محاضرات
04/06/2018

في ذكرى استشهاد عليّ(ع): هل نحن أوصياؤه؟

في ذكرى استشهاد عليّ(ع): هل نحن أوصياؤه؟

{ومنَ الناسِ منْ يشري نفسَهُ ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعبادِ}. والمعنيّ بذلك، كما ورد في كتب التفسير، هو عليّ بن أبي طالب(ع)، أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، ووصيّ رسوله، والشخصية الإسلامية الكبرى بعد رسول الله(ص)، الذي أعطى الإسلام كلّ حياته، والذي كان يفكّر، عندما يفكر في عقله وفي قلبه، بالله وبرسوله، اللذين آمن بهما وأحبهما كما لم يحبّ أحداً، فهو قال رسول الله(ص)، إنه كان يحبّ الله ورسوله، وعندما أحبّ الله ورسوله، أحبّه الله ورسوله.

كانت حياة علي(ع) كلّها محراباً، فقد بدأ أمره في محراب الله في الكعبة، وهو المخلوق الوحيد الذي ولد فيها، وكانت حياته بعد ذلك صلاةً مع رسول الله، فقد كان(ع) يقول: "اللّهمّ إني أوّل من سمع وأجاب وأناب، لم يسبقني بالصلاة إلّا رسول الله". فهو أول من صلّى مع رسول الله في طفولته الأولى، حتى قبل أن يبعث الله الرّسول بالإسلام، وكان يعيش كلّ أخلاق رسول الله، وكل روحانيته، حتى انطبعت شخصيّته بشخصيّة الرسول(ص).

وكان يأخذ من علم رسول الله، حتى أصبح باب مدينة العلم كما جاء عن رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وكان الحقّ هو عنوان حياته، فلم يقترب الباطل منه قيد شعرة، حتى إن رسول الله أعطاه هذا الوسام: "عليّ مع الحق والحقّ مع علي، يدور معه حيثما دار". وكان المجاهد الذي انطلق بالنصر في كل معارك رسول الله(ص)، حتى روي أنه في معركة بدر، ولم يكن عليّ قد تدرّب على حمل السلاح بعد، ولكنه كان فارس بدر، فقتل نصف قتلى المشركين في المعركة، وقتل المسلمون النصف الآخر، ويقال إنّه شاركهم في هذا النصف، ويقال إن جبرائيل هتف: "لا فتى إلا عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار".

وفي معركة الخندق، قال رسول الله(ص)، عندما برز إلى عمرو بن ودّ، فارس المشركين الأول، قال: "برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه"، وعندما صرع عمرواً قال: "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين".

وهكذا ـ أيها الأحبّة ـ كان علي(ع) الأول في المسلمين بعد رسول الله(ص)، ولذلك كان الأولى في حقه، أن يكون الوليّ بعد رسول الله، وقد أكّد رسول الله(ص) ذلك في كلمته: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه"، وكان عليّ(ع) في إخلاصه لله وفي طاعته له وذوبانه فيه، كان العصمة كلّها، لم يذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً منذ طفولته الأولى.

كان يقول عن نفسه عندما كان بين يدي رسول الله في طفولته: "ما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل". ولذلك، كان عليّ في الدرجة العليا من العصمة، ولم يكن مجرّد معصوم بشكل عاديّ جداً. ولذلك، فإننا عندما نذكر عليّاً في مناسبة شهادته التي مرّت علينا بالأمس، فإننا نذكر هذه القمة الإسلاميّة؛ قمة الروح وقمة العلم وقمة الجهاد وقمة الفضائل كلّها.

وسنرى، أيها الأحبة، وعلي يعيش آلامه الجسدية من خلال الضربة الوحشية التي ضرب بها من قِبَل عبد الرحمن بن ملجم الذي كان من فئة المتعصبين، سنرى أن وصيته لم تكن وصية شخص لأقربائه في ما يتركه من مال، بل كانت وصيته للمسلمين كلهم، كان يرسل وصيته في آخر لحظات حياته لولديه الحسن والحسين(ع)، باعتبار أنهما المسؤولان من بعده عن رعاية أمور المسلمين، ولجميع ولده ولمن بلغه كتابه. فكلّ من بلغه كتاب عليّ(ع) في وصيته تلك، لا بدّ من أن يتحمل مسؤولية هذه الوصية لينفّذها على نفسه وعلى مجتمعه، لأنّ هذه الوصية هي أمانة عليّ التي حمّلها لكل المسلمين في كل الأجيال.

تعالوا لنستمع إلى وصيّته للحسن والحسين أوّلاً(ع)، ولمن بلغه كتابه ثانياً:

"أوصيكما بتقوى الله ـ وقد عاش علي(ع) في رسالته التي هي رسالة الإسلام، على أن يربي الناس على مراقبة الله في أنفسهم، فيأتمروا بأوامره، وينتهوا بنواهيه، وذلك هو معنى التقوى التي تجر الإنسان إلى الجنة، لأن الله أعدّ الجنة للمتقين ـ وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ـ أن لا تطلبوا الدنيا، وأن لا تكون الدنيا كل همكم، بحيث تطلبونها بكل ما تملكون من طاقات، وفي كل ما تتحركون به من سعي على المستوى الذي تتركون فيه مبادئكم ومسؤولياتكم، لتحصلوا على الدنيا ولو على حساب دينكم ـ ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ـ لو نقصت دنياكم وخسرتم بعض الأشياء مما يتطلبه الناس في الدنيا، لو فقدتم بعض الفرص أو بعض الشهوات، فلا تسقطوا أمام ذلك، لأن الدنيا ليست دار الخلود، بل هي تتحرك بين ربح وخسارة، فلا يغريكما الربح ولا تسقطكما الخسارة، لأنّ ما عند الله خير وأبقى ـ وقولا بالحقّ ـ لتكن كل كلماتكم مع كل الناس، في حالة الشدّة وحالة الرخاء، في قضايا الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد، لتكن كلّ كلماتكم بالحقّ، {ذلك بأنَّ الله هو الحقّ وأنَّ ما يدعون من دونه هو الباطل}، لا تقولوا كلمة الباطل، لأنكم سوف تقفون عند الله، وسوف يحاسبكم على كلّ كلمة باطل. المسلم هو الذي يكون كل كلامه حقاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، كما كان علي(ع) الذي قال: "ما ترك لي الحق من صاحب" ـ واعملا للآخرة ـ عندما تعملون، فليكن عملكم لما عند الله في كلّ جهدٍ تبذلونه، وفي كلّ طاقة تصرفونها، وسيعطيكم الله جزاء أعمالكم.

والله سبحانه وتعالى يقول: {المالُ وَالْبَنُونَ زينةُ الحياةِ الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ ربِّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً}، وذلك لأنّ ما عند الله باق، وما عند الناس يزول ـ وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، أي إذا كان لديكم قوّة، استخدموها في نصرة المظلوم، أيّاً كان المظلوم، وفي مواجهة الظالم، أيّاً كان الظالم، لأنّ مسؤولية الإنسان المسلم أن يقف إلى جانب العدل والعادلين والمظلومين، ضدّ الظلم والظالمين جميعاً.

ثم ينطلق الإمام(ع) ليعالج جانباً آخر يتعلّق بتنظيم المجتمع وتوازنه: "أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ـ فالإمام يؤكّد على التقوى في كل مشروع اجتماعي يحاول أن يؤسّس عليه المجتمع مستقبله، ليكون متوازناً في حركته ـ ونظم أمركم ـ أن لا تعيشوا الفوضى في أموركم الاجتماعية، وفي أموركم السياسية، وفي الجوانب الاقتصادية والأمنية وغير ذلك، بل أعطوا كلّ إنسان حقه، كونوا المجتمع المنظَّم الذي يعرف فيه كل إنسان موقعه ودوره، أن لا يكون مجتمعاً فوضوياً يتحرّك فيه كلّ الناس على هواهم ووفق رغباتهم وشهواتهم، لأن ذلك يسقط القضايا الكبرى، ويسقط الأمّة في كلّ قضاياها.

وصلاح ذات بينكم ـ وأن تعملوا في حال حصول خلاف بينكم، على أن تتحركوا في خطّ إصلاح الأمور بين المختلفين والمتنازعين {إنَّما المؤمنونَ أخوةٌ فأصْلِحُوا بينَ أخويْكم}، لأنّ الأخوّة تفرض ذلك ـ لأني سمعت جدكما(ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"، أن تصلح بين جماعتين أو ما إلى ذلك، فإنّ ذلك أفضل لك من كلّ الصلاة والصيام المستحبّ، لأنّ إبقاء الخلافات بين الناس قد يدمّر المجتمع، وقد يسيء إلى الإسلام وإلى كلّ واقع الناس في الحياة.

ثم يبدأ الإمام بالصرخة الإنسانية والصرخة الدينية في قضايا الناس الذين يحتاجون إلى رعاية أو إلى إحسان، وفي العبادات التي كلّفنا الله بها: "الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم ـ أي لا تجعلوهم يأكلون يوماً ويجوعون يوماً، يلبسون يوماً أو يعرون يوماً، وكأنّ الإمام يريد أن يبيّن أن الأيتام هم مسؤوليّة المجتمع، لأنهم فقدوا الذي يشبعهم ويكسوهم ويعطيهم الحياة الكريمة ـ ولا يضيعوا بحضرتكم ـ وهذا يعني أن تحفظوهم في المجتمع كما تحفظون أولادكم، حتى لا يعيشوا في المتاهات التي يمكن أن تجرهم إلى الجريمة وما إلى ذلك.

وقد قرأت قبل أيام في بعض الصحف، أنّ هناك أربعة آلاف يتيم ويتيمة من اللبنانيين تبنّاهم أناس في الغرب، وبعد أن عرفوا هؤلاء أن من تولّى تربيتهم ليسوا آباءهم، بدأوا يبحثون عن آبائهم وأمهاتهم، وهذا الذي دعانا منذ البداية إلى تأسيس المبرات لتفادي هذه المشكلة، ذلك لأنّ أولادنا كانوا يرسلون إلى الغرب، فيخرجون عن هويتهم ودينهم وما إلى ذلك.

ولهذا، كنا ولانزال نقول إن الأيتام هم مسؤوليتنا جميعاً، كلٌّ بحسب طاقته، وكلّ بحسب قدرته، وعلى كلّ واحد منا أن يعتبر هذا اليتيم بمثابة ولده، حيث يقول الرّسول(ص): "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، وأيّ ثواب أعظم من أنك إذا كفلت يتيماً حتى يستغني، فأنت مع رسول الله(ص) في الجنّة؟!

"الله الله في جيرانكم ـ فقد أراد الإسلام أن يوجّه المجتمع ليتحمّل الإنسان أذى جاره، وليس فقط أن يحسن الجوار ـ فإنهم وصية نبيّكم، مازال يوصي بهم حتى ظننّا أنه سيورّثهم، والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به أحدٌ غيركم"، لأنّ الله سبحانه وتعالى إنما أنزل القرآن ليعمل به، ليكون هدىً للنّاس ونوراً يضيء لهم كلّ دروب الحياة في كلّ قضاياها الصغيرة والكبيرة.

"الله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم"، "الصلاة عمود الدين، إن قبلت قُبِل ما سواها، وإن ردّت ردّ ما سواها"، وشبّهها رسول الله(ص) بعين ماء تكون على باب الإنسان، فيغتسل منها خمس مرات، فتزيل الأوساخ، وكذلك، فإن الصلاة تزيل الذنوب {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}. ولذلك، علينا أن نهتمّ على تعويد كلّ أهلنا على الصلاة، حتى ينشأوا على طاعة الله وعبادته ومحبّته.

"الله في بيت ربكم ـ أي الكعبة ـ لا تخلوه ما بقيتم ـ أي عليكم التواجد فيها دائماً، لأنها تمثل المظهر لقوة المسلمين وعنوان وحدتهم ـ فإنه إن ترك لم تناظروا"، أي لم ينظر إليكم أحد.

"الله الله في الجهاد ـ الذي يمثّل مواجهة كل الأعداء الذين يحاولون إسقاط الأمّة في كل قضاياها المصيرية، وعندما تعجزون عن الجهاد بأنفسكم، قولوا كلمة الرفض للأعداء ـ بأموالكم ـ بما تقدمونه من مال ـ وأنفسكم ـ في ساحة المعركة ـ وألسنتكم"، وكما قال الحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

ثم يأتي الإمام(ع) إلى مسألة الوضع الاجتماعي في التواصل: "وعليكم بالتواصل والتباذل ـ أي أن تتواصلوا، وأن يبذل كلّ واحد منكم نفسه للآخر، ويعاونه ويساعده على قضاء حوائجه ـ وإيّاكم والتدابر والتقاطع ـ أن يهجر كلّ منكم أخاه ويقاطعه ـ لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كونوا المجتمع الذي يراقب بعضه البعض، ويدعو للمعروف وينهى عن الأعمال المنكرة، لأنكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقوى المنكر ويضعف المعروف، وذلك سينعكس على السلطة السياسية التي قد تنطلق ممن يأخذون بالمنكر ويفسدون في الأرض وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ـ فيولّى عليكم أشراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم".

إلى هنا، نلاحظ أنه لم يتحدث عن شؤونه الشخصيّة، إنما تحدث عن القضايا العامّة التي تتّصل بالمسلمين، وما يخص حياتهم الاجتماعية ومسؤولياتهم الدينية، ثم يتوجه بالوصية لعشيرته، وهم المسؤولون دينياً واجتماعياً عن دمه: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}، أراد الإمام أن يطبّق شرع الله على قضيته الخاصة، خلافاً لما هو سائد في مجتمعاتنا من أعمال انتقامية، أو في العودة إلى أحكام عشائرية وقبلية وما إلى ذلك.

يقول الإمام علي(ع): "يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً ـ حتى تجعلوا الدماء أنهاراً، لماذا؟ لأنه ـ تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ـ القصاص ليس فيه طبقية، إنما يقتل القاتل فقط دون سواه، مهما كان مستواه الاجتماعي أو السياسي ـ انظروا إن أنا متّ من ضربتي هذه، فاضربوه ضربة بضربة ـ لأنّه {مَنِ اعتدى عليكم فاعتدُوا عليه بمثلِ ما اعتدى عليكُم}، وهذا ما لا نأخذ به في حياتنا.

ولا يمثل بالرّجل ـ لا تقطعوا يديه أو رجليه ـ فإنّي سمعت رسول الله(ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"، وعليّ(ع) يرتفع حيث يتضع الناس، وعلي(ع) يكبر حيث يصغر الناس، وعلي(ع) ينطلق في الأعالي وفي السموّ، لأن علياً(ع) يعيش مع الله ولا يعيش مع نفسه، ولا يعيش مع الناس من حوله، "رضا الله رضانا أهل البيت، نرضى بما يرضى الله، نصبر على قضائه ويوفينا أجور الصابرين". وكان علي(ع) الصابر الذي عاش الألم كأقسى ما يكون، وعاش نكران الجميل كأقسى ما يكون، ولكن علياً(ع) كان الفرِح الذي عاش الفرح بالله، فكان حبيب الله، وكان وليّ الله، وهو القائل: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع ـ عن الحرام ـ واجتهاد ـ في طاعة الله ـ وعفّة ـ عن كل معاصي الله ـ وسداد" في الرأي.

هل تحفظون وصيّة عليّ(ع)؟ إنّكم أوصياؤه، {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}، أي بدل الوصية، {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.

وسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّاً.

خطبة الجمعة الّتي ألقاها بتاريخ 22 رمضان 1422ه/ الموافق 7/12/2001م - ذكرى استشهاد الإمام عليّ(ع)

{ومنَ الناسِ منْ يشري نفسَهُ ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعبادِ}. والمعنيّ بذلك، كما ورد في كتب التفسير، هو عليّ بن أبي طالب(ع)، أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، ووصيّ رسوله، والشخصية الإسلامية الكبرى بعد رسول الله(ص)، الذي أعطى الإسلام كلّ حياته، والذي كان يفكّر، عندما يفكر في عقله وفي قلبه، بالله وبرسوله، اللذين آمن بهما وأحبهما كما لم يحبّ أحداً، فهو قال رسول الله(ص)، إنه كان يحبّ الله ورسوله، وعندما أحبّ الله ورسوله، أحبّه الله ورسوله.

كانت حياة علي(ع) كلّها محراباً، فقد بدأ أمره في محراب الله في الكعبة، وهو المخلوق الوحيد الذي ولد فيها، وكانت حياته بعد ذلك صلاةً مع رسول الله، فقد كان(ع) يقول: "اللّهمّ إني أوّل من سمع وأجاب وأناب، لم يسبقني بالصلاة إلّا رسول الله". فهو أول من صلّى مع رسول الله في طفولته الأولى، حتى قبل أن يبعث الله الرّسول بالإسلام، وكان يعيش كلّ أخلاق رسول الله، وكل روحانيته، حتى انطبعت شخصيّته بشخصيّة الرسول(ص).

وكان يأخذ من علم رسول الله، حتى أصبح باب مدينة العلم كما جاء عن رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وكان الحقّ هو عنوان حياته، فلم يقترب الباطل منه قيد شعرة، حتى إن رسول الله أعطاه هذا الوسام: "عليّ مع الحق والحقّ مع علي، يدور معه حيثما دار". وكان المجاهد الذي انطلق بالنصر في كل معارك رسول الله(ص)، حتى روي أنه في معركة بدر، ولم يكن عليّ قد تدرّب على حمل السلاح بعد، ولكنه كان فارس بدر، فقتل نصف قتلى المشركين في المعركة، وقتل المسلمون النصف الآخر، ويقال إنّه شاركهم في هذا النصف، ويقال إن جبرائيل هتف: "لا فتى إلا عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار".

وفي معركة الخندق، قال رسول الله(ص)، عندما برز إلى عمرو بن ودّ، فارس المشركين الأول، قال: "برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه"، وعندما صرع عمرواً قال: "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين".

وهكذا ـ أيها الأحبّة ـ كان علي(ع) الأول في المسلمين بعد رسول الله(ص)، ولذلك كان الأولى في حقه، أن يكون الوليّ بعد رسول الله، وقد أكّد رسول الله(ص) ذلك في كلمته: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه"، وكان عليّ(ع) في إخلاصه لله وفي طاعته له وذوبانه فيه، كان العصمة كلّها، لم يذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً منذ طفولته الأولى.

كان يقول عن نفسه عندما كان بين يدي رسول الله في طفولته: "ما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل". ولذلك، كان عليّ في الدرجة العليا من العصمة، ولم يكن مجرّد معصوم بشكل عاديّ جداً. ولذلك، فإننا عندما نذكر عليّاً في مناسبة شهادته التي مرّت علينا بالأمس، فإننا نذكر هذه القمة الإسلاميّة؛ قمة الروح وقمة العلم وقمة الجهاد وقمة الفضائل كلّها.

وسنرى، أيها الأحبة، وعلي يعيش آلامه الجسدية من خلال الضربة الوحشية التي ضرب بها من قِبَل عبد الرحمن بن ملجم الذي كان من فئة المتعصبين، سنرى أن وصيته لم تكن وصية شخص لأقربائه في ما يتركه من مال، بل كانت وصيته للمسلمين كلهم، كان يرسل وصيته في آخر لحظات حياته لولديه الحسن والحسين(ع)، باعتبار أنهما المسؤولان من بعده عن رعاية أمور المسلمين، ولجميع ولده ولمن بلغه كتابه. فكلّ من بلغه كتاب عليّ(ع) في وصيته تلك، لا بدّ من أن يتحمل مسؤولية هذه الوصية لينفّذها على نفسه وعلى مجتمعه، لأنّ هذه الوصية هي أمانة عليّ التي حمّلها لكل المسلمين في كل الأجيال.

تعالوا لنستمع إلى وصيّته للحسن والحسين أوّلاً(ع)، ولمن بلغه كتابه ثانياً:

"أوصيكما بتقوى الله ـ وقد عاش علي(ع) في رسالته التي هي رسالة الإسلام، على أن يربي الناس على مراقبة الله في أنفسهم، فيأتمروا بأوامره، وينتهوا بنواهيه، وذلك هو معنى التقوى التي تجر الإنسان إلى الجنة، لأن الله أعدّ الجنة للمتقين ـ وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ـ أن لا تطلبوا الدنيا، وأن لا تكون الدنيا كل همكم، بحيث تطلبونها بكل ما تملكون من طاقات، وفي كل ما تتحركون به من سعي على المستوى الذي تتركون فيه مبادئكم ومسؤولياتكم، لتحصلوا على الدنيا ولو على حساب دينكم ـ ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ـ لو نقصت دنياكم وخسرتم بعض الأشياء مما يتطلبه الناس في الدنيا، لو فقدتم بعض الفرص أو بعض الشهوات، فلا تسقطوا أمام ذلك، لأن الدنيا ليست دار الخلود، بل هي تتحرك بين ربح وخسارة، فلا يغريكما الربح ولا تسقطكما الخسارة، لأنّ ما عند الله خير وأبقى ـ وقولا بالحقّ ـ لتكن كل كلماتكم مع كل الناس، في حالة الشدّة وحالة الرخاء، في قضايا الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد، لتكن كلّ كلماتكم بالحقّ، {ذلك بأنَّ الله هو الحقّ وأنَّ ما يدعون من دونه هو الباطل}، لا تقولوا كلمة الباطل، لأنكم سوف تقفون عند الله، وسوف يحاسبكم على كلّ كلمة باطل. المسلم هو الذي يكون كل كلامه حقاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، كما كان علي(ع) الذي قال: "ما ترك لي الحق من صاحب" ـ واعملا للآخرة ـ عندما تعملون، فليكن عملكم لما عند الله في كلّ جهدٍ تبذلونه، وفي كلّ طاقة تصرفونها، وسيعطيكم الله جزاء أعمالكم.

والله سبحانه وتعالى يقول: {المالُ وَالْبَنُونَ زينةُ الحياةِ الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ ربِّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً}، وذلك لأنّ ما عند الله باق، وما عند الناس يزول ـ وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، أي إذا كان لديكم قوّة، استخدموها في نصرة المظلوم، أيّاً كان المظلوم، وفي مواجهة الظالم، أيّاً كان الظالم، لأنّ مسؤولية الإنسان المسلم أن يقف إلى جانب العدل والعادلين والمظلومين، ضدّ الظلم والظالمين جميعاً.

ثم ينطلق الإمام(ع) ليعالج جانباً آخر يتعلّق بتنظيم المجتمع وتوازنه: "أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ـ فالإمام يؤكّد على التقوى في كل مشروع اجتماعي يحاول أن يؤسّس عليه المجتمع مستقبله، ليكون متوازناً في حركته ـ ونظم أمركم ـ أن لا تعيشوا الفوضى في أموركم الاجتماعية، وفي أموركم السياسية، وفي الجوانب الاقتصادية والأمنية وغير ذلك، بل أعطوا كلّ إنسان حقه، كونوا المجتمع المنظَّم الذي يعرف فيه كل إنسان موقعه ودوره، أن لا يكون مجتمعاً فوضوياً يتحرّك فيه كلّ الناس على هواهم ووفق رغباتهم وشهواتهم، لأن ذلك يسقط القضايا الكبرى، ويسقط الأمّة في كلّ قضاياها.

وصلاح ذات بينكم ـ وأن تعملوا في حال حصول خلاف بينكم، على أن تتحركوا في خطّ إصلاح الأمور بين المختلفين والمتنازعين {إنَّما المؤمنونَ أخوةٌ فأصْلِحُوا بينَ أخويْكم}، لأنّ الأخوّة تفرض ذلك ـ لأني سمعت جدكما(ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"، أن تصلح بين جماعتين أو ما إلى ذلك، فإنّ ذلك أفضل لك من كلّ الصلاة والصيام المستحبّ، لأنّ إبقاء الخلافات بين الناس قد يدمّر المجتمع، وقد يسيء إلى الإسلام وإلى كلّ واقع الناس في الحياة.

ثم يبدأ الإمام بالصرخة الإنسانية والصرخة الدينية في قضايا الناس الذين يحتاجون إلى رعاية أو إلى إحسان، وفي العبادات التي كلّفنا الله بها: "الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم ـ أي لا تجعلوهم يأكلون يوماً ويجوعون يوماً، يلبسون يوماً أو يعرون يوماً، وكأنّ الإمام يريد أن يبيّن أن الأيتام هم مسؤوليّة المجتمع، لأنهم فقدوا الذي يشبعهم ويكسوهم ويعطيهم الحياة الكريمة ـ ولا يضيعوا بحضرتكم ـ وهذا يعني أن تحفظوهم في المجتمع كما تحفظون أولادكم، حتى لا يعيشوا في المتاهات التي يمكن أن تجرهم إلى الجريمة وما إلى ذلك.

وقد قرأت قبل أيام في بعض الصحف، أنّ هناك أربعة آلاف يتيم ويتيمة من اللبنانيين تبنّاهم أناس في الغرب، وبعد أن عرفوا هؤلاء أن من تولّى تربيتهم ليسوا آباءهم، بدأوا يبحثون عن آبائهم وأمهاتهم، وهذا الذي دعانا منذ البداية إلى تأسيس المبرات لتفادي هذه المشكلة، ذلك لأنّ أولادنا كانوا يرسلون إلى الغرب، فيخرجون عن هويتهم ودينهم وما إلى ذلك.

ولهذا، كنا ولانزال نقول إن الأيتام هم مسؤوليتنا جميعاً، كلٌّ بحسب طاقته، وكلّ بحسب قدرته، وعلى كلّ واحد منا أن يعتبر هذا اليتيم بمثابة ولده، حيث يقول الرّسول(ص): "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، وأيّ ثواب أعظم من أنك إذا كفلت يتيماً حتى يستغني، فأنت مع رسول الله(ص) في الجنّة؟!

"الله الله في جيرانكم ـ فقد أراد الإسلام أن يوجّه المجتمع ليتحمّل الإنسان أذى جاره، وليس فقط أن يحسن الجوار ـ فإنهم وصية نبيّكم، مازال يوصي بهم حتى ظننّا أنه سيورّثهم، والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به أحدٌ غيركم"، لأنّ الله سبحانه وتعالى إنما أنزل القرآن ليعمل به، ليكون هدىً للنّاس ونوراً يضيء لهم كلّ دروب الحياة في كلّ قضاياها الصغيرة والكبيرة.

"الله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم"، "الصلاة عمود الدين، إن قبلت قُبِل ما سواها، وإن ردّت ردّ ما سواها"، وشبّهها رسول الله(ص) بعين ماء تكون على باب الإنسان، فيغتسل منها خمس مرات، فتزيل الأوساخ، وكذلك، فإن الصلاة تزيل الذنوب {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}. ولذلك، علينا أن نهتمّ على تعويد كلّ أهلنا على الصلاة، حتى ينشأوا على طاعة الله وعبادته ومحبّته.

"الله في بيت ربكم ـ أي الكعبة ـ لا تخلوه ما بقيتم ـ أي عليكم التواجد فيها دائماً، لأنها تمثل المظهر لقوة المسلمين وعنوان وحدتهم ـ فإنه إن ترك لم تناظروا"، أي لم ينظر إليكم أحد.

"الله الله في الجهاد ـ الذي يمثّل مواجهة كل الأعداء الذين يحاولون إسقاط الأمّة في كل قضاياها المصيرية، وعندما تعجزون عن الجهاد بأنفسكم، قولوا كلمة الرفض للأعداء ـ بأموالكم ـ بما تقدمونه من مال ـ وأنفسكم ـ في ساحة المعركة ـ وألسنتكم"، وكما قال الحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

ثم يأتي الإمام(ع) إلى مسألة الوضع الاجتماعي في التواصل: "وعليكم بالتواصل والتباذل ـ أي أن تتواصلوا، وأن يبذل كلّ واحد منكم نفسه للآخر، ويعاونه ويساعده على قضاء حوائجه ـ وإيّاكم والتدابر والتقاطع ـ أن يهجر كلّ منكم أخاه ويقاطعه ـ لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كونوا المجتمع الذي يراقب بعضه البعض، ويدعو للمعروف وينهى عن الأعمال المنكرة، لأنكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقوى المنكر ويضعف المعروف، وذلك سينعكس على السلطة السياسية التي قد تنطلق ممن يأخذون بالمنكر ويفسدون في الأرض وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ـ فيولّى عليكم أشراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم".

إلى هنا، نلاحظ أنه لم يتحدث عن شؤونه الشخصيّة، إنما تحدث عن القضايا العامّة التي تتّصل بالمسلمين، وما يخص حياتهم الاجتماعية ومسؤولياتهم الدينية، ثم يتوجه بالوصية لعشيرته، وهم المسؤولون دينياً واجتماعياً عن دمه: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}، أراد الإمام أن يطبّق شرع الله على قضيته الخاصة، خلافاً لما هو سائد في مجتمعاتنا من أعمال انتقامية، أو في العودة إلى أحكام عشائرية وقبلية وما إلى ذلك.

يقول الإمام علي(ع): "يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً ـ حتى تجعلوا الدماء أنهاراً، لماذا؟ لأنه ـ تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ـ القصاص ليس فيه طبقية، إنما يقتل القاتل فقط دون سواه، مهما كان مستواه الاجتماعي أو السياسي ـ انظروا إن أنا متّ من ضربتي هذه، فاضربوه ضربة بضربة ـ لأنّه {مَنِ اعتدى عليكم فاعتدُوا عليه بمثلِ ما اعتدى عليكُم}، وهذا ما لا نأخذ به في حياتنا.

ولا يمثل بالرّجل ـ لا تقطعوا يديه أو رجليه ـ فإنّي سمعت رسول الله(ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"، وعليّ(ع) يرتفع حيث يتضع الناس، وعلي(ع) يكبر حيث يصغر الناس، وعلي(ع) ينطلق في الأعالي وفي السموّ، لأن علياً(ع) يعيش مع الله ولا يعيش مع نفسه، ولا يعيش مع الناس من حوله، "رضا الله رضانا أهل البيت، نرضى بما يرضى الله، نصبر على قضائه ويوفينا أجور الصابرين". وكان علي(ع) الصابر الذي عاش الألم كأقسى ما يكون، وعاش نكران الجميل كأقسى ما يكون، ولكن علياً(ع) كان الفرِح الذي عاش الفرح بالله، فكان حبيب الله، وكان وليّ الله، وهو القائل: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع ـ عن الحرام ـ واجتهاد ـ في طاعة الله ـ وعفّة ـ عن كل معاصي الله ـ وسداد" في الرأي.

هل تحفظون وصيّة عليّ(ع)؟ إنّكم أوصياؤه، {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}، أي بدل الوصية، {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.

وسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّاً.

خطبة الجمعة الّتي ألقاها بتاريخ 22 رمضان 1422ه/ الموافق 7/12/2001م - ذكرى استشهاد الإمام عليّ(ع)
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية