يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه في الصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد:]
"اللَّهُمَّ فصَلِّ على محَمَّدٍ أمِينِك عَلى وحْيِكَ، ونَجيبِكَ مِنْ خلْقِكَ، وصفيِّك مِنْ عِبَادِكَ، إمامِ الرَّحْمةِ، وقائِدِ الخَيْرِ، ومفْتاحِ البَرَكَة، كمَا نصَبَ لأمْرِكَ نفْسَهُ، وعَرَّضَ فِيكَ للْمَكْروهِ بَدَنَهُ، وكَاشَفَ في الدُّعاءِ إلَيْكَ حامَّتَهُ، وحَارَبَ في رِضاكَ أُسْرَتَهُ، وقَطَعَ في إحْيَاءِ دينِكَ رَحِمَه، وأقْصَى الأدْنَينَ على جُحُودِهِم، وقرَّبَ الأقْصَيْنَ علَى اسْتِجَابَتِهِم لَكَ، وَوَالَى فِيكَ الأبْعَدينَ، وعَادَى فيكَ الأقْرَبينَ".
يا ربّ، إنّنا نبتهل إليك أن تصلِّي عليه، بما تتضمّنه الصلاة من علوّ الدرجة وزيادة الرضوان منك والقرب إليك، فهو الإنسان الَّذي جعلته الأمين على وحيك الَّذي أنزلته عليه، فحفظه بكلّ عقله وقلبه، وبلّغه بلسانه وسيرته، فكان القرآن الصَّامت بعمله، والقرآن الناطق بكلمته، ولم يتقوَّل عليك في ذلك بشيءٍ في موقع الزّيادة عليه، ولم ينقص منه شيئاً في موقع التَّحريف، ولم يسمح لأحدٍ أن ينال منه أو ينتقص من معناه، لأنّه رعى الجانب الفكريَّ فيه بسنَّته، كما رعى الجانب الشَّكليَّ من حروفه وكلماته بقراءته، وكان الأمين في التَّبليغ كما كان الأمين في الحفظ.
وهو الإنسان الكريم في ذاته، النَّفيس في نوعه، الخالص في جوهره، الَّذي انتجبته من خلقك، واصطفيته من عبادك، من خلال خصائصه التي اختصصته بها، فجعلته الصّفيَّ من الصَّفوة بما أعطيته من الكرامة.
وهو إمام الرَّحمة، فقد كانت الرَّحمة سرَّ ذاته؛ في الفكر الرَّحيم الذي لا ينطلق إلَّا بالأفكار الأصيلة التي تفيض بالرَّحمة على الناس في ثقافتهم الفكرية، وفي القلب الرحيم الذي ينبض بالمحبة والرأفة والحنان والعاطفة، وفي الكلمة الرَّحيمة التي تنـزل على السَّمع والقلب رحمةً في مضمونها الَّذي يلامس الرّوح بدفء معناه، وفي الأسلوب الرَّحيم الَّذي يرحم ظروف الإنسان النفسيَّة والاجتماعيَّة، ليحترم كلّ خصائصها وحساسيَّاتها ونقاط ضعفه أو نقاط قوَّته فيها، وفي التَّعامل الرَّحيم الَّذي ينفتح على النَّاس في آلامهم وأحلامهم ومشاكلهم وحاجاتهم وأوضاعهم العامَّة والخاصَّة، ليحتضنها ويحتويها ويتحرَّك معها بكلّ روحه وجهده وطاقته، وفي الرسالة الرحيمة التي تمنح الناس النور الذي يضيء لهم الطريق، ويفتح لهم الآفاق، ويعرّفهم ما يصلحهم مما تدعوهم إلى العمل به، وما يفسدهم مما تدعوهم إلى تركه، وتحدِّد لهم المسار الذي ينطلقون فيه، والهدف الذي يسعون إليه، وتوثق علاقتهم بربّهم وبالنَّاس من حولهم وبالحياة التي يتحركون فيها، من أجل أن يجدوا في ذلك كلّه الراحة والسكينة والطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة، وبهذا كان الرسول رحمةً للعالمين، كما قلت في محكم كتابك: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، في امتداد شمولي يشمل العالمين كلّهم.
وهو قائد الخير، والخير هو هذه القيمة الإنسانيَّة الّتي ينبض بها القلب لتتحوَّل إلى حركة في الذات؛ في المعاني الّتي تنفتح على الإنسان بما ينفعه في وجوده، وبما يرفع مستواه في عقله وقلبه وروحه، ويجلب له الراحة والسَّكينة، ويحقِّق له التّوازن في حياته، إلى غير ذلك مما يدخل في النيّة والكلمة والفعل والعلاقة، ليعيش الإنسان معه في كلِّ ما يحقِّق للفرد والمجموع منه كلّ شروط سعادته في الحياة.
ولما كان هذا النبيّ يمثِّل النموذج الأكمل في معاني الخير وخصاله في نفسه وحركته، كان هو القائد له في الواقع الإنساني العامّ في القدوة والدَّعوة، وهو مفتاح البركة الذي يفتح بروحيَّته وعقله وقلبه ورسالته للنَّاس كلّ زيادةٍ في علمهم وروحيّتهم وشروط حياتهم، وكلّ نموٍّ في أخلاقهم وأوضاعهم وامتدادات حركتهم، وكلّ ما ينتفعون به في أمورهم، وقد استطاع، بما أغدقته عليه من لطفك وفضلك ورحمتك وعلمك، أن ينهج بعبادك النهج القويم الَّذي ينمّي فيهم عناصر الخير والبركة والرحمة، فكانوا، في حركته الإيمانيَّة، الدَّاعين إلى الخير في كلّ مواقعه، والمتعاونين عليه، والسَّاعين إليه، والمتحركين في طاقاتهم المتنوّعة بالعوامل التي تنمّيها وتوجّهها في مواقع النموّ والنفع في كلّ أوضاع الحياة المتّصلة بمسؤوليّاتهم، وكانوا الرحماء بينهم في السِّلم والحرب.. وما زالت بركاته ورحمته الرساليَّة وحركة الخير في مسيرته، من خلال المفاهيم التي زرعها في وجدان النَّاس، والشَّريعة التي سنَّها، والمناهج الَّتي وضعها، والحدود التي حدَّدها، تؤتي أكلها كلَّ حين بإذنك، وتنفتح بها على كلِّ جيل لينقلها إلى الجيل من بعده.
اللَّهمّ فامنحه المزيد من صلواتك، جزاءً للمعاناة التي عاناها في سبيل رسالتك، وللجهد الذي بذله من أجل هداية عبادك، ولقيامه بالمسؤوليَّة التي حمّلتها له في المحافظة على امتداد أمرك، فكانت حياته كلّها وقفاً على ذلك، وللمكروه الذي تحمّله في دروب القضية الكبرى التي عمل من أجلها، وفي الدعوة التي صارح بها أهله وعشيرته في دعوتهم إليك ليؤمنوا بك، وليتحركوا في خطِّ طاعتك، وليبتعدوا عن مواقع معصيتك، وكانت رسالتك أقرب إليه من أرحامه، فقطع رحمه عندما واجههم طلباً لرضاك إحياءً لدينك، لأنَّ علاقته بالناس كانت من خلال قربهم إليك وبعدهم عنك في الإيمان والتقوى، فمن ابتعد عنك وجحدك كان بعيداً عنه، حتى لو كان قريباً إليه في النسب، ومن اقترب منك واستجاب لك كان قريباً إليه، حتى لو كان أبعد الناس عنه في القربى العائليَّة، ومن والاك كان في موقع ولايته، ومن عاداك كان في موقع العداوة له، بعيداً من كلّ العلاقات الإنسانيَّة الأخرى.
*من كتاب "آفاق الرّوح".