كتابات
22/11/2022

التَّوازنُ الإسلاميُّ في مسألةِ التَّعاطي مع النَّفس

التَّوازنُ الإسلاميُّ في مسألةِ التَّعاطي مع النَّفس

[في مقابل الفئة من الناس الّتي اتّخذت لنفسها سبيل العزلة عن المجتمع، وحاصرت كلّ أبعاد النّفس وأمعنت في إضعافها]، هناك الفئة الَّتي اعتبرت للنفس كلّ الحقّ في أن تأخذ نصيبها من متع الحياة وشهواتها ولذائذها، فمنحت نفسها كلَّ الحرية في الإقبال على الحياة، تغرف منها ما شاءت لها قدرتها أن تغرف، وأطلقت لها العنان في كلّ طريق تريد أن تسير فيه وتركض إلى المجالات الواسعة الفسيحة، لا تمنعها من السَّير في أيّ طريق، ولا تحجزها عن الوصول إلى أيِّ هدف، وانفتحت معها على كلِّ أفق تنظر إليه وتتطلّع، وتطوف معه في شتّى المناظر الجميلة، والأجواء الرائعة، لا تطلب لنفسها نصراً في معارك الرغبة، لأنّها لا تشعر بوجود معركة مقدَّسة في هذا المجال، ولا تقحم طاقاتها في صراع للحياة من أجل القضيَّة الكبرى، لأنّها لا تؤمن بقضايا الصِّراع في أيّ جانب، بل ترى أنَّ على الفرقاء أن يسلِّموا أو يستسلموا للأمر الواقع، ليوفِّروا على أنفسهم الجهد والمشقَّة، ولذا فلا يعتبرون الهروب من المعركة هزيمة منكرة، لأنّهم لا يؤمنون بقداسة المعركة، أو بالأحرى، بوجود شيء مقدَّس في الحياة.

هؤلاء هم الذين يواجهون الحياة بعقليَّة الرغبة المقدَّسة التي تعتبر عندهم أساساً لكلّ عقيدة أو فكر أو عمل، فكلّ ما يلبّي رغبة الإنسان هو الحقّ والصَّلاح والخير، وكلّ ما لا يحقِّق للإنسان ذلك، فهو الباطل والفساد والشّرّ، لأنَّ مقياس ذلك كلّه، هو تحقيق السَّعادة للإنسان أو عدم تحقيقها، ممّا لا يتمثّل إلَّا في اعتبار الحياة فرصةً للّذَّة والمتعة والشَّهوة.

إنّهم ليسوا فلاسفةً يستمدّون سلوكهم من فلسفتهم، بل هم ضعفاء مسحوقون أمام رغباتهم، فلا يملكون لها دفعاً ولا تحويلاً. وهكذا نجد أنّهم يلتقون بالفئة الأولى في الانهزام أمام مواقف الصِّراع، وإن اختلفت الفئتان، في انهزام الأولى من ميدان الحياة، بإماتة الحياة في داخلها، وانهزام الثانية أمام شهوات الحياة، بالاستغراق فيها حتى التّخمة، دون أن ترفع سلاحاً ضدّ هذا الانهيار الروحيّ والإنساني الكبير.

أمَّا الإسلام، فإنّه يقف موقف التَّوازن بين موقف الإفراط هناك وموقف التفريط هنا، فأراد من الإنسان أن يأخذ من الدنيا ما يأخذه بحساب، ويدعَ منها ما يدعهُ بحساب، وعمل على أن يتحوَّل التوازن إلى موقف حازم، يرصد الخطَّ الفاصل بين ما يأخذه وما يدعه، بإرادة يَقِظَةٍ منفتحة، لا تختنق في ضباب التَّحريم، ولا تنهار أمام نوازع الإباحة. فللإنسان أن يأخذ من حياته ما يلبّي رغباته وحاجاته الطبيعية ككائن حيّ، تعيش الغرائز في داخله كعالم كبير عميق، يتحرَّك ليشبع جوعه ويُطفئ عطشه، ولكنَّه يضع الحواجز أمامه إذا تحوَّل إلى ما يضرّ حياته وحياة المجتمع!

وعلى الإنسان ـــ في الجانب المقابل ـــ أن يترك ما يتركه من شهوات ورغبات، ويقيم الضَّوابط الداخلية والخارجية التي تحقّق له التماسك والاتّزان، ولكن بدون أن يسيء - في ذلك - إلى جسمه وعقله وحياته أو حياة الآخرين، لأنّ ذلك هو السبيل إلى القوّة الطبيعيَّة التي تملأ الروح كما تملأ الإرادة، وتحكم الفرد كما تحكم المجتمع، حيث لا يضعف جانب لحساب جانب، ولا يقوى سبيل على حساب سبيلٍ آخر، ليحقِّق التَّكامل للإنسان في سلوكه وحياته، بعيداً من أيِّ ضغط داخلي أو خارجي.

ولا بدَّ لهذا كلِّه من مرحلة تدريب، يتوفّر فيها على دراسة نقاط الضّعف ونقاط القوَّة، فيواجههما من موقع الفكر الَّذي يطرح الفكرة ويحلِّلها، ومن موقع الإرادة التي تحوِّل الفكر إلى سلوك وعمل.

وقد لا يتحقَّق ذلك إلّا على أساس الخطة العمليَّة التي تعمل على التخفيف من ضغط الغرائز والرغبات، بإضعاف دوافعها ونتائجها، لئلَّا يتحوَّل الضغط إلى عنصر إخلال بالتوازن، وإضعاف للإرادة، لأنَّ قوَّة الإرادة وضعفها يتحدَّدان بحدود قوَّة الضّغط الداخلي للدوافع العملية وضعفه، فإذا كانت الدوافع متوازنة، تبعتها الإرادة في ذلك، والعكس بالعكس، إرادة غير متوازنة نتيجة دوافع غير منضبطة.

* من كتاب "الإسلام ومنطق القوّة".

[في مقابل الفئة من الناس الّتي اتّخذت لنفسها سبيل العزلة عن المجتمع، وحاصرت كلّ أبعاد النّفس وأمعنت في إضعافها]، هناك الفئة الَّتي اعتبرت للنفس كلّ الحقّ في أن تأخذ نصيبها من متع الحياة وشهواتها ولذائذها، فمنحت نفسها كلَّ الحرية في الإقبال على الحياة، تغرف منها ما شاءت لها قدرتها أن تغرف، وأطلقت لها العنان في كلّ طريق تريد أن تسير فيه وتركض إلى المجالات الواسعة الفسيحة، لا تمنعها من السَّير في أيّ طريق، ولا تحجزها عن الوصول إلى أيِّ هدف، وانفتحت معها على كلِّ أفق تنظر إليه وتتطلّع، وتطوف معه في شتّى المناظر الجميلة، والأجواء الرائعة، لا تطلب لنفسها نصراً في معارك الرغبة، لأنّها لا تشعر بوجود معركة مقدَّسة في هذا المجال، ولا تقحم طاقاتها في صراع للحياة من أجل القضيَّة الكبرى، لأنّها لا تؤمن بقضايا الصِّراع في أيّ جانب، بل ترى أنَّ على الفرقاء أن يسلِّموا أو يستسلموا للأمر الواقع، ليوفِّروا على أنفسهم الجهد والمشقَّة، ولذا فلا يعتبرون الهروب من المعركة هزيمة منكرة، لأنّهم لا يؤمنون بقداسة المعركة، أو بالأحرى، بوجود شيء مقدَّس في الحياة.

هؤلاء هم الذين يواجهون الحياة بعقليَّة الرغبة المقدَّسة التي تعتبر عندهم أساساً لكلّ عقيدة أو فكر أو عمل، فكلّ ما يلبّي رغبة الإنسان هو الحقّ والصَّلاح والخير، وكلّ ما لا يحقِّق للإنسان ذلك، فهو الباطل والفساد والشّرّ، لأنَّ مقياس ذلك كلّه، هو تحقيق السَّعادة للإنسان أو عدم تحقيقها، ممّا لا يتمثّل إلَّا في اعتبار الحياة فرصةً للّذَّة والمتعة والشَّهوة.

إنّهم ليسوا فلاسفةً يستمدّون سلوكهم من فلسفتهم، بل هم ضعفاء مسحوقون أمام رغباتهم، فلا يملكون لها دفعاً ولا تحويلاً. وهكذا نجد أنّهم يلتقون بالفئة الأولى في الانهزام أمام مواقف الصِّراع، وإن اختلفت الفئتان، في انهزام الأولى من ميدان الحياة، بإماتة الحياة في داخلها، وانهزام الثانية أمام شهوات الحياة، بالاستغراق فيها حتى التّخمة، دون أن ترفع سلاحاً ضدّ هذا الانهيار الروحيّ والإنساني الكبير.

أمَّا الإسلام، فإنّه يقف موقف التَّوازن بين موقف الإفراط هناك وموقف التفريط هنا، فأراد من الإنسان أن يأخذ من الدنيا ما يأخذه بحساب، ويدعَ منها ما يدعهُ بحساب، وعمل على أن يتحوَّل التوازن إلى موقف حازم، يرصد الخطَّ الفاصل بين ما يأخذه وما يدعه، بإرادة يَقِظَةٍ منفتحة، لا تختنق في ضباب التَّحريم، ولا تنهار أمام نوازع الإباحة. فللإنسان أن يأخذ من حياته ما يلبّي رغباته وحاجاته الطبيعية ككائن حيّ، تعيش الغرائز في داخله كعالم كبير عميق، يتحرَّك ليشبع جوعه ويُطفئ عطشه، ولكنَّه يضع الحواجز أمامه إذا تحوَّل إلى ما يضرّ حياته وحياة المجتمع!

وعلى الإنسان ـــ في الجانب المقابل ـــ أن يترك ما يتركه من شهوات ورغبات، ويقيم الضَّوابط الداخلية والخارجية التي تحقّق له التماسك والاتّزان، ولكن بدون أن يسيء - في ذلك - إلى جسمه وعقله وحياته أو حياة الآخرين، لأنّ ذلك هو السبيل إلى القوّة الطبيعيَّة التي تملأ الروح كما تملأ الإرادة، وتحكم الفرد كما تحكم المجتمع، حيث لا يضعف جانب لحساب جانب، ولا يقوى سبيل على حساب سبيلٍ آخر، ليحقِّق التَّكامل للإنسان في سلوكه وحياته، بعيداً من أيِّ ضغط داخلي أو خارجي.

ولا بدَّ لهذا كلِّه من مرحلة تدريب، يتوفّر فيها على دراسة نقاط الضّعف ونقاط القوَّة، فيواجههما من موقع الفكر الَّذي يطرح الفكرة ويحلِّلها، ومن موقع الإرادة التي تحوِّل الفكر إلى سلوك وعمل.

وقد لا يتحقَّق ذلك إلّا على أساس الخطة العمليَّة التي تعمل على التخفيف من ضغط الغرائز والرغبات، بإضعاف دوافعها ونتائجها، لئلَّا يتحوَّل الضغط إلى عنصر إخلال بالتوازن، وإضعاف للإرادة، لأنَّ قوَّة الإرادة وضعفها يتحدَّدان بحدود قوَّة الضّغط الداخلي للدوافع العملية وضعفه، فإذا كانت الدوافع متوازنة، تبعتها الإرادة في ذلك، والعكس بالعكس، إرادة غير متوازنة نتيجة دوافع غير منضبطة.

* من كتاب "الإسلام ومنطق القوّة".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية