"أللَّهُمَّ فَلَكَ الحَمْدُ عَلَى مَا فَلَقْتَ لَنَا مِنَ الإصْبَاحِ، وَمَتَّعتْنَا بِهِ مِنْ ضَوْءِ النَّهَارِ، وَبَصَّرْتَنا مِنْ مَطَالِبِ الأقْوَاتِ، وَوَقَيْتَنا فِيهِ مِنْ طَوَارِقِ الآفَاتِ.
أصْبَحْنا وَأصْبَحَتِ الأشْيَاءُ كُلُّها بِجُمْلَتِهَا لَكَ؛ سَمَاؤُهَا وَأرْضُهَا، وَمَا بَثَثْتَ في كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُما؛ سَاكِنُهُ وَمُتَحَرِّكُهُ، وَمُقِيمُهُ وَشَاخِصُهُ، وَمَا عَلاَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا كَنَّ تَحْتَ الثَّرَى".
يا ربّ، إنني هنا، وبكلّ وجداني، أحمدك بكلّ مشاعري وأحاسيسي وروحي وعقلي، لأنّك أطلقت لنا الصباح من قلب الليل، والضياء من عمق الظلمة، فعشنا المتعة الروحية في امتداداتها الضوئية التي منحتنا إشراقة الروح، وحيويّة الحركة، وسعادة الإحساس، وتحركنا نحو مطالبنا الجسدية في الحصول على القوت الضروري الَّذي لا حياة لنا بدونه، وحصلنا على الفرصة المفتوحة على حماية أنفسنا من كلّ الأوضاع الصّعبة التي قد تؤدّي بنا إلى الوقوع في الأخطار المهلكة التي تسيء إلى أمّتنا، وتقضي على حياتنا، وهذا ما يحقِّق لنا التوازن في حركة الحياة، من خلال الأفق المفتوح على كلّ الوجود، والفرص الكثيرة التي تزوّدنا بكلّ حاجاتنا المادية والمعنوية، وتحمينا من كلّ المشاكل والأخطار المتحركة في خفايا الزوايا المظلمة، فأيّ نعمةٍ أعظم من هذه النعمة، وأيّ حمدٍ يبلغ معنى هذا الحمد!
يا ربّ، لقد أصبحنا - نحن عبادك من بني آدم - في هذا الصَّباح، في شعورٍ بالوحدة الكونيَّة مع كلِّ الموجودات الحيّة والجامدة التي خلقتها وجعلت لها دوراً في حركة النظام الكوني، وأردت لكلّ واحدٍ منها أن يأخذ موقعه فلا يتجاوزه إلى غيره؛ فللسماء عالمها الذي أدرت نظامه ودبرت أمره، في الشَّمس التي تشرق فتعطي الكون النور والدّفء والحرارة والحياة، وتغرب فتمنحه الهدوء والسكينة والانسياب الروحي الحميم، والسكون الهادئ، والراحة المسترخية، والروحانية الصافية، وخلقت القمر نوراً يستمدّ من الشمس ضياءه، فيمنح اللَّيل بهجة النور الهادئ الرخيّ، ويضبط للزمن حركته عندما يبدأ صغيراً فيكبر، ثم يبدأ صغيراً فيكبر، ثم يبدأ في رحلة جديدة ليعود كالعرجون القديم، ويأخذ دوره في أشياء أخرى، ووزعت الكواكب التي لا تعدُّ ولا تحصى على السَّماء كلّها، وجعلت كل واحد منها كوناً واسعاً، لتتكامل في نظام هذا الوجود، ولتضيء ظلام أرضنا من بعيد، لتمنحنا الإحساس بأحلام النور في قلب الظَّلام، ولنهتدي بها في ظلمات البرّ والبحر، وخلقت في السماواتِ الكثير الكثير مما لم يصل إلينا علمه، ولم نهتدِ إلى تفاصيله، مما وسعه علمك، وانطلقت به قدرتك.
وللأرض عالمها الذي تتحرَّك به الحياة الحية في الإنسان بمختلف أشكاله وآرائه، وفي الحيوان الذي تتنوّع أصنافه وأجناسه وأوضاعه، في برّها وبحرها وسهلها وجبلها، وفي أعماقها السحيقة، والحياة النامية في النبات، في شجره وثمره وعشبه وورده وألوانه الزاهية وأشكاله الجميلة التي تمنح الحياة خضرةً وجمالاً، والوجود الجامد السَّاكن الذي تتنوّع خصائصه تبعاً لتنوع طبيعة الموجودات المتناثرة فيه.
إنّنا أصبحنا - يا ربّ - في هذا الصَّباح، وأصبحت الأشياء كلّها في وحدة الوجود الّذي يتَّحد جوهره وتختلف خصوصيَّته، في السماء والأرض وفي داخلهما، مما أودعته فيهما من الموجودات الساكنة والمتحركة والمنبسطة والشاخصة، في آفاق الفضاء وفي أعماق الأرض...
وهكذا يتنامى إحساسنا بأنّ الوجود يتكامل في مواقعه، حيث يعطي كلَّ موقعٍ الموقع الآخر شيئاً من ذاته في خصوصيَّته وحركيته وامتداده، ليكمل له ما نقص من شروط حياته في حيويتها واستمرارها، فليس هناك قاهر ومقهور في حركة الصراع بين الموجودات، بل هناك تكامل في تأكيد فاعلية النظام الكوني الذي أبدعته وحرّكته ودبّرته بقدرتكَ وحكمتكَ، وجعلت فيه لكلّ شيء قدراً، وأردت للإنسان أن يمارس دوره فيه من خلال الرسالة التي حمَّلته إياها، ليدير نفسه، ويشرف على الحياة من حوله، بعد أن سخّرت له الكون كلّه.
*من كتاب "آفاق الروح"، ج1.