هل السّبيل إلى اكتشاف طبيعة المرأة وعقلها وإيمانها هو النّصوص الدينيّة، أو الاستغراق في دراسة عناصر الشخصيّة الذاتيّة للمرأة من خلال الواقع الحيّ في حركة وجودها، وفي مستوى انفتاحها على الآفاق العلميّة، فيما هو الفكر في عمقه وفي سعته، وفي طبيعة رؤيتها للأشياء من حولها، فيما هو الرّأي والنّظرة إلى الأمور، وفي نوعيّة التزامها الدّاخليّ بالعقيدة في خطِّ الارتباط بالإيمان بالله ورسله وكتبه وشرائعه، والتزامها الخارجيّ في خطِّ العمل والمعاناة والمراقبة لله في دائرة التّقوى الروحيّة والفكريّة في ذلك كلّه.. وفي قدرتها على مواجهة التحدّيات في الصّراع الفكريّ في ساحة الدّعوة، أو في المشاكل الواقعيّة في ساحة الجهاد؟
إنّنا نعتقد أنّ الدّراسة الواقعيّة على مستوى الاستغراق في الواقع الإنسانيّ للمرأة، كما هو الواقع الإنسانيّ للرّجل، هو السّبيل الأفضل للوصول إلى النتائج المتوازنة.. ثم ندخل إلى فهم النصوص على أساس ذلك، لنتعرف إلى طبيعة الظّروف التي تحرّكت فيها، والنظرة التي انطلقت منها. فلعلّنا نجد هناك بعض القرائن الّتي تصرف النصّ عن ظاهره، ليكون له تفسير آخر لا يختلف عن الواقع الخارجي، أو لنكتشف عدم سلامة الحديث لمخالفته للأصول الثّابتة للعقيدة، ما يجعله مخالفاً للضّرورة الدينيّة من الكتاب والسنّة ونحو ذلك.
وفي ضوء ذلك، فقد نلاحظ في المقارنة بين الرَّجل والمرأة اللّذين يعيشان في ظروف ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة متشابهة، أنّ من الصّعب التّمييز بينهما، بحيث يكون وعي الرّجل للمسألة الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة أكثر من وعي المرأة لها، بل قد تجد هناك نماذج متعدّدة لتفوّق المرأة على الرّجل في سعة النّظر، ودقّة الفكر، وعمق الوعي، ووضوح الرّؤية، بلحاظ بعض العناصر الدّاخليّة أو الخارجيّة المميِّزة لها بشكل خاصّ. وهذا ما نلاحظه في بعض التّجارب التاريخيّة الّتي عاشت فيها بعض النّساء في ظروف متوازنة، من خلال الظّروف الملائمة في نشأتها العقليّة والثقافيّة والاجتماعيّة، فقد استطاعت أن تؤكّد موقعها الفاعل في مواقفها الثّابتة المرتكزة على قاعدة الفكر والإيمان، وهذا ما حدّثنا الله عنه في شخصيّة مريم وامرأة فرعون، وما حدّثنا التّاريخ عنه في شخصيّة خديجة الكبرى أمّ المؤمنين وفاطمة الزّهراء وزينب ابنة عليّ(ع)... فإنّ المواقف التي تمثّلت في حياة هاتيك النّسوة العظيمات، تؤكّد الوعي الكامل المنفتح على القضايا الكبرى الّتي عاشت في حياتهنَّ على مستوى حركة القوّة في الفكر والمسؤوليَّة والمواجهة للتحدّيات المحيطة بهنّ في السّاحة العامّة.. وقد لا يملك الإنسان أن يفرِّق بينهنّ وبين الرّجال الّذين عاشوا في مرحلتهنّ، بأيِّ ميزة عقليّة أو إيمانيّة في القضايا المشتركة.
اصطفاء مريم(ع)
وإذا كان بعض النّاس يتحدّث عن بعض الخصوصيّات غير العاديّة في شخصيّات هاتيك النّساء، فإنّنا لا نجد هناك خصوصيّة إلاَّ الظروف الطبيعيّة الّتي كفلت لهنّ إمكانات النموّ الرّوحيّ والعقليّ والالتزام العمليّ، بالمستوى الّذي تتوازن فيه عناصر الشخصيَّة بشكل طبيعيّ في مسألة النموِّ الذّاتيّ.. ولا نستطيع إطلاق الحديث المسؤول في وجود عناصر غيبيّة مميّزة تخرجهنّ عن مستوى المرأة العاديّ، لأنّ ذلك لا يخضع لأيّ إثبات قطعيّ، مع ملاحظة أنَّ الله سبحانه تحدَّث عن اصطفاء بعض النّساء، وهي مريم(ع)، من خلال الروحانيّة الّتي تميّزها، والسّلوك المستقيم في طاعتها لله، فيما قصَّه الله علينا من ملامح شخصيّتها عندما كفلها زكريّا، وعندما واجهت الموقف الصّعب في حملها لعيسى(ع) وفي ولادتها له.
وإذا كان الله قد وجَّهها من خلال الرّوح الّذي أرسله إليها، فإنّ ذلك لا يمثّل حالةً غيبيّةً في الذّات، بل يمثِّل لطفاً إلهيّاً في التوجيه العمليّ والتّثبيت الرّوحيّ، على أساس ممارستها الطبيعيّة للموقف في هذا الخطّ، من خلال عناصرها الشخصيّة الإنسانيّة الّتي كانت تعاني نقاط الضّعف الإنسانيّ في داخلها، تماماً كما هي المسألة في الرّجل في الحالات المماثلة.. فإنّنا لا نجد هناك فرقاً بين الرجل والمرأة عند تعرّض أيٍّ منهما للتجربة القاسية في الموقف الّذي يرفضه المجتمع من دون أن يملك فيه أيَّ عذر معقول، ما يخرج فيه الموقف عن القاعدة المتمثّلة فيه، فيما هي القيمة الاجتماعيّة السلبيّة في دائرة الانحراف الأخلاقيّ.
ملكة سبأ.. قوّة العقل والحكمة
وعندما ندرس التاريخ في جانب آخر غير الجانب الإيمانيّ في القصص القرآني، فإنّنا نجد ملكة سبأ، فيما قصّه القرآن الكريم علينا من أمرها في حوارها مع قومها عند وصول رسالة سليمان إليها، فقد جمعت قومها لتستشيرهم حول الموقف الّذي يجب أن تتّخذه من تهديد سليمان لها ولقومها، ونوعيّة الردّ الّذي تردّه على الرّسالة، ولعلَّ هذا اللّجوء إلى الاستشارة يوحي بوجود عقل راجح فيما تتميّز به شخصيّتها، بحيث لا تعطي الرّأي الّذي تملك إقراره من موقعها كملكة، إلاّ بعد استشارة أهل الرّأي من قومها فيه، وهذا هو شأن الشخصيّة القياديّة المتّزنة المنفتحة على المسؤوليّة بشكل دقيق، وهذا هو ما حدّثنا الله عنه في سورة النّمل: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}[1].
وهكذا أرادت من رجال قومها أن يقدِّموا إليها "الفتوى السياسيّة" الّتي تعينها على استيضاح الموقف الّذي ينبغي لها أن تتَّخذه في المسألة الخطيرة، ولكنّهم أرجعوا إليها الأمر لترى رأيها، باعتبار ثقتهم بالمستوى الكبير للرّأي عندها، وهي صاحبة القرار الأوّل والأخير.. أمّا دورهم، فهو تنفيذ أوامرها فيما يملكونه من القوّة والبأس الشّديد في مواجهة كلّ التحدّيات الّتي يطلقها الملوك الآخرون ضدّ سلطانها ومواقع الحريّة في حياتهم.
{قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[2].
وكأن رأيها العاقل المتّزن المرتكز على الحسابات الدّقيقة في الحلّ الأفضل للمشكلة الّتي لا تكون القوة السّبيل الأمثل لمعالجتها، فلا بدَّ من دراسة شخصيّة سليمان؛ هل هو ملك يهدف إلى السّيطرة الغاشمة الّتي تلغي وجود الآخرين وحريّتهم في قرارهم وتفسد عليهم حياتهم، وتفرض عليهم الذلّ في واقعهم المعاش كبقيّة الملوك الذي يتميّزون بهذه الخصائص الشرّيرة.. وفي هذه الحال، لا بدَّ من دراسة المسألة في إمكانات الحلَّ السّلميّ، وفي تقدير حجم قوّتهم فيما يستطيعون معه المواجهة أو فيما لا يستطيعونه منها، أو هو داعية حقّ ورسول هدى يمكن التفاهم معه أو الدّخول في حوار معه في القضايا الّتي يدعو إليها؟ واستقرّ رأيها على أن ترسل إليه بهديّة، لترى الجواب في مضمونه السلمي أو الحربي أو القويّ أو الضّعيف، فلو كان ملكاً لأمكن للهديّة أن تجتذبه إذا كان حجمها كبيراً، أو تثيره إذا كانت أهدافه كبيرة في غير هذا المستوى، وإذا كان داعية حقّ، فلا يتنازل تحت تأثير أيّ شيء مادِّي مهما كان كبيراً.
وهكذا فعلت في قرارها الحاسم في المسألة، الّذي يدلّ على شخصيّة عاقلةٍ متّزنةٍ تحسب للأمور حساباتها الدّقيقة قبل أن تتّخذ أيّ قرار، وتعمل على أساس استنطاق عقلها بدلاً من استثارة عاطفتها وانفعالاتها، ولا سيَّما إذا كانت تملك الوسائل الّتي تمنح لهذا الانفعال القاسي فاعليّته في القضيّة الّتي تهدّد عرشها، من خلال قوّة قومها وبأسهم الشّديد.
إنّ القرآن يقدّم إلينا المرأة في صورة ملكة سبأ كإنسان تملك عقلها ولا تخضع لعاطفتها، لأنّ مسؤوليّتها قد استطاعت إنضاج تجربتها وتقوية عقلها، حتّى أصبحت في مستوى أن تحكم الرّجال الّذين رأوا فيها الشخصيّة القويّة العاقلة القادرة على إدارة شؤونهم العامّة.
وإذا أردنا استنطاق هذه الصّورة، فإنّها تدلّ على إمكانيّة انتصار المرأة على عوامل الضّعف الأنثويّ الّذي قد يؤثّر تأثيراً سلبيّاً في طريقتها في التّفكير أو في إدارة المواقف، ما يوحي بأنّ الضّعف ليس قدرها الّذي لا تستطيع التخلّص منه.
وهكذا كانت نهاية المطاف، أن دخلت في الإسلام مع سليمان، بعد أن اقتنعت بذلك من خلال المعجزة الّتي نقلت عرشها إلى موقع سليمان، أو من خلال الحوار الّذي دار بينها وبين سليمان، ما يضيف دليلاً جديداً إلى الفكرة في صورة المرأة الّتي تقرّر وتلتزم وتنتمي من خلال الفكر الخاضع للحسابات الدّقيقة الّتي قد لا يملكها الكثيرون من الرجال.
امرأة فرعون: سطوة الإيمان
وقبل أن ننطلق بعيداً عن استعراض النّماذج، لا بدّ من التوقّف عند شخصيّة امرأة فرعون الّتي كانت تعيش في القمّة من الجاه والنّعيم، ولكنّها تمرّدت على ذلك كلّه، لأنها لم تنفتح ـ من خلال إيمانها ـ على هذه الحياة المستكبرة اللاهية الطّاغية الّتي تعيش الإثارة والأنانيّة والطّغيان فيما تتلهّى به من آلام المستضعفين وجوع الجائعين، كما تعيش التمرّد على الله والبعد عن مواقع الخير في حياة النَّاس.. كانت تحبّ أن تعيش إيمانها في إنسانيَّتها، ولكنَّها لم تكن تجد أيّ فرصة للقيام بذلك، لأنّ زوجها كان يملأ الحياة من حولها بكلّ ما هو غير إنسانيّ في اضطهاده للمستضعفين هناك.. وهكذا انطلقت صرختها إلى الله لتعبّر عن رفضها الرّوحيّ والعقليّ لكلّ ما حولها، لتطلب من الله أن يقوّيها في موقفها العمليّ، ليكون التحدّي في موقعها أكبر، ليبني لها بيتاً في الجنّة تتطلّع إليه في أحلامها الإيمانيّة كلّما زحفت إلى مشاعرها نقاط الضّعف الّتي قد تعمل على أن تزلزل مواقعها ومواقفها.. ولينجّيها من فرعون وعمله لأنّها لا تطيق شخصيّته المشوّهة وعمله الاستكباريّ، ولينجّيها من القوم الظّالمين الّذي يحيطون به ليتزلّفوا إليه ويدعموا ظلمه ويتحرّكوا ـ في ساحته ـ من أجل أن يكونوا الظّالمين الصّغار في خدمة الظّالم الكبير.
وهكذا ضربها الله مثلاً للمؤمنين والمؤمنات، لتكون القدوة لهم في النّموذج الأمثل للقوّة الإيمانيّة الإنسانيّة المتمرّدة على سلطان الظّلم بكلّ إغراءاته وملذّاته، كما ضرب الله مريم ـ من بعدها ـ لهم مثلاً في الصّفة الأخلاقيّة في مستوى القمّة، كما كانت النّموذج الأمثل في التّصديق بكلمات ربّها وكتبه، وفي القنوت الخاشع لله في حياتها كلّها، حتّى كانت حياتها صلاةً كلّها.. وهذا ما جاء في قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[3].
ونحن نعرف أنّ اعتبار المرأة المؤمنة القويّة قدوةً ومثلاً حيّاً للرّجال والنّساء من المؤمنين والمؤمنات، يدلُّ دلالة واضحة على أنّ القرآن يعترف للمرأة بقدرتها على أن تكون الإنسان القويّ الّذي يستعلي على كلّ مواقع السّقوط، ويتمرّد على كلّ نوازع الضّعف، ما يدلّ على أنّ المرأة في نموذجها الأمثل، يمكن أن تكون المثال للرّجل كما هي المثال للمرأة، من موقع الإنسانيّة المشتركة الّتي تستطيع أن تندفع في عطائها الإنسانيّ الأخلاقيّ في الموقف، بالمستوى الّذي تُلغى فيه فوارق الجنس أمام وحدة العقل والإرادة والحركة والموقف.
التوّازن بين المرأة والرّجل
وإذا كنّا نتحدّث عن بعض النّماذج القرآنيّة، أو بعض الأسماء التّاريخيّة الإسلاميّة التي تمثّل البطولات الكبيرة للمرأة، فإنّنا سنلاحظ في قراءتنا للتّاريخ، النّسوة اللاتي جسّدن التفوّق في مجتمعهنّ، فيما يملكنه من قدراتٍ ومواهب ومواقف، تؤكّد القدرة الإنسانيّة للمرأة على أن تتجاوز نقاط ضعفها لتحوّلها إلى نقاط قوّة لتبلغ بها المستوى الرَّفيع.
وفي العصور المتأخّرة، وفي العصر الحاضر، نجد التَّجربة الإنسانيَّة في العلم والثّقافة والحركة السياسيَّة والاجتماعيَّة تقدِّم لنا الكثير من النّساء اللاتي استطعن أن يؤكّدن وجودهنَّ وتجربتهنَّ الرّائدة المعبِّرة عن مواقع القوّة الإنسانيَّة الدالّة على قدرة المرأة على التحدّي والثّبات والإبداع في مختلف المجالات العامَّة والخاصَّة، ما يوحي بوجود نوعٍ من التّوازن في القدرات الإنسانيّة في الظّروف المشتركة بين الرّجل والمرأة.
هذه صورة عن الواقع الحيّ الّذي يعيشه الرّجل والمرأة في الواقع الإنسانيّ الّذي يوحي بأنّ اختلاف الجنس في الطّبيعة الإنسانيّة لم يمنع الاتّفاق على الوحدة في القوّة الفكريّة والإرادة الصّلبة والمرونة العمليّة لدى الرّجال والنّساء، مع توفّر ظروف القوّة والإبداع.
المصدر: تأمّلات إسلاميّة حول المرأة
[1] ـ [النّمل: 29ـ32].
[2] ـ [النّمل: 33 ـ35].
[3] ـ [التّحريم: 11].