"يُهملون العظيمَ حيّاً، فإن مات احتفاءً بشكلهِ صوَّروهُ"، علي الشَّرقي.
ليس التَّجديد سهلاً في الحوزة، حتى وإن كان سهلاً بعض الشَّيء في الأوساط العلميَّة والفكريَّة الأخرى، فنحن نقرأ في كتب الأدب، على سبيل المثال، أنَّ أديباً ما أو أنَّ جماعةً أدبيّةً ما، عانت الكثير الكثير من أجل أن ترسي قواعد مذهبٍ جديدٍ في كتابة الشِّعر أو في كتابة القصَّة والرّواية... إلخ، وقل الشَّيء ذاته عمَّن يختطُّون لأنفسهم منهجاً جديداً لمقاربة الموضوعات الفلسفيّة أو التأريخيّة أو الاجتماعيّة... إلخ، قد دخلوا في صراعات فكريّة عديدة قبل أن تصبح طريقتهم مبرّرة من وجهة نظر الفنّ الذي يكتبون فيه، فللقارئ إذاً أن يتخيَّل حجم المعاناة بالنّسبة إلى الفقيه الأصوليِّ، عندما يريد أن ينهض بمهمَّة التّجديد في الحوزة، وهي التي أضفت قداسةً عبر مراحل تأريخها على العديد من سلوكيّاتها وطرائق تدريسها ومناهجها، قداساتٍ مزعومةً لا تختلف في نظر الجماهير عن القداسات الحقيقيَّة الأخرى الّتي تعتبر جزءاً لا يتجزَّأ من جوهر الشَّريعة والدّين.
ما كان يدهشني في السيِّد محمَّد حسين فضل الله (قُدِّس سرُّه)، أنّه كان يخوض مغامراته التّجديديّة بالكثير من الهدوء والطمأنينة، فهو هادئٌ ومطمئنٌّ على طول الخطّ، حتّى لا يكاد المرء يلمح شيئاً من التشنُّج في ردوده على تشكيكات خصومه ومناوئيه، فحتى عندما يكون الرأي المضادُّ غير بريء من الدّوافع الشخصانيّة للخصوم في توجيه النّقد إليه، فإنّه كان يجرِّد الرأي من تلك الآثار السّلبيَّة لشخصنة الآراء، وينهض بها إلى مستواها التجريديِّ والموضوعيِّ، بغضِّ النّظر عن مصدر الرّأي وقائله، ثمَّ يمنح ذلك الرّأي في الأثناء كلَّ ما يتمتَّع به الرأي الحرُّ من الحقِّ في حواره ومساجلته على قاعدة الدّليل والبرهان، وتلك واحدةٌ من أجمل صفات السيِّد محمَّد حسين فضل الله في الحقيقة، وهي صفةٌ لا تتوفَّر في الكثير من دعاة الفكر الحرِّ أنفسهم، ناهيك بمن درجوا على تقديس ما لا قدسيّة له عبر التأريخ، بدوافع دينيّةٍ وعقيديّةٍ مختلقةٍ أو مزعومة.
من المعلوم أنَّ السيّد محمَّد حسين فضل الله كان قريناً للسيّد محمد باقر الصَّدر، وأحد كتّاب مجلَّة (الأضواء) الشّهيرة، جنباً إلى جنبٍ مع مجموعةٍ من الكتّاب الاستثنائيّين، في مقدَّمهم السيد الشهيد محمَّد الصدر (قدِّس سرُّه). ولقد سمعت من مصادر أثق بها، أنَّ السيّد محمَّد حسين فضل الله كان يكتب العديد من المقالات الرّصينة بأسماء مستعارةٍ، لكي تحافظ المجلَّة على منهجها الرّصين في تجديد الفكر الدينيّ آنذاك.
بعد استشهاد السيِّد محمّد باقر الصّدر، لم يواصل مسيرته في مجال تجديد الفكر والفلسفة الإسلاميّة من الفقهاء إلا عددٌ محدودٌ من مريديه، بل حتى البارزون من طلابه هجر أغلبهم هذا الجانب، وركَّز على الدّراسة والبحث في الجوانب المتصلة بالفقه وعلم الأصول على وجه التحديد، إلا السيّد الشّهيد محمد الصدر (قدِّس سرُّه)، والسيد محمد حسين فضل الله. وربَّ قائلٍ يقول إنَّ السيِّد الشّهيد [محمّد الصّدر]، أشار إلى أنَّ أعلم شخصين بعده من بين طلاب السيِّد الشّهيد [محمَّد باقر الصَّدر]، هما السيِّد الحائري والسيِّد محمود الهاشميّ الشّاهرودي (دام ظلّهما)، ولم يذكر السيّد محمد حسين فضل الله في ذلك. وأنا أجيب:
1 - إنَّ سماحة المولى المقدَّس كان يعتبر مناط الأعلميَّة هو البراعة في علم الأصول، وكان يشير إليهما (دام ظلّهما) بهذه الصّفة، ولم يتحدَّث عنهما بوصفهما الأكثر علماً في مجال التأليف في الكتب التي تختطُّ مساراتٍ جديدةً للوعي الإسلاميِّ الحديث.
2 - إنَّ السيّد الشّهيد محمد الصّدر كان هو الأعلم من بين الفقهاء جميعاً، ليس في مجال علم الأصول فقط، بل كان هو الأكثر قدرةً على التّأصيل في المجالات الفكرية والفلسفية التي تخصُّ الصراع الحضاريَّ بين الإسلام والماديّة الإلحاديّة الحديثة.
3 - لم تثبت براعة السيِّد الحائري، وكذلك لم تثبت براعة السيِّد الهاشميّ الشاهرودي، إلا في مجال علمَيْ الأصول والفقه، بشهادة السيِّد الشَّهيد (قدِّس سرُّه) نفسه، ولا نملك دليلاً من كلمات السيِّد الشّهيد تشير إلى براعتهما في سائر العلوم الإسلاميّة المتشعِّبة التي تعتبر ضرورةً قصوى في مجال الصّراع بين الفكر الدينيّ والفكر المادِّيّ الإلحاديّ في هذا العصر.
4 - ما نتحدَّث عنه هنا هو البراعة في مجال الفكر التنظيريّ والفلسفيّ والتأصيليّ بوجهٍ عامٍّ، مما هو واقعٌ في طريق تعزيز الموقف الإسلاميِّ داخل دائرة هذا الصّراع على وجه التّحديد.
5 - إنَّ السيِّد الشَّهيد محمَّد الصَّدر (قدِّس سرُّه)، أشاد بمؤلَّفات السيِّد محمَّد حسين فضل الله، وأشار إلى أنَّ ما قرأه من كتب الأخير تدلُّ على اجتهاده، وتلك شهادةٌ تورث الاطمئنان حول انطباق معايير الاجتهاد على السيِّد محمَّد حسين فضل الله بالنِّسبة إلى مقلِّدي سماحته، فلا يبقى إذاً مجالٌ للشكِّ في اجتهاد المرجع الفقيد (قدِّس سرُّه.(
6 - ما هو المهمُّ، هو أن نركِّز على دور المرجع الفقيد (قدِّس سرُّه) من مختلف الزَّوايا، وليس من زاوية علمَيْ الأصول والفقه فقط، مع أنَّ له القدح المعلّى أيضاً في هذا المجال، فلم تنتفع النّخب الثقافيّة والفكريّة من مؤلَّفات السيِّد الحائري ولا من مؤلَّفات السيّد الشّاهرودي، بقدر ما انتفعت من مؤلَّفات السيِّد محمد حسين فضل الله، ومن مؤلَّفات المولى المقدَّس من بابٍ أولى، فإنَّ مقاربتنا للمرجع الفقيد، تأخذ في نظر الاعتبار أهميَّته الاستثنائيَّة في هذا السّياق، وليس في السياق التَّقليديِّ للمعايير الّتي تؤمن بها الحوزة، فذلك مجالٌ لا نرى أنَّ من مهمَّة المثقَّف أو المفكِّر غير الحوزويّ الخوض فيه على الإطلاق.
نخرج من هذه النّقاط بنتيجةٍ مفادها، أنَّ المولى المقدَّس محمَّد الصدر (قدِّس سرُّه)، وسماحة المرجع الفقيد محمَّد حسين فضل الله، هما أهمُّ من واصل طريق التّأصيل للفكر الإسلاميِّ في الوسط الحوزويِّ على خطِّ السيّد محمد باقر الصّدر والشّهيد مطهَّري (قدِّس سرّهما)، وأنَّ أغلب الفقهاء الآخرين ابتعدوا نسبيّاً أو كلّياً عن هذا المسار، لتتركَّز اهتماماتهم ونتاجاتهم الفكريّة على ما تعتبره الحوزات التقليديّة جديراً بالاعتبار وحده، وهما علما الفقه والأصول، أمّا ما عداهما من العلوم الإنسانيّة والتأريخيّة والفلسفيّة... إلخ، فهو من سقط المتاع ليس إلا.
الآن أريد أن أسأل: لماذا لم تشأ بعض المرجعيّات أن يكون للسيّد محمد حسين فضل الله هذه المكانة الكبيرة في العالم الإسلاميّ، وليس مقنعاً القول إنَّ أحداً لم يكن يفعل ذلك، فإنَّ ذلك خلاف الحقيقة، كما يعلم المتابعون للشّأن الثقافيِّ والمرجعيّ، كما أنّنا لا نقصد على الإطلاق أن نثير من القضايا ما يكون سبباً في ضعضعة الصفّ، بل كلُّ ما نرمي إليه، هو أن نضع حدّاً للممارسات الّتي من شأنها أن تكبح عجلة التطوُّر الفكريِّ والفلسفيِّ والثقافيِّ في أوساطنا الإسلاميّة والحوزويّة في المستقبل، هذا كلُّ ما نرمي إليه، ولا سيّما أنَّ السيّد محمد حسين فضل الله أصبح في ذمَّة الخلود الآن، فليس من أثرٍ سلبيٍّ إذاً في الحديث عن هذا الموضوع بالذّات.
أعتقد أنَّ مواقف السيّد فضل الله وخياراته السياسيَّة، مستنداً فيها إلى استدلالاته وبراهينه من الكتاب والسنّة وأحاديث آل البيت (عليهم السلام)، هي السّبب وراء ذلك.
هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ للسيّد فضل الله فضاءه الاجتماعيَّ الخاصَّ داخل لبنان، ومن الطبيعيِّ أن يكون رأيه الاجتهاديّ بخصوص العديد من القضايا الّتي تخصُّ فقه الفرد والمجتمع وفقه السياسة وغير ذلك، مختلفاً عن الآراء الاجتهاديّة لغيره من الفقهاء، وهذا ما جعل العديد من الفقهاء الّذين يعيشون في ظلِّ ظروفٍ وملابساتٍ اجتماعيّةٍ مختلفةٍ عن ظروفه هو، يشنِّعون عليه، وينظرون إلى فتاواه تلك بعين الاستغراب، ولم يقفوا عند هذا الحدّ، فصاروا يحكمون عليه بأنّه يأتي بالغريب من الفتاوى الّتي يخالف فيها جمهور الفقهاء.
ولو أنهم أنصفوا فضل الله، لصارحوا الجماهير الدّينيّة بأنَّ هناك فضاءً في الشّريعة يسمح له باستنباط تلك الأحكام الفقهيّة الّتي استغربت منها بعض الأوساط، لكنّهم تركوا أنصاف العلماء يشنِّعون عليه وينقدونه ويطعنون في نزاهته من دون أن يحرِّكوا ساكناً، مع الأسف، بل إنَّ قسماً منهم كان يغذِّي هذه الأجواء بالمزيد من المبرِّرات، وكان جملةٌ من الفقهاء في إيران على وجه الخصوص، يسرُّهم مثل هذا النّقد الموجَّه إلى المرجع الفقيد.
عندما أفتى المولى المقدَّس بعدم مفطِّرية الدّخان، استغلَّ أنصاف العلماء عدم معرفة الجماهير الدينيّة بالمستند التشريعيِّ والفقهيّ لهذه الفتوى، فصاروا يشنِّعون على السيّد الشّهيد في حينها، ولم يصارحوا الجماهير الدّينيّة بأنَّ المولى المقدَّس ليس منفرداً بهذه الفتوى، بل يشاركه فيها العديد من الفقهاء، ومن بينهم سماحة السيّد الخوئي (قدِّس سرُّه الشَّريف).
ومن جهةٍ ثالثةٍ، فإنَّ أعداداً كبيرةً من مقلِّدي سماحة المرجع الفقيد، كانوا من الوسط النخبويِّ والثّقافيِّ المنتشر في العالم العربيِّ وأوربّا، ولم تكن مثل هذه الحال لتسرَّ بعض الفقهاء. ولذلك، فإنهم حاولوا أن يحطّوا من شأنه، وأن يطعنوا في ملكة اجتهاده، ولم يصيبوا نجاحاً، في تقديري، على الإطلاق، بل كانت مساحة تقليد السيّد في اتِّساعٍ مستمرٍّ، وحتى من لم يقلِّده، فإنَّه كان يعتبره في طليعة علماء الدّين التقدُّميّين في هذا الزّمان.
البساطة والعفويَّة في شخصيَّة فضل الله
الغريب أنَّ السَّجايا الّتي دعا إليها الإسلام، والّتي كان يتَّصف بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآل البيت (عليهم السَّلام)، باتت مرفوضةً باسم الدِّين نفسه. ما أغرب هذا بالفعل! فنحن نقرأ في الكتب المتنوِّعة عنهم (صلوات الله عليهم)، فندهش لبساطتهم وعفويّتهم واتّصافهم بتلك الصّفات الّتي ربما اتَّصف بها البسطاء من النّاس أكثر مما يتّصف بها السّواد الأعظم من رجال الدّين.
كثيراً ما تصادفني مواقف شخصيّةٌ أكون محرجاً فيها مع بعض الأشخاص من المعمَّمين، وأنا معروفٌ بشدَّة احترامي للعمَّة وتقديري الكبير لها، لكنّي أحسم الأمر بالسّؤال التَّالي الَّذي أجريه في دخيلة نفسي: لو أنَّ الإمام عليّاً (عليه السَّلام) هو الطّرف المقابل مكان رجل الدِّين المعيَّن، فكيف كان يتصرَّف معي؟ فأحدِّد موقفي منه بناءً على هذه المقارنة.
أذكر مرَّةً أنَّ صديقاً لي من رجال الدِّين دعاني إلى زيارة شخصٍ مريضٍ وهو من الشخصيَّات الدينيَّة المعروفة في النَّجف، فسألته السؤال التّالي: لو أنّني مرضت مرضاً خطيراً، هل سيفكِّر هذا الشَّخص في زيارتي لو دعوته إليها أيضاً، فقال: كلا، قلت له: لماذا؟ قال: لأنّه رجل دينٍ معروفٌ في النّجف، ولا يمكن أن يفكِّر في زيارة شخصٍ من العوامّ، قلت له: لو كان عليٌّ (عليه السّلام) مكانه، هل كان يزورني في حال مرضي، قال ربما، قلت له: إذاً، لا أتشرَّف بزيارة أيٍّ كان يعتبر نفسه أفضل من سائر النّاس ويتكبَّر عليهم ويسمِّيهم عوامّاً، وهو يزعم أنّه مثلٌ أعلى في الدّين، اسمح لي، أريد أن أذهب، لديَّ عمل.
ربما كان في تصرُّفي هذا بعض النّزق، لكن ألا ترون أنَّ جوهر القضيّة معبِّرٌ عن أزمةٍ حقيقيّةٍ تحكم العلاقة بين رجل الدّين والنّاس؟! ألا ترون أنّنا فقدنا المثل الأعلى فعلاً في الإسلام، لولا أنَّ بعض الشخصيّات العظيمة تذكِّرنا بهذا المثل بين الحين والحين؟! وهكذا فقدنا المثل الأعلى زماناً طويلاً، حتى ظهر المولى المقدَّس [المرجع فضل الله]، فأرانا إيّاه في شخصه، فلم يكن ليتصرَّف إلا بناءً على قياس أقواله وأفعاله وتصرُّفاته كلِّها بما يقابل ذلك عند آل البيت (عليهم السّلام).
بمجرَّد أن ينظر المرء إلى شخص السيّد محمد حسين فضل الله وهو يتحدَّث، أو وهو يخطب، أو وهو يكتب، أو وهو منخرطٌ في مختلف الاهتمامات والأعمال، يحسُّ بعفويّته وتلقائيّته، وهما من أهمِّ صفاته على الإطلاق، حتى إنَّهما أهمُّ من علمه وفكره وثقافته. بداهةً، إنَّ النّاس إنما ينظرون إلى رجل الدّين بوصفه يمثِّل لهم المثابة الأخيرة الّتي يرجعون إليها ويلوذون بها من انتكاساتهم وخيباتهم، ويعلِّقون عليه آمالهم في الوصول إلى مستوىً معنويٍّ أو روحيٍّ أفضل، وليس الأمر متوقِّفاً على وجود العلم والفكر والثّقافة، فربما وجد كلّ ذلك مجزَّأً أو مجموعاً عند أشخاصٍ آخرين غير روحيّين، ولا يحملون صفة رجال الدّين في نهاية المطاف.
نحن الآن مثقّفون ومطّلعون على المدارس الفكريّة والفلسفيّة، ولا ننفكُّ نتابع الكتب الدينيَّة الرّصينة، لكنّنا مع ذلك نحسُّ بالحاجة إلى الرجوع إلى رجل الدّين، حتى وإن كان بعضنا يحمل ثقافةً أكبر من ثقافته، وفكراً أكثر رصانةً من فكره، فما هو السّبب؟
لا شكَّ في أنّنا نصدر عن هذا الشّعور بالذّات، وهو أنَّ رجل الدّين الحقيقيّ يمثِّل تلك المثابة، فهو المثل الأعلى في الأخلاق والنّزاهة والضّمير، وهو البرهان السّاطع على أنَّ رسالة الأنبياء مستمرَّةٌ وفاعلةٌ في الحياة، على الرّغم من غياب الأنبياء جميعاً عن مسرح الحياة.
لقد أساؤوا إلى السيّد محمَّد حسين فضل الله كثيراً؛ أساؤوا إليه كثيراً إلى حدِّ أنهم وافقوا تماماً على أن يوضع على مشرحة التّحليل والنّقد من جهة أنصاف العلماء. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنهم سمحوا حتى لغير المختصّين بدراسة الفقه والأصول، بأن يحاسبوه على فتاواه، في حين أنهم لا يوافقون إطلاقاً على مثل هذا التصرُّف فيما إذا تعلَّق الأمر بأيِّ أحدٍ آخر من المجتهدين، لكن بخصوص فضل الله تحديداً، فإنَّ من حقِّ أيِّ إنسانٍ أن يتحوَّل إلى مجتهدٍ ويحاسب فضل الله بوصفه مقلِّداً، ولا أعرف كيف أقرّوا هذه المفارقة!
إنَّ السيّد محمَّد حسين فضل الله مجتهدٌ، بل إنّه مجتهدٌ واسع الأفق والنّظرة، وبالتّالي، فإنَّ له الحقَّ في أن يشتغل على الموضوعات الفقهيّة بآلته الاجتهاديّة، كما يراها هو بوصفه مجتهداً، ولا يمكن أن يلغي سلطة الحجّة العلميّة والدّليل كما يظهران لديه، من أجل مراعاة ما درج عليه الفقهاء الآخرون في مجال إصدار الفتوى أو اتخاذ الموقف العلميِّ أو التأريخيِّ بخصوص عددٍ كبيرٍ من القضايا الّتي يكون له فيها رأيٌ اجتهاديٌّ خاصّ. وأنا أسال: من هو المجتهد؟ هل هو الذي لا يصدر الفتوى إلا على أساس ما يمكن أن يتقبَّله منه المجتمع الدّينيّ أو لا يتقبَّله، أم هو الذي يعلن ما توصَّل إليه رأيه الاجتهاديُّ مهما كانت النّتائج؟
يقول محمَّد حسين فضل الله: "أنا لا أنظر إلى مسألة أن يقبل المجتمع الفتوى أو لا يقبلها. المسألة المنفتحة على الخطوط الاجتهاديّة العلميّة لا بدَّ من أن تدرس موضوعيّاً في العناصر التي يمكن الإنسان أن يكتشف فيها ما يراه حقيقةً. لذلك، ليست لديَّ أيَّة مشكلةٍ في الفتوى، حتى تلك التي قد تكون مخالفةً للمشهور من الفقهاء. أنا كنت أوَّل فقيهٍ أفتى بطهارة كلِّ إنسانٍ، بينما كان الرّأي الفقهيُّ عند الكثير من علماء الشّيعة هو الحكم بنجاسة الكفّار، وقد حصل هناك بعض التطوّر، فأصبح البعض يُفتي بطهارة أهل الكتاب، لكن بنجاسة الباقين من الملحدين... أمّا رأيي الاجتهاديُّ منذ عدَّة سنين، فهو أنّه لا دليل عندنا على نجاسة الإنسان جسديّاً، لذلك أفتيت بطهارة كلِّ النّاس. نعم، هناك نجاسةٌ في الفكر، قد توجد في المسألة السياسيّة، الاجتماعيّة، وقد توجد في المسألة الدينيّة. بعضهم يقول: الله يقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، نحن قلنا إنَّ النَّجاسة هنا هي النّجاسة المعنويّة، باعتبار أنَّ الشّرك يمثِّل قذارةً فكريّةً لا يحترم فيها الإنسان عقله".
الرّجل لديه دليله الاجتهاديُّ من الكتاب والسنَّة، وهم يلجأون في محاربته إلى تأليب رأي النّاس عليه، مستغلّين الوجدان الشَّعبيّ الّذي تربّى على الاعتقاد بالنَّجاسة المادِّية للكفّار، وهكذا سوف يصبح محمَّد حسين فضل الله في نظر الجماهير الدينيّة منحرفاً!
هذا من جهة خصوم السيّد محمد حسين فضل الله... أمّا من جهة محبّيه ومريديه، فإنَّ هناك وهماً كبيراً مرتكزاً في أذهانهم، فإنَّ عدداً مهمّاً منهم يعتقدون أنَّ السيّد الفقيد كان يصدر تلك الفتاوى عن واقع الشّعور بضرورة تسهيل الأحكام الفقهيّة عليهم، وهذا ليس صحيحاً، فالرّجل مجتهدٌ، ولا يمكن أن يخضع إلا للحجَّة والدّليل، يقول فضل الله: "أنا لا أنطلق في الفتوى من عقدة تسهيل أمور النّاس، بل من خلال العناصر الاجتهاديّة التي تجعلني أقتنع بالنّتائج في هذا المجال".
التّشنيع على السيّد في مجال فقه المرأة
وهنا، يجد المغرضون ضالَّتهم في التّهكُّم على مختلف الفتاوى الّتي يصدرها السيّد لمعالجة القضايا الجنسيّة وغيرها من شؤون المرأة، وينسون أنَّ لبعضهم فتاوى مضحكةً حقّاً ليس ها هنا مجال التعرُّض لها، لكنَّهم لا يوافقون على أن يراجع السيّد مختلف الفتاوى المشهورة بناءً على استعمال آلته الاجتهاديّة، إذ هذا بالضّبط هو دور المجتهد، وإلا كان المجتهد مقلِّداً بطبيعة الحال، وقد أوضح السيّد رأيه في هذا الموضوع، وكان على حقٍّ، فقال: "أمّا بالنّسبة إلى النّساء، فأنا أرى أنَّ الكثير من النّظرات في فتاوى النّساء تنطلق من خلال التّقاليد، لا من خلال الحقيقة القرآنيّة. لذلك، أفتيت قبل مدَّةٍ فتوى أثارت الكثير في العالم الإسلاميّ، وهي حقُّ الدّفاع عن النّفس بما أنّه حقٌّ لكلِّ إنسان. فللمرأة الحقّ، إذا أراد زوجها أو أخوها أن يضربها، أن تدافع عن نفسها. وقد طلبت من النّساء أن يتدرَّبن على الأخذ ببعض أسباب القوَّة التي تتيح لهنَّ الدّفاع عن أنفسهنّ، سواءٌ في هذا الجانب، أو في الاعتداءات التي قد يتعرَّضن لها، كالاغتصاب وما أشبه ذلك. طبعاً، نحن نعتقد أنَّ الحياة الزوجيّة قائمةٌ على المودَّة والرّحمة، لكن قد تصل المسألة أحياناً لدى الزّوج لأن يضطهد زوجته، فمن حقِّها أن تدافع عن نفسها، كما للرّجل الحقُّ في أن يدافع عن نفسه فيما إذا كانت زوجته أخت الرّجال".
من الطبيعيِّ أن لا تعجب هذه الفتوى المجتمعات الذكوريّة البدويّة، فهذه المجتمعات تعتقد بتفوُّق الرَّجل على المرأة من الناحيتين التكوينيَّة والتشريعيَّة معاً، ولا ينتبهون إلى أنَّ عشرات النصوص القرآنيّة تقف ضدَّ هذا الاعتقاد الزّائف، فلا علاقة لاعتقادهم بمتبنّيات العقيدة في الواقع، بقدر ما تكون علاقته بالموروث القبائليِّ البدويِّ أكيدةً وراسخةً. وقد واجه السيّد الشَّهيد محمَّد الصَّدر (قدِّس سرُّه) الكثير من المعاناة في إعادة النّظر في العديد من التقاليد العشائريّة في المجتمع العراقيّ، حتى تمكَّن أخيراً من فرض مقولات الشّريعة على مقولات القبيلة، وهي ذاتها المشكلة الّتي واجهها السيّد محمَّد حسين فضل الله في الدّائرة الخاصَّة بفقه المرأة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة. يقول فضل الله: "لم يسلِّط الله الرّجل على المرأة إلا في دائرة ما يقتضيه عقد الزّواج. الزّواج عندنا ليس سرّاً خفيّاً، بل هو تعاقدٌ بين الرّجل والمرأة. ليس للرّجل أيَّة سلطةٍ على زوجته، ولو بنسبة واحدٍ في المئة، إلا بما التزمت به المرأة في الجانب الجنسيّ، باعتبار أنَّ الزّواج يقوم عليه. لذلك، ليس لها أن تمنعه من نفسها إذا كانت له حاجةٌ في ذلك، ولم تكن لديها موانع شرعيّةٌ أو صحيّةٌ أو نفسيّةٌ فوق العادة. ومن حقِّها على الرّجل أن يستجيب لحاجاتها الجنسيّة. غير ذلك، لم يسلِّط الله الرّجل على المرأة، مثلاً، في إجبارها على القيام بشؤون البيت، إلا إذا اشترط عليها ذلك ضمن العقد، وإلا فللمرأة أن تحسب نفسها عاملةً في البيت وتأخذ أجراً على عملها، لكنَّ الله أحبَّ لها أن تكون علاقتها بزوجها وأسرتها علاقة المودَّة والرّحمة".
أليس هذا هو حكم الإسلام؟ فلماذا يعتبرون السيِّد فضل الله مارقاً من الدِّين؟ لأنّه يصدمهم بضرورة العودة إليه، والتخلِّي عن الموروثات البدويّة الّتي اعتادوا عليها كثيراً حتى حسبوها جزءاً لا يتجزَّأ من الدّين!
طبعاً، هم يحتجّون بأنّ الرّجال قوَّامون على النِّساء، هكذا يحتجّون بطريقة فجَّة لا تعتمد التَّحليل والاستدلال، لكنَّ فضل الله يوضح أنّ "القوامة لا تعني السّيادة، بل الإدارة. بمعنى أنّ الرّجل في الإسلام هو المسؤول عن الإنفاق على زوجته، ولو كانت غنيّة. كذلك، إنّ الرّجل هو الّذي يستطيع أن يدير الأمور باعتبار الظّروف الخاصّة للمرأة لجهة الدّورة، الحمل، الحضانة. لا فرق بين الرّجل والمرأة في الإسلام. اقرئي سورة الأحزاب، وسورة النّمل التي تحدّث فيها عن ملكة سبأ وأنها أعقل من الرّجال، امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران. أختصر، القوامة ليست السيادة، بل الإدارة، لأنّ الرّجل هو مسؤول عن ميزانيّة البيت، وهو الّذي يملك حريّة جسديّة في قضيّة العمل".
طبعاً، لا يعجبهم مثل هذا البيان، لا لأنهم حريصون على أن يطبِّقوا حرفيّاً تعاليم القرآن، كلا، ولكن لأنهم حريصون على أن يبقى المجتمع محافظاً على تراتبيّاته الهرميّة الظّالمة في العائلة وفي المجتمع وفي الحكومة وفي كلِّ شيءٍ، إنهم حريصون على تزييف تعاليم الإسلام لا أقلّ ولا أكثر.
حتى تلك الإشكاليّات الكبيرة التي تثار في وجه الإسلام بخصوص بعض التَّشريعات التي باتت تثير حساسيَّة الإنسان المعاصر، فإنَّ خصوم السيِّد فضل الله عاجزون عن تقديم إجاباتٍ مقنعةٍ للضَّمير الإنسانيِّ المعاصر حولها، فغالباً ما يثار هذا الإشكال: لماذا لا يوافق الإسلام على زواج المسلمة من اليهوديِّ أو المسيحيّ، في حين يوافق على زواج المسيحيّة أو اليهوديّة من المسلم، فيقدِّم الفقهاء التقليديّون إجاباتٍ مضحكةً أو غير مقنعةٍ في هذا المجال، لكنَّ السيّد فضل الله يقدِّم جواباً عبقريّاً مقنعاً حقّاً، إذ يقول: "إنَّ الإسلام يعترف بالمسيحيّة واليهوديّة، والعكس غير صحيحٍ. لذلك فإنَّ الرّجل المسلم، عندما يتزوَّج مسيحيةً أو يهوديةً، فهو لن يجرؤ على الإساءة إلى مقدَّساتها من خلال دينه، لا من خلال الجانب الإنسانيِّ فقط. فيما غير المسلم، قد لا يحترم كلَّ مقدَّسات المسلمين، فلا يحترم مقدَّسات زوجته".
إنَّ هذه الإجابة تقع في الصَّميم من المنهجيّة التي يعتمدها السيّد فضل الله في مقارباته الاجتهاديّة لمختلف القضايا، إنه لا يقدِّم إجاباتٍ جاهزةً، بل يعيد النّظر مرّاتٍ ومرّاتٍ من خلال أخذ حساسيّة العصر في نظر الاعتبار، فيكتشف كثيراً من المعاني الجديدة من خلال هذا التأمُّل المنهجيِّ الجديد في القرآن والسنّة، بينما يعجز الآخرون عن تقديم مثل هذه الإجابات الشافية الّتي تنسجم مع الحساسيّة العامَّة لثقافة الإنسان في الزّمن المعاصر.
هناك مسلكٌ آخر للطّعن في القيمة الفكريّة العالية لكتابات السيّد محمَّد حسين فضل الله، فهم يشيرون إلى أسلوبه البسيط في الكتابة. ولعمري، إنَّ هذا ليس عيباً أبداً، بل هو من ميزات أسلوب فضل الله، ينفرد به، ويؤثّر في أجيالٍ عديدةٍ من الكتَّاب من خلاله، ولقد استعمل الدكتور علي الوردي هذا الأسلوب البسيط في الكتابة يوماً، فلم يقلِّل من شأن فكره، بل ارتقت به إلى مستوى لا يستطيع بلوغه المتقعِّرون، وهكذا قل عن العاجزين عن بلوغ شأو العظماء، إنهم دائماً يلجأون إلى ذرائع وحججٍ لا تسعفهم في تبرير وقوفهم ضدَّ النّتاجات الفكرية والفلسفية والفقهية الجادَّة، ولن تنفع معهم النّصائح في هذا المجال.
دعوة محمَّد حسين فضل الله إلى نقد رجال الدّين
لا أعلم أنَّ هناك مرجعاً دعا إلى نقد رجال الدِّين علانيةً إلا مرجعين فقط:
الأوَّل: السيِّد الشَّهيد محمَّد الصّدر (قدِّس سرُّه)
الثاني: السيِّد محمَّد حسين فضل الله (قدِّس سرُّه)
هذان المرجعان فقط هما من دعيانا علانيةً جهاراً إلى نقد رجال الدّين، حتى المراجع، وكانا يخرقان بذلك تقليداً ممتدّاً إلى عمق التأريخ المرجعيِّ الطّويل في تثقيف النّاس على عدم النّطق ببنت شفةٍ في مقابل تجاوزات العديد من رجال الدّين لتعاليم الشّريعة وما تدعو إليه من احترام الفكر الإنسانيّ، وعدم استثناء أحدٍ إلا النبيّ وآل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) من دائرة توجيه النّقد، فكان لهما على وجه الحصر الفضل الحقيقيُّ في شيوع مثل هذه الثّقافة.
الحقُّ أنَّ هناك خوفاً من استغلال هذا الحقِّ من جهتي الخاصَّة، فأنا لا أعتبر أنَّ هذا الحقَّ مشاعٌ أو مجانيٌّ بالنّسبة إلى كلِّ إنسانٍ؛ إنّه حقٌّ فقط لمن امتلك ثقافةً معتدّاً بها في الشّريعة، بحيث إنّه قادرٌ على تشخيص المواطن الّتي يخالف بها بعض رجال الدّين الانتهازيّين أو المغرضين الروحَ العامَّة للشريعة الإسلاميّة المقدَّسة، وإلا، فإنَّ توقير رجل الدّين واحترامه هو نفسه واجبٌ شرعيٌّ أكَّدته النصوص الدينيّة المستفيضة، ولا مجال مطلقاً للاستهانة بالمكانة الرّفيعة لرجال الدّين الصّادقين على الإطلاق.
إنَّ النّقد حالةٌ إيجابيّةٌ يجب أن تصبح شائعةً، لكن من موقع الحبِّ والرّغبة في الإصلاح، وليس من موقع الحقد، أو من موقع الرّغبة في الحطِّ من شأن رجال الدّين. ولا يجب أن ننظر إلى من يقوم بمهمَّة النّقد بوصفه خصماً، كما أكَّد سماحة السيّد محمَّد حسين فضل الله (قدِّس سرُّه) هذا المعنى مراراً في عددٍ كبيرٍ من المناسبات.
يقول سماحة المرجع الفقيد (قدِّس سرُّه) بهذا الصّدد: "رجل الدّين هو الّذي يملك ثقافةً دينيّةً واسعةً، والتزاماً دينيّاً. ودوره ينطلق مما قاله الله للنّبيّ: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[الشّورى: 15]. ليس كلُّ ما يفعله رجال الدّين يمثِّل الدّين. علينا أن ننقد رجال الدّين، حتى في أعلى الدّرجات، كما ننقد رجال السياسة والاجتماع. ليس هناك معصومٌ عندنا في هذه الحياة. رجل الدّين يفكِّر وقد يخطئ أو يصيب، وعلينا أن ننبِّهه إلى خطئه، ولا نعدَّ أخطاءه تمثِّل حجَّةً على الدّين. لا مقدَّس إلا الله ورسوله وأولياؤه الّذين فرض قداستهم".
صلّى الله عليك أيّها المرجع الفقيد، يوم ولدت، ويوم توفّاك الله عالماً عاملاً بدينه، ويوم تبعث في زمرة العلماء العاملين الصّادقين حيّاً.
[المصدر: صحيفة المثقَّف الإلكترونيّة، 09/07/2010]
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.