حدود الطاعة
في المنظور التّربويّ الإسلاميّ، ليس المطلوب من الابن إرضاء الوالدين أو إطاعتهما، بل الإحسان إليهما، وعمليّة الإحسان هي عملية رسالية تربوية، تمثِّل انفعال الإنسان بما يقدّمه الآخر إليه من رعاية وحماية واحتضان وخدمة وتضحية وإحسان. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[1]، فالإحسان مسألة إنسانيّة، تفرض على كلّ فرد انطلاقاً من إحساسه الإنساني، أن يستشعر إنسانيّة الآخر في نفسه. لذلك ينبغي لنا دائماً أن نؤكّد في عقل الطّفل وفي قلبه، القيمة الّتي يمثّلها الأب والأمّ في حياته، باعتبار أنّهما أساس وجوده، وباعتبار أنّهما القيّمان على رعايته واحتضانه بكلّ ما يتضمّنه ذلك، فهما يسهران لينام، ويجوعان ليشبع، ويتعبان ليرتاح، تضحيةً من أجله، إضافةً إلى كلّ مفردات الإحسان الأبوي أو الأمومي.
وهذا ما عالجه القرآن بطريقة تستثير شعور الابن الإنساني في علاقته بأبويه، حيث يقول تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}[2]، ليكن ردُّ فعلك حيال ضيقك منهما إذا ما أزعجاك، كردِّ فعلهما حيال تنغيصك المستمرّ لحياتهما في أوائل حياتك، عندما كانا يقابلان صراخك في وجههما بالقبلات... {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.
إنّ هذه الفقرة توحي بأنّ العلاقة بالأب والأم تقع في دائرة أرفع وأسمى من العلاقات الإنسانيّة العادية، فهي لا تستدعي منه الثأر لكرامته في حال تعرّضه للأذية النفسية، لذا على الابن أن يمارس حيال والديه الذل العملي دون أن يشعر بامتهان كرامته، تماماً كما كان الأبوان أنفسهما يذلان نفسيهما أمامه عندما كان في صغره يضربهما أو يدفعهما أو ما أشبه ذلك، هذا النّمط من الذلّ هو ذلّ الرّحمة { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}[3].
لذا على المربّي أن ينمّي في نفس الطّفل حالة الإحسان إلى والديه كردِّ فعل لإحسانهما، وذلك باستحضار كلِّ تاريخ حياته معهما، وتاريخ رعايتهما له. هكذا يدخل إرضاء الوالدين بوصفه نوعاً من أنواع الإحسان، وهذه تتمثَّل بأن يكبت الابن رغباته، ويستغني عن بعض حاجاته من أجل إشباع رغبات الأبوين، أو من أجل تلبية حاجاتهما، ولكنَّ هذه الطاعة المستحبَّة للوالدين، وهذا الرّضى المرغوب فيه، ليس أمراً مطلوباً في جميع الأحوال، بل في حدود، بحيث لا يكون فيه معصية لله، ولا يكون فيه تدمير لحياة الابن وشخصيَّته، ولا يكون فيه إساءة إلى الأبوين من ناحية أخرى، وأن لا يكون فيه ضغط عليه أكثر مما لا يتناسب مع مصلحته.
الابن ليس صورةً لوالديه
إنّ البرّ بالوالدين ليس عمليّة إلغاء لشخصيّة الولد أو إلغاء لمصالحه، وتحويل شخصيَّته إلى صدى لشخصيَّة الوالدين، واعتبار نفسه ظلاً لهما، لأنّه لا يجوز أن يُربّى الولد على أن يكون صورة منسوخة عن والده، أو أن تكون البنت صورة منسوخة عن أمّها، بل لا بدّ من أن نعين الولد على اختيار صورته، بالاستفادة من بعض ملامح الصّورة الوالدية أو الأمومية بما يخدم حياته، لكن يجب أن يصنع الولد صورته بنفسه، مستعيناً بما يرتاح إليه أو يقتنع به من صور الآخرين، أو ما يقتنع به في نفسه.
لذلك، لا بدَّ من أن نرصد جانبين في علاقة الأولاد بالأهل وطاعتهم؛ جانباً إيجابيّاً، وهو أن ّرضا الوالدين يعطي طابعاً حميماً لعلاقة الأولاد مع الأهل، ويدعم تماسك الأسرة، حيث تبدو الأسرة كخليّة يقودها ويحضنها شخص، ويتحرّك في إطار هذه القيادة والحضانة الأولاد. ومن هنا، فإنّ عمل أفراد الأسرة الواحدة على إرضاء بعضهم البعض، يقوّي الروابط العاطفية، ويبسط العلاقات الأسريّة، ويجعلها أكثر راحةً وسلامةً.
أمّا الجانب السلبيّ من رضا الوالدين، فإنّه يتمثّل في خضوع الولد التامّ لوالديه، ما يمنعه من تنمية شخصيّته المستقلّة، واختيار طريقة حياة وطريقة تفكير خاصّة به، بحيث يصبح مجرّد صدى للآخر، وهو مفعول سلبيّ جدّاً لمفهوم الرّضا.
لذلك، لا بدَّ من أن نجرّد هذا المفهوم من معنى الانسحاق أمام الآخر خوفاً من غضبه، بل لا بدّ لنا من أن نستبدل مفهوم الرّضا الّذي ينفي شخصيّة الفرد، ويجعل كلّ حياته مكرّسة لإرضاء الغير بمفهوم الإحسان، حيث تكون العلاقة مع الآخر قائمةً على الإحساس بإنسانيّته، وبما قدّمه هذا الآخر من عناصر ساهمت في تنشئة الطّفل وتحويله إلى إنسان قادر على الاستقلال بحياته.
فالمجتمع الذي يُربّي أفراده منذ الطفولة على أن يكون إرضاء الآخر قيمةً عليا لديهم، سوف يتحرّك سياسياً واجتماعياً وسلوكياً تحت تأثير الآخر، لأنّ إرضاء الآخر والخوف من إزعاجه وإهماله، هو عقدة تجعل الآخر كلّ شيء بالنّسبة إليه، بحيث يجتاح عقله وقلبه وكلّ حياته، فلا يعلن عن رغبة ضدّ رغبته، ولا يختار فكراً ضدّ فكره، ولا يتحرّك أيّة حركة ضدّ حركته، لأنّ ذلك يُغضب الآخر ولا يرضيه.
عقدة إرضاء الآخر
لذا، فإنّ عقدة إرضاء الآخر تشكّل حاجزاً يعرقل نموَّ الطفل، ويعيق تطوّر شخصيّة الشابّ الّذي تتركّز في داخله هذه القيمة الخضوعيّة، وتستمرّ معه طوال الحياة، ولعلّ خضوع بعض الشّعوب للأقوياء، سواء كانوا من داخل مجتمعهم أو خارجه، يعود إلى هذه التّربية على الطاعة وعدم إزعاج الآخر.
ومن نافل القول، الإشارة إلى أنّ التوجيه الإسلامي لاحظ هذه المسألة في بعض الدّوائر الاجتماعيّة الّتي يحاول فيها البعض إرضاء الآخرين بتقديم التّنازلات لهم، جاء في القرآن الكريم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[4]، إذا كان هاجسك أن يرضى عنك اليهود والنّصارى، وهما نموذجان يمكن أن نوسّع دلالاتهما إلى ما يتجاوز هاتين الدّائرتين، فإنّ الآخرين لا يرضون عنك إلاّ إذا ألغيت فكرك وإرادتك أمام فكرهم وإرادتهم، بمعنى أن تلغي نفسك. وكأنّه يقول: لا تلغِ نفسك إن كنت تؤمن بما يتنافى مع ما يؤمن به الآخرون، فلن يرضى الآخرون إذا ما كانوا يلتزمون فكراً أو خطاً مختلفاً إلاّ عمّن يلتزم هذا الفكر وهذا الخطّ كاملاً.
لذلك، علينا أن لا نخلط المفاهيم بطريقة قد تسيء إلى الطّفل والتربية، فعندما نتحدث عن إرضاء الوالدين، فإنّ ذلك قد يمتدّ ليأخذ شكل القيمة الدّينيّة المقدّسة، الأمر الّذي قد يؤدّي إلى نوعٍ من الضّغط النّفسيّ الشّديد على الولد، عندما يفرض الوالدان عليه فعلاً ليس في مصلحته. إنّ أكثر الاتجاهات شيوعاً لدى الآباء والأمّهات في تربية أولادهم، هو رغبة الأهل في جعل أولادهم صورةً عنهم، وسعيهم إلى فرض رغباتهم وأفكارهم الخاصّة على الأبناء، كما هو الحال في مجتمعنا التقليديّ، حيث يفرض الأب أو الأمّ على الولد أو البنت زوجةً معيّنة أو زوجاً معيّناً، إمّا من خلال التّركيز على شخص معيّن أو على مواصفات معيّنة.
أو كما هي حال الأب الّذي يريد أن يكون ابنه امتداداً له في عمله أو وظيفته أو ما إلى ذلك.
لذلك إذا قلنا إنّ رضا الوالدين بذاته مطلوب في التّربية، فإنّ الولد عند ذلك قد يتخيّل أنّ الله يغضب عليه إذا لم يستجب لرغبة أمّه أو أبيه، فيشعر آنذاك بأنه يعيش دماراً في حياته بأسرها.
لذا نقول إنَّ علينا كمربّين، عندما نريد غرس قيمة معيَّنة في نفس الولد، ولا سيَّما إذا كان لهذه القيمة عنوان الفرض الدّيني، الّذي يشعر معه الإنسان بأنّ الانحراف عنه يغضب الله، لا بدّ من أن نحدّد هذه القيمة بدقّة، والقرآن الكريم يعطي لهذه القيمة معنى حدّده بالإحسان إلى الوالدين.
أمّا خضوع الولد للوالدين، فأمر يتوقّف على أسلوبهما في التّأثير في نفسيّة الولد، ونحن لا ننصحهما بأن يعملا على التّأثير في نفسيّة الولد بالمستوى الّذي يصادر شخصيّته.
المصدر: دنيا الطّفل.
[1] ـ[الرحمن : 60].
[2] ـ[الإسراء : 23].
[3] ـ[الإسراء : 24].
[4] ـ[البقرة:120].