متى نتعلَّم قراءة تراث السيِّد محمَّد حسين فضل الله؟ ومتى ننطلق في معرفته بعيداً عن التَّبجيليات والعبارات العابرة بين الشّفاه، لنعرفه كما هو حقيقة: أحد كبار المفكّرين المسلمين عبر الزمن الإسلامي كله، وتحديداً المفكّر الَّذي دفع العقل المسلم المعاصر نحو مناقشة الممنوع وبحث المقدس الموهوم، عبر الطَّريقة الموضوعيَّة العريقة والأكثر دقة في التخطيط والتنظيم للتفكير، وأكثر من كلّ ذلك، الطَّريقة المرتكزة على الحجَّة والبرهان، من أجل بناء مشروع حضاري إسلامي جديد لا يتوقَّف عند التّمنيات والأطلال، ولا يستغرق في الرؤى والمطارحات الفلسفيَّة والثقافية عبر تاريخ المسلمين بالمستوى الَّذي يجعله كالعربة التي تجر الحصان، ليس مشروعاً قابعاً في التنظير المبهم والمتوجّس من الواقعيَّة والمسؤوليَّة القيميَّة، وإنما حركة معرفيَّة اجتماعيَّة قائمة على تصورٍ إسلاميٍّ شاملٍ للدور والواقع والمستقبل؟
لماذا نجهل السيّد فضل الله؟!
في البدء، وحتى نتمكَّن من الانطلاق في قراءة السيد محمد حسين فضل الله كما عاش، وبموضوعية وعدالة، هل يجب أن نقوم بمسح كامل لتراثه لنلقي الضوء على مسار فكر مركب وتراث موسوعي، يحتوي المسائل الحرجة والحوارات المحرجة والغنى المفاهيمي والثَّقافة الاستراتيجيَّة، ويجعلنا أمام كتلة ضخمة من الفكر الإسلامي المعاصر الكثيف والعميق والخلاق؟
بلا مواربة ولا كثير من العناء، لا يمكننا أن ندّعي استيعاب هذه الحركة الفكريَّة الإسلاميَّة الحديثة والمعاصرة بشموليَّتها وعمقها وآفاقها، لأنَّ فكر السيِّد محمَّد حسين فضل الله(رض) مركّز ومتشعّب، حيث يبقى حديثنا عن الانطلاق في قراءة لهذه التّجربة الفكريَّة الإسلاميَّة الغنيَّة من حيث المنهج والمفاهيم والمطارحات والمشاريع والرؤى، ليس هدفاً في حد ذاته، لأن القراءة الاستراتيجية لهذا التراث الفكري الإسلامي الفريد بحاجة إلى فرق بحث علمية متخصصة ومتمثلة لبطولة السيِّد الرساليَّة الرائدة، حيث يبقى الهدف الرئيسي هو أن لا ننتظر حكماً إيجابيا أو سلبياً حول هذه الشخصية العلمائيَّة الإسلاميَّة الفذّة، لأنَّ أثرها الفكري والمفاهيمي والحركي في الواقع الإسلامي الحديث والمعاصر لوحده خير دليل على وجاهتها ومركزيتها في تجديد الوعي الإسلامي العام، ولا ريب في أنَّ الحكم مناط البحث والدراسة ووفق المعايير العلميَّة...
ومن هنا، تكون الغاية أن لا نشتغل لإصدار حكم ما حول فكر السيد فضل الله(رض)، ولكن أن نجتهد في اكتشاف الإطار المنهجي لاجتهاده الفكري، حتى نتمكَّن من التحاكي مع مطارحاته وآرائه، ونبلغ مستوى من النبوغ في استيعاب حيثيات مشاريعه الرساليَّة والاجتهادية في تطوير آليات تفعيلها واقعياً.
نحو بناء مجتمع المعرفة الإسلامية
ذلك كلّه ينطلق من التركيز على بناء نظام تفكير ذاتي أو مؤسَّساتي قريب من نظام تفكير السيد(رض)، عبر محاولة الإجابة عن السؤال الآتي: ما الذي استهدف السيد محمد حسين فضل الله(رض) إيضاحه وتفعيله في شتى المباحث التي طرقها فكره؟
من المؤكَّد أنَّ المعني الأول بهذا السّؤال، ليس ذلك المتجاوز والناقد الناقم على فكره، بل ذلك المتحدث باسم السيِّد وفكره، وهو رحمه الله الَّذي كان يرفض الولاءات التعصبيَّة والانتماءات الشخصانيَّة، ولكن الحضور الرسالي للسيد(رض) فرض حالة فضلية ـ إن صح التَّعبير ـ لا بدَّ من أن تراجع وتناقش من أجل أن يبقى السيد فضل الله(رض) الإنسان ـ الأمة، وحتى تستطيع الأمة أن تستوعب فضل الله البطولة، من دون الإساءة إلى فضل الله البطل من حيث لا تدري، لأنَّ خصوصيَّة فكر السيد(رض) أننا عندما ننطلق معه لمعرفته، يعني أن لا تتجمَّد معرفتنا لفكره(رض)، بل تنطلق لتنتج فكراً جديداً يصنع الوعي والنباهة ويلاحق التخلف والخرافة، ليثبت أن حقيقة الدين الاسلامي تحتضن المعرفة العلميَّة لتنهض بالوجدان الانساني نحو آفاق تقوى الله بروحيَّة العارف العابد.
على هذا الأساس، جاءت هذه المقاربة لتنبه إلى ماهية علاقتنا بفكر الفقيه المجدد السيّد محمَّد حسين فضل الله(رض)، وإلى مدى صعوبة الفصل فيها دون التفكّر. ولعلها تكون نوعاً ما أسهل استراتيجية بالنسبة إلى قارئ فكر السيد(رض) وفق تخطيط معرفي تراتبي هندسي مستمر، بحيث يستطيع أن يقارب بين العديد من الرؤى في الفكر الإنساني وأخرى في الفكر العقيدي أو الفكر الاخلاقي أو الفكر الفقهي مع حيثيات الواقع وهدف الحركة إسلامياً، ما يؤسّس لبرمجة فكريَّة مستقبليَّة قادرة على إنتاج فكر إسلامي جديد ومعاصر ضمن أطر الاجتهاد والنظر، بحيث يتقلَّص مستوى التقليد بمفهومه التقليدي لنبلغ مستوى متكامل من معرفة آفاق حركة الإسلام في الفرد والمجتمع، أي بناء مجتمع المعرفة الإسلامية التي تلاحق كل احتياجات الحياة بمفهومها الإسلامي، عبر دراسة النص الإسلامي والواقع.
كل ذلك يمكّننا من استيعاب أنَّ الانتماء الحقيقي إلى أنموذج المسلم الرسالي المتجسد في حياة الفقيه المجدد والمفكر الإنساني السيد محمد حسين فضل الله(رض)، يتعلَّق بكيف نستقبل السيِّد محمد حسين فضل الله(رض) في الفكر والعاطفة والحركة.
هذه المطارحة وحيثياتها وأسلوبها، لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب الفقيه المجدد(رض)، بل حتى دروسه وخطبه ومحاضراته الفكرية وحواراته، لأنَّه ببساطة يمثّل حقيقة علوية عظيمة بكل ما تحمله هذه الحقيقة من قيمة وثقافة وغاية إسلامية.
لقد أرادنا العلامة السيد فضل الله(رض)، كما أراد جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وكلّ الأئمة من أهل البيت(ع)، أن نلتزم الإسلام كمنهج حياة في الفكر والعاطفة والحركة والحكمة، فلم يردنا(رض) لنفسه وشخصه، لأنَّ قضيَّة نفسه كانت مع الله، فانفتح على عيال الله وبقي ينادي طول حياته الرسالية بكل رحابة: "أيها الأحبة"، لأنَّ قلبه كان ينبض بالحب، ليعطي لعقله جرعة من الرفق، فأنتج لنا فكراً إنسانياً مشرقاً بالرحمة والصدق والتسامح والإخاء والوحدة والإنسانية الرسالية، ولهذا نحن بحاجة إلى معرفة متجدِّدة لفكر السيِّد فضل الله(رض) نتمثّلها بمسؤولية حتى نكمل المسيرة الحضارية الإسلامية المنشودة.
المصدر: موقع تواصل أونلاين
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .