تحتلّ "صيبة العين"، أو "العين الصّائبة"، نصيباً وافراً من المعتقدات الشعبيَّة، إذ تطالعنا عبارات الحدّ من أذى العين في كلّ مكان، فنسمع بعضها على ألسنة النّاس، ونقرأ بعضها الآخر على مداخل المنازل وخلفيّات المركبات الآليّة، مثل: "عين الحاسد تبلى بالعمى، محروسة من العين، عين الحسود فيها عود..."، لاتّقاء شرّ العين وأذيّتها.
ويذهب بعض الأشخاص بعيداً إلى الاعتقاد أنّ هناك أعيناً متخصّصة في الأذى، حتى إنّ أذاها قد يصل إلى حدّ الموت، وخصوصاً للأطفال الصّغار، فالاعتقاد بصيبة العين اعتقاد قديم وواسع الانتشار بين مختلف شعوب العالم، وقد تفنَّنت الشعوب على اختلافها، في ابتداع وسائل للوقاية من أثرها، كما يعتقدون، ومنها الأحجبة والتّعاويز والخرز الأزرق وغيرها.
أسئلة كثيرة تطرأ على الذهن، مثل: ما هي حقيقة مفهوم الحسد في القرآن الكريم؟ وفي أيّ إطار يضع القرآن مسألة الحسد وصيبة العين؟ كيف يعرّف علم النفس الحسد؟ وماذا يقول عن المبالغة في الاعتقاد به؟ ماذا يقول الدّين عن الوسائل الشعبيّة المستخدمة لمنع الحسد وصيبة العين؟ سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في هذا التّحقيق:
ينفي فضيلة الشيخ يوسف سبيتي، عضو المكتب الشّرعي في مؤسَّسة العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، وجود أيّ علاقة بين مفهوم الحسد المذكور في القرآن الكريم، ومفهوم صيبة العين المترسّخ في أذهان الناس: "الحسد كحالة نفسية يتمنى الإنسان فيها زوال النعمة الموجودة عند الطرف الآخر، إضافةً إلى أنه يصل أحياناً إلى مرحلة أن يحاول الإنسان الحسود، بطرق معينة وغير لائقة وغير أخلاقيّة، إزالة هذه النعمة من الطرف الآخر، فهذا هو الحسد المحرَّم، وهو الذي أشار إليه القرآن بقوله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: 5]".
الحسد، في علم النفس، عبارة عن انفعال نفسيّ، وهذا الانفعال الَّذي يتحكّم بالحاسد، تسبّبه عقدته النفسيّة، فالاختصاصي في علم النّفس التربويّ والعياديّ، الدكتور محمود غنوي، يعتبر أنّ الحسد اعتقاد، وليس واقعاً، وينشأ نتيجة ضعف الإرادة، وقلة الثقة بالنفس، وضعف في الشخصيّة.
ويتابع: "الأساس النفسي لهذه الفكرة، هو تصرّف الآخرين وسلوكهم، ولغة جسدهم، لأنها تنعكس على وعينا ولا وعينا، فنعتقد أنهم يضمرون الشّرّ، ونتصرّف فعلاً على هذا الأساس، ونقنع أنفسنا فعلاً بهذا الأمر، بشكل واعٍ أو لا واعٍ، ويتحوّل مع مرور الأيام إلى النتيجة السلبيّة التي نخاف منها. وهذا الأمر يتمّ نتيجة ضعف إرادة، وضعف ثقة بالنفس وبالقدرات والإمكانيات، وضعف بالشخصيّة، وربط غير منطقيّ للأمور ببعضها البعض".
هناك مرويّات وقصص كثيرة عن الحسد وصيبة العين، تسكن أذهان النّاس، فهناك من يعتقد بهذا الأمر، باعتبار أنّ الحسد ورد ذكره في القرآن الكريم، في حين أنّ هناك من ينكره، ويعتبره نوعاً من إلصاق الفشل بالغير، ويضعه في سياق الخرافات.
وللنّاس فيما خصَّ صيبة العين والحسد آراء مختلفة، فمنهم من يقول: "أؤمن بها، وذلك انطلاقاً من تجارب معي ومع غيري"، فيما يقول شخص آخر: "ورد في القرآن الكريم أنّ الحسد موجود، ولكنّ صيبة العين غير موجودة"، ويوافقه آخر بقوله: "لا أؤمن بهذا، بل أؤمن بقدرة الله تعالى"، ويتابع: "البعض يحترز من صيبة العين بسكب الرّصاصة، أعتبر أن هذا وهم".
نلاحظ أنّ الاعتقاد بالعين لا يزال منتشراً بين مختلف الأوساط، ولدى كل الشعوب، حتى أتباع الأديان السماوية، أو على الأقلّ ما زال هناك من يميل إلى الاعتقاد أن الحسد يضر الإنسان نفسياً وصحياً، وإن كانت نسبة المعتقدين بالعين تتدنى في أوساط المتعلمين والمثقفين.
يقول الشيخ سبيتي عن هذا الأمر: "ليس هناك شيء علمي ملموس حول صحة هذا الأمر، هناك الكثير من الحكايا الشعبية، ولكن ليس لها أثر نفسي من الطرف الحسود للمحسود، بحيث يؤثّر في وضعه الصحي ووضعه النفسي".
يذهب علم النفس إلى الاعتقاد أنّه ربما يكون التأثير نفسياً محضاً، ولذلك، نلاحظ في هذا الصّدد، أنّ هناك من يتأثر بموضوع الحسد، ويعتقد بصيبة العين أكثر من غيره. الدّكتور محمود غنوي يعيد السّبب في "تأثّر أشخاص أكثر من غيرهم في موضوع الحسد، إلى ضعف في الشخصيّة والإرادة، وضعف تقدير للذّات، وربما عدم فهم لمسألة الدّين، وأيضاً ذلك له علاقة بضعف التواصل مع المجتمع.
يعتبر الشيخ سبيتي أنّه "طالما بقي الحسد في قلب صاحبه، فليس هناك مشكلة شرعيّة، قد تكون مشكلة أخلاقيّة أو تربويّة أو نفسيّة، ولكنّها ليست مشكلة شرعيّة، فهو لا يعمل على إزالة هذه النّعمة من الطرف الآخر، وهنا هو ليس مأثوماً، ويبقى على علاقة طيّبة مع الطرف الآخر، يخاطبه ويزوره، ولكنّه إذا قام بقطيعته، أو شوّه سمعته بهذه القطيعة بسبب ما به من نعمة (مالية، علمية، اجتماعية)، فهذا يصبح حراماً".
الاختصاصي في علم النفس التربوي والعيادي، الدكتور محمود غنوي، يرى أنّه من غير السليم أن يعيش الإنسان حالة الخوف من الحسد بشكل دائم، لأنها قد تتحوّل إلى حالة من الوسواس القهري، والشعور بالعظمة، بحيث يشعر بأنّ أيّ إنسان، صغيراً كان أو كبيراً، أو أيّ شخص يتقرب منه، أو أي سلوك، أو تصرف، أو فعل من الآخرين، يفسّره على أنه حسد منهم، وهذه الشخصيّة لديها ضعف في التواصل الاجتماعي، وضعف في تقدير بالذّات".
يلجأ بعض الناس الذين يعتقدون بصيبة العين إلى استخدام أدوات ووسائل غريبة، اعتقاداً منهم أنها تمنع الحسد وصيبة العين. يتساءل فضيلة الشيخ يوسف سبيتي في هذا الصّدد، عن سبب "عدم لجوء الناس إلى التصدّق، إذا كان هدفهم من استخدام الوسائل التي يعتمدونها دفع البلاء والحسد عنهم، بحسب اعتقادهم".
ويتابع: "فالصّدقة وضعها المشرّع الإسلامي بهدف دفع البلاء، وليس فقط مساعدة للفقراء، فباستطاعتنا دفع الصدقة حتى لغير الفقير، ولكنّنا نسينا هذا الجانب، ولجأنا إلى أمور ليس لها أيّ واقع علميّ، كحدوة الحصان، والخرزة الزرقاء، والحجابات التي لم ترد عن أئمة أهل البيت(ع)...".
يقول الدكتور محمود غنوي: "هناك بعض الأشخاص ممن يملك قدرات أو يملك مواهب متعدّدة ومهارات، أو ناجح في عمله، ويعتقد أنّ عليه أن يردّ عين الآخرين وحسدهم عنه، فيحمل خرزة زرقاء، أو شريطة، أو حدوة حصان، أو فردة حذاء مقلوبة، ويعتبر أنها تردّ الحسد. هذه من الناحية الماديّة مجرّد خرافات، وليس لها أساس ديني أيضاً، بل هي عبارة عن عادات وتقاليد شعبيّة متوارثة من جيل إلى جيل... فإذا فرضنا أنه وضع حذاءً على سيارته الفخمة، هل هو الوحيد في العالم الّذي يملك سيارة جميلة مثلاً؟ ربما هناك حوالى مليون سيارة، فهل هذا الحذاء سيمنع الحوادث؟! فالذي يمنع الحادث، أن أكون متمكّناً من القيادة بشكل جيد، وألتزم قوانين السير".
يلفت الدكتور غنوي إلى سلسلة خطوات للخروج من دائرة الشعور بالحسد المرضي: "أفضل نصيحة نقدّمها للأشخاص المصابين بالحسد المرضي، أن يعملوا على تعزيز قدراتهم وشخصيّاتهم بشكل منطقي وسليم، بالعلم والمعرفة والثقافة، وبالتعمق أكثر في الثقافة الدينيّة، وأن يكون لديهم نفس كريمة، وأن لا يعملوا على تضخيم إنجازاتهم وأفعالهم، وأن نبتعد قدر الإمكان عن الخرافات ومعالجة الأمور بطريقة لا علميّة ولا منطقيّة، بل أن نضع الأمور في مواضعها، فإذا وضعت خرزة زرقاء على الباب، هل أمنع عنه السّرقة مثلاً؟ علينا في هذه الحالة اللّجوء إلى المعالجة الطبيعيّة للأمور؟".
يدعو فضيلة الشيخ سبيتي النّاس إلى تفعيل دور العقل، والخروج مما سماه هاجس الحسد: "على الإنسان أن لا يعيش هذا الوهم، بل أن يحكّم عقله. وفي النّهاية، مطلوب من كلّ إنسان أن يقوم بأعمال معيّنة، سواء كانت أعمالاً خاصّة، أو أعمالاً اجتماعيّة، أو أيّ عمل من الأعمال، فإذا كان يعيش هذا الخوف وهذا الهاجس والوهم، يمكن أن يبقى مكانه، لأنّه خائف من فلان لأنّه حسود، وهذا قد يكون له تأثير في العلاقات الاجتماعيّة أيضاً، بمعنى أنّ هذا حسود لا أحد يزوره، ولا أحد يتكلّم معه، ولا أحد يستقبله. هذا الجوّ النفسي والوهمي، يجب الخروج منه، وتحكيم العقل فيه".
رفض الإسلام كلّ المعتقدات أو الممارسات التي لا تمتّ إلى المنطق والعلم بصلة، كالسحر والشعوذة، وصيبة العين إحداها، وسواء ثبت علمياً أن للعين قدرة على التأثير أو لم يثبت، أو أن للحسد قدرة على التأثير النفسي أو لم يثبت، فالحقيقة الثابتة أنَّ القرآن الكريم لا يعترف بهذه الأمور، والأمر برمّته يعود إلى رجاحة عقلنا، وسعة أفقنا.
ويبقى اللّجوء إلى الله تعالى والتوسّل به، من خلال القرآن الكريم، والدّعاء، والصّلاة، والصّدقات، من خير الوسائل لدفع البلاء بكلّ أنواعه، مهما كان سببه، بعيداً عن وسائل توحي بسخف العقل وسذاجته.