يخبرنا الله سبحانه وتعالى، وهو يصوِّر لنا بعض مشاهد القيامة في القرآن، عن حال المؤمنين والمؤمنات في ساحة القيامة، وكيف هو حال المنافقين والمنافقات في تلك السّاحة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بِالله الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ الله يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الحديد: 12- 17].
في هذه الآيات، نستوحي أنَّ الإيمان نورٌ يشرق في عقل الإنسان وفي قلبه، ليتحرَّك في حياته، ويتجسَّد في يوم القيامة نوراً يتفايض أمام الإنسان ليؤدِّي به إلى الجنَّة، وينطلق في يمين الإنسان ليشير به إلى مواقع الحقّ هناك، والله سبحانه وتعالى حدَّثنا في أكثر من آية أنّ الله يخرج الّذين آمنوا من الظلمات إلى النّور، فاعتبر الكفر ظلماً، والشِّرك ظلماً، واعتبر الإيمان نوراً، لأنَّ الإنسان عندما يؤمن بالله، فإنَّ هذا الإيمان يفتح عقله على كلّ آفاق الله، وعلى كلّ مواقع الخير من خلال الله، وعلى كلّ مواقع الحقّ.
فالإنسان المؤمن عندما يعيش الحياة، فإنَّه يشعر بمسؤوليّته عن كلّ ما في الحياة، وعن كلّ من في الحياة، فهو لا يشعر بنفسه ليفكّر في نفسه فحسب، بل إنّه يفكّر في نفسه وأهله وفي الناس من حوله، يفكّر فيهم كيف يهديهم إلى الصِّراط المستقيم، ويفكِّر فيهم كيف يخفِّف عنهم الآلام، ويفكِّر فيهم كيف يقودهم إلى ما فيه سعادة الدّنيا والآخرة... ولذلك، فإن الإنسان المسلم المؤمن بالله، يتحرك في الحياة على أساس أنّه يحمل مسؤوليّة الحياة كلّها، فهو في نور متحرّك، يبحث عن كلّ مشكلة يتخبَّط فيها إنسان ليحلَّها، ويبحث عن كلّ همٍّ يعيشه إنسان ليزيله، ويبحث عن كلّ ألم يتحرَّك في حياة إنسان من أجل أن يبعده عنه. وهكذا ينطلق الإنسان في الساحات العامّة في الحياة، ليحرّك إشراق الحريّة فيها، من خلال أنّ توحيد الله يجعله حراً أمام الكون كلّه، ويريد للنَّاس أن يكونوا أحراراً معه، لأنَّه عبد الله فحسب، وليس عبداً لأحد، وإذا كان الله يأمر بالعدل والإحسان، فإنَّه يتحرَّك على أساس أن يحوِّل الحياة عدلاً في الفرد، وعدلاً في الجماعة، وعدلاً في كلّ مواقع الحياة في الأمَّة.
نور الإيمان
إنَّ الإيمان يمثِّل نوراً يشرق في قلب الإنسان، فالإنسان المسلم لا يشعر بأنَّه ضائع، وبأنَّه إنسان حائر، وبأنَّه تائه، لأنَّه عندما يؤمن بالله، يعتقد أنَّ الله هو مركز الوجود كلِّه، وهو سرُّ الوجود كلّه.
ولهذا، فإنّه ينطلق على أساس أن يراقب الله في كلِّ شيء، وينفتح على الله في كلِّ قضيّة، وأن يجد الله في كلّ مظهر من مظاهر خلقه في الدّنيا وفي خارج الدّنيا.
لذلك، فهو الإنسان الذي يعرف من أين يبدأ ومن أن ينتهي، هو يبدأ من الله وينتهي إليه، وهذا هو الصّراط المستقيم الذي ينتهي به إلى الله ليقترب منه، وليعيش في مواقع رضاه، وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة:
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ – وهم يسيرون يوم القيامة في تظاهرة إيمانيّة واسعة شاملة - يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم - باعتبار أنَّ اليمين هي التي يستعملها الإنسان بشكل طبيعيّ في حركة الخير والجهاد والدّعوة، وفي حركة رعاية عباد الله في كلّ موارد العطاء وما إلى ذلك، ويأتيهم النّداء من الله والبشارة - بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
ظلمة المنافقين
أمّا المنافقون، فإنهم يلتقون في مكان ما مع المؤمنين وهم سائرون، ويعيشون في الظلمة، لأنّ ظلمتهم ظلمة النفاق في قلوبهم، وظلمة الحيرة التي يفرضها النفاق عليهم في كلّ مواقع حياتهم، وظلمة المتاهات التي يتيهون فيها في مغاور الضّلال وكهوفه.
إنهم يتحركون في ظلمة، ويرون أنّ المؤمنين يتحركون في نور {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا – انتظرونا قليلاً حتى نأخذ قبسة من أنواركم، لنستعين بها على إضاءة الطّريق أمامنا - نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً"، إنّكم لا تملكون أن تأخذوا من نورنا، لأنَّ مثل هذا النّور لا يستعار ولا يستأجر ولا يوهب، لأنّه نورٌ ينطلق من عقل الإنسان المؤمن في إيمانه، وينطلق من قلب الإنسان المؤمن في نبضات قلبه بمعرفة الله وبمحبَّة الله.
لذلك، إنّ هذا النّور هو نور يصنعه الإنسان في عقله وفي قلبه وفي حياته، وليس نوراً يمكن أن تهبه ويمكن أن تعيره ويمكن أن تؤجّره.
لذلك، ارجعوا وراءكم إلى كلّ تاريخكم كيف كنتم تنافقون، وكيف كنتم تتحرَّكون، وكيف كنتم تخادعون وتخدعون، لقد كنتم تعيشون في ظلمات أحقادكم، وفي ظلمات أطماعكم، وفي ظلمات تخلّفكم، وفي ظلمات جهلكم... {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً}. وأغلق المجال بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} يوصل المؤمنين إلى الجنّة، {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ}، لأنه يطلّ على الجنّة، {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، لأنه يطلّ على النّار في باطنه، وهكذا انتهت القضيَّة من خلال هذا اللّقاء.
حوارٌ يوم القيامة
ثم انطلق المنافقون والمنافقات، هكذا يصوِّر لنا الله المشهد في يوم القيامة، في عمليَّة صراخ ونداء، {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}، ألم نكن جيراناً، أقرباء، أصدقاء، شركاء... ننطلق في مواقع واحدة مشتركة، فلماذا افترقتم عنَّا الآن، وافترقنا عنكم؟ وكيف صرتم إلى ما صرتم إليه من النّعيم، وصرنا إلى ما صرنا إليه من الجحيم؟
{قَالُوا بَلَى}، كنتم معنا، ولكنّ الفرق كيف تحركنا وكيف تحركتم...
لقد آمنّا بالله وبرسله، وعملنا الصالحات من خلال رسالته، واعتبرنا الحياة مسؤوليَّة أمام الله، ومن هنا، كنا نظنّ أنّنا ملاقو ربّنا، ولهذا كانت حياتنا حياة تتحرَّك بالنّور في خطِّ الله سبحانه وتعالى، كنّا في الصراط المستقيم نسير ممن أنعم الله عليهم، ممن لا يغضب الله عليهم لأنهم جحدوه، وممن لم يضلّوا ولم يسلكوا طريق الضّلال في متاهات الحياة.
كنّا في هذا الاتجاه، فانطلقنا لنجد عند الله الوعد الصّادق، عندما وعد بالجنّة عباده المتّقين. أما أنتم، فقد {فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ}، كنتم تنتظرون أن نهزَم، أن نسقط، كنتم تنتظرون أن نرجع إلى ضلالنا القديم، كنتم تتربّصون بنا الدوائر وتتمنّون لنا الأخطار، {وَارْتَبْتُمْ}، شككتم في الله وفي رسالته، ولم تنطلقوا في حالة الشّكّ لتجدوا اليقين من خلال البحث والتأمّل، {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ}، عشتم في أحلامكم الخياليّة السّوداء، عندما كنتم تحلمون بأنّنا سننتهي وسننهزم، وغرَّتكم الأماني في أن تعيشوا الحياة كأفضل ما تكون. {حَتَّى جَاء أَمْرُ الله}، حتى جاءكم الموت {وَغَرَّكُم بِالله الْغَرُورُ}، غرّكم الشيطان وخدعكم هذا الخداع الّذي يمنّيكم يمغفرة الله، ويهوِّن عليكم عذاب الله، ويبتعد بكم عن طاعة الله، ويقترب منكم من معصية الله، {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} إنَّ الحكم قد صدر عليكم أنَّكم ستدخلون النّار، فلو جئتم بكلِّ ما في الدّنيا من مال لتفتدوا أنفسكم بذلك، فلن يقبل منكم ذلك...
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} أيّها المنافقون الّذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان، {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذين أعلنوا الكفر، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} هي الأولى بكم، هي التي تنصركم إذا أردتم النّصر، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
نداءٌ للمؤمنين
وأغلق هذا الملفّ، ثم انطلق النّداء للمؤمنين من أجل أن يعيشوا الإيمان خشوعاً لله، وخضوعاً له وانفتاحاً عليه، ومن أجل أن تلين قلوبهم لذكر الله، وأن لا يتحوَّل الله عندهم إلى مجرَّد فكرة في العقل، بل أن يعيشوا الله في عقولهم وفي قلوبهم وفي حياتهم، بحيث يتحسَّسون حضوره في داخل كيانهم، كما يتحسَّسون حضوره في حياتهم العامّة والخاصّة فلا يجدون شيئاً إلا ويجدون الله معه وخلفه. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، "يأن" يعني أما آن الأوان ويحن الوقت أن يعيش هؤلاء المؤمنون الخشوع لذكر الله، فإذا {ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
ألم يحن الوقت، أيّها المؤمنون، لتربّوا إيمانكم في عقولكم، لتنمّوا الإيمان في قلوبكم، حتّى تخرجوا أنفسكم من الغفلة، وتتحرّروا من أجواء اللامبالاة التي تعيشونها، أن تخرجوا أنفسكم من سجن ذاتكم وأنانيّاتكم وعصبيّاتكم، لأنّ الإنسان إذا دخل في سجن ذاته وعصبيّاته، فإنّ الشّيطان يدخل معه، وبذلك يبعده عن الله سبحانه وتعالى.
لذلك يريدنا الله، أيّها الأحبَّة، أن نلين قلوبنا لذكره، وأن نرقِّق قلوبنا لذكره، ونربي عظمته في نفوسنا، حتى نستشعر عظمته في داخل عقولنا وقلوبنا، فإذا استشعرنا عظمته، وعشنا هيبته، وعرفنا مقامه، فإننا نخشع عند ذكره، ونخضع أمام عظمته، ونتحرّك من خلال عبادته في كلّ ما نتحرّك به في حياتنا.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، وأن تخشع قلوبهم للقرآن الّذي نزله الله من خلال أنّه يهدي إلى الحقّ ويدلّ على الحقّ، لأننا قد نعيش في حياتنا البعد عن القرآن وعن روحانيّته، وعن مفاهيمه، وعن منهجه، وعن كلّ ما يريدنا أن ننطلق فيه، حيث يغيب القرآن عن عقولنا، وإن كان قريباً إلى أسماعنا، كالكثيرين منّا الذين يتلذّذون بالقرآن لفظاً، ولكنهم لا يعيشونه مضموناً ومعنى وعقلاً وفكرةً وموعظةً وما إلى ذلك.
إنّ الله يقول إنّه يخشى أن نكون كما كان الذين من قبلنا {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ}، من اليهود والنّصارى، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}، أصبح الدّين عندهم مجرّد شيء جامد تقليديّ، يمارسونه كما يمارسون أيّ شيء بارد لا علاقة له بعقولهم ولا بقلوبهم، لأنهم عاشوا الدّين كلمات، وعادات، وتقاليد، ولم يعيشوا الدّين إحساساً وروحاً وفكراً وعاطفةً وحركةً في الحياة، {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}... فإذا قست قلوبكم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ، وصارت {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ...}[البقرة : 74] فستنحرفون كما انحرفوا...
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنّ الله يريد بعد ذلك أن يصوِّر لنا المسألة أن تكون أرض عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وحركتنا في الحياة تماماً كما هي الأرض {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}[يس: 33]...
إنّ الأرض تموت، ولكنّ الله يحيي الأرض بالمطر، وكذلك قد تموت أرض عقولنا، فتفقد الحيويَّة، وتفقد الحياة، وقد تموت أرض قلوبنا، فتتجمّد عاطفتنا، وقد تموت أرض مشاعرنا، فتبرد حواسّنا، ولكنّ الإيمان إذا انطلق إلى العقل، فإنّه يحييه، وإذا انطلق إلى القلب، فإنّه ينثر فيه بذور الحياة والنموّ، وهكذا الأمر إذا انطلق إلى الحياة.
{اعْلَمُوا أَنَّ الله يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، وإنَّ الله الذي يحيي الأرض بعد موتها بالمطر، يحيي العقل والقلب والإحساس والشّعور بالإيمان الّذي يمكن أن يحوِّل الإنسان إلى طاقة حيّة متحرّكة بالرّوح وبالخير وبالحقّ في جميع أوجه الحياة.
{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} التي تدلّكم على الطّريق، وتوجّهكم في الاتجاه الصّحيح {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، لأنَّ الله جعل العقل حجّة إلى سواء السّبيل.
الانفتاح على الخير
هذا الجوّ من الآيات الّذي يحدّثنا الله عنه في يوم القيامة، يريدنا الله أن نأخذ منه الفكرة، في أن نحوِّل حياتنا إلى نورٍ ينطلق من الإيمان، وأن نتبعد عن خطِّ النّفاق، وأن يكون كلّ واحدٍ منّا إنساناً منفتحاً على الحقيقة، ومنفتحاً على الواقع، ومنفتحاً على الناس من حوله، بحيث إذا انطلق قلبه ليراه النَّاس، فإنَّ الناس لا يرون فيه إلا الخير والمحبَّة، وإلّا كلّ ما يمكن للإنسان أن يخدم فيه الآخرين.
إنَّ عليّاً (ع) كان يقول لنا، وهو ينصحنا وينصح كلّ واحد منّا في ما يمكن أن يربي به قلبه: "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك". اقتلع كلَّ الأشواك من قلبك.. ألا تقتلعون الأشواك من الأرض عندما تزرعونها، لأنها لو بقيت لأساءت إلى الزَّرع، ويمكن أن تعطّل نموّه؟ كذلك إنّ أشواك الحقد والبغضاء والتكبّر والتجبّر وما إلى ذلك، تمنعك من أن تزرع في قلبك شجرة الخير، وتبذر فيه بذرة الحقّ.
لذلك، إذا أردت أن يكون الناس طيّبين معك، فكن طيّباً معهم.
لا تفكّر إلا في الخير، لأنَّ ذلك سوف ينعكس إيجاباً، فينطلق الآخرون ليفكّروا معك بالخير...
تقوى الله
وهكذا، عندما ننطلق بالإيمان، أيُّها الأحبَّة، لنرى الله في كلِّ مواقعنا، لنتحسَّس رقابة الله علينا، ولنتحسَّس إطلالة الله علينا، ولنتعرَّف من خلال الإيمان وقوفنا بين يديه، فإنَّ ذلك لا بدَّ من أن يمنعنا من أن نعتدي على بعضنا البعض، ولا سيَّما إذا كان ذلك البعض ضعيفاً، وإذا كنّا مسلّطين عليه، كما هو حال الزّوج بالنّسبة إلى الزوجة، وكما هو حال الأب بالنّسبة إلى الأولاد، وكما هو حال صاحب المال أو الجاه أو صاحب السّلطة بالنّسبة إلى الناس الذين لا يملكون ذلك كلّه.
إنّنا عندما نراقب الله في أنفسنا، إذا أمرتنا أنفسنا الأمَّارة بالسّوء بأن نعتدي على الضّعفاء الذين لا يملكون ما نملك من القوَّة، فإنّنا إذا رأينا قوَّة الله، فسيمنعنا ذلك من أن نعتدي على النّاس. وهكذا إذا فكَّرنا في الله دائماً، واستحضرنا إيماننا دائماً، فإنّنا لن نفسد حياة الناس، ولن نفسد أخلاق الناس وسياسة الناس واقتصاد الناس، ولن نخون الناس في أوطانهم وأوضاعهم وفي كلّ مواقع حياتهم.
إنَّ النّاس المسلمين الذين يشهدون لله بالوحدانيَّة، وللرَّسول بالرّسالة، عندما ينطلقون في خطِّ الضّلال، فإنهم ينطلقون في ذلك على أساس غفلتهم عن الله، وعلى أساس نسيانهم لله وابتعادهم عن ذكره سبحانه وتعالى، حيث يتحرّكون مع هوى أنفسهم ومع هوى النّاس من حولهم.
ذكر الله واستحضاره
لذلك، أيُّها الأحبَّة، حتى نستطيع أن ننسجم مع إيماننا، علينا أن نذكر الله دائماً، أن نستحضر ذكره في كلّ شيء، أن نذكره في ألسنتنا وفي عقولنا وفي مواقفنا. والتّربية الإسلاميّة انطلقت في هذا الخطّ، حيث نجد مثلاً من وسائل التّربية الإسلاميّة، أنّك إذا انطلقت وتطلّعت إلى موقع من مواقع العظمة، فإنّه يستحبّ لك أن تقول: "سبحان الله"، وإذا التقيت بنعمة تدلّ على عظمة الله وعلى رحمته، فيستحبّ أن تقول: "الحمد لله" أو "الشّكر لله"، وإذا التقيت بالنَّاس الذين يعتبرهم النّاس آلهةً من دون الله، فعليك أن تقول: "لا إله إلا الله"...
وهكذا، إذا شعرت بضعفك أمام كلّ حالات البلاء أو كلّ حالات القهر، فإنّ عليك أن تقول "لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم"، وإذا عشت المصيبة في أهلك وفيمن تحبّ، فإنَّ عليك أن تقول: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، وإذا بدأت طعامك فقل: "بسم الله"، وإذا شعرت باللذّة فيه فقل: "الحمد لله"...
وهكذا ينطلق الإنسان في كلّ حياته بحسب منهج التربية الإسلامية، ليذكر الله في كلّ شيء، في بدايات الأمور وفي نهاياتها وفي أوساطها، لأنَّ ذلك هو الذي يربي في نفسك الإحساس برقابة الله عليك، فأنت عندما تذكر اسم الله عندما تبدأ الأكل، فلا يمكن أن تأكل حراماً أو تشرب حراماً. هل تقول بسم الله أشرب الخمر، بسم الله آكل لحم الخنزير، بسم الله آكل لحم الميتة، بسم الله أعصي الله...؟ هذا لا يمكن.
فإذا ذكرت الله، ذكرت حرام الطَّعام وحلاله، وإذا ذكرت الله، ذكرت حرام الشَّراب وحلاله.. وهكذا إذا أردت أن تمارس لذّاتك، فهل يمكن لك أن تزني مع امرأة لتقول بسم الله أبدأ الزّنا مثلاً؟ أو عندما تدخل لتسرق إنساناً تقول بسم الله أدخل هذا البيت لأسرق صاحبه؟ وهكذا، إذا كنت في محلّك تريد أن تبيع وتشتري، فهل يمكن لك أن تقول بسم الله أغشّ فلاناً وأخدع فلاناً.
إنَّ ذكر الله يحميك من غفلتك، ويوقظ فيك إيمانك، ويجعلك تواجه الأمور على أساس رضا الله سبحانه وتعالى في هذا وذاك، ولهذا فسّر الإمام الصّادق (ع) ذكر الله بأنّه ليس كلمة "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"، ليست القضية هذه الكلمة، ولكنّها قضيّة عمق تأثير هذه الكلمة في عقلك وروحك.
"ليس سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن أن تذكر الله عند كلِّ حرام فتتركه، وأن تذكر الله عند كلِّ واجب فتفعله"، أن تذكر موقفك غداً بين يدي الله عندما تقف أمام الحرام، لتحاسب نفسك وتفكِّر كيف ستدافع عن نفسك في ارتكابك لهذا الحرام، وكيف تدافع عن نفسك لترك هذا الواجب.
قصَّة توبة
يقال إنَّ رجلاً ركب البحر وتحطَّمت سفينته، فنجا على خشبة إلى جزيرة من الجزر، وبدأ يتمشَّى في هذه الجزيرة، فرأى امرأةً جميلة، فتحرَّكت غريزته وهاجمها، وبدأ في مجال الاعتداء عليها... ولكنَّه رأى أنَّ هذه المرأة، كما تذكر الرّوايات عن أهل البيت (ع)، ترتعد وترتجف وكأنها في حالة رعب هائل، فقال لها: لم ترتعدين وترتجفين، هل تخافين من أحد؟ ليس هناك أحد في هذه الجزيرة غيرنا؟ قالت إنِّي أخاف الله الذي يراقبني، إني أستحي من الله في هذا الموقف وإن كنت مقهورة... عند ذلك، اهتزَّ هذا الرّجل عندما ذكرت الله، فانقشعت الغفلة عن عينيه، فقال لها إذا كنت تخافين الله وأنت مقهورة، فكيف يكون موقفي؟! وقام عنها دون أن يعتدي عليها، وسار في الطريق، وهنا محلّ الشّاهد، كيف أنَّ الله يكرم الإنسان الذي يمنعه ذكر الله عن ارتكاب الحرام، وسار في الطّريق، فالتقى براهب، والرّهبان عادةً كانوا يعتزلون النَّاس ويعيشون في المغاور والكهوف وقمم الجبال ليتعبَّدوا لله سبحانه وتعالى... وكانت الشّمس حادّة، فقال له الرّاهب: تعال ندعو الله أنا وأنت ليرسل إلينا غيمةً أو سحابة تظلّلنا من حرارة الشَّمس. فقال له الشّابّ: أنت راهب، قضيت عمرك في العبادة، أمَّا أنا، فليس لي من العبادة شيء، وقد قضيت حياتي بالفجور والفسق، وأنا أستحي أن أدعو الله، لأنَّ الله لا يمكن أن يكرمني بذلك. قال له: إذاً أنا أدعو، وأنت قل آمين.
فبدأ الراهب يدعو، وبدأ الشابّ يقول آمين، فجاءت السحابة وظلّلتهما، وسارا مستظلّين بظلّ هذه السّحابة، حتى إذا وصلا إلى مفترق الطّرق، وأراد الراهب أن يذهب يميناً والشابّ شمالاً، انطلقت السحابة لتلاحق الشابّ وتترك الراهب. فوجئ الرّاهب بالموضوع، فهذا الشابّ يقول ليس لي من العبادة شيء، وهو الرّاهب الذي قضى عمره في العبادة، فإذا هذا الشّابّ من خلال قوله آمين، يستجيب الله دعاءه ولم يستجب دعائي.
صاح بالشّابّ: تعال، لقد تبيَّن أنّك أقرب إلى الله مني، فماذا فعلت؟ قال له: ليس لي عمل أستطيع أن أتقرَّب به إلى الله، لأنّ كلّ تاريخي أسود، فقد كنت من المسرفين على أنفسهم. قال له: قصّ عليّ حياتك، فقصّ عليه حياته، إلى أن وصل إلى هذه النّقطة، فقال له: إنَّ الله أكرمك وغفر لك لأنَّك ذكرته وابتعدت عن الحرام الّذي كنت هممت لارتكابه، وهذا موقف عظيم شكره الله لك.
مواجهة التحدّيات بالوعي
وهذا، أيُّها الأحبَّة، هو الّذي ينتظر كلّ إنسان، ولا سيَّما إذا كان شابّاً، عندما يذكر الله فيترك الحرام، وعندما يذكر الله فيبتعد عن الإغراء، عندما يذكر الله وهو جائع أمام الذي يريد أن يعطيه أشهى الطعام من أجل أن ينحرف به عن الحقّ أو ما إلى ذلك...
التحدّيات كبيرة أمامنا، من خلال كلّ النّاس الّذين يريدون أن يبتعدوا بنا عن الله، وينحرفوا بنا عن خطِّ الاستقامة، ويريدون لنا أن نخون الله والرَّسول ونخون أماناتنا، ويريدون لنا أن نسقط أمام الإغراء؛ إغراء المال وإغراء الجاه والشَّهوة، حتى نترك مبادئنا وقضايانا.
إنّنا نحتاج إلى هذا الذّكر الواعي لله في قلوبنا وعقولنا وفي حياتنا، حتى نستطيع أن نواجه كلّ المواقف الصّعبة، سواء كانت مواقف اجتماعية تتصل بسلامة المجتمع، أو كانت قضايا سياسية تتصل بسلامة الأمّة، أو كانت قضايا شخصية تتصل بسلامة الإنسان في الخط المستقيم.
إنَّ علينا أن نربي وعينا لله سبحانه وتعالى في كلِّ مواقعنا، وفي كلّ قلوبنا، لنستطيع أن نصرَّ على أن نقف مع الحقّ مهما كانت الصّعوبات، وأن نرفض الباطل مهما كانت الإغراءات، لأنَّ الباطل، أيّها الأحبَّة، سواء كان باطلاً ثقافيّاً أو سياسيّاً أو اجتماعياً أو أخلاقياً، قد استطاع أن يحرّك كلّ وسائله، وأن يجرّد كلّ أسلحته من أجل أن يقضي على هذه الروح الإسلاميّة التي أطلقها رسول الله (ص) منذ انطلق بالدّعوة، ليكون الإنسان إنسان الله الذي يؤمن بالله ويوحّده، والذي يتحرَّك في خطّ الرّسالات. لذلك، إنّ الله يريد لنا أن نكون الأقوياء به، وأن نكون الآمنين به، أن نتعلَّم من رسول الله (ص) الثّبات في موقف الهزاهز، لأنّه ذكر الله {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}.
أن نتعلَّم من أولئك المجاهدين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
أن نعيش مع الله في كلّ مواقعنا، لنثبت حيث يثبت المجاهدون، ونقول للنَّاس كما قال رسول الله (ص) إذا دعانا الناس إلى الضَّلال وإلى البعد عن الإيمان، وإذا دعانا الناس للسّير في طريق الكفر، قالها رسول الله لعمِّه: "والله يا عمّ، لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أموت دونه".
قولوها أيّها الشّباب لكلّ الذين يريدون أن يقولوا لكم اتركوا ما أنتم فيه من التزامكم الإسلاميّ، من التزامكم في طريق الله، اتركوا ذلك وسنعطيكم مالاً وجاهاً! اتركوا ذلك والشّهوات بين أيديكم! وإذا لم تتركوه، فسوف نعاقبكم، سوف نقاطعكم، سوف نعزلكم!... قولوا لهم إنّنا أتباع نبيّ وقف وقال لربِّه بالرّغم من كلّ الحجارة التي كانت تنهال على رجليه من المشركين: "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي"... ليغضب كلّ الناس إذا كنّا مع الله، فهناك السّعادة كلّ السعادة، وهناك الرّضا كلّ الرّضا، والخير كلّ الخير.
في هذه الروح، أيّها الأحبَّة، انطلق المؤمنون والمسلمون مع رسول الله (ص)، ومع الأئمَّة من أهل البيت (ع)، وعلينا أن نقف كما وقفوا، وأن ننطلق كما انطلقوا، وأن نثبت كما ثبتوا، لأنّ المرحلة التي نعيشها الآن في كلّ الواقع الإسلامي في العالم، تعمل على أساس أن تنحرف بالمسلمين عن خطّهم، وأن تصادر حرياتهم، وأن تسرق ثرواتهم، وأن تثير المشاكل في داخلهم، وأن تزرع الفتنة في ساحاتهم.
لذلك، لا بدَّ من أن نكون الواعين المنفتحين على الله في ذلك كلّه، في كلّ المواقف الصغيرة والكبيرة، وفي كلّ المجالات العامّة والخاصّة.
* محاضرة بتاريخ: 15-9-1995م.