كان ابن عباس تلميذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومنه أخذ العلم وتلقّى
التفسير، سواء في أصول مبانيه أو في فروع معانيه، فقد سار على منهج مستقيم في
استنباط معاني القرآن الحكيم .
وقد حدَّد ابن عباس معالم منهجه في التفسير بقوله: "التفسير على أربعة أوجه: وجه
تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير
لا يعلمه إلا الله".
فالقرآن فيه مواعظ وآداب وتكاليف وأحكام، يجب على المسلمين عامَّة المعرفة بها
والعمل عليها، لأنها دستور الشريعة العامّ. فهذا يجب تعليمه وتعلّمه، ولا يعذر أحد
بجهالته .
وفيه أيضاً غريب اللّغة ومشكلها، مما يمكن فهمها وحلّ معضلها، بمراجعة الفصيح من
كلام العرب الأوائل، لأنَّ القرآن نزل بلغتهم، وعلى أساليب كلامهم المعروف .
وفيه أيضاً نكات ودقائق عن مسائل المبدأ والمعاد، وعن فلسفة الوجود وأسرار الحياة،
لا يبلغ كنهها ولا يعرفها على حقيقتها غير أولي العلم، ممن وقفوا على أصول المعارف،
وتمكّنوا من دلائل العقل والنقل الصحيح. وبقي من المتشابه ما لا يعلمه إلا الله، إن
أريد به الحروف المقطَّعة في أوائل السور، حيث هي رموز بين الله ورسوله، لم يُطلع
الله عليها أحداً من العباد سوى النبيّ والصفوة من آله، علّمهم إيَّاها رسول الله (صلى
الله عليه وآله).
وإن أريد به ما سوى ذلك مما وقع متشابهاً من الآيات، فإنّه لا يعلم تأويلها إلا
الله والراسخون في العلم، وهم رسول الله والعلماء الذين استقوا من منهل عذبه الفرات،
لا سبيل إلى معرفتها عن غير طريق الوحي، فالعلم به خاصّ بالله، ومَن ارتضاه من صفوة
خلقه .
وعلى ضوء هذا التّقسيم الرّباعي، يمكننا الوقوف على مباني التَّفسير التي استندها
ابن عباس في تفسيره العريض:
ـ أوّلاً: مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته:
إذ خير دليل على مراد أيّ متكلم، هي القرائن اللّفظية التي تحفّ كلامه، والتي جعلها
مسانيد نطقه وبيانه، وقد قيل: للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء مادام متكلماً، هذا
في القرائن المتّصلة. وكثيراً ما يعتمد المتكلّمون على قرائن منفصلة من دلائل العقل
أو الأعراف الخاصّة، أو ينصب في كلام آخر له ما يفسّر مراده من كلام سبق، كما في
العموم والخصوص، والإطلاق والتّقييد، وهكذا...
والقرآن من هذا القبيل، فيه من العموم ما كان تخصيصه في بيان آخر، وهكذا تقييد
مطلقاته وسائر الصوارف الكلاميّة المعروفة .
وهكذا نرى مفسّرنا العظيم، عبد الله بن عباس، يجري على هذا المنوال، وهو أمتن
المجاري لفهم معاني القرآن، ومقدّم على سائر الدلائل اللفظية والمعنوية. فلم يغفل
النظر إلى القرآن الكريم نفسه، في توضيح كثير من الآيات التي خفي المراد منها في
موضع، ثم وردت بشيء من التوضيح في موضع آخر، شأنه في ذلك شأن سائر المفسرين الأوائل،
الذين ساروا على هدى الرسول (صلى الله عليه وآله).
فمن هذا القبيل، ما رواه السيوطي بأسانيده إلى ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿قَالُوا
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ...﴾، قال: كنتم
أمواتاً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم، فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى
القبور، فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه حياة. فهما ميتتان وحياتان،
فهو كقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وهكذا أخرج عن
ابن مسعود وأبي مالك وقتادة أيضاً .
ـ ثانياً: رعايته لأسباب النّزول:
ولأسباب النزول دورها الخطير في فهم معاني القرآن، حيث الآيات والسّور نزلت نجوماً،
وفي فترات وشؤون يختلف بعضها عن بعض . فإذ كانت الآية تنزل لمناسبة خاصّة ولعلاج
حادثة وقعت لوقتها، فإنها حينذاك ترتبط معها ارتباطاً وثيقاً.
وهكذا اهتمّ حبر الأمّة بهذا الجانب، واعتمد كثيراً لفهم معاني القرآن على معرفة
أسباب نزولها، وكان يسأل ويستقصي عن الأسباب والأشخاص الّذين نزل فيهم قرآن وسائر
ما يمسّ شأن النزول، وهذا من امتيازه الخاصّ الموجب لبراعته في التفسير. وقد مرّ
حديث إتيانه أبواب الصحابة يسألهم الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
كان حريصاً على طلب العلم ومنهوماً لا يشبع، من ذلك، ما رواه جماعة كبيرة من أصحاب
الحديث، بإسنادهم إلى ابن عبّاس، قال: لم أزل حريصاً أسأل عمر عن المرأتين من أزواج
النبيّ (صلى الله عليه وآله) اللّتين قال الله تعالى بشأنهما: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا...﴾، حتى حجّ عمر وحججت معه، فلمّا كان ببعض
الطريق، عدل عمر وعدلت معه بالأداوة، فتبرَّز ثم أتى، فصببت على يديه فتوضّأ، فقلت:
يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) اللّتان قال
الله، ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ...﴾، فقال: وا عجباً
لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة .
ولقد بلغ في ذلك الغاية، حتى لنجد اسمه يدور كثيراً في أقدم مرجع بين أيدينا عن سبب
النزول، وهو سيرة ابن إسحاق التي جاء تلخيصها في سيرة ابن هشام .
قال: وكان ابن عباس يقول: فيما بلغني نزل في النّضر بن حارث ثماني آيات من القرآن:
قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ﴾، وكلّ ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن .
قوله تعالى: ﴿... وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا...﴾: إنما
أنزلت من أجل أولئك النّفر... وهكذا يتابع ذكر أسباب نزول آيات، وفي الأكثر يسندها
إلى ابن عباس .
وقد برع ابن عباس في هذه النّاحية من نواحي أدوات التّفسير، حتى كان يخلص آيَ
القرآن المدني من المكّي. فقد سأل أبو عمر وابن العلاء مجاهداً عن تلخيص آي القرآن
المدني من المكي، فقال: سألت ابن عباس عن ذلك، فجعل ابن عباس يفصّلها له، وهكذا نجد
ابن عباس بدوره قد سأل أُبيّ بن كعب عن ذلك .
ـ ثالثاً: اعتماده المأثور من التّفسير المرويّ:
اعتمد ابن عباس في تفسيره على المأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والطيّبين من
آله والمنتجبين من أصحابه. كان يستطرق أبواب الصحابة العلماء، ليأخذ منهم ما حفظوه
من سنّة النبي وسيرته الكريمة. وقد جدَّ في ذلك واجتهد مبلغ سعيه وراء طلب العلم
والفضيلة، حتى بلغ أقصاها. وقد سئل: أنّى أدركت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤول وقلب
عقول .
هو حينما يقول: "جُلّ ما تعلَّمت من التفسير من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)"،
أو "ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب"، إنما يعني اعتماده المأثور من
التفسير، إذا كان الأثر صحيحاً صادراً من منبع وثيق .
ـ رابعاً: اضطلاعه بالأدب الرفيع:
لا شكّ أنّ القرآن نزل بالفصحى من لغة العرب، سواء في موادّ كلماته أو في هيئات
الكلم وحركاتها البنائيّة والإعرابيّة، اختار الأفصح الأفشى في اللّغة دون الشاذّ
النّادر. وهكذا نجد ابن عباس يرجع، عند مبهمات القرآن وما أُشكل من لفظه، إلى فصيح
الشّعر الجاهلي، والبديع من كلامهم الرّفيع. وكان استشهاده بالشّعر إنما جاءه من
قبل ثقافته الأدبيّة واضطلاعه باللّغة وفصيح الكلام.
وفي تاريخ الأدب العربي آنذاك، شواهد رائعة تُشيد بنبوغه ومكانته السّامية في العلم
والأدب، وساعده على ذلك ذكاء مُفرط وحافظة قويّة لاقطة، كان لا يسمع شيئاً إلا وكان
يحفظه بكامله لوقته .
يروي أبو الفرج الأصبهاني بإسناده إلى عمر الرّكاء، قال: بينا ابن عباس في المسجد
الحرام، وعنده نافع بن الأزرق (رأس الأزارقة من الخوارج) وناس من الخوارج يسألونه،
إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو مُمصّرين، حتى دخل وجلس،
فأقبل عليه ابن عباس فقال: أنشدنا، فأنشده:
أَمِن آل نُعْم أنت غادٍ فمبكر غداةَ غدٍ أم رائحٌ فَمُهجِّر؟
حتى أتى على آخرها، فأقبل عليه نافع بن الأزرق، فقال: الله يا بن عباس! إنّا نضرب
إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد، نسألك عن الحلال والحرام، فتتثاقل عنّا، ويأتيك
غلام مُترَف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشّمس عارضت فيُخزَى وأما بالعشيّ فيخسر !
فقال: ليس هكذا قال. قال: فكيف قال ؟ فقال: قال:
رأت رجلاً أما إذا الشّمس عارضـ ـت يُضحَى وأما بالعشيّ فيحصر !
فقال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت! قال: أجل! وإن شئتَ أن أُنشدك القصيدة أنشدتك
إيَّاها. قال: فإني أشاء. فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. وما سمعها قطّ إلا تلك
المرة صفحاً، وهذا غاية الذكاء .
وهو الذي كان يحفظ خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الرنَّانة فور استماعها،
فكان راوية الإمام في خطبه وسائر مقالاته.
*من كتاب "التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب".