يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 15].
في هذه الآية، يؤكِّد الله سبحانه وتعالى مسألة تعميق اليقين فيما يتمثَّله الإنسان في إيمانه، فلا بدَّ له عندما يؤمن بالله ورسوله، أن يسهر على إيمانه ليدرسه ويفكِّر فيه، وليعمّقه ولينفتح على كلِّ الأسس التي يرتكز عليها، ليستحضرها دائماً في وجدانه، وليعمل على أساس أن يعيش الحقيقة للإيمان في عمله، لأنَّ الإنسان عندما يعيش مع الإيمان في عالم التَّجريد البعيد عن الواقع، كالذين يعيشون الإيمان في عالم الفلسفة، فإنَّه قد يغرق في الكثير من حالات الرَّيب والشّكّ، لأنه قد يضيّع، في هذا الجو، الدَّرب إلى الله. ولكن عندما يلتقي الإنسان بالله في كلّ ما حوله ومن حوله... وعندما يعيش مع الله إذا تألَّم وإذا تلذَّذ وإذا فرح وإذا حزن، وعندما يعيش حاجاته ومشاكله في اللّجوء إلى الله والاستعانة به، وعندما يتحدَّث مع ربّه ويتعبّد له ويناجيه، عند ذلك، يزداد في كلّ نظرة إلى أيّ ظاهرة كونيّة، وفي أيّ تسبيحة وتحميدة وتكبيرة وتهليلة، معرفة بربّه، لأنَّ الله لا يُعرَف بالفلسفة فحسب، ولكنَّه يُعرَف بحركة الكون وحركة الحياة وحركة الوجدان الَّذي يطلّ عليه.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُو}، أي لم يشكّوا، ولم يهتزّ إيمانهم أمام أيِّ طارئٍ من شبهةٍ هنا وإشكال هناك، لأنهم يبقون يحدثون في الحقيقة، لينطلقوا مع الكلمة المشرقة، كما في دعاء الصّباح المأثور: "يا مَن دلّ على ذاته بذاته".
وهكذا عندما يؤمنون بالرَّسول، فإنَّ الإيمان به لا ينطلق من الطريقة التقليديَّة في حدود المعجزة فحسب، بل من دراسة شخصيّة الرسول (ص)، فأنت عندما تدرسه قبل أن يبعث نبيّاً، وعندما تدرسه (ص) بعد أن بعث نبيّاً، فإنَّك لا تملك وأنت تتأمَّل في كلّ كلمة من كلماته، وكلّ حركة من حركاته، وكلّ ابتهال من ابتهالاته، إلَّا أن تتيقَّن وتؤمن بأنَّه رسول الله، لأنَّ الرسالة كانت كلَّ عقله، كلَّ قلبه، ولقد كان قلبه يحتوي بعاطفته الرساليّة العالم بأسره.
وعندما تتمثّله في خلقه وفي علاقاته وفي تعامله مع كلِّ النَّاس، فأنت لا تستطيع إلَّا أن تؤمن بأنَّه رسول الله، ذلك أنَّ مشكلة بعض النَّاس أنهم غرقوا في الجوانب الفلسفيَّة في علم الكلام، فضاعوا أو ارتابوا {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت: 48]. فهذا الإنسان الَّذي لم يقرأ في كتابٍ ولم يكتبْ كتاباً، جاء بما لا يزال العالم يبحث ويبحث فيه، ليعرف معنى الكتاب الّذي جاء به، وليعرف آفاق السنَّة التي انطلق بها.. فلو درسنا شخصيَّته مقارنةً بما جاء به، لكانت شخصيَّته هي المعجزة، وكانت رسالته هي المعجزة، وأمَّا القرآن، فهو المعجزة التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة، لكنّ معجزة النبيّ (ص) في شخصيَّته وفي رسالته، هي الَّتي يمكن أن ينفتح عليها كلُّ النَّاس.
ولذلك، نجد أنَّ من أساليب النَّبيِّ (ص) في مواجهته لمن أنكروا رسالته، أنَّه كان يقول بكلِّ وثوقٍ واطمئنان: {قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}[الأنعام: 19]. فهذه الكلمة تعني أنَّ الله يدخل في وجدانكم من خلال ما أعيشه، وأنا أدعو إلى الله- والكلام لرسول الله (ص) - لتكون كل هذه الرسالة مني، وكل هذا الوجود شاهداً من الله يعرّفكم أنَّ هذا هو رسول الله...
وبعد هذا وذاك، فإنَّ المؤمن لا يعيش الانعزال عن الواقع، وعن كفر الواقع واستكباره، وعن ظلم الواقع وانحرافه، وعن آلامه وأحلامه، فأن تكون مؤمناً، يساوي أن تكون مجاهداً بكلّ طاقاتك {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ}، فإذا كنت مؤمناً، وأعطاك الله مالاً، وكانت السَّاحة تحتاج إلى مالك، فأعطِ السَّاحة من مالك، فذلك هو جهادك من مالك... لأنَّ مالك الَّذي أعطاك إيّاه الله ليس ملكك، إنما هو أمانة الله عندك، فأنت - في واقع الأمر - وكيل الله في المال {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7]، أي وكلاء فيه، حيث حدَّد الله لكم كيف تحركونه لتنفقوه على أنفسكم وأهلكم، ثمَّ على من أراد لكم أن تنفقوه عليه أو فيه {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24 – 25]...
{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}. والجهاد - عندما تكون مؤمناً - هو أن تجاهد بنفسك، والجهاد بالنَّفس يتنوَّع، وهو في عنوانه الشَّامل، أن تعطي من نفسك في سبيل الله، فمن الجهاد بالنّفس، أن تعطي الأمَّة عقلك وكلّ ما ينتجه عقلك، فهو جهاد النفس، لأنَّ العقل يقف في القمَّة من خصائص النفس، فلذلك، لا يجوز للعالم في أيِّ موقع من مواقع العلم، ولا سيَّما علم الإسلام، أن يكتم علمه، بل يجب عليه أن يبذله: "ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلَّموا، حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلّموا" ، ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة: 159].
فالبعض يرى أنّ "يكتمون" تعني إذا سألهم النَّاس فلا بدّ لهم أن يجيبوا، والحقيقة ليست كذلك، فأن تكتم، تعني أن لا تبادر إلى نشر ذلك، فقد يرى بعض النَّاس أنَّ العالم كالشّجرة، لا بدّ أن تهزّها إذا أردت أن تأكل منها، وإذا لم تهزّها، فليس واجباً عليه أن يبادرك بالعلم، فماذا - يا ترى - عن النَّاس الذين لا يفهمون مفاهيم الإسلام، ولا الحلول المناسبة للمشاكل الفكريَّة والاجتماعيَّة التي يعيشونها؟!
فعلى العالم أن ينطلق ويدرس كلَّ المشاكل الموجودة في العالم، سواء في المفاهيم الإسلاميّة، أو الأحكام الشرعيّة، أو في الواقع السياسي أو الواقع الاجتماعي، عليه أن يدرس ذلك ويبيّنه للأمَّة، وأن يبيّن ما هو حكم الإسلام في ذلك كلّه...
{أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، عندما يشير الله تعالى إلى هؤلاء بأنَّهم الصادقون، فإنَّ معنى ذلك أنّ الذين لا يعيشون الإيمان بعمق اليقين، ولا الجهاد بالمال وبالنفس، ولا يتحمَّلون مسؤوليَّة سبيل الله في كلّ موقع له فيه سبيل، فهؤلاء ليسوا الصَّادقين. فأن تكون صادقاً في إيمانك، يعني أن يتحرَّك إيمانك كمثل النّور في عقلك وقلبك فلا ظلمة فيه، وأن يتحرَّك إيمانك قويّاً بحركتك في الحياة، ليكون إيمانك الإيمان المسؤول الَّذي يراقب سبيل الله أين هو لينفتح عليه، وليتحرَّك فيه، وليحميه من كلِّ من يريد إسقاطه أو اهتزازه أو أيّ شيء من هذا القبيل.