أن يعيش الإنسان، مهما تقدَّم سنّه في الحياة، أمام فقد أبيه، فإنَّه يشعر بأنَّه فقد طاقة متعدِّدة الأبعاد في الحياة، كانت تتحرَّك معه وتحرِّكه، ليعيش معها طفلاً وشابّاً وكهلاً، فيغني تجربته في العقل وفي الفكر وفي الحركة وفي الحياة...
لذلك، يشعر الإنسان باليتم آنذاك؛ يتم الأب، ويتم الصّديق، ويتم الأخ، ويتم الأستاذ... هكذا كان شعوري عندما فقدت أبي الّذي كان أباً وصديقاً ومعلّماً وحبيباً ورفيق حياة.
وعندما يفقد الإنسان أمّه وهو كبير، يشعر بأنّه شاخ وكبر أكثر، لأنّه كان يعيش طفولته مع أمّه، فالأمّ تبقى مع ولدها حتى لو نيَّف على الستين، تبقى معه كأمّ تهدهده في مهد حياته، كما كانت تهدهده في مهد طفولته، ترعاه، تحنو عليه، تحوطه، تخاف عليه من أيّ سوء، تماماً كما لو كان طفلاً صغيراً.
شعرت بأنَّني فقدت طفولتي الآن عندما فقدت الأمّ الّتي عشت حياتي معه
لا تستطيع الأمّ أن تتصوَّر ابنها إنساناً انفصل عنها، وإن كان لها وعي دوره، لأنها تعيش حنانها الأمومي لتشعره بأنّه لايزال طفلاً... ومن منّا لا يحبّ أن يعيش طفولته مع أمِّه في كلّ حنان الأمّ، فقسوة الحياة، ولا سيّما للّذين يواجهون تحدّيات الحياة ومشاكلها، تحتاج إلى لمسة أمّ، وإلى ضمّة أمّ، وإلى قبلة أمّ، وإلى حنان أمّ، وذلك هو الذي يعطي الإنسان في حياته كلّ الغنى؛ يزيده قوّة دون أن تتحدّث أمّه عن القوّة، ويزيده إرادة وصلابة دون أن تفلسف له إرادة الحياة أو صلابة الحياة، لأنه يتصلّب أكثر عندما يثق بالحياة أكثر، ولأنّه ينطلق في إرادته أقوى وأعلى عندما يتخلّص من كلّ نقاط الضّعف.
هكذا شعرت، أيُّها الأحبَّة، بأنّني فقدت طفولتي الآن عندما فقدت الأمّ التي عشت حياتي معها، وكان لها أكبر الدور في كلّ ما أنا فيه، روحاً وعاطفةً وحناناً ووعياً وإيماناً وحياطة حياة.
ولكن هل نتوقَّف أمام الجانب العاطفيّ لنستغرق فيه؟
هل نبقى مع خصوصيّاتنا، ليعيش كلّ إنسان مع الجوانب المأساويّة في خصوصيّاته، أو مع جوانب الفرح في خصوصيّاته؟
القضيّة ليست كذلك، لأنَّ الحياة لا بدَّ من أن تستمرّ، ولأنَّ قضيّة المأساة في حياتنا لا بدَّ من أن تبقى مجرَّد شعور نعيشه، ومجرَّد إحساس بالألم نختزنه، ولكن لا بدَّ من أن نعيش حركة المسؤوليّة في حياتنا. لا وقت لنا للحزن، ولا وقت لنا للاستغراق في الألم، وكلَّما ازددنا وعياً بالله وبسنَّة الله في الكون، استطعنا أن نفهم مسألة الحزن أنّها قصّة شعور يمكن أن تنطلق في القلب ليحزن، وفي العين لتدمع، ولكن لتسمرّ الحياة، ولتستمرّ المسؤوليّة في الحياة.
ما الّذي نفهمه من الأمومة، ومن الأبوّة معها، ولكنّ قصّة الأمومة تعطي الإنسان الكثير الكثير مما يتّصل بشخصيّته العاطفيّة، ربما أكثر مما تعطيه الأبوَّة، ولكنّهما سواء.
ما الذي نستفيده، أيّها الأحبّة، في حركة حياتنا؟
هذه الحياة التي تتحرَّك بقساوتها لتضغط علينا أفراداً وجماعات، وهذه الحياة الّتي نزيد من قسوتها عندما نحمِّل أنفسنا الكثير الكثير مما يمكن أن نتحرّك به في قضايا الحقد والعداوة والبغضاء.
إنّ القضية هي أننا نعمل على إنتاج القساوة للحياة أكثر مما تنتجه الحياة القاسية، فنحن نقسو في علاقاتنا وفي معاملاتنا وفي سياساتنا، نقسو تماماً كما لو كان الإنسان يتحوّل إلى حجر، وكما لو كان الإنسان يتحوّل إلى حديد.
القضية التي يمكن أن نرصدها في كثير من مواقع حياتنا، أنَّ ما يتحدَّث عنه بعض الشّعراء، أنّ هناك قلباً قدّ من صخر، وأنّ هناك إحساساً تحوّل إلى حديد، قد يتحدّث الشعراء عن ذلك في مسألة القوّة والشجاعة، ولكنّنا قد نتحدّث عنها في مجال العاطفة الإنسانيّة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ}.
القضية هي هذه. ما الّذي نفهمه من مسألة الأمومة؟! نحن نستغرق مع أمّهاتنا ومع آبائنا فيما نختزنه من روحيّة العاطفة التي يبذلها لنا آباؤنا وأمّهاتنا، ولكنّنا لن نقف لنتعلّم من الأمومة درس الحياة فيما هو معنى حركة الإنسان في الحياة، ولا نقف لنتعلَّم من الأبوَّة درس الحياة فيما يمكن أن تعطينا من دروس الحياة.
ما هي قصَّة الأمومة وقصّة الأبوّة في حياتنا؟! هي قصّة العطاء بلا مقابل، قصّة المحبّة من دون أيّ فلسفة لكلّ نتائج المحبَّة، هي قصّة الحنان الذي تتنفَّسه في حياتك كما هي الشَّمس عندما ينطلق منها شلال النّور، وكما هو الينبوع عندما يتدفَّق.
هذا الدّرس الذي يقول لك إنّ هناك شيئاً في الحياة يعطي دون أن ينتظر ما يأخذ، وإنّ هناك شيئاً يحنو دون أن يتصوّر ما هو ثمن هذا الحنوّ.
قد نحتاج، أيّها الأحبّة، في الحياة العامّة، ونحن نعيش عمراً مع أمّهاتنا في كلّ هذا السلوك الإنساني الرّحب، الّذي ينفتح على ما أودعه الله في الإنسان من بعض أخلاق الألوهة.. الإنسان بشر، والإنسان عبد، ولكنَّ الله جعل في الأمّ وفي الأب معنى من صفاته، "تخلّقوا بأخلاق الله"، ومن أخلاق الله، أنّه يعطي بلا حساب، ويرزق بلا حساب، ويغفر بلا حساب، ويدبّر ويرعى الإنسان بلا حساب، والأمّ في عطائها لا تفهم درس الحساب، والأب في عطائه لم يتعلَّم درس الحساب.
إذاً، من أين أخذنا دروس الحساب هذه؟ أخذناه من أوَّل مدرسة دخلناها، وهي مدرسة الحياة الّتي كان العطف فيها بلا حساب، والعطاء بلا حساب، والخدمة بلا حساب.. من أين تعرّفنا وتعلَّمنا أنّنا نعطي بحسابات دقيقة، ونكفّ عن العطاء مهما كانت حاجة الحياة إلى العطاء، ومهما كانت حاجة الإنسان إلى العطاء؟ نكفّ عن العطاء لأنَّ الحسابات لم تكن مضبوطة، ولأنَّ هناك خللاً في الحسابات.
لماذا أيّها الإخوة، لا نتعلّم، أو لا نستعيد هذا الدّرس؟
قد نكون مستغرقين فيه استغراقاً لا يجعلنا نعيشه ولا يجعلنا نتفهَّمه.
إننا نشعر بأنّ حياتنا التي نعيش، كما قلت، هي حياة قاسية، هي حياة نمارس فيها حتى أخلاقنا على أساس تجاريّ، وحتى سياستنا على أساس تجاريّ، وحتى علاقاتنا الإنسانيَّة على أساس تجاريّ، ولذلك لم تعد مسألة العلاقات فيما بيننا تعطي معنى الإنسانيَّة في العلاقات، ولم تعد السياسة في حياتنا تعطي معنى السموّ في حركة الإنسان في مسؤوليَّته. لماذا؟ لأنَّ القضيّة هي أنّ هناك لا اقتصاد السوق فحسب، ولكن هناك سياسة السوق وأخلاق السوق، وهناك علاقات السوق، وبذلك تحوَّلنا إلى حياة رأسماليّة، لا في المال الذي نحرِّكه، ولكن أصبحت قلوبنا تتحرَّك ضمن هذا النظام، وعقولنا ضمن هذا النظام، وحياتنا العامَّة ضمن هذا النظام.
يعيش الإنسان الرّعب أمام فقدان الأمِّ والأب، ولكنّ ما يفزعنا ويرعبنا أكثر هو موت الأمَّة
لذلك، أيّها الأحبَّة، قصّتنا هي قصّة الداخل الإنساني؛ من أنت في فكرك، ومن أنت في عاطفتك، ومن أنت في إحساسك وشعورك.. ما هي علاقتك بالإنسان الآخر، ما هي علاقتك بالحياة، ما هي علاقتك بالله قبل الإنسان وقبل الحياة...
القضية أننا نخشى أننا تحوَّلنا إلى أحجار، وعندما نتحوَّل إلى أحجار، يتقن الّذين يلعبون لعبة الأحجار في الشّطرنج كيف يحرّكونها من دون روح.
الإنسان يعيش، كما قلنا، حسَّ اللَّوعة والرّعب أمام فقدان الأمِّ والأب، أمام موت الأمِّ والأب، ولكن هناك موت يفزعنا ويرعبنا أكثر من كلِّ ذلك، وهو موت الأمَّة، أن تموت الأمَّة، أن تشعر أنت وأن أشعر أنا، وأن يشعر الآخرون بأنهم مجرَّد وجودات منفصلة، ألتقي بك من خلال خصوصيَّات وجودي، لا من خلال ما أعيشه معك في الوجود الواحد.
*كلمة سماحته في حفل تأبين والدته، الحاجة رؤوفة بزي، بتاريخ 14 ذو الحجّة 1412هـ/ الموافق: 14-6-1992م.