كثيرة هي العناوين والمواضيع الثقافيّة والسياسيّة الّتي تطرح في الصّحافة، ارتأينا التوقّف عند بعضها والتي صدرت من تاريخ 5 إلى11أيّار/مايو ـ 2013م، وذلك وقفة تفكّر وتحليل:
حول النّموذج التّركيّ
تحت عنوان "الإسلام السياسي المعتدل"، كَتَبَ جيمس جيفر وسونر جاغابتاي؛ مقالاً يتناول نموذج الإسلام التركي، حيث ينفي المقال إمكانيّة أن تصبح تركيا دولةً تطبّق الشريعة الإسلاميّة، وذلك لعدّة أسبابٍ، منها نزع الشرعيّة عن مفهوم الشريعة" في تركيا، حتّى بين المسلمين الأكثر التزاماً بالدّين، حيث امتزج المفهوم بإيحاءات حول الرجعيّة والتخلّف والتعصّب، ما جعل المحكمة الدستوريّة التركيّة تربط الشريعة بأسلوب حياة ديني ورجعيّ.
إضافةً إلى ذلك، هناك الطابع الغربي القائم والمؤسّسي في تركيا، ويُشير المقال إلى مثال المرأة ومشاركتها في الحياة العامّة، وهي مسألة متأصّلة بقوّة في تركيا العلمانيّة القديمة، وعلامةٌ لتركيا الحديثة.
كما أنّ إرث تركيا من العلمانيّة الدستوريّة، وإرث كمال أتاتورك، سوف يحولُ دونَ أسلمة تركيا. وتصطبغ تركيا ـ بحسب المقال ـ بصبغة علمانيّة قويّة، إلى درجة أنّ قادتها الإسلاميّين يفكّرون بطريقة علمانيّة، بغضّ النّظر عن مقدار تأييدهم للدّين.
يلفت المقال أخيراً إلى أحد تأثيرات الأزمة السوريّة على تركيا، وتحديداً بالنّسبة إلى الجماعات الجهاديّة الّتي تمرّ عبر تركيا إلى سوريا، مفترضاً أنّ الخبرة القليلة للمسؤولين الأتراك في التعامل مع هذه الجماعات، يشكّل أرضيّةً لاستغلال الجهاديّين لتركيا بدلاً من العكس، و"نظراً إلى حقيقة أنّ الحدود التركية - السوريّة أصبحت مخترقة بشكل متزايد منذ العام 2011، قد تجد تركيا نفسها تواجه مشكلة جهادية على الحدود الّتي تتشاركها مع سوريا، حيث حقّق المنتسبون إلى تنظيم القاعدة مكاسب هائلة خلال الشّهور الأخيرة".
ويختم المقال بالقول إنّ "مزج تركيا الفريد بين العالم الإسلامي والنفوذ الغربي، يرجّح أن يكون بمثابة بوصلة للمستقبل... وهذا المزج متجذّر لدى كلّ من الأفراد والمؤسّسات... وعلى العكس من ذلك، فإنّ تركيا الّتي تدير ظهرها لأيّ من مصادر شخصيّتها الوطنيّة الرّئيسة، سوف تفتح الباب أمام الشّقاق الدّاخلي، وتفقد جاذبيّتها للعالم الصّناعي ولجيرانها الشّرق أوسطيّين، وتواجه صعوبات في الحفاظ على تطوّرها السياسي الاجتماعي غير العادي، وصعودها الاقتصادي ونجاحها الدّبلوماسي".
وفي سياقٍ متّصل، تزايد الحديث عن احتذاء النّموذج التركيّ من قبل كثير من الجهات الإسلاميّة، على إثر سقوط بعض رموز الأنظمة الاستبداديّة في بعض دول الرّبيع العربي؛ بل كان ذلك جزءاً من توصيات المؤتمر الدولي للفلسفة الإسلاميّة، بعنوان "أسس النهضة واتّجاهاتها في الفكر الإسلامي"، حيث ورد فيها: "الإفادة من التجارب النهضويّة الناجحة في العالم الإسلامي، كما هي الحال في النّموذجين الماليزي والتركي".
في كلّ الأحوال، يطرح ذلك بإلحاح على مراكز الدّراسات والبحوث الإسلاميّة، دراسة تلك النّماذج دراسة معمّقة، تستهدف بيان النّسق الّذي يبرزه هذا النّموذج أو ذاك، إضافةً إلى الظروف الموضوعيّة الّتي كفلت إنتاجه، والظّروف الموضوعيّة للدّول الأخرى الّتي تريد احتذاء النّموذج؛ لأنّ مبدأ إسقاط النّماذج على الواقع من دون ملاحظة الاختلافات البنيويّة أو الظرفيّة، فضلاً عن النقاش في مصدر المشروعيّة الإسلاميّة، من شأنه أن يؤدّي إلى اختلالات بنيويّة في حركة التطوّر للنُظُم في تلك الدّول.
حول المسلمين الشيعة
سلّط عددٌ من الصّحف الضّوء على الشيعة والتشيّع، ويُمكن رصد الملاحظات الآتية:
1ـ ألقى د. ياسر برهامي، نائب رئيس الدّعوة السلفيّة، كلمة بعنوان: "الشيعة في السّودان.. المهدّدات وسبل المواجهة"...
2ـ في مقالٍ بعنوان "أردنيّون ضدّ الشيعة"، يورد المقال اسم "هيئة مقاومة التشيّع" في منطقة المزار الجنوبي، بالقرب من مقام الإمام جعفر بن أبي طالب، حيث تحوّل اعتصامٌ لهذه الهيئة إلى أعمال شغبٍ وعنف أدّت إلى إحراقٍ كاملٍ لمبنى يرجع إلى طائفة البهرة الشيعية، والّتي يبلغ عدد المنتمين إليها ما يقرب من مليوني شخص يقيم معظمهم في الهند، وهم يتواجدون في العالم العربي في اليمن ومصر على وجه الخصوص.
3ـ تأكيد مصادر مطّلعة لـ "اليوم السّابع"، أنّ وزارة الأوقاف المصريّة تجري حصراً لأسماء الأئمّة والدّعاة الّذين سافروا إلى إيران لحضور مؤتمر ديني هناك بدون إذن الوزارة، موضحة أنّ الوزارة ستتّخذ إجراءات صارمة خلال السّاعات القادمة، لتحفّظ الوزارة عن تمثيل دعاة لها بدون إذنها في دولة يعتبر أنّ هناك تحفّظات عن التّعامل معها في الجانب الدّيني.
4ـ شنّ حزب الوسط الإسلامي في عمّان هجوماً على وزير الأوقاف والشؤون والمقدّسات الإسلاميّة، د. محمد نوح القضاة، مستغرباً تحرّكاته باتّجاه التّطبيع مع الطائفة الشيعيّة، منتقداً زيارته للسيّد السيستاني وترحيبه بتفعيل السياحة الدّينيّة الشيعيّة إلى ضريح الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب. ويلفت بيان الحزب المذكور ربطه الاستنكار بما يسمّيه "مباركة مرجعيّات الشيعة في النجف وكربلاء وقم "لقتل وحشيّ من قبل النظام السوري"، إضافةً إلى "جهود الدولة الصفويّة في إيران في تشييع المنطقة بكلّ الأساليب الترغيبية والترهيبيّة".
وربّما يحسُن هنا التوقّف عند عددٍ من الإشكاليّات والأسئلة:
يطرح استعادة مفاهيم مثل "الدّولة الصّفويّة" أسئلة لجهة طبيعة المضمون السياسيّ المراد توظيفه عبر هذا الوصف، ويفرض ـ بالتّالي ـ على الباحثين العودة إلى التّاريخ، لدراسة معمّقة لتلك الدّولة، وهل من العلميّ تطبيق الوصف على الدّولة الإيرانيّة؟
طبعاً، لا يمكن إغفال بعض الكتابات الّتي صدرت عن بعض المفكّرين، ومنهم الدّكتور علي شريعتي على وجه التّحديد، في كتابه "التشيّع العلويّ والتشيّع الصّفويّ"، وهو كتابٌ نقديّ لبعض الأفكار والممارسات الّتي يمارسها المسلمون الشيعة، والّتي قد تكون من مخلّفات تلك الحقبة. ولكنّ السّؤال: هل إنّ المسألة الفكريّة، وأيّ حركة نقديّة لبعض الأفكار في أيّ مجال معرفيّ أو ثقافي أو مذهبيّ أو ديني، تسمح بإسقاطات تاريخيّة على واقع مستجدّ، بالنّحو الّذي يمنع من دراسة الواقع المعاصر كما هو في ظلّ التطوّرات الطبيعيّة في أيّ دولة أو مجتمع؟
إلى أيّ مدى يُمكن لرجال الدّين تبسيط المسألة السياسيّة عبر تحويلها إلى مسألة مذهبيّة، يتمّ مقاربتها عبر التّكثيف من مصطلح سنّي ـ شيعي، في الوقت الّذي تبدو في أيّ قضيّة سياسيّة بالغة التّعقيد، ولا يُمكن مقاربتها ضمن مبدأ العامل الواحد...؟
إذا كان ما يذكره مؤلّفا كتاب "الشّيعة العرب: المسلمون المنسيّون"، غراهام فولر ورند رحيم فرانك، أنّ "للمحيط الاجتماعيّ نصيباً في تحديد الهويّة الشخصيّة، وهذا بالضّبط هو سرّ تضخّم الشخصيّة المذهبيّة لدى الشّيعة في الدّول الّتي تواجه الهويّة الشيعيّة فيها الكبتَ أو الهجوم... فهذا التضخّم ليس صنيعة الشّيعة بقدر ما هو صنيعة الآخرين"؛ إذا كان ذلك دقيقاً، وهو كذلك بمنطق علم الاجتماع، فهل إنّ الهجوم على الشّيعة أو التشيّع، يُراد له أن يدفع الشّيعة جميعاً نحو التصلّب والتعصّب المذهبي في مقابل المسلمين السنّة، وبذلك يؤكّدون الصّورة النمطيّة عنهم؛ لأنّ الواقع الموضوعيّ يبرز لنا ـ بحسب الكتاب المذكور نفسه ـ خطر "النظرة الخاطئة عن الشّيعة" عند بعض السنّة أو السّاسة محلّياً وغربيّاً، "بأنّهم كطائفة واسعة يمثّلون نسيجاً متجانساً ذا لونٍ واحدٍ وطابع واحد، والتّعامل معهم على أساس موحّد شبه عرقيّ"، ولا سيّما أنّ انفتاح باب الاجتهاد، عقديّاً وفقهيّاً وفكريّاً، يجعل التّشيّع نفسه متطوّراً من النّاحية الفكريّة، وغير جامدٍ أو نهائيّ.
وربّما يكون من المسؤوليّات المترتّبة على المسلمين الشّيعة، أن يؤكّدوا انتمائهم إلى المجال الإسلامي العامّ، ولا سيّما الإعلام الشّيعيّ الّذي تقع عليه مهمّة تأكيد الخطاب الإسلامي، الّذي يضع التشيّع في سياق حركة تطوّر الفكر الإسلاميّ عبر التّاريخ، ويؤكّد مرجعيّته القرآنيّة والسنّتية، وموقع مرجعيّة أهل البيت في كونها تعبّر عن الفهم الدّقيق للسنّة الشريفة، وليست شيئاً في عرضِها.
وهنا لا بدَّ من التأمّل والتفكير العميق في دور الإصلاح الإسلاميّ الدّاخليّ، ولا سيّما في باب الفكر الإسلاميّ في مجالاته المتنوّعة، داخل التشيّع، بل داخل أيّ مذهبٍ، في إيجاد الأرضيّة الواسعة لحماية واقع المسلمين من استغلاله من جهات لا تملك العمق الفكري الإسلامي، وإنّما تتحرّك بمنطق السطحيّة والتّكفير والإقصاء والاستكبار المعرفي، فتعمد إلى نزع الشرعيّة الإسلاميّة عن مذاهب بأسرها، من خلال التّركيز على بعض الممارسات وإبرازها بعنوان الشّرك والانحراف العقائديّ وما إلى ذلك... الأمر الّذي يحتّم على الفكر الإسلاميّ النّقديّ، الشّيعيّ أو غيره، أن يبيّن الأمور على حقيقتها للأمّة، وأن يحذف ما لا ينسجم مع الخطوط الشّرعيّة؛ لأنّ الانطلاق بذهنيّة التعصّب وردود الفعل على القمع والكبت والتطرّف، هو ما يغذّي الفكر التكفيريّ ويجعله يمعن في استغلال الجماهير، لتكون جبهة واحدةً في مقابل أيّ اتجاه أو مذهب يراد التّصويب عليه.
اغتيال العلاّمة البوطي والصّراع الوهّابي الصّوفي
كتب علاء حلبي تحليلاً حول اغتيال العلاّمة البوطي، يحاول أن يضعه في خانة الصّراع الوهّابي الصّوفي في سوريا، ومحاولة لرسم معالم جديدة للفكر الدّيني... ويستعرض الكاتب لسيناريو ممنهج لاستهداف الاتجاه الصّوفي، عبر تدمير الأضرحة والمقامات الدينيّة والزّوايا، واغتيال علماء التيّار الصّوفي، ليس أوّلهم العلامة البوطي، وربّما لن يكون آخرهم، ولا سيّما أنّ البوطي اتّهم الحركة الوهّابية بأنّها صناعة بريطانيّة أنشئت بهدف أن يقضي الإسلام على نفسه بنفسه.
وبمعزل عن صحّة التّحليل ومدى دقّته، فإنّ ثمّة أموراً ينبغي دراستها بعمقٍ لجهة طبيعة ما تثيره... والسّؤال الّذي يطرح نفسه هنا: إلى أيّ مدى يُمكن لهذا النّوع من الصّراع أن يُشعل المنطقة برمّتها مذهبيّاً؛ وذلك من خلال دفع الحالة الدينيّة إلى نوعٍ من التّصادم، عبر إضعاف الحالات ذات الأرضيّة المشتركة، كما بين الصّوفيّة والشيعيّة فيما يرتبط بأهل البيت(ع) على وجه الخصوص... وهذا أمرٌ يستحقّ المتابعة والدّراسة من قبل المتابعين والباحثين.
كما أنّ هذا الأمر يفرض التّفكير جدّياً في إمكانيّة الدفع باتّجاه حوارات إسلاميّة - إسلاميّة، حتّى مع الاتجاهات الحادّة تجاه المسلمين الآخرين، على غرار الدّعوة الّتي وجّهها المرجع فضل الله(ره) في أواخر العقد الأوّل من هذا القرن، حيث دعا إلى الحوار حتّى مع الدّعوة الوهّابيّة، ولا سيّما أنّ الخطّ الفكريّ للحوار لا بدّ من أن يتحرّك بمعزلٍ عن مجريات الواقع وحدّية الصّراع؛ لأنّ المسألة الفكريّة مرتبطة دائماً بالحركة الحضاريّة للمسلمين، كما أنّ من شأن الحوار أن يُخرج الأفكار الحادّة من ذوات أصحابها ومجالاتهم الخاصّة، ويجعلها في موقع التّبرير للآخر، ما قد يخفّف من حدّتها، إن لم يكن للجيل الحاليّ، فللأجيال الآتية المتأثّرة بأكثر من عاملٍ ضاغطٍ على حركة الفكر، وإمكانيّات التغيّر.
* افتتاحية العدد 232 من المقتطف الإسلامي .
المصدر: موقع الفكر الإسلامي المعاصر، [بتصرّف]
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .