع السياسي من خلال حركة الاستكبار في واقعهم، وحركة الاستعمار في أوضاعهم، ولايزالون يعيشون حركة الاهتزاز السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لا بدّ من أن نطرح سؤالاً: ما هي مسؤوليّتنا في هذه المسيرة الإسلاميّة؟

هل نقول: اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجنا من الشرير، ثم نجلس ونقول: المهمّ أن أعيش في بيتي مع أولادي ومع عائلتي ولا دخل لي سواء خربت أو عمرت، كما قال ذلك الشاعر المهجري:

ما علينا إن قضى الشّعبُ جميعاً أفَلَسنا في أمان ...

هل نقول ذلك أم نتحرّك؟

من يملك فكراً يعطي للأمّة فكره، ومن يملك خبرة يعطي للأمّة خبرته، ومن يعطي موقعا يعطي للأمّة موقعه، ومن يملك كلمة يعطي للأمّة كلمته، ومن يملك مالاً وقوّةً وما إلى ذلك، يعطي للأمّة بعض ذلك .

لأنّنا، كما ذكرنا أيّها الأحبّة، المجتمع ليس شيئاً معلّقاً في الهواء، بل ثروة المجتمع هي ما لدي وما لديك من ثروة، علم المجتمع هو ما لديّ وما لديك من ثروة، ولذلك ورد في القرآم الكريم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.

إذا كنت تملك علماً، فليس لك أن تحجب علمك، بل عليك أن تتحرّك به لتغني الناس بعلمك، وإذا كانت لديك طاقة، فعليك أن تعطي طاقتك، لأن الله حملك مسؤولية ذلك.

وقد ورد عن رسول الله(ص): "إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يظهر علمه، ومن لم يفعل، فعليه لعنة الله."

علينا أيّها الأحبّة في نهاية السنة، أن ندرس كيف كان العالم الإسلاميّ في بداية سنة 1419، وكيف هو العالم الإسلاميّ اليوم. كانت لدينا مشاكل مزمنة، كالمشكلة الفلسطينيّة، كيف تطوّرت؛ هل تراجعت؟ وما هو سبب التراجع؟ أو تقدّمت، وما هو سبب التقدم؟

كانت لدينا مشاكل في الواقع الإسلامي والعربي وغيرها؛ مشاكل داخلية مع الحاكمي، أو مشاكل خارجية مع الاستكبار العالمي.. كانت لدينا مشاكل فيما نختلف فيه، مشاكل مذهبيّة بين السنّة والشيعة، مشاكل طائفيّة بين المسلمين والمسيحيّين، كانت لدينا مشاكل سياسيّة بين هذا الحزب وذلك الحزب، كان مجتمعنا بصورة معيّنة...

ومرّت السنة، فكيف أصبح مجتمعنا في هذه السنة؟

كيف كانت حركتنا؟ فإذا أخذنا النتائج، سواء كانت سلبيّة أو إيجابيّة، فعلينا أن ندرس أسباب هذه النتائج، وعلينا أن نفكّر كيف نستطيع أن نزيد من الإيجابيات، وأن نقلّل من السلبيات.. لا بدّ من أن يكون لنا وعي واقع الإسلامي.

عندما تسمع إذاعة أو تقرأ صحيفة، لا تستهلك الخبر لتقرأه وتنساه... لا تستهلك التحليل السياسي لتقرأه وتنساه، بل فكر في خلفياته.

إنّ الأمة التي لا تملك ثقافة سياسية، ووعياً سياسيّاً، سوف يستطيع الآخرون أن يخدعوها عن قضاياها وعن كلّ ما لديها. لذلك، مسألة الوعي السياسي هي مسألة حيويّة في حياتنا.

نحن في هذا العالم العربي أو هذا العالم الإسلامي أو في لبنان، لماذا نُساق في أيّام تحديد المواقف، في الانتخابات، أيّ انتخابات كانت، لماذا نتحرَّك كما يتحرّك القطيع؟

يمكن أن ينطلق واحد يملك رؤيةً يجرّ الناس كلّهم؛ لماذا انتخبْت هذا؟ لماذا أسقطت هذا؟ لماذا وقفت هذا الموقف السلبيّ؟ من منا يفكر في القضايا بعمقها؟ هذا يأتي إلينا في أيام الأفراح والأحزان.. هل القضية قضيّة شخصية، أم قضية تتصل بمصير الأمة؟

عندما ندرس واقع العالم العربي والإسلامي، نجد أنّه واقع الشخص الواحد الذي يختصر الأمّة في شخصه، فكأنه إذا عاش عاشت الأمّة، وإذا مات ماتت الأمة، ونحن نعمل على أن نمنحه من مشاعرنا ومن نفاقنا ومن أطماعنا الكثير مما يعطيه هالة من الشخصيّة تجعلنا نتعبّد له وننحني له... هذا هو واقع الأمّة.

ونحن علينا أن ندرس ما هي مشاكلنا... إنّ مشاكلنا الكثيرة هي من ذهنياتناحن لم نصنع ذهنيّاتنا على أن يكون الإنسان سيّد نفسه، وعلى أن يكون الإنسان سيّد موقفه وسيّد رفضه وسيّد تأييد.

نحن لانزال نعيش العبوديّة.. ادرسوا ماضي الأمّة وحاضرها، وعند ذلك، لن يكون لكم وقت تفرحون به لبداية السنة فيما تعارفه الناس من لهو وعبث... ليكن لنا فرح الرسالة عندما نفرح، أو حزن الرسالة عندما نحزن، حتى يكون لنا في حركتنا في الزمن وعي وجودنا ووعي إنسانيّتنا ووعي حاضرنا ومستقبلنا، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيَّ عن بيّنة.

أيها الأحبة، في بداية هذا التاريخ، نطلق كلمة الوعي في خطّ القضيّة، وكلمة القضيّة في خطّ الرسالة، وكلمة الرسالة في خطّ المصير، عندما نقف بين يدي الله غداً لنقدم إليه كلّ حساباتنا..

وتبقى لنا كلمات وكلمات في بداية التأريخ وبداية الموسم، نسأل الله أن نوفَّق إليها في اللّيلة القادمة. والحمد لله ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*اللَّيلة الأولى من عاشوراء العام 1999م.

في هذه اللّيلة، نقف عند محطة جديدة من محطات الزمن، في خطّ إسلامي لحركة التأريخ في الزمن. فنحن في هذه اللّيلة، نستقبل السنة العشرين بعد الألف والأربعمائة من تاريخ هجرة النبيّ(ص)، ولا بدّ لنا أيّها الأحبّة، من أن نعيش وعي الزمن ووعي التأريخ، فالزمن يمثّل بالنّسبة إلى الفرد والمجتمع والأمَّة، حركة العمر الذي يقطعه هذا أو ذاك، ليعيش حياته...

والزمن هو الماضي الذي انقضى، وهو الحاضر الذي نعيشه، وهو المستقبل الذي ننتظره ونتطلّع إليه.

ليس هناك فرق بين زمنٍ وزمن فيما هو الخطّ الطبيعي في النظام الكوني، فالأيّام الآن كالأيام الماضية، وهي كالأيّام في المستقبل، ولكن حركة الزمن تنطلق من خلال حركة الإنسان فيه.

لا بدّ من أن ندرس الزمن في الإنسان، لأنّ الإنسان هو الذي يعطي الزمن معناه، هو الذي يعطيه معنى الوعي، وهو الذي يعطيه معنى النصر، ومعنى الهزيمة، ومعنى التقدّم والتأخر.

وعي الزّمن والتّأريخ

نحن لا بدّ لنا من أن نعيش الزمن، باعتبار أنه هو عمرنا الذي قد يطول أو يقصر كمسؤوليّة.

أن يكون لك الإحساس بالزمن، بحيث تستشعر وأنت تعيش، لتحصي الدقائق والليالي والشهور، تحصي أنّ هناك قطعة من عمرك تموت، وأنّ قطعة من عمرك تهرب منك ولن تعود، وأن عمرك هذا يمكن أن ترتفع به إلى أعلى مستوى عند الناس وعند الله، ويمكن أن تهبط به إلى أقلّ مستوى عند الله وعند الناس.

أن تحسّ بمسؤوليتك عن عمرك، أن تملأه علماً تُحرّك به العلم في داخل عقلك وفي داخل عقول الآخرين، وأن تملأ الزّمن حركة في اتجاه القضايا الكبرى التي تعيشها في أهدافك وفي خطّك الذي تلتزمه في الإسلام.

أن تتحمل مسؤولية الزمن الذي هو عمرك في ما حمّلك الله من مسؤولية تجاه نفسك، ومن مسؤولية تجاه الناس من حولك وتجاه الحياة كلّها، لأن الله عندما أعطاك هذه الطاقات التي تعيش في داخل شخصيتك، أو التي تتحرك حولك، فإن الله حمّلك مسؤولية هذه الطاقة.

لا تعتبر أن الطاقة التي أعطاك الله إياها هي امتياز تزهو به، ولكنّها مسؤولية تتحملها. وقد ورد عندنا أيها الأحبة في الحديث المأثور، أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه.

إذاً، عمرك كله وشبابك، وهو ربيع الحياة، هو مسؤوليتك، أن لا تترك هنا فراغاً فيه، وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "فَإِنْ قَدّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ، فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلَامَةٍ لَا تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَ لَا تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ"، حَتَّى الفراغ الذي يكون بين عملين، لا بدَّ من أن يكون فراغاً لا يسقطك عن مسؤوليتك، بل هو فراغ تتخفّف فيه من جهد وتعب، لتملأه بما يخفّف عن نفسك، بشرط أن لا يكون حراماً ومعصيةً لله.

لذلك أيّها الأحبّة، عندما نعيش هذه المحطة من الزمن، علينا أن نتحرّك في خطين: في مسؤوليّاتنا في الخطّ الذاتي الذي يمثّل حياتنا الخاصة الشخصية، وفي الخطّ العام الذي يمثل حياة الأمّة.

التحرّك في الخطّ الذاتيّ

أما في الخطّ الخاصّ، فعليك عندما تدخل سنة جديدة (سنة 1420هـ) أن تفكر كيف كنت في بداية السنة الماضية، كيف كانت سنتك الماضية، كيف كانت قوتك العلمية، ما حجم علمك في سنة 1419، ما حجم قوّتك ما حجم وعيك، ما حجم حركتك في القضايا التي تتحمّل مسؤوليتها أمام الله وأمام الناس؟ كيف كنت في تلك السنة؟ اجلس وتذكّر، ثم كيف أنت الآن في آخر السنة؟

هل زاد علمك أو نقص؟ هل زادت قوّتك أم نقصت؟ هل زادت حركتك في خط المسؤولية أم نقصت؟

أن تفكّر ما هو حجمك عند الله، فيما يعطيه الله للناس من حجم من خلال إيمانهم، ومن خلال تقواهم، ومن خلال كلّ ما يحيط بهم وما يتّخذونه من مواقع.

فكر كيف كنت؟ ما هو حجمك في الماضي وما هو حجمك في المستقبل؟

في الحاضر، لتركز حجمك في المستقبل، في عملية إنتاج تستفيد منها مما كنت عليه في الماضي، ومما أنت عليه الآن في الحاضر.

لأنّ المستقبل أيها الأحبة، هو نتاج الماضي ونتاج الحاضر. من الممكن أن تحدّد لأيّ إنسان طبيعة مستقبله من خلال ملامح حركته في الماضي وفي الحاضر، لأنّ المستقبل لا يأتي من فراغ، وإنما يأتي من تخطيط لما تريد أن تحصل عليه من خلال حركتك العامّة والخاصّة في الماضي وفي الحاضر.

لذلك، على الإنسان أن يجلس جلسة حساب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا". وأن تزن نفسك، أن تعرفها في سلبيّاتها وإيجابيّاتها.. أن تزن نفسك ما هو علمك، وما هو وعيك، وما هي مخطّطاتك ومشاريعك؟

أن تحاسب نفسك عن كلّ أخطائك، لأنّ من لا يحصي أخطاءه، سوف تتراكم عليه الأخطاء، ليغرق في الخطأ كلّه، فلا يصل إلى الثواب، لأنّ بعض الناس عندما يخطئ ولا يصلح خطأه، ويتكرّر الخطأ منه، سوف يتحوّل الخطأ إلى طابع في الشخصية. وبهذا يرى الإنسان الخطأ صواباً، والحسن قبيحاً، والقبيح حسناً، وهذا ما جاء في بعض الأحاديث، "إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً، نكتَتْ في قلبِه نكتةٌ سوداء"، والقلب في الإسلام هو المنطقة الداخلية، هو العقل، الشعور، الإحساس... "فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ، زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَه.

... ونحن عندما نعيش الكثير من الأخطاء التي ورثناها ولم ندرسها، أو التي اكتسبناها ولم نتعمّق فيها، فإننا نجد أنها مسؤولة عن كلّ ما نعيشه من الواقع الذي تنقلب فيه الموازين. إنك عندما تعيش العصبيّة كخطّ في حياتك، فإنّ عصبيّتك تتحوّل إلى مشكلة في داخل شخصيّتك، لأنك لن ترى القضايا بعين الحقّ والعقل، ولكن تراها بعين العصبية.

المتعصّبون عميان، لأن العصبية تضع غشاوة على عينيك، فلا تتصور الأمور بصورتها الحقيقية، بل تتصوّر العالم كما لو كانت عائلتك تختصره، أو كما لو كان حزبك يختصره، أو كما لو كان طائفتك أو قوميتك تختصره، والعالم أوسع من ذلك.

لذلك، المتعصبون الذين يعيشون في سجن عصبياتهم، لا يملكون الحريّة أن يفكّروا، ولا يملكون القدرة أن يحاوروا.

لذلك، نحن نعيش، أيها الأحبّة، في مجتمع عصبيات، ولذلك ادرس حركة عصبيتك في سنتك، في علاقتك بالناس من حولك، وما هي نتائج هذه العصبية.. وهكذا، ادرس حركة الانفعال في سنتك.. نحن ننفعل ولا نتحرك بالعقل، ولا نتحرّك بهدوء في المزاج، نغضب في البيت، ونغضب في المحلّ، ونغضب في حركة المجتمع، ونغضب في حركة السياسة وفي أكثر مواقعنا... الغضب هو الطابع الذي يتحرّك به الإنسان الشرقي، لأننا عاطفيون، بمعنى أنَّ العاطفة تقودنا.

نحن لسنا ضدّ العاطفة، ولكنّ هناك فرقاً بين عاطفة تنظر بعينين منفتحتين، وعاطفة تنظر بعينين مغلقتين.. هذه هي المسألة.

لذلك، علينا أن ننظر وقد قضينا سنة نغضب فيها؛ في البيت يغضب الزوج على زوجته، أو الزوجة على زوجها، والأولاد على آبائهم وأمهاتهم والمجتمع... علينا أن نعرف ماذا استطعنا أن نحصل من هذه العاطفة، هل حصلنا على ربح أو خسارة؟

سنجد أننا خسرنا الكثير، العاقل لا يصرّ على أيّ عمل يخسر فيه.. إنّ خسارة المال لا قيمة لها أيّها الأحبّة أمام خسارة نفسك، وأمام خسارة إنسانيّتك.. المال يذهب ويجيء، ولكنّ إنسانيّتك إذا فقدتها، فقدت معنى الحياة ومعنى وجودك، وفقدت فرصتك في القرب من الله.

لذلك، فكّر في حساباتك، في نفسك، جدّد أخلاقك، أعد النظر في أخلاقك، لأنّ أخلاقنا قد تكون من موروثات بيئتنا، وقد يورثنا آباؤنا بعض المشاكل وبعض النقائص وبعض نقاط الضعف، وعلينا أن نعيد النظر فيما ورثناه، لندرس هل هذا الموروث يمكن أن يغنينا أو أنه يفقرنا.

كذلك، نحن اكتسبنا من البيئة أشياء كثيرة؛ اكتسبنا من المدرسة ومن رفاقنا أشياء، ومن الصحيفة التي نقرأها أشياء، ومن التلفزيون والمجتمع، وفي كلّ ما نعيشه، اكتسبنا أخلاقاً معينة، ولم نخترها، بل دخلت في تكويننا الشخصي من دون أن نختارها.

لندرس: هل إن ما اكتسبناه في عناصر الشخصيّة، هل هو في جانب السلب أو الإيجاب؟

هذه هي المسألة، والله قال لنا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.

ما هي تقديماتك لغدك، سواء كان غداً مستقبلاً في الدنيا أو الآخرة؟ ليكن لديك وعي؛ وعيك لأخلاقك، وعيك لطاقاتك، وعيك للفرص التي تعيشها، وعيك للظروف التي تتحرّك فيها... أن لا تتحرّك في أيّ خطوة في حياتك إلا وأنت تعي معناها وتقتنع بها. هذه صعبة أيّها الأحبّة، ولكن الأشياء الصعبة عندما تتصل بحركة المصير للإنسان، فإنها تسهّل كثيراً. كم من الأمور الصعبة مارسناها وتحمّلنا مشاقها، وعند الصباح، أي عندما نصل إلى النتائج الطيّبة، ننسى كل المتاعب، وعندما نقدم على الله، ونرى أعمالنا بين أيدينا {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ* إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه}.. كنت أنا أعيش في الحياة، أفكّر أنّ هناك حساباً في كلّ كلمة أتكلّمها، وفي كلّ عمل أعمله، وفي كلّ موقف... ولذلك، كانت حركة حياتي، فيما أفعله أو أتركه، منطلقةً من وعي أنّ لكلّ شيء حساباً لا بدَّ من أن أقدّمه أمام الله. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه ْ* وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ *ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ...}.

وعي الزّمن

أيّها الأحبة، ليكن لنا وعي الزمن، أن تحسّ في هذه اللّحظة، أن لا تمضي عنك إلا بعد أن ملأتها بما يبني لك إنسانيّتك وشخصيتك، وبما يقرّبك إلى الله ...

عند بداية السنين، لا تدخلوا في حفلة لهوٍ وعبث، لا تدخلوا في فرح اللّهو، ولكن اعملوا أن تدخلوا في فرح النَّتائج التي تجدون فيها أنفسكم، وقد نجحتم في تجربة الزَّمن في حركتكم فيه.

المسؤوليّة في خطّ الأمّة

هذه حركة الزّمن في الواقع الشخصيّ. أما في واقع الأمّة والمجتمع، فعلينا أن ندرس أوّلاً موقعنا في الأمّة، وموقعنا في المجتمع. نحن جزء من الكلّ، المجتمع ليس شيئاً في الهواء معلّقاً تنظر إليه وتتعامل معه؛ المجتمع هو أنا وأنت والآخرون، والأمّة هي هذا الشعب وذاك الشعب.. نحن الأمّة عندما نجتمع ونتكامل، نحن المجتمع عندما نجتمع ونتكامل.. لذلك، فإنّ كلّ ما يصيب المجتمع من خلال ما يتحرّك به الأفراد مجتمعين أو منفصلين من هزائم أو انتصارات، ومن تقدّم وتأخّر، ومن وعي وتخلّف، كل ذلك يؤثّر فيك باعتبارك جزءاً من الكلّ.

لذلك، التأريخ أيّها الأحبّة، هو تأريخ هذه المسيرة الإسلاميّة التي انطلق فيها رسول الله(ص) منذ أن بدأ الهجرة. وقد أكّدت على الهجرة أن تكون هي بداية التأريخ الإسلامي، وليس الولادة، وليس البعثة، لأن الهجرة هي التي أعطت للإسلام حركيّته، حتى دخل في حياة الناس في مواقع التحدّي وردّ التحدّي، لأنّ الأمّة تبدأ عندما تدخل السّاحة الصراع في موقف التحدّي.. عندما تتحدّى، وعندما تواجه التحدّي لتردّه.

ولذلك، كانت الهجرة هي مرحلة التحدّي الذي عاشه الإسلام في حركيّته، عندما دخل الصراع مع قريش، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. لذلك، بداية تأريخنا ليست ولادة النبيّ، وإن كان النبيّ يختصر الأمّة في شخصه، لأنه أعطى الأمة كلّ ما يحمله من عناصر الوعي والتقدم والحياة، لكنّ الله أراد لنا عندما نتطلع إلى بداية التأريخ، أن نتطلّع إلى تاريخ يتحرّك، حتى نأخذ حركتنا من حركته، وحتى نستوحي من مواجهته للتحدّي كيف نتحدّى، وكيف نواجه التحدّي في القضايا الكبيرة، حتى نشعر بأننا أمّة لا تهرب في ساحة الصّراع، ولا تنعزل عن حركة الإنسان في العالم، وتريد أن تدخل العالم فاعلة منتجة لإنسان جديد وعالم جديد.

وعلى ضوء هذا، كانت الهجرة بداية حركة.. ومرت السنون والقرون، وعاش المسلمون تجاربهم، تجارب حضارة استطاعت أن تصل إلى أكبر مكان في العالم، عاشوا حضارتهم التي قال عنها البعض إنها أمّ الحضارات الحديثة، ثم عاشوا بعد ذلك عملية التراجع وعملية الانحسار وعملية التخلف، ثم دخلوا في تجربة جديدة، عندما دخلوا الواقع السياسي من خلال حركة الاستكبار في واقعهم، وحركة الاستعمار في أوضاعهم، ولايزالون يعيشون حركة الاهتزاز السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لا بدّ من أن نطرح سؤالاً: ما هي مسؤوليّتنا في هذه المسيرة الإسلاميّة؟

هل نقول: اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجنا من الشرير، ثم نجلس ونقول: المهمّ أن أعيش في بيتي مع أولادي ومع عائلتي ولا دخل لي سواء خربت أو عمرت، كما قال ذلك الشاعر المهجري:

ما علينا إن قضى الشّعبُ جميعاً أفَلَسنا في أمان ...

هل نقول ذلك أم نتحرّك؟

من يملك فكراً يعطي للأمّة فكره، ومن يملك خبرة يعطي للأمّة خبرته، ومن يعطي موقعا يعطي للأمّة موقعه، ومن يملك كلمة يعطي للأمّة كلمته، ومن يملك مالاً وقوّةً وما إلى ذلك، يعطي للأمّة بعض ذلك .

لأنّنا، كما ذكرنا أيّها الأحبّة، المجتمع ليس شيئاً معلّقاً في الهواء، بل ثروة المجتمع هي ما لدي وما لديك من ثروة، علم المجتمع هو ما لديّ وما لديك من ثروة، ولذلك ورد في القرآم الكريم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.

إذا كنت تملك علماً، فليس لك أن تحجب علمك، بل عليك أن تتحرّك به لتغني الناس بعلمك، وإذا كانت لديك طاقة، فعليك أن تعطي طاقتك، لأن الله حملك مسؤولية ذلك.

وقد ورد عن رسول الله(ص): "إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يظهر علمه، ومن لم يفعل، فعليه لعنة الله."

علينا أيّها الأحبّة في نهاية السنة، أن ندرس كيف كان العالم الإسلاميّ في بداية سنة 1419، وكيف هو العالم الإسلاميّ اليوم. كانت لدينا مشاكل مزمنة، كالمشكلة الفلسطينيّة، كيف تطوّرت؛ هل تراجعت؟ وما هو سبب التراجع؟ أو تقدّمت، وما هو سبب التقدم؟

كانت لدينا مشاكل في الواقع الإسلامي والعربي وغيرها؛ مشاكل داخلية مع الحاكمي، أو مشاكل خارجية مع الاستكبار العالمي.. كانت لدينا مشاكل فيما نختلف فيه، مشاكل مذهبيّة بين السنّة والشيعة، مشاكل طائفيّة بين المسلمين والمسيحيّين، كانت لدينا مشاكل سياسيّة بين هذا الحزب وذلك الحزب، كان مجتمعنا بصورة معيّنة...

ومرّت السنة، فكيف أصبح مجتمعنا في هذه السنة؟

كيف كانت حركتنا؟ فإذا أخذنا النتائج، سواء كانت سلبيّة أو إيجابيّة، فعلينا أن ندرس أسباب هذه النتائج، وعلينا أن نفكّر كيف نستطيع أن نزيد من الإيجابيات، وأن نقلّل من السلبيات.. لا بدّ من أن يكون لنا وعي واقع الإسلامي.

عندما تسمع إذاعة أو تقرأ صحيفة، لا تستهلك الخبر لتقرأه وتنساه... لا تستهلك التحليل السياسي لتقرأه وتنساه، بل فكر في خلفياته.

إنّ الأمة التي لا تملك ثقافة سياسية، ووعياً سياسيّاً، سوف يستطيع الآخرون أن يخدعوها عن قضاياها وعن كلّ ما لديها. لذلك، مسألة الوعي السياسي هي مسألة حيويّة في حياتنا.

نحن في هذا العالم العربي أو هذا العالم الإسلامي أو في لبنان، لماذا نُساق في أيّام تحديد المواقف، في الانتخابات، أيّ انتخابات كانت، لماذا نتحرَّك كما يتحرّك القطيع؟

يمكن أن ينطلق واحد يملك رؤيةً يجرّ الناس كلّهم؛ لماذا انتخبْت هذا؟ لماذا أسقطت هذا؟ لماذا وقفت هذا الموقف السلبيّ؟ من منا يفكر في القضايا بعمقها؟ هذا يأتي إلينا في أيام الأفراح والأحزان.. هل القضية قضيّة شخصية، أم قضية تتصل بمصير الأمة؟

عندما ندرس واقع العالم العربي والإسلامي، نجد أنّه واقع الشخص الواحد الذي يختصر الأمّة في شخصه، فكأنه إذا عاش عاشت الأمّة، وإذا مات ماتت الأمة، ونحن نعمل على أن نمنحه من مشاعرنا ومن نفاقنا ومن أطماعنا الكثير مما يعطيه هالة من الشخصيّة تجعلنا نتعبّد له وننحني له... هذا هو واقع الأمّة.

ونحن علينا أن ندرس ما هي مشاكلنا... إنّ مشاكلنا الكثيرة هي من ذهنياتناحن لم نصنع ذهنيّاتنا على أن يكون الإنسان سيّد نفسه، وعلى أن يكون الإنسان سيّد موقفه وسيّد رفضه وسيّد تأييد.

نحن لانزال نعيش العبوديّة.. ادرسوا ماضي الأمّة وحاضرها، وعند ذلك، لن يكون لكم وقت تفرحون به لبداية السنة فيما تعارفه الناس من لهو وعبث... ليكن لنا فرح الرسالة عندما نفرح، أو حزن الرسالة عندما نحزن، حتى يكون لنا في حركتنا في الزمن وعي وجودنا ووعي إنسانيّتنا ووعي حاضرنا ومستقبلنا، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيَّ عن بيّنة.

أيها الأحبة، في بداية هذا التاريخ، نطلق كلمة الوعي في خطّ القضيّة، وكلمة القضيّة في خطّ الرسالة، وكلمة الرسالة في خطّ المصير، عندما نقف بين يدي الله غداً لنقدم إليه كلّ حساباتنا..

وتبقى لنا كلمات وكلمات في بداية التأريخ وبداية الموسم، نسأل الله أن نوفَّق إليها في اللّيلة القادمة. والحمد لله ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*اللَّيلة الأولى من عاشوراء العام 1999م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية