السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حللتم أهلاً ووطئتم سهلاً.. الدار داركم، والمساجد كلّها بيوت الله، ومحمد (ص) هو
نبي الأمّة ورحمة للعالمين، ليس للمسلمين فقط، وإنما للعالمين جميعاً.
رسول الرّحمة للعالمين
نجتمع اليوم في ذكرى مولده؛ هذا المولد الذي أراده الله سبحانه وتعالى انطلاقة
لوجود هذه الذات التي سيحمّلها الرسالة السماويّة التي تجمعها وتفسّرها كلمة الرحمة
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. والرّحمة ليست الشفقة،
وليست العطف فقط، بل هذا مظهر من مظاهر الرحمة؛ الرحمة كلمة ومفهوم حضاري يتسع لكلّ
مدى يحتضن في الإنسان نقاط ضعفه ليحوّلها إلى نقاط قوّة، الرّحمة مفتاح من مفاتيح
الحضارة الإنسانية المذبوحة اليوم على مذبح المصالح والمنافع في مدى هذا العالم
الجائر.
الرحمة تجعل الإنسان الغنيّ، سواء كان فرداً أو حركة أو دولة أو أمّة، تجعل الإنسان
الذي لديه قوّة المال أو الجاه أو الموقع الحضاري، تجعل ذلك الإنسان يتواضع للإنسان
الآخر، سواء كان فرداً أو جماعة أو مجتمعاً أو دولة أو كان أمّة أخرى، وتجعله يعطي
من خلال اعتبار العطاء مظهرًا من مظاهر الرحمة أيضًا.
الرحمة تنافي الاستكبار، هذا الاستكبار الذي نجده اليوم واحداً من أهمّ الأبواب
التي تُفتح فيها النار على شعوبٍ بأسرها، على فئات من الناس لا حول لها ولا قوّة،
في مدى هذا العالم الذي كلّما ازداد الزمن امتداداً معه، ازداد توحّشاً.
والمشكلة، أيّها الأحبّة والإخوة والأخوات، أنّ هذا التوحّش اليوم يسير بعناوين
برّاقة، وبمفاهيم مزخرفة، كلّ شيءٍ لا يبدو بمظهره الحقيقي. ومع الأسف، تنحدر
البشريّة اليوم أكثر فأكثر في أحضان اللاقيمة، لأنّنا أصبحنا نجد الحياء يبتعد
كثيراً اليوم عن السياسة التي تتحرّك في مدى العالم، وأصبح كلّ شيء بلا حياء؛ القتل
بلا حياء، والسرقة بلا حياء، ونهب ثروات الشعوب بلا حياء، هل صرنا في آخر الزمان؟!
لا ندري.
وقفة تأمّل
نقف اليوم على أعتاب ذكرى المولد النبويّ الشريف، لكي نتذكَّر ونتأمَّل في أوضاعنا،
وهذه وظيفة الذكريات. ليست وظيفة الذّكريات التي نستذكر فيها رموزنا، أنبياءنا،
أولياءنا الصّالحين، ليست لكي نلهو ونعبث، وإن كان لشيء من الترويح عن النفس مجال
في مثل ذلك ووظيفة أيضًا، لأنّ الإنسان كلٌّ لا يتجزّأ، والمشاعر تحتاج كما العقل
يحتاج، لكنّ وظيفة هذه الذكريات هي أن تجعلنا نقف وقفة تأمّل في أوضاعنا؛ ما هي
المسافة التي تفصلنا عن صاحب الذكرى؟
صاحب الذكرى اليوم الذي نجتمع في ذكرى مولده الشّريف هو رسول الله، الذي رسمت صورته
الحقيقية في كلّ آية، بل في كلّ حرف من حروف الوحي.
هذه الصّورة التي ربما نجد اليوم أنّنا نحتاج إلى أن نعيد قراءتها من جديد، نحتاج
إلى أن ندقّق في تفاصيلها، فربما بفعل التّاريخ، وبفعل التراث، دخلت جزئيّة من هنا
ليست من رسول الله في شيء، أو صفة من هناك لا ترقى إلى أن تكون في مستوى صفة من
صفات النبيّ، الإنسان، الرّحيم، الّذي يشرق بسلوكه قبل كلامه على العالم كلِّه،
وعلى الأعداء قبل الأولياء.
اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، نحتاج إلى أن نتأمَّل كأمَّة، كأفراد، أن نتأمَّل في أيّ
مستوى من مستويات وجوداتنا، في المسافة الّتي تفصلنا عن رسول الله (ص).
أين نحن من الرّسول (ص)؟!
أين نحن من رسول الله؟ أين أخلاقنا، عقلنا، سلوكنا، منهجنا، نظمنا، دساتيرنا،
قوانيننا، سياستنا، اقتصادنا، أمننا، اجتماعنا... أين كلّ ذلك من هذه الصّورة التي
أرادها الله سبحانه وتعالى نموذجاً؟ {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن
رِّجَالِكُمْ - ليست علاقتكم به علاقة نسب، ولا علاقة جاه، ولا علاقة مال، ولا
علاقة من أيّ علاقات الدنيا التي تتمايزون فيها أو من خلالها بشكل تكويني - وَلَكِن
رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}. الله سبحانه وتعالى يحدّثنا عن الرسول
كنموذج في كلّ حركة من حركاته، وفي كلّ سكنة من سكناته: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
وَذَكَرَ اللهَ كَثِير}. هذه هي وظيفة الذّكريات.
صورة المسلم الأوّل
واليوم، عندما نقف في هذا العام لنحيي هذه الذكرى، نجد أنَّ على كاهلنا كأمَّة
الكثير الكثير من الهموم، والكثير الكثير من الأوضاع الّتي تضغط على كلِّ أحوالنا،
حتى بتنا نهباً لكلِّ طامع، وباتت كلّ أراضينا، كلّ ثرواتنا، كلّ أوضاعنا مستباحة،
بل حتى باتت أجيالنا تشكّ في عقائدها؛ هل إنَّ رسول الله فعلاً هو رسول الله؟!
يقولون ربما هو مصلح اجتماعيّ يتميّز بشيء من الذّكاء، وجاء في زمن مؤات، فاستغلّ
الظروف، فهو كسائر المصلحين وليس نبيّاً؟! وربما وجدنا في طريقتنا، في تمثّل رموزنا
الّتي ربما ننجذب إليها، أو ننسحق أمامها يوماً بعد يوم، وننتجها في كلّ وقت وفي كلّ
أوان، أنها أكثر حضوراً من نبيّنا في نفوسنا!! مع أنّ أيّ رمز من الرموز، إنما
يكتسب مشروعيّته وأصالته عندما يقترب من صورة رسول الله(ص)، الّتي هي صورة الأصل،
المسلم الأوَّل {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}، أوّل المسلمين
لا بمعنى الأوّل إسلاماً زمنياً، فهذا بديهيّ، ولكن أوّل المسلمين هو المسلم الذي
يجسّد معنى الإسلام الحقيقيّ لله، المسلم الذي يتهجَّد في اللّيل، ويبكي بين يدي
الله كالطفل الصَّغير، عندما يناجي اللهَ سبحانه وتعالى، والنّاس نيام في ظلمة
اللّيالي الحالكات.. المسلم الأوَّل الذي يبيع كلّ شيء عنده لله؛ الجاه والمال "والله
يا عمّ، لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما
تركته، أو أهلك دونه".. الذي ترك الأهل والولد والمال والعشيرة وكلّ مغريات الحياة،
وصبر أمام كلّ ذلك، لكي يسلم الدّين لله سبحانه وتعالى، لكي لا يحيد هذا النموذج،
لأنّ النموذج الذي يبدأ في مرحلة التأسيس، هو الذي يؤدّي أيّ انحراف صغير في
التصوّر له، وأيّ انحراف في السلوك ـ والعياذ بالله، وإنّما نفترض المحال هنا في
شخص رسول الله ـ هذا الانحراف البسيط في هذه الشخصيّة العظيمة الّتي يفترض أن تكون
مساراً لتغيير العالم، سيصبح انحرافاً كبيراً كلّما امتدَّ الزمن، ولذلك كان العصمة
كلّها والنور كلّه الذي يخرج الله به الناس من الظلمات كلّها إلى النور كلّه.
ولذلك، فإنَّ تأصيل الصّورة من رسول الله، في شخص رسول الله(ص)، كانت الصورة التي
يكتبها الله سبحانه وتعالى بقلم تكوينه وتشريعه، وبقلم تثبيته، عندما يتحدّث الله
عن نبيِّه فيقول لنا: {لقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ – ليس من كوكب آخر،
هو من أنفسكم - عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ
لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ...}، ولم يقل "الّذين خلفه"، كما
يحرص الكثير اليوم أن تمشي خلفه النّاس، وتخفق وراءه النعال. ولكنّ رسول الله كان
واحداً من الناس، وهذه عظمته {محَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.
الله سبحانه وتعالى يتحدَّث عن بعض الناس الذين كانوا يأتون إلى النبيّ (ص)،
فيحدّثونه صباحاً في شيء، فربّما يقول لهم بارك الله بكم، أحسنتم، فيأتونه في
اللّيل، ويحدّثونه ربما بحديث مناقض كلّياً، فأيضاً يقول الرسول لهم أحسنتم. وبعض
الناس آذوا رسول الله في ذلك، قال تعالى {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ
وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} يستمع، بمعنى أنه أذن يسمع لأيّ إنسان، كأنهم كانوا
يريدون أن يقولوا إنّ رسول الله ساذج وبسيط، والعياذ بالله { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَّكُمْ}، أنتم الذين تحتاجون إلى أن يستمع إليكم، هذا القائد هو أبوكم في الرسالة،
وأبوكم في الإنسانيّة، وأبوكم الذي يحنو عليكم حتى ينشئكم، فيعطيكم باستماعه إليكم
ثقةً بأنفسكم.
أليست هذه واحدة من أهمّ صفات القيادة؛ أن يستمع إلى النَّاس وهو يعرف أن بعض
الكلام لا شيء، ورسول الله يعرف مداخل الكلام ومخارجه، ولكنّ المسألة لها بُعدٌ
قيادي تربويّ عميق: { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ...}.
صورة مشوَّهة
هذه هي الصورة التي أبرز الله سبحانه وتعالى من خلالها رسول الله. ونحن نقول أيضاً
إنَّ علينا أن لا نضلّ كذلك، فنرسم صورةً للنبيّ ربما يرتاح إليها الكثيرون من
راسمي السياسات في هذا العصر، لكي يوظّفوا جانبًا من هذه الصورة في خدمة مصالحهم،
بحيث إذا جاءنا الاحتلال لبلادنا، والنّهب لثرواتنا، والمصادرة لمستقبلنا، فلا بدّ
من أن نأتي بآيات الرحمة، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسِّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَ}؟! ورسول الله كان محبّاً لأعدائه، يقول: "اللّهمّ اغفر لقومي
فإنهم لا يعلمون"، وكان الذي يغفر كلّ التاريخ الذي بينه وبين أعدائه: "اذهبوا
فأنتم الطّلقاء"... وهكذا، فنأتي برسول الله الرّحيم في موضع المقاومة للاحتلال!!
أليس هذا ما يفعله البعض؟!
إنّ الصورة لا بدّ من أن تتوازن أيضاً لدينا، لأنَّ رسول الله كانت لا تأخذه في
الله لومة لائم، رسول الله كان يرمَى بالحجارة، كان يناجي الله لأنّ حسابه مع الله
سبحانه "إلى من تكلني؛ إلى عدوّ يتجهّمني، أم إلى قريب ملّكته أمري، إن لم يكن بك
غضب عليّ فلا أبالي"، لأنّ حساباتي معك يا ربّ، أنا أصبر على الرسالة.. النبيّ حوصر
في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ولم يهن ولم يكن.. رسول الله عندما هجم عليه الأعداء،
كان، كما عبّر عليّ(ع): "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ لذنا برسول الله، فَلَمْ
يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ". كان موضع الطمأنينة
والسّكينة حتى في أشدّ الحالات حرباً وفتكاً. لكنّه لم ينطلق في كلّ ذلك لأنّه كان
يهوى الحرب، لم ينطلق إلا وهو رحمة، لأنّ العدو عندما يبغي ويستعلي، فإنه يصبح نقمة
على من حوله، فيحتاج إلى رحمة، كالطبيب الذي يجرح مريضه لأجل أن يستأصل شيئاً من
المرض الذي ينتشر من حوله. هذه رحمة. ولا بدّ من أن نفهم الصّورة بكلّها المتوازن.
نعم، لا نبغي ولا نعتدي، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ
اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُو}.. لا نعتدي، ولا نقهر إنساناً
بريئاً، ولا نظلم ولا نجور، لأنَّ كلّ ذلك لا ينسجم مع صورة المسلم، الذي يسلم أمره
كلّه لله سبحانه وتعالى، ويتحرّك في خطّ طاعته.
مسؤوليّتنا حيال الرّسول (ص)
اليوم، نحتاج إلى أن نتأكَّد من هذه الصّورة؛ هل هذه هي الصّورة الحقيقيَّة لرسول
الله، حتى لا نضلّ ولا نتوه؟ ثم إنّ هذه الصّورة أو هذا المشروع في الحقيقة، يحتاج
منّا إلى أن نعيد قراءتنا حتى لتراثنا، وحتّى لأحاديثنا، ولأنَّ بعضها قد ضلّت فيه
الرّواة، وبعضها كذب فيه الكاذبون، وتسلَّلوا إلى كتابٍ هنا وكتابٍ هناك.
كتاب الله بين أيدينا نقيس عليه كلّ معارفنا. ولذلك، عندما نريد أن نرسم هذه
الصّورة، هذه الصّورة بعد أن نرسمها كمشروع لا بدَّ من أن تضطلع به الأمّة يوماً،
وهي تنفض عن نفسها كلّ غبار التّراث الذي أثقلها اليوم، وأوجد أمامها الكثير من
المظاهر والنماذج التي جعلتنا فعلاً نقول: هل هذا هو منتجنا الإسلامي الّذي يذبح
ويقتل باسم الإسلام؟! لا بدَّ من أنّ هناك شيئاً ما على غير المنهج الصّحيح.
لا بدّ من أن نعيد النظر.. إذا أعدنا النظر، فنحن نحتاج إلى أن نحمل مسؤوليّتنا،
لأننا لا يمكن أن ندخل إلى ذكرى تتّصل برسول الله(ص)، وأن نخرج منها، ونحن ربما
قلنا لرسول الله: يا رسول الله، قد صلّينا عليك، وقد صفّقنا قليلاً، وسررنا، وأكلنا
بعض الحلوى في ذكرى مولدك، فلك منَّا كلّ ذلك، سنعود إلى كلّ شياطيننا وكلّ
اتجاهاتنا، لأنّها الّتي اعتدنا عليها، أو لأنّها ربما الّتي تطعمنا خبزاً.
مسؤوليّتنا تجاه رسول الله (ص) هي أن نجسّد النموذج كما جسّده {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
لا يقولنَّ الواحد منّا من أنا حتى أجسّد صورة رسول الله (ص)؟! كلّ وعاءٍ باستيعابه،
الواحد منا لا بدّ من أن يجسّد النموذج، لأن النموذج حجة علينا، أن نجسّد منه ما
استطعنا؛ واحداً في المئة إذا كان استيعابنا كذلك، والله يبارك ويزيد، لكن لا يمكن
للواحد منّا أن لا يجسِّد، وأن لا يكون معنيّاً بتجسيد صورة رسول الله (ص)؛ في
علاقاته كفرد، بأسرته وبمن حوله، في علاقته بالجيران، في علاقته بالإخوة المؤمنين
من حوله، وفي علاقته حتى بأعدائه، لا بدَّ من أن نجسّد صورة رسول الله في كلّ ذلك،
ولكلّ مفردة من هذه المفردات، هناك حديثٌ أو موقفٌ أو سنّةٌ لرسول الله (ص). ألم
يُروَ في الحديث: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورّثه"؟ ألا نروي أنّ
رسول الله قال عندما رجمه أعداؤه بالحجارة: "اللّهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"؟
ألا نروي: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه
عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، ألا نروي أنّه قال: "إن الله يحبّ إذا
عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"؟ وهكذا في كثير من المواقف والكلمات التي جسّد فيها رسول
الله (ص) القيمة أروع تجسيد، وذهبت مثلًا لنا للاقتداء في مدى الزمن..
مسؤوليّة المجتمع
وأيضاً، وهذا الأمر لا يقلّ أهمية عن سلوكنا أو تجسيدنا الفرديّ لصورة رسول الله،
لا بدّ للمجتمع من أن يجسّد صورة رسول الله في علاقاته الاجتماعيّة؛ كيف يكون
المجتمع؟ على أيّ قواعد؟ إذا كان رسول الله (ص) يتصدَّق على الفقير، فلا بدَّ من أن
تتحوَّل الصدقة على الفقير إلى نظام، لا بدَّ من أن تتحوَّل إلى حالة مؤسّسية تمتدّ
ما امتدّت الحياة في المجتمعات، وتحوّل التكافل الاجتماعي إلى حالة دائمة مستمرّة،
وتعطي زخمها بطريقة منظّمة.. لا بدَّ من أن تكون سياستنا على صورة نموذج رسول الله
(ص) في سياسته، لا سياسة اللّفّ والدّوران والعبث بمصالح النّاس لأجل المنافع
الشخصيّة والأطماع الذاتيّة، وإنما سياسة العدل.. أن تكون السياسة التي نهتدي فيها
بسيرة الرّسول (ص)، الّذي قال: "إنما أهلك الّذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم
الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ. والله، لو كانت فاطمة بنت
محمد سرقت لقطعت يدها".
أن يكون التَّعاطي في السياسة بهذا المستوى. ولو كانت سياستنا على هذا المستوى،
سياستنا الإسلامية التي تجد أنّ النبيّ تحت القانون وتحت الشّريعة، فكيف بمن دون
النبيّ، عندئذٍ، هل يمكن أن تكون سياستنا جائرةً لأنّ هناك إنساناً في موقع معيَّن،
وهذا الموقع يحميه، ويمتلك حصانة تعفيه، مع أنَّ النبيّ (ص) يقول: "ألا لا يتمنّ
متمنّ، ولا يدّعي مدّع، أما إنّه لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت"؟! والله
تعالى يقول له: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ}[الزمر: 13]، والله سبحانه يقول عن الرّسول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا
بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}.
اقتصاد مرهون
أليس هذا حديث الله سبحانه عن رسوله؟ لماذا؟ ليقول لنا إنَّه ليس من أحدٍ فوق
القانون؛ سياستنا، اقتصادنا... كيف يمكن أن يكون اقتصادنا اليوم على صورة النّموذج
الذي أرساه رسول الله (ص)؟ هذه مسؤوليَّة.. اليوم، لو كان رسول الله حاضراً بيننا،
فهل كان سيرهن اقتصاد البلد أو الأمّة لكلّ اقتصاديات السوق، حتى يصبح الإنسان لا
شأن له لا بأرضٍ ولا بتاريخ؟ تركنا الزراعة والصناعة والتفكير بكلّ ما ينتج في
أرضنا ويثبت فيها ويقوّي موقعها الاقتصادي ليكون ذاتيًّا مستقلًا عن اقتصاديّات
السوق التي تتحوّل شيئًا فشيئًا لتكون حالة استعبادٍ سياسيّ. عندما يكون الاقتصاد
من الأرض، فإنّه يطعمك بعزّة وكرامة، ثم ما يفضل تنطلق به إلى العالم في تبادل عزيز.
اليوم، عندما نرى اقتصادياتنا كما نرى؛ ندمّر كلّ وطننا، ندمّر مساحاتنا الزراعيّة،
نلوِّث أنهارنا، نفتك بجبالنا، لا ندع شيئاً من طبيعتنا، من أرضنا، ونقول لماذا
يهاجر أبناؤنا؟
يعني إذا كان ولدنا سيرتبط بتجارة البورصة والأسهم وما إلى ذلك، فإنّه سيحتاج إلى
كومبيوتر وإنترنت وحساب في البنك، لا أكثر من ذلك.. لن يكون له شغل بالأرض ولا
بخيرات الأرض، ولن يهمّه أن يعرف عن أرض أجداده وتاريخه، وهذا سينسحب ليس على بلدنا
فقط.
لو تأمَّلنا في كلّ مساحة المنطقة اليوم التي لو سألنا أنفسنا سؤالاً ماذا فيها؟
نقول: ما الذي ليس فيها؟ إذا أردت جغرافيا ففيها، وإذا أردت تاريخاً فلها عمقها
وامتدادها، وإذا أردت ثروات فحدّث ولا حرج، وإذا أردت موارد بشريّة، فناظراك أمامك..
كلّ شيء في هذه الأرض الّتي أنعم الله بها علينا.. ولكن الله يقول: {وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً
مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ}، ورهنت إرادتها للاستعمار
والاستكبار، فكفرت بأنعم الله، ربما تصلّي وتصوم وتحجّ وتدفع زكاةً من هنا وهناك،
لكن إذا كانت تكفر بالنّعمة، ولا تحرّكه في الخطّ الذي يريده الله سبحانه وتعالى {فَأَذَاقَهَا
اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.. ألم يقل الله
لنا ذلك؟!
هذه واحدة من الأبعاد التي لو كان رسول الله (ص) في زماننا، لأخذ بها، ولسلك هذا
المسلك، وتحرَّك في هذا الاتجاه.
المسؤوليّة المضاعفة
إنّ كلّ مسلم اليوم، يمثِّل، شاء أم أبى، رسول الله بنسبة ما. اليوم، العالم كلّه
ليس لديه وقت للقراءة، وأصبحنا في زمن لم يعد أحد يصبر على قراءة صفحة واحدة من
كتاب، فكيف يمكن أن تقول للعالم، أيها العالم، إنّ عليك أن تدقّق، وعليك أن تنتبه
إلى أنّ النبيّ شيء وأتباعه شيء آخر، أنَّ الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر؟! النّاس
لا تتعرّف إلى الأديان ولا إلى الاتجاهات إلا من أتباعها، فالصورة الغالبة التي
يكوِّنها الناس العاديّون، والذين هم الأكثرية الساحقة من الشعوب والأمم، إنما
يكوّنونها من النماذج التي يحتكّون بها. ولذلك، عندما شُوِّهت صورة رسول الله (ص)
من خلال الرسوم المسيئة في أكثر من مجال وساحة، عندما أريد تشويه صورة الإسلام،
ورُبِط بالقتل وسفك الدم والإفساد في الأرض، كلّ ذلك أصبح يحمّلنا مسؤوليّة مضاعفة؛
أن يكون الواحد منا حريصاً على أن يجسّد صورة رسول الله، ليس في العام فقط، وإنما
في خصوصيات خصوصيّاته، لأننا اليوم نحتاج إلى أن يتعرّف الناس إلى رسول الله آخر،
ليس رسول الله الصورة التي ربما وصلت إلى الآخرين بطريقة مشوَّهة ومنقوصة، وإنما
رسول الله الصورة الحقيقية.
واليوم أيضاً نقول إنّ الفرد يتحمّل مسؤوليّة، مهما كان، عندما يبرز بصفته
الإسلاميّة كيف يتعاطى مع الدّولة التي تستضيفه.. الذين يهاجرون إلى بلاد نقول عنها
إنها بلاد الكافرين، فيها نظام، وفيها حفظ لحقوق الناس، كيف يتصرّف؟ لو كان رسول
الله هاجر إلى واحدة منها، كيف كان ليتصرَّف؟! ألم يهاجر المسلمون إلى الحبشة؟!
بماذا أوصاهم النبيّ (ص)؟! عندما يجد المسلم قيمةً من قيمه في أيّ موقع من مواقع
العالم، هذه القيمة هي قيمة النبيّ قبل أن تكون قيمة غيره.. وهذا ما أشار إليه الله
سبحانه وتعالى في القرآن: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ} لماذا؟ لأن النبي هو الذي يجسّد قيم إبراهيم
وموسى وعيسى، وقيم كلّ الأنبياء.. فحيث يجد المسلم القيمة يكون موقعه ويكون إسلامه.
وهذا الذي ينبغي أن نضطلع به يوماً ونشعر بمسؤوليّتنا تجاهه، لا أن نصبح عندما يقال
مسلم في العالم، يقال هو يسفك الدّماء بعنوان شرعيّ!! المسلم يعتدي على ممتلكات
الآخرين! أو يستكبر على الآخرين! لماذا؟ لأنه مسلم!! كيف يكون رسول الله سيتصرّف لو
كان في زماننا مع كلّ من نلتقيهم؟ لو سألنا أنفسنا هذا السؤال، لكان ذلك نوراً يضيء
لنا الطريق.
واجب الحركات الإسلاميّة
وأختم لأقول، إنّ من يتحمل مسؤولية كبرى اليوم أيضاً، ليس الأفراد فقط، وإنما كلّ
حركة إسلامية تتحمّل مسؤوليّة أن تجسّد النموذج الإسلامي.
ولذلك، نحن معنيّون بكلِّ حركة إسلاميّة أن لا تنحرف، وأن لا تتحرّك في الخطّ الذي
يسيء إلى الإسلام، أن نسدِّدها، وأن ننصحها، لا لأننا نهوى الصفة الإسلاميَّة،
وإنما لأنّنا لا نريد لهذا الوجود المكثَّف للمسلمين في موقع ما، إلا أن يكون وجوداً
حضاريّاً باسم رسول الله، ويعكس الصّورة الحقيقيّة لرسول الله.. وهذا ما ينبغي أن
تعيشه الحركات الإسلاميّة جمعاء؛ لأنّ منهج تعاطيها اليوم مع أوضاع الحياة،
والقواعد التي تتّخذها لتحكم سلوكها وأداءها، يشكّل صورة للإسلام؛ إمّا أن تعطي
الثقة لهذا الجيل بالإسلام أو أن تصل به إلى التشكيك فيه دينه وكلّ تاريخه!
وأيضاً الدَّولة الإسلامية، أيّ دولة إسلاميّة اليوم لا تملك نفسها، أيّها الأحبّة،
أيّ دولة إسلاميّة اليوم هي ترسم صورة حسنة أو سيّئة عن إسلامها وعن نبيّها. ولذلك،
فإنَّ الدول الإسلاميّة اليوم، ليست فقط في أن يكون فيها هناك مساجد، أو عندنا
عنوان شرعي بأنّ الشريعة الإسلامية تطبَّق في هذه الدولة.. هذا العنوان قانوني، لكنّ
العنوان الإسلامي الحقيقي، هو أن يكون اقتصاد الدّولة الإسلامية اقتصاداً إسلاميّاً،
يرتبط بالله قبل أن يرتبط بالمصالح، أن تكون السياسة سياسة إسلاميّة، تنطلق من خلال
عدالة الله قبل أن يكون لها ارتباط بالمنافع الذاتيّة، وأن تكون كل حركتها مجسّدةً
للإسلام.
النّموذج الإسلاميّ الصّحيح
هذا واحد من أهمّ الأمور الّتي ينبغي أن نشعر بمسؤوليَّتنا تجاهها في واقعنا اليوم.
نحن نواجه مرحلة هي من أخطر المراحل.. اليوم، أجيالنا أولادنا، حتى الذين تربّوا في
بيئات إسلامية، ربما يتساءلون: أين هو النموذج الإسلامي الصحيح؟ لقد شوّهنا من حيث
نشعر أو لا نشعر، باسم السياسة تارة، وباسم المصالح الأخرى، وباسم شدّ العصب
الطّائفيّ والمذهبيّ أو المناطقي أو ما إلى ذلك، شوّهنا من حيث نشعر أو لا نشعر
صورة الإسلام وصورة رسول الله (ص).
هذه مسؤوليّة اليوم، وعندما نرد على رسول الله (ص) الحوض يوم القيامة، سيسألنا: لقد
عشتم التحديات، وانطلقتم في تظاهرات، لأن هناك إساءات في بلد هنا وفي وموقع هناك
وجهت إليّ، ما بالكم وقد أسأتم تجسيد هذا النموذج؟ ما بالكم وقد تراخيتم عن تحقيق
الصورة الحقيقية التي تقترب مني؛ فإذا بكم كرَّهتم عبادة الله لعبا د الله، وأبعدتم
رسول الله عن موقعه الذي ينبغي أن يكون فيه؟!
هذه واحدة من أهم المسؤوليّات اليوم في عالمنا الذي نعيش فيه، وهذه ليست مسؤوليّة
فريق من المسلمين..
قضيّة إسلاميّة
هل نريد قضيّة للوحدة الإسلامية؟! هذه قضيّتنا اليوم. قضيّتنا كيف نعيد الإشراقة
إلى النّموذج الذي مثَّله رسول الله (ص)، من حيث نعيد الإشراقة إلى نموذج المسلم
الّذي تلتقي جزيئات صورته ببعضه البعض، حتى تشكّل صورة المسلم الأوّل، صورة رسول
الله (ص)..
هذا مشروع للوحدة الإسلاميّة اليوم، لأننا لا نأمل الكثير من مشاريع الوحدة الشكلية
التي نحرص فيها على عمامة شيعيّة إلى جوار عمامة سنيّة، حتى إذا أخذنا الصورة
التذكارية، نشعر وكأنّنا أدّينا قسطنا للعلى.
هذا ربّما نحتاجه نفسياً، نحتاجه للثّبات على أنّ هذا طريق ينبغي أن نفعّله في يوم
ما، ربما عندما تسمح الظروف، لكن نقول لا أن ننزل إلى الأرض، أن ننزل إلى الإنسان
في دكانه، في مكان عمله، في مسجده، كما أشار تعالى للنبي (ص): {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُط}[الكهف: 28].. أن ننزل الوحدة الإسلامية إل كل ذلك من خلال مشروع
وحدويّ يرتبط بأصل وجودنا كمسلمين، وهذا المشروع هو رسول الله (ص).. أي مشروع اليوم
أعظم من هذا المشروع، وأيّ مشروع أصعب من هذا المشروع؟! أن نكون أمّة أو لا نكون،
هو أن نعيد هذا النموذج إلى الصدارة في كل الصور والنماذج التي نرتبط بها اليوم
لنحاكمها على أساسه، إلى الواجهة في كلّ ميادين العمل والحياة، إلى موقع التفعيل
الحضاريّ لوجودنا.. عندما نستعيد ذلك، نصبح أمّة ونكون أمّة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يسدّد خطواتنا، وأن يجمع كلمتنا، وأن يعيد أحوالنا أفضل
مما كنّا عليه، وأن يجعل مستقبل أمرنا خيراً من ماضيه، وخير أعمالنا خواتيمها،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*محاضرة ألقاها سماحته في مركز أهل البيت (ع) في بلدة بكمرا – طرابلس، بمناسبة
المولد النبويّ الشَّريف، بتاريخ: 24-11-2018.