كتابات
30/08/2013

أخلاقيّات السّياسة في حركة الصّحوة الإسلاميّة

أخلاقيّات السّياسة في حركة الصّحوة الإسلاميّة

قد يتساءل البعض: إذا كانت السّياسة هي المدخل للصّحوة الإسلاميّة في قوّة اندفاعها نحو الواقع، وفي تأثيراتها الإيجابيّة في حركة الإنسان المسلم، في مواجهته للتحدّيات القويّة التي تتحدّى الإسلام، فهل يعني ذلك أنّ على الحركة الإسلاميّة أن تستغرق في الأجواء السياسيّة، بحيث تهمل الأجواء الثّقافيّة أو الروحيّة أو العباديّة أو الاجتماعيّة، أو تضعها في إطارٍ صغيرٍ محدود؟ هل القضيّة المطروحة في النّشاط الحركيّ الإسلاميّ، هي أن نتحوّل إلى حركةٍ سياسيّة إسلاميّة، ليكون الطّابع السياسيّ هو الّذي يحكم الإسلام في الواقع؟

والجواب هو أنّ السّياسة كانت المدخل على أساس مقتضيات المرحلة الصّعبة التي واجهتها قيادة الثّورة الإسلاميّة [في إيران]، باعتبارها منطقة الفراغ في الوعي الإسلاميّ السّابق، حيث استطاعت أن تجتذب المسلمين للاندفاع نحو التيّارات الأخرى.

إنّ السّياسة تمثّل الحركة التي تعمل للتّخطيط للمستقبل الإسلاميّ الّذي يدفع الأمّة إلى الالتزام بالإسلام فكراً وعملاً، ليكون الإسلام كلّه للإنسان كلّه وللحياة كلّها، فلا تجزيئيّة بين جانب وآخر من الإسلام، كما لا انفصال بين موقعٍ وآخر، أو تفريقٍ بين إنسانٍ وآخر.

ولذلك، لا بدّ من التّكامل بين العناصر الإسلاميّة الذاتيّة في فكر الإسلام وروحه وحركته ووسائله وغاياته، الأمر الّذي يجعل للسياسة الدّور الحيويّ في تكوين القاعدة الإسلاميّة على مستوى الإنسان والحياة، لينطلق الإسلام بخصائصه الفكريّة والروحيّة والعمليّة في حياة النّاس، ليعرفوا الله من خلاله، ولتمتدّ ـ بذلك ـ معرفتهم بالحياة كلّها على أساس الإسلام.

ومن هنا، فإنّ المفروض للسّائرين في هذا الخطّ، أن يعيشوا الالتزام الفكري والعملي بالإسلام، ليكونوا جند الإسلام وحزبه ودعاته.

إنّ السّياسة الحركيّة تفرض الانتماء الذي يفرض العمق في المضمون الداخليّ والخارجيّ للشّخصيّة الإسلاميّة المنتمية، فلا يكون إسلاميّاً حركيّاً إلا الذي يكون منطلقاً في خطّ المعرفة وفي خطّ الالتزام، وبذلك تكون السياسة تؤكّد الجوانب الأخرى بدلاً من أن تهملها أو تلغيها.

وقد نحتاج إلى أن نؤكّد ـ في هذا المجال ـ الذهنيّة التي تنظر إلى السياسة في العمل الإسلاميّ نظرةً سلبيّةً، استناداً إلى المشاكل المعقّدة التي عاشها المسلمون في المرحلة السّابقة التي اهتزّ فيها العالم الإسلاميّ بفعل النشاط السياسيّ الثّوريّ الّذي أدخل الأمّة في مشاكل لا حصر لها وتعقيدات لا حدّ لها، كما أنّه حاصر الجاليات الإسلاميّة في أميركا وأوروبّا وفي مناطق أخرى من العالم، فجمّد الكثير من نشاطاتها، وأبعد الكثير من جماعاتها، وأسقط البعض من مواقعها، الأمر الّذي أفقد العمل الإسلاميّ قوّته وأضعف طاقته.

ولذلك، لا بدّ لنا من العودة إلى التّركيز على النّشاط الثّقافيّ والتّربويّ والاجتماعي الّذي يربّي الإنسان المسلم على مستوى الفرد والمجتمع، فإنّ ذلك يمكن أن يمنح فرصةً من الهدوء المتوازن للأوضاع الإسلاميّة المتنوّعة، بالطّريقة التي نستطيع من خلالها التّخفيف من السلبيّات النّفسيّة والعمليّة، وأن نعيد فيها للعاملين طمأنينتهم واستقرارهم، بحيث يعملون في أجواء هادئة مريحة.

ويتابع أصحاب هذه الذّهنيّة التّأكيد أنّ المرحلة الحاضرة تمثّل مرحلة الهدوء السياسيّ في العالم الإسلاميّ، لأنّ القائمين على شؤون الحركة الإسلاميّة مشغولون بترتيب أوضاعهم، وتنظيم أمورهم، بعد الصّدمات العنيفة التي واجهتهم من قبل الحملة الاستكباريّة العالميّة، والتي تركت تأثيراتها القاسية على مجمل أساليبهم في العمل، وأبعدتها عن ساحة العنف، الأمر الّذي قد يفرض الدّخول في هدنةٍ سياسيّة ريثما تتغيّر الأوضاع وتنجلي الأمور وتتحرّك في اتجاه جديد، فيعيش العاملون فرصةً جيّدةً للتأثير الإيجابيّ على المستوى الثّقافيّ والتّربويّ والاجتماعيّ الّذي قد لا يمكن الحصول عليه في دائرة النّشاط السياسيّ.

ولكنّنا نختلف مع أصحاب هذه الذّهنيّة، لأنّ مسألة السياسة ليست شيئاً منفصلاً عن العناوين الفقهيّة القرآنيّة، كالعدل والظّلم، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والرّكون إلى الظّالمين، وولاية الطّاغوت في مقابل ولاية الله، وموقف المستضعفين من المستكبرين، وحزب الله وحزب الشّيطان، والدّعوة إلى الخير والحكم بما أنزل الله، والتّحاكم إلى الطّاغوت، وغير ذلك من المفردات التي أعطى القرآن الخطوط العامّة لها، وانطلق الفقه الإسلاميّ ليتحدّث عن خطوطها التفصيليّة في حركة الحياة الإنسانيّة العامّة والخاصّة.

وإذا درسنا كلّ العناوين السياسيّة، نجدها تلتقي بواحدٍ من هذه العناوين، حتى مسألة الحرّيّة في مواجهة العبوديّة، والعزّة في مقابل الذلّة، فإنّهما تتّصلان بالجانب السلميّ في التّوحيد، وبالجانب الإنسانيّ من شخصيّة المسلم.

فكيف يمكن للإنسان المسلم، الذي يعمل على أن يعيش طاعة الله في حياته فيما يعيشه من إسلامه، أن يبتعد عن السّياسة فكراً وعملاً وحركة حياة؟ وماذا يبقى له من إسلامه إذا انطلق بعيداً عن هذه العناوين العامّة؟ ولعلّ مثل هؤلاء الّذين يطلقون هذه الأفكار من خلال هذه الذّهنيّة، ينطلقون من النّظرة إلى الممارسة القلقة التي تتحرّك فيها السياسة في الواقع المعاش لدى الفئات المنحرفة من الأمّة، أو الجماعات الكافرة المنحرفة عن خطّ الإسلام، ما قد يخلق انطباعاتٍ بأنّ السياسة تعني الانحراف في دائرة الكذب والدّجل والنّفاق، مما يختلف كليّاً عن مفاهيم الصّدق والإخلاص والإيمان، فلا يمكن للإنسان المسلم الملتزم أن يلتقي بها من قريبٍ أو من بعيد.

وربّما كان بعض هؤلاء يفكّرون في أنّ الاقتراب من السّياسة يمثّل الاقتراب من مواقع الخطر، الّذي يلتقي مع إلقاء النّفس في التّهكلة المحرّم شرعاً، باعتبار أنّه يمثل خطّ المواجهة للقوى الكبرى، الّتي تملك القوّة السّاحقة المدمّرة، والأجهزة الخفيّة الدّقيقة، والمواقع الاقتصاديّة الواسعة، والمواقف السياسيّة الحاسمة، التي تؤدّي إلى نتائج صعبة على صعيد سلامة الواقع الإسلاميّ ككلّ، ولا سيّما إذا انطلقت السياسة الإسلاميّة في خطّ الإرهاب الدّولي الذي يثير الرّعب في الرأي العام الدّوليّ، فيشوّه صورة الإسلام في السّاحة العالميّة، وينعكس ذلك سلباً على حركة الدّعوة إلى الإسلام في العالم.

واقعيّة الأخلاق الإسلاميّة:

ربّما كان بعض هؤلاء يفكّرون بهذه الطّريقة، ويبرّرون بذلك سلبيّة مواقفهم من السّياسة. ولكنّنا نلاحظ على هذه النّظرة، أنّ السياسة المطروحة منطلقة من نظريّة سياسيّة محدّدة، وهي النّظريّة الواقعيّة المكيافيليّة التي لا تطرح لها خطّاً أخلاقيّاً في مستوى القيمة الرّوحيّة، لأنّ أخلاقيّتها تنطلق من انسجامها مع معطيات الواقع المعاش في حياة النّاس، فهي لا تعبّر عن المفهوم المطلق للسّياسة، الذي قد يحمل في داخله النظريّة الإسلاميّة في فهمها للسّلوك السّياسيّ بأنّه وسيلة من وسائل إدارة الشّؤون العامّة للأمّة في خطوط حياتها المتنوّعة. وفي ضوء ذلك، فإنّها تخضع للضّوابط الإسلاميّة في أخلاقيّة السّلوك، ما يمكن أن يجعل حركتها مختلفةً عن حركة الواقع السياسيّ الغربي، من دون أن يدفعها ذلك إلى السّقوط في دائرة السّذاجة التي تُسقِط مواقفها، وتهزّ مواقعها، بفعل الأساليب الملتوية في سياسات الآخرين، لأنّ للأخلاق الإسلاميّة واقعيّتها، فيما يحمله ذلك من استثناءاتٍ تنقذ الواقع من المأزق، وتحمي النّاس من استغلال الآخرين للقيم الرّوحيّة أو الأخلاقيّة لإسقاط المواقع الإسلاميّة في ساحة الصّراع.

وكذلك، فإنّ الواقعيّة الإسلاميّة لا تتنكّر للقيم الأخلاقيّة في الإسلام، بل تنسجم معها في مرونتها العمليّة المتحرّكة التي توحي بأنّ المحرّمات انطلقت من أجل إنقاذ الإنسان من الضّرر وتوجيهه نحو النّفع، فإذا اقتربت من الخطّ الأحمر الّذي قد يسقط معه الإنسان، فإنّ التّحريم يتجمّد ليفسح في المجال للتّحليل الذي يترك له حريّة الحركة في نطاق تحقيق الأهداف العليا، وهذا هو الّذي يجعل من الكذب قيمةً أخلاقيّةً إيجابيّةً في موقع، ليكون الصّدق قيمةً سلبيّةً في ذلك الموقع، باعتبار أنّ الكذب ينقذ القضيّة، والصّدق يدمّرها.

وهذا هو الذي يجعل الغيبة واجبةً في نطاق حركتها في ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومستحبّةً في دائرة النّصيحة للمؤمنين، وأمثال ذلك كثير في الفقه الإسلاميّ الّذي تحفل فيه القواعد العامّة بالكثير من الاستثناءات في الواجبات والمحرّمات.

وهذا هو الَّذي يُبعد المداراة عن أن تكون نفاقاً، والانفتاح عن أن يكون تنازلاً، والمهادنة عن أن تكون استسلاماً، لأنّ الخصائص التي تحكم مواقع هذه الأشياء، قد تحوّلها إلى عناوين أخلاقيّة في حجم القضايا الكبرى على مستوى مصير الإسلام والمسلمين، الّذي يجعل من الحرام حلالاً، ومن المستحبّ شيئاً محرّماً.

* المصدر: "الحركة الإسلاميّة، ما لها وما عليها".

قد يتساءل البعض: إذا كانت السّياسة هي المدخل للصّحوة الإسلاميّة في قوّة اندفاعها نحو الواقع، وفي تأثيراتها الإيجابيّة في حركة الإنسان المسلم، في مواجهته للتحدّيات القويّة التي تتحدّى الإسلام، فهل يعني ذلك أنّ على الحركة الإسلاميّة أن تستغرق في الأجواء السياسيّة، بحيث تهمل الأجواء الثّقافيّة أو الروحيّة أو العباديّة أو الاجتماعيّة، أو تضعها في إطارٍ صغيرٍ محدود؟ هل القضيّة المطروحة في النّشاط الحركيّ الإسلاميّ، هي أن نتحوّل إلى حركةٍ سياسيّة إسلاميّة، ليكون الطّابع السياسيّ هو الّذي يحكم الإسلام في الواقع؟

والجواب هو أنّ السّياسة كانت المدخل على أساس مقتضيات المرحلة الصّعبة التي واجهتها قيادة الثّورة الإسلاميّة [في إيران]، باعتبارها منطقة الفراغ في الوعي الإسلاميّ السّابق، حيث استطاعت أن تجتذب المسلمين للاندفاع نحو التيّارات الأخرى.

إنّ السّياسة تمثّل الحركة التي تعمل للتّخطيط للمستقبل الإسلاميّ الّذي يدفع الأمّة إلى الالتزام بالإسلام فكراً وعملاً، ليكون الإسلام كلّه للإنسان كلّه وللحياة كلّها، فلا تجزيئيّة بين جانب وآخر من الإسلام، كما لا انفصال بين موقعٍ وآخر، أو تفريقٍ بين إنسانٍ وآخر.

ولذلك، لا بدّ من التّكامل بين العناصر الإسلاميّة الذاتيّة في فكر الإسلام وروحه وحركته ووسائله وغاياته، الأمر الّذي يجعل للسياسة الدّور الحيويّ في تكوين القاعدة الإسلاميّة على مستوى الإنسان والحياة، لينطلق الإسلام بخصائصه الفكريّة والروحيّة والعمليّة في حياة النّاس، ليعرفوا الله من خلاله، ولتمتدّ ـ بذلك ـ معرفتهم بالحياة كلّها على أساس الإسلام.

ومن هنا، فإنّ المفروض للسّائرين في هذا الخطّ، أن يعيشوا الالتزام الفكري والعملي بالإسلام، ليكونوا جند الإسلام وحزبه ودعاته.

إنّ السّياسة الحركيّة تفرض الانتماء الذي يفرض العمق في المضمون الداخليّ والخارجيّ للشّخصيّة الإسلاميّة المنتمية، فلا يكون إسلاميّاً حركيّاً إلا الذي يكون منطلقاً في خطّ المعرفة وفي خطّ الالتزام، وبذلك تكون السياسة تؤكّد الجوانب الأخرى بدلاً من أن تهملها أو تلغيها.

وقد نحتاج إلى أن نؤكّد ـ في هذا المجال ـ الذهنيّة التي تنظر إلى السياسة في العمل الإسلاميّ نظرةً سلبيّةً، استناداً إلى المشاكل المعقّدة التي عاشها المسلمون في المرحلة السّابقة التي اهتزّ فيها العالم الإسلاميّ بفعل النشاط السياسيّ الثّوريّ الّذي أدخل الأمّة في مشاكل لا حصر لها وتعقيدات لا حدّ لها، كما أنّه حاصر الجاليات الإسلاميّة في أميركا وأوروبّا وفي مناطق أخرى من العالم، فجمّد الكثير من نشاطاتها، وأبعد الكثير من جماعاتها، وأسقط البعض من مواقعها، الأمر الّذي أفقد العمل الإسلاميّ قوّته وأضعف طاقته.

ولذلك، لا بدّ لنا من العودة إلى التّركيز على النّشاط الثّقافيّ والتّربويّ والاجتماعي الّذي يربّي الإنسان المسلم على مستوى الفرد والمجتمع، فإنّ ذلك يمكن أن يمنح فرصةً من الهدوء المتوازن للأوضاع الإسلاميّة المتنوّعة، بالطّريقة التي نستطيع من خلالها التّخفيف من السلبيّات النّفسيّة والعمليّة، وأن نعيد فيها للعاملين طمأنينتهم واستقرارهم، بحيث يعملون في أجواء هادئة مريحة.

ويتابع أصحاب هذه الذّهنيّة التّأكيد أنّ المرحلة الحاضرة تمثّل مرحلة الهدوء السياسيّ في العالم الإسلاميّ، لأنّ القائمين على شؤون الحركة الإسلاميّة مشغولون بترتيب أوضاعهم، وتنظيم أمورهم، بعد الصّدمات العنيفة التي واجهتهم من قبل الحملة الاستكباريّة العالميّة، والتي تركت تأثيراتها القاسية على مجمل أساليبهم في العمل، وأبعدتها عن ساحة العنف، الأمر الّذي قد يفرض الدّخول في هدنةٍ سياسيّة ريثما تتغيّر الأوضاع وتنجلي الأمور وتتحرّك في اتجاه جديد، فيعيش العاملون فرصةً جيّدةً للتأثير الإيجابيّ على المستوى الثّقافيّ والتّربويّ والاجتماعيّ الّذي قد لا يمكن الحصول عليه في دائرة النّشاط السياسيّ.

ولكنّنا نختلف مع أصحاب هذه الذّهنيّة، لأنّ مسألة السياسة ليست شيئاً منفصلاً عن العناوين الفقهيّة القرآنيّة، كالعدل والظّلم، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والرّكون إلى الظّالمين، وولاية الطّاغوت في مقابل ولاية الله، وموقف المستضعفين من المستكبرين، وحزب الله وحزب الشّيطان، والدّعوة إلى الخير والحكم بما أنزل الله، والتّحاكم إلى الطّاغوت، وغير ذلك من المفردات التي أعطى القرآن الخطوط العامّة لها، وانطلق الفقه الإسلاميّ ليتحدّث عن خطوطها التفصيليّة في حركة الحياة الإنسانيّة العامّة والخاصّة.

وإذا درسنا كلّ العناوين السياسيّة، نجدها تلتقي بواحدٍ من هذه العناوين، حتى مسألة الحرّيّة في مواجهة العبوديّة، والعزّة في مقابل الذلّة، فإنّهما تتّصلان بالجانب السلميّ في التّوحيد، وبالجانب الإنسانيّ من شخصيّة المسلم.

فكيف يمكن للإنسان المسلم، الذي يعمل على أن يعيش طاعة الله في حياته فيما يعيشه من إسلامه، أن يبتعد عن السّياسة فكراً وعملاً وحركة حياة؟ وماذا يبقى له من إسلامه إذا انطلق بعيداً عن هذه العناوين العامّة؟ ولعلّ مثل هؤلاء الّذين يطلقون هذه الأفكار من خلال هذه الذّهنيّة، ينطلقون من النّظرة إلى الممارسة القلقة التي تتحرّك فيها السياسة في الواقع المعاش لدى الفئات المنحرفة من الأمّة، أو الجماعات الكافرة المنحرفة عن خطّ الإسلام، ما قد يخلق انطباعاتٍ بأنّ السياسة تعني الانحراف في دائرة الكذب والدّجل والنّفاق، مما يختلف كليّاً عن مفاهيم الصّدق والإخلاص والإيمان، فلا يمكن للإنسان المسلم الملتزم أن يلتقي بها من قريبٍ أو من بعيد.

وربّما كان بعض هؤلاء يفكّرون في أنّ الاقتراب من السّياسة يمثّل الاقتراب من مواقع الخطر، الّذي يلتقي مع إلقاء النّفس في التّهكلة المحرّم شرعاً، باعتبار أنّه يمثل خطّ المواجهة للقوى الكبرى، الّتي تملك القوّة السّاحقة المدمّرة، والأجهزة الخفيّة الدّقيقة، والمواقع الاقتصاديّة الواسعة، والمواقف السياسيّة الحاسمة، التي تؤدّي إلى نتائج صعبة على صعيد سلامة الواقع الإسلاميّ ككلّ، ولا سيّما إذا انطلقت السياسة الإسلاميّة في خطّ الإرهاب الدّولي الذي يثير الرّعب في الرأي العام الدّوليّ، فيشوّه صورة الإسلام في السّاحة العالميّة، وينعكس ذلك سلباً على حركة الدّعوة إلى الإسلام في العالم.

واقعيّة الأخلاق الإسلاميّة:

ربّما كان بعض هؤلاء يفكّرون بهذه الطّريقة، ويبرّرون بذلك سلبيّة مواقفهم من السّياسة. ولكنّنا نلاحظ على هذه النّظرة، أنّ السياسة المطروحة منطلقة من نظريّة سياسيّة محدّدة، وهي النّظريّة الواقعيّة المكيافيليّة التي لا تطرح لها خطّاً أخلاقيّاً في مستوى القيمة الرّوحيّة، لأنّ أخلاقيّتها تنطلق من انسجامها مع معطيات الواقع المعاش في حياة النّاس، فهي لا تعبّر عن المفهوم المطلق للسّياسة، الذي قد يحمل في داخله النظريّة الإسلاميّة في فهمها للسّلوك السّياسيّ بأنّه وسيلة من وسائل إدارة الشّؤون العامّة للأمّة في خطوط حياتها المتنوّعة. وفي ضوء ذلك، فإنّها تخضع للضّوابط الإسلاميّة في أخلاقيّة السّلوك، ما يمكن أن يجعل حركتها مختلفةً عن حركة الواقع السياسيّ الغربي، من دون أن يدفعها ذلك إلى السّقوط في دائرة السّذاجة التي تُسقِط مواقفها، وتهزّ مواقعها، بفعل الأساليب الملتوية في سياسات الآخرين، لأنّ للأخلاق الإسلاميّة واقعيّتها، فيما يحمله ذلك من استثناءاتٍ تنقذ الواقع من المأزق، وتحمي النّاس من استغلال الآخرين للقيم الرّوحيّة أو الأخلاقيّة لإسقاط المواقع الإسلاميّة في ساحة الصّراع.

وكذلك، فإنّ الواقعيّة الإسلاميّة لا تتنكّر للقيم الأخلاقيّة في الإسلام، بل تنسجم معها في مرونتها العمليّة المتحرّكة التي توحي بأنّ المحرّمات انطلقت من أجل إنقاذ الإنسان من الضّرر وتوجيهه نحو النّفع، فإذا اقتربت من الخطّ الأحمر الّذي قد يسقط معه الإنسان، فإنّ التّحريم يتجمّد ليفسح في المجال للتّحليل الذي يترك له حريّة الحركة في نطاق تحقيق الأهداف العليا، وهذا هو الّذي يجعل من الكذب قيمةً أخلاقيّةً إيجابيّةً في موقع، ليكون الصّدق قيمةً سلبيّةً في ذلك الموقع، باعتبار أنّ الكذب ينقذ القضيّة، والصّدق يدمّرها.

وهذا هو الذي يجعل الغيبة واجبةً في نطاق حركتها في ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومستحبّةً في دائرة النّصيحة للمؤمنين، وأمثال ذلك كثير في الفقه الإسلاميّ الّذي تحفل فيه القواعد العامّة بالكثير من الاستثناءات في الواجبات والمحرّمات.

وهذا هو الَّذي يُبعد المداراة عن أن تكون نفاقاً، والانفتاح عن أن يكون تنازلاً، والمهادنة عن أن تكون استسلاماً، لأنّ الخصائص التي تحكم مواقع هذه الأشياء، قد تحوّلها إلى عناوين أخلاقيّة في حجم القضايا الكبرى على مستوى مصير الإسلام والمسلمين، الّذي يجعل من الحرام حلالاً، ومن المستحبّ شيئاً محرّماً.

* المصدر: "الحركة الإسلاميّة، ما لها وما عليها".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية