درس المبعث النّبويّ أن نتوحَّد في الله ورسوله

درس المبعث النّبويّ أن نتوحَّد في الله ورسوله

عشنا قبل أيّام ذكرى المبعث النبوي الشّريف، ولعلّ قيمة هذا اليوم، هو أنّه يربطنا بيوم ولادة الإسلام، فقد ولد الإسلام رسالةً ودعوةً وحركةً ومنهجاً في واقع النّاس في ذلك اليوم.

وعندما نريد أن نتذكَّر ذلك اليوم، فليست المسألة عندنا مسألة ذكرى في التّاريخ، ولكنّها مسؤوليّة يعيشها كل مسلم ومسلمة، في أن ينطلق بالإسلام في خطّ الدعوة والحركة والجهاد في سبيل الله من حيث انطلق رسول الله(ص)، ومن حيث تحرّك المسلمون الذين آمنوا به، فقد كان المسلم يؤمن بالإسلام عندما يستمع إلى القرآن من رسول الله(ص)، فيفهم الإسلام انتماءً فكرياً وعاطفياً وروحياً وحركياً، حيث كانت الحركية في وجدان الإنسان المسلم تتّصل بمعنى الإسلام في شخصيته.

ولذلك، فإن السيرة النبوية الشريفة تقصّ علينا أنّ أي مسلم كان يدخل في الإسلام، كان يأتي في اليوم الثاني أو الثالث بمسلم آخر، وهكذا كانت الدعوة الإسلامية مسؤولية الإنسان المسلم في أن يدعو أكبر عدد ممكن من النّاس إلى الإسلام ليدخلوا فيه، وقد كانوا ـ من خلال ذلك ـ يعملون على أن يتثقّفوا بالإسلام بما يتوفّر لديهم مما يحفظونه من القرآن ومما يسمعونه من كلام رسول الله(ص).

المرأة الدَّاعية

حتى إنّ النساء كُنّ يعشن الدّعوة بشكل عميق وقويّ ومنفتح، فنقرأ مثلاً قصّة امرأة مسلمة([1])، كانت متزوّجةً من شخصٍ كافرٍ مشركٍ هو (أبو العاص بن الربيع)، ولم يكن التّشريع الإسلامي ـ آنذاك ـ يحرّم زواج المسلمة من المشرك، فأقنعت زوجها بأن يُسلم، فلم يقبل، وولدت له ولداً، وعندما بلغ ولدها السنّ التي يمكن له فيها أن ينطق، كانت تعلّمه أن يقول كلمة الله، وأن يقول اسم النبي(ص)، وقال لها زوجها إنك تفسدين عليّ ولدي، فقالت له ما مضمونه إنّني أصلحه.

الإسلام عند المسلمين الأوائل

وقد كان إحساس المسلمين الأوّلين بقيمة الإسلام في عقيدتهم، بالمستوى الّذي يجعلهم يتحمّلون أقسى الآلام في مقابل أن لا يخضعوا للمشركين الّذي يعذّبونهم ويضطهدونهم لقول كلمة الكفر، ونحن نقرأ كيف أنّ (ياسراً) و(سميّة) ماتا تحت التعذيب ولم ينطقا بكلمة الكفر، أما ولدهما (عمّار)، فقد كان شابّاً طريّ العود، فبلغ به التّعذيب مبلغاً لم يستطيع أن يتحمّله، فنطق بكلمة الكفر، وعندما نطلق بكلمة الكفر، جاء إلى النبي(ص) وهو يعيش حالة الرّعب النّفسي، وقال له: لقد هلكت أو كفرت يا رسول الله، فقال له إنّ الله أنزل فيك قرآناً، وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}([2])، فإن عادوا يا عمّار فعُد..

وهكذا رأينا بقيّة المسلمين الذين حاولت قريش أن تفتنهم عن دينهم بمختلف الضّغوط، وكانوا ضعفاء، حتى اضطرَّ النّبيّ(ص) إلى أن يخفِّف عنهم، فأرسلهم إلى الحبشة.

لقد عاش المسلمون، كما قلنا، إلى جانب التزامهم الإسلاميّ في أنفسهم، التزامهم بالحركيَّة الإسلاميَّة في الواقع، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعرَّفه، وقد مرَّ على الدّعوة الإسلاميّة أكثر من أربعة عشر قرناً، وأن نتطلّع إلى المسلمين كيف كانوا، لنأخذ منهم العبرة والدرس والإحساس بالمسؤولية.

تحدّيات الكفر المثقّف!

المسؤوليّة الآن هي مسؤوليتنا، نحن المسلمين الذين نعيش في مرحلة من أصعب المراحل التي مرّت في التاريخ الإسلامي في المطلق، لأنّ التحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون اليوم هي تحدّيات الكفر المثقّف، فكل الجامعات في العالم، أو أكثرها، تعمل على محاربة الإسلام في عقيدته وفي فكره، كما تواجهنا تحدّيات في الواقع السياسي، فنحن نعرف أنّ الاستكبار العالمي المتحالف مع الكفر العالمي، يعمل على إسقاط الإسلام سياسياً في قضايا الحريات: حرية الإسلام، وحرية المسلمين في إدارة شؤونهم الإدارية بشكل مستقلّ، إنهم يعملون على إسقاط ذلك، وعلى أن تكون سياسة المسلمين على هامش سياسة الاستكبار العالمي، وقد وظّفوا الكثير من الملوك والرؤساء، ووضعوهم على رأس الأنظمة في العالم الإسلاميّ، من أجل أن يحرسوا لهم هذه الخطوط السياسيّة المتّصلة بخطّ الاستكبار العالمي.

ولذلك رأينا أنَّ هؤلاء يعملون على أن لا تكون للمسلمين سياسة مستقلّة بالمعنى الذي يحفظ للمسلمين مصالحهم، ويحرّر لهم مواقعهم، ويحفظ لهم استراتيجيتهم.. إننا نجد أن هؤلاء أصبحوا الحرّاس للمصالح السياسيّة للمستكبرين، حتى إننا عندما ندرس (منظمة المؤتمر الإسلامي) الّتي أسّست لتجمع دول المسلمين، فإننا نجد أنها انطلقت من خلال خطط السياسة الأمريكيّة الّتي أرادت أن تجمع الدول الإسلاميّة في منظّمة، حتى يسهل عليها مصادرة القرار الإسلامي على أساس قرارات المؤتمر الإسلامي، لأننا لا نجد هناك سياسة إسلامية مستقلة حرّة في قرارات المؤتمر الإسلامي كلّها، بل كان المؤتمر يصدر قراراته بشكل موجز، وبشكل يحاول فيه أن يحفظ ماء وجهه عندما يتحدّث عن القضية الفلسطينية أو عن القضايا الأخرى، ولم نجد هناك موقفاً واحداً يقف فيه المؤتمر الإسلامي ليصدر قراراً لمقاطعة الكيان الصهيوني ـ بشكل أساس ـ وبمقاطعة الدول التي تضطهد دول المسلمين، فهذه المنظمة تختفي وراءها السياسة الأمريكية منذ البداية، حتى إننا رأينا في المؤتمر الأخير الذي انعقد في طهران، كيف دجّنت القضايا الإسلامية، بما فيها القضيّة الفلسطينية.

نظرة في السياسة العالميَّة

لذلك، فإنّ المشكلة التي نعيشها ـ أيّها الأحبّة ـ هي أننا لو درسنا السياسة العامّة الموجودة في العالم، لرأينا أنها تمثّل هامشاً من هوامش السياسة الاستكبارية الآن، ولو أردنا أن ندرس الوضع في الكيان الصهيوني، لوجدنا أنه احتلّ فلسطين واحتلّ ما حول فلسطين، وهو يقف بكلّ قوّة وعنفوان ليواجه مجلس الأمن، ولا يعترف بشيء من قراراته، وليواجه الأمم المتحدة بصلفه وعناده، بينما يتحرك مجلس الأمن ـ بكلّ حرية ـ ليفرض حصاراً على (ليبيا) وحصاراً على (العراق) وآخر على (السودان)، وليفرض أكثر من حصار على أكثر من بلد عربي أو إسلامي، وذلك من أجل القضايا التي قد تتّصل بالحاكم كما في العراق، وقد تتصل ببعض القضايا الجزئية كما في ليبيا، أو تتصل بالواقع الإسلامي كما في السودان، أو يحاصر إيران بطريقة وبأخرى..

فالملاحظ أنّ العقوبات لم تُفرَض على (إسرائيل) منذ كان مجلس الأمن، ومنذ كانت (إسرائيل)، بل إنّ مجلس الأمن اعترف بوجود الكيان الصهيوني على أنقاض الشّعب الفلسطيني، وإذا أريد تقديم أيّ دعوى أو إصدار أيّ قرار في مجلس الأمن ضدّ الكيان الغاصب، فإنّ الولايات المتّحدة تقف لتمنع ذلك أو لتسجِّل نقضها "الفيتو" على هذا القرار أو ذاك، بينما نجد أنَّ المؤتمر الإسلامي لم يحرّك ساكناً، وهناك الكثير من الدّول الإسلاميّة الّتي تعترف بهذا الكيان اللّقيط وتطبّع علاقاتها به، فأيّ (منظمة إسلامية) هذه؟ إن القضية الفلسطينية تختصر تاريخ الخمسين سنة أو المئة سنة الماضية، إنها تختصر تاريخ سياسة المنطقة كلها، ولذا نجد (إسرائيل) تعتدي وتدمّر في فلسطين وفي جنوب لبنان، ولا تتحرّك أية دولة لتقدّم احتجاجاً على الأقل.

وهكذا نجد أن أمريكا تصرّح بأنّ أمن الكيان الصهيوني من أمنها، وأنها تلتزم (الأمن الإسرائيلي) بشكلٍ مطلقٍ ولو على حساب الأمن الفلسطيني والأمن العربي، بل إنها تصرّح بأنها تعمل على أن تبقى (إسرائيل) في تفوّق نوعي على الشّرق الأوسط كله، بحيث لو وقفت دول الشرق الأوسط كلها أمامها، لكانت قادرة على أن تواجهها بأحدث الأسلحة.

ومن هنا، فإن أمننا هو على هامش أمن الاستكبار العالمي، وسياستنا هي على هامش سياسة أمن الاستكبار العالمي، واقتصادنا عل هامش اقتصاده، مع العلم أننا نملك أكبر احتياطي للبترول في العالم في الدّول العربية والإسلامية، ولكن ماذا يملك العرب والمسلمون من هذا النّفط؟! إنهم يأخذون مالاً بيد ويدفعون أكثر منه باليد الأخرى، إنّ أرصدة النفط كلّها موجودة في البنوك الأمريكيّة التي تنمّي ثرواتها وتحفظ اقتصادها بالتلاعب بثرواتها وتحطيم اقتصادنا، بل راحوا يخلقون المشاكل بين بلد عربي وبلد عربي آخر، وبين بلد إسلامي وبلد إسلامي آخر، من أجل استنزافه اقتصادياً.

ولقد كانت دول الخليج من أكثر الدول غنًى وثراءً، وكانت تعمل على أن تساعد هذه الدولة أو تلك حسب الواقع السياسي، ولكنهم أدخلوا دول الخليج أولاً في الحرب العراقية ـ الإيرانية، وباعتبار أنها موّنت العراق آنذاك بالسّلاح وبالاقتصاد وبكل شيء، حتى قيل إنّ دول الخليج دفعت ما يقرب الـ(80) مليار دولاراً في الحرب العراقية الإيرانيّة، وزجّت كذلك في مسألة الكويت في حرب الخليج الثانية، وتحملت دول الخليج أو أكثر من دوله مسؤولية هذه الحرب، وتمويل الجيش الأمريكي وجيوش الحلفاء، حتى أصبحت دول الخليج الآن تعاني عجزاً في ميزانيّتها، بل أصبحت بعض دول الخليج النفطيّة تعمل على الاستقراض، ونحن نعرف أنّ دول الخليج لا تدفع المترتّب بذممها للمقاولين في المشاريع.

ثم خلقت مشاكل حدوديّة، فهناك مشكلة بين (البحرين) و(قطر)، ومشكلة بين (اليمن) و(السعودية)، ومشكلة عدّة كيلومترات في هذه الصحراء أو  عدّة كيلومترات في البحر، فما أشبه موقف المسلمين بقول رسول الله(ص) وهو ينظر إلى هذه الأيّام: "يوشك الأمم تداعى عليكم تداعي الأكلة على قصعتها". قالوا: مِن قلّة نحن يومئذٍ؟. قال: بل أنتم كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل"[3]، أي كالزّبد الطافي!

الاستغراق في الخلافات المذهبيَّة

هذا هو الواقع الإسلامي ـ أيها الأحبة ـ أمام الاستكبار العالمي، فإذا عشنا في داخل الواقع الإسلامي فماذا نرى؟ إننا نرى أن المسلمين مشغولون مع بعضهم البعض بالخلافات المذهبية، فهناك حرب بين السنّة والشيعة في أكثر من موقع من مواقع العالم الإسلامي، بحيث إننا قد نرى أنّ هناك تياراً للشيعة يفضّل المشركين على السنَّة، وأنّ هناك تياراً في السنّة يفضّل المشركين على الشيعة، على طريقة المشركين عندما قالوا عن اليهود: {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا}([4])، فالمشكلة التي يعيشها المسلمون في الخلاف السني الشيعي هي التي منعت المسلمين من أن يتوحدوا أو يتقاربوا في مواجهة التحديات الكبرى.

فهناك من الناس من لا يتحمّسون للقضية الفلسطينيّة لأنها قضيّة سنيّة، أو هناك من لا يتحمّس للقضية الإيرانية في حرب الاستكبار عليها لأنها قضية شيعية، وعندما يبتلى الشيعة في موقع من المواقع، فإن قسماً من السنّة يشمتون بهم، وعندما يبتلى السنّة في موقع من المواقع، فإن قسماً من الشيعة يشمتون بهم، حتى كدنا نفقد معنى الإسلام، والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}([5])، ويقول أيضاً: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}([6])، ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}([7]).

ففي الواقع الذي نعيشه، أصبح بعض الشيعة يكفّرون السنّة، وأصبح بعض السنّة يكفّرون الشّيعة، مع أنّنا لو درسنا القضايا التي يشترك فيها الشّيعة والسنّة، لرأينا أنها على الأقلّ 80%، فلو فحصنا القضايا الّتي بين السنّة والشّيعة، وقارنّاها مع القضايا التي بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، لرأينا أنّ التّقارب بين المسلمين أكبر، وهناك اليوم عمل من أجل توحيد المذاهب المسيحيّة، وحوارات كبرى بين (الفاتيكان) وروسيا، حيث البطريرك الأكبر الّذي يمثل رئيس الكنيسة الأرثوذكسية، ونحن لا نملك إلا شعارات في الهواء، حتى إن البعض منّا إذا طرح الوحدة الإسلاميّة، يتَّهم في أنه يدعو للوحدة الإسلاميّة.

ونجد كذلك الخلافات العرقية بين عربي وكردي، وتركي وكردي وفارسي، وما إلى ذلك، حتى إن المسلمين لا يشعرون بأنّ الإسلام يوحّدهم، بل إنهم يرون في عرقياتهم ما يوحّدهم، ونحن نقول إنّ الإسلام لا يتنكّر لهذا العرق أو ذاك، ولا لخصوصّيتك الكردية أو العربية أو الفارسية أو التركية، لأنّ خصوصيّتك العرقية كخصوصيتك الذاتيّة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ولكن الإسلام يقول لك كُن عربياً أو فارسياً أو تركياً، ولكن ليكن الإسلام هو المظلّة لكلّ هذه التنوّعات في داخلك {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}([8]).

وبلغ الأمر حدّاً أنّنا أصبحنا نعيش التمزّقات الداخليّة في داخل كلّ قوميّة أو مذهبيّة أو عرقيّة، لذلك أصبحنا مشغولين ببعضنا البعض.

واقعنا على ضوء القرآن

أليس هذا هو الواقع الإسلامي أيّها الأخوة؟ والقرآن يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}([9])، والله يريد منا إذا تنازعنا في شيء أن نردَّه إليه وإلى رسوله، وأراد لنا فيما نختلف ونتَّفق فيه مع أهل الكتاب، أن ندعو إلى كلمة سواء، مع ما بيننا وبينهم من فواصل وفروق، فلقد {وقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله}([10])، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله}([11])، و{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}([12])، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}([13])، ومع هذه الخلافات، يقول القرآن: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله}([14])، لنلتقي على التوحيد. وكم هناك من فرق بين فهمنا للتّوحيد وفهم أهل الكتاب للتوحيد! ولكن مع ذلك، دعانا إلى أن نجمِّد اختلافاتنا في التفاصيل، لنقف عند الكلمة السواء في الخطّ الواحد.

وعندما أرادنا أن نجادل أهل الكتاب، قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}([15])، ألا نستطيع أن نقول لبعضنا البعض مثل هذا القول أو لا؟ فنحن نسمع بعض السنّة يقولون إنّ ربّ الشيعة هو غير ربّ السنّة، فربّهم مجسّم وربّ الشيعة غير مجسّم، وإنّ نبيّ السنّة هو غير نبيّ الشّيعة، فهمُّ بعض النّاس هو التركيز على الفواصل، بينما يريدنا القرآن أن نركّز على الخطوط العامّة، لأنّك إذا التقيت مع الآخر في الخطّ العام، أمكنك أن تتحاور معه من موقع اللّقاء لا من موقع الفراق، فالخطّ العامّ يعطيك روحيّة أنّ هناك أرضيّة مشتركة بينك وبين الآخر.

مسؤوليّتنا في ذكرى المبعث

أيّها الأحبّة، يجب أن لا نكتفي في ذكرى المبعث النبويّ الشّريف بأن نقيم الحفلات والمهرجانات والزّينات، بل لا بدّ من أن تدفعنا الذكرى إلى أن نتصوّر مسؤوليّتنا عن الإسلام والمسلمين، والخطورة في هذا، أن الإنسان الذي يعيش اللامبالاة تجاه قضايا الإسلام والمسلمين وهمومهم، ليس بمسلم، بشهادة رسول الله(ص): "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"[16]، و"من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"[17]. ويقول(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى"[18].

ومعنى ذلك، أن الإسلام ليس مجرّد مسألة تعيش في داخل ذاتك، بل هو خطّ يتحرك في نطاق مسؤوليّتك عن الآخر، فالمطلوب منك أن تفكّر وأنت تستمع إلى المذياع وتشاهد التلفاز وتقرأ الصحيفة، بكلّ قضايا المسلمين في العالم، وأن تفكّر في كيفية تقديم شيء للإسلام والمسلمين من وقتك وطاقتك وفكرك، وأن لا تكون محايداً، كالإنسان الّذي يقف ليقول كما ورد عن الإمام الكاظم(ع): "أبلغ خيراً وقُل خيراً ولا تكن إمَّعة"، قالوا: وما الإمَّعة؟ قال: "لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النّاس"، أي لا رأي له ولا موقف، فأنا أنتظر ما تقوله العائلة أو أهل البلد أو الناس الآخرون، فالإمام(ع) يقول: "إنّ رسول الله(ص) قال: إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"[19]، وهذا يعني أن تركِّز موقفك، ويكون لك رأي فيما يطرح عليك، لأنّ مشكلة الكثيرين أنهم يجلسون على التلّ، فيخذلون الحقّ ولا ينصرون الباطل. وقد تكلّم الإمام عليّ(ع) بطريقة سلبيّة عن هؤلاء، وقد بيّنّا أنّك عندما تسحب قوّتك من السّاحة، فإنك تكون قد أعطيت العدوّ قوة سلبية، لأنك عندما تمنع قوة إيجابية في الحقّ، فإنك ستقوّي بذلك شوكة الباطل ضدّ الحق، لأن جنود الحق لا يقفون معك، فمن يخذل الحقّ ينصر الباطل بشكل سلبيّ، وإن لم ينصره بشكل إيجابي.

مشكلة الحياديَّة

ولعلَّ مشكلتنا في العالم الإسلامي هي في الحياديّين الّذين لا يقفون مع الحقّ ولا مع الباطل، وهم الّذين شاركوا في هزيمة الحقّ في كثير من معاركه، لأنهم حيّدوا أنفسهم عن معارك الحقّ، ولعلّ الكثيرين منا كذلك الرّجل في معركة صفين، الذي كان إذا جاء وقت الصلاة، وقف ليصلّي خلف علي(ع)، وإذا حضر وقت الطعام، هرع ليأكل مع معاوية، وإذا اشتدّت الحرب صعد إلى التلّ، وكان يقول أو يُقال عنه: "الصلاة خلف عليّ أقوَم، وطعام معاوية أدسَم، والقعود على هذا التلّ أسلم"[20].

فكم منا من يعتبر الصّلاة مجرد حالة ذاتية خاصة لا علاقة لها بالحياة ولا بالصراع ولا بالالتزام العملي في خطّ الله وفي حركة الواقع، وإذا جاء وقت المنافع، فكم من معاوية يُهرع إليه المصلّون والحجّاج والزائرون، وعندما تنطلق المعارك، وما أكثرها في هذه الأيام! فإنّ الّذين يجلسون على التلّ قد يبلغون الـ90%، وفي الـ10% كثير من المتردّدين، ونحن حتى إذا شاركنا في المعركة، فإنّنا نخذل بعضنا بعضاً حتى ونحن في داخل المعركة، والله يقول: {إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}([21]).

مقارنة بين اليهود والمسلمين

فانظروا إلى الكيان الصهيوني، لتروا كم يمثّل اليهود في العالم، إنّهم لا يزيدون ـ حسب الإحصائيّات ـ على (20) مليوناً، وإذا تحدّثنا عن العرب، فإنهم يمثّلون ـ بلا حسد ـ (250) مليون عربيّ أو أكثر، وخصوصاً أنّ تناسل العرب كثير.. وإذا أردنا أن نتحدّث عن المسلمين، فهناك مليار ونصف المليار مسلم أو أكثر، فلماذا تغلّب هؤلاء على قلّتهم؟ لأنهم انطلقوا في العالم كلّه ليكونوا في معركة فلسطين ضدّ العرب، فما من يهوديّ في العالم، سواء كان تاجراً أو صاحب موقع إعلامي أو اقتصادي أو سياسي، إلا ويوظّف موقعه كله لمصلحة (إسرائيل)، ونحن نملك الكثير من العرب والمسلمين الذين يوظّفون مواقعهم السياسية والاقتصادية والأمنية لمصلحة (إسرائيل) أو لمصلحة الاستكبار العالمي، ولا نجد من يوظّف موقعه لمصلحة القضية الفلسطينية أو الإسلامية أو العربية.

إنّ الكثيرين منا يقولون كما قال ذلك الشّاعر اللّبناني المهجري:

ما علينا إن قضى الشّعب         جميعاً أفلسنا في أمان؟

أو كما تقول الصّلاة المسيحيّة: "اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشّرّير".

إنّ هناك مشكلة صعبة وقاسية وخطيرة على المستويات كلّها في الواقع الإسلامي سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ولا بدّ لنا من أن نواجه ذلك بالمسؤوليّة، لأنّ الله سوف يسألنا عن ذلك، لأنه يريد للمسلمين أن يقفوا صفّاً واحداً في مواجهة التحدّيات.

أيّها الأحبّة، لنجمّد كثيراً من تفاصيل خلافاتنا، فإنّ إثارتها، سواء كانت خلافات قوميّة أو عرقيّة أو مذهبيّة أو حزبيّة أو سياسيّة، في هذه الظروف الصّعبة خيانة للإسلام وللمسلمين، وأنا أتحمّل مسؤوليّتي عن هذه الكلمة.

إنّ اليهود بأسهم بينهم شديد حتى الآن، ولكنّهم يتوحّدون ضدنا ويتوزعون الأدوار، ولقد لاحظنا في آخر مجلس نيابي صهيوني، أنّ (حزب العمل) و(حزب الليكود) في أكثريّة هنا وأكثريّة هناك، صوّتوا على مشروع واحد، فهما وجهان لعملة واحدة، ولكنّ بعضنا يحاول أن يخذل البعض الآخر.

أيّها الأحبّة، كانت صورتنا في عهد رسول الله(ص) كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}([22])، أمّا بالنّسبة إلى اليهود، فكانت صورتهم آنذاك كما جاء في قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}([23])، فلذلك انتصرنا على اليهود، لأنّنا كنّا في هذا الموقع وكانوا في ذاك الموقع، وعندما تبدّلت الأجواء، أصبحنا أشدّاء على بعضنا رحماء على العدوّ، ليس لدينا أيّ انفتاح على الله، نبتغي فضلاً من أمريكا ورضواناً، ولا نبتغي فضلاً من الله ورضواناً، بأسنا بيننا شديد، تحسبنا جميعاً وقلوبنا شتّى، أمّا اليهود فهم أشدّاء علينا رحماء بينهم.

العودة إلى الصّورة المشرقة

أيها الأحبة، لنرجع إلى تلك الصورة التي كانت هناك وسننتصر، فإنّ قضايا الشعوب لا تُحلّ بالسنة والسنتين، إنها تحلّ على مستوى الأجيال: "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً"([24])، فما رأيكم أن نجعل من ذكرى المبعث النبوي الشّريف انطلاقة جديدة نلتقي فيها على القضايا المشتركة، ونتحاور بمحبة في القضايا التي نختلف فيها، وأن نخلص لله ولرسوله، وأن ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل بالّتي هي أحسن، وأن ندفع بالّتي هي أحسن، حتى نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء، ولننطلق للتخلّص من هذا التخلّف كلّه والحقد والعداوة الّتي ننتجها بين يوم ويوم.

ولقد كان المسلمون مع رسول الله(ص)، فيما عدا المنافقين، ينتجون المحبة فيما بينهم، أما نحن، فننتج الحقد والضغينة في نفوسنا، ألا ترون ذلك، فأين هي المحبّة: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، وقد قال الإمام الصّادق(ع): "وهل الدّين إلا الحبّ"([25])، فلننتج المحبّة، فهي تغني عقولنا وقلوبنا وواقعنا، وتجعلنا نتحرّك في خطّ النّصر، ولنتقرّب إلى الله أكثر، فلعلَّنا نتقرّب من رضاه أكثر {ورضوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ}([26]).

أيّها الأحبّة، تعالوا نتوحَّد في الله وبرسوله وبأوليائه، حتى نجد الطّريق إلى الهدف الكبير، وذلك هو درس المبعث؛ أن يعود الإسلام فينا ديناً وحركةً ودعوةً وقوّةً وموقفاً وصلابةً، فلنبدأ الخطوة الأولى، وإن كان الطريق طويلاً.

والحمد لله ربّ العالمين.

المحاضرة السادسة والعشرون: 2 شعبان 1419هـ/ الموافق: 21 - 11 - 1998م


[1] قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله(ص) امرأة أبي العاص بن الرّبيع، فأسلمت ولحقت بالنبي(ص) بالمدينة، وأقام أبو العاص مشركاً في مكة، ثم أتى المدينة فآمنته زينب، ثم أسلم فردّها عليه رسول الله(ص). البحار، ج:2، باب:20، ص:339. (المعدّ)

[2] سورة النحل، الآية:106.

[3] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج1، ص110.

[4] سورة النساء، الآية:51

[5] سورة النساء، الآية:59.

[6] سورة آل عمران، الآية:103.

[7] سورة الحجرات، الآية:10.

[8] سورة الحجرات، الآية:13.

[9] سورة آل عمران، الآية:103.

[10] سورة التوبة، الآية: 30.

[11] سورة التوبة، الآية: 30.

[12] سورة المائدة، الآية:73.

[13] سورة المائدة، الآية:17.

[14] سورة آل عمران، الآية:64.

[15] سورة العنكبوت، الآية:46.

[16] الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 164.

[17] الوافي، الفيض الكاشاني، ج15، ص196.

[18] ميزان الحكمة، ج4، ص2837.

[19] ميزان الحكمة، ج4، ص3402.

[20] السّيرة الحلبيّة، ج3، ص367.

[21] سورة الصف،الآية:4.

[22] سورة الفتح، الآية:29.

[23] سورة الحشر، الآية:14.

[24] البحار، ج:44، باب:22، رواية:6، ص:139.

[25] البحار، ج:27، باب:4، رواية:57، ص:95.

[26] سورة التوبة، الآية:72.

عشنا قبل أيّام ذكرى المبعث النبوي الشّريف، ولعلّ قيمة هذا اليوم، هو أنّه يربطنا بيوم ولادة الإسلام، فقد ولد الإسلام رسالةً ودعوةً وحركةً ومنهجاً في واقع النّاس في ذلك اليوم.

وعندما نريد أن نتذكَّر ذلك اليوم، فليست المسألة عندنا مسألة ذكرى في التّاريخ، ولكنّها مسؤوليّة يعيشها كل مسلم ومسلمة، في أن ينطلق بالإسلام في خطّ الدعوة والحركة والجهاد في سبيل الله من حيث انطلق رسول الله(ص)، ومن حيث تحرّك المسلمون الذين آمنوا به، فقد كان المسلم يؤمن بالإسلام عندما يستمع إلى القرآن من رسول الله(ص)، فيفهم الإسلام انتماءً فكرياً وعاطفياً وروحياً وحركياً، حيث كانت الحركية في وجدان الإنسان المسلم تتّصل بمعنى الإسلام في شخصيته.

ولذلك، فإن السيرة النبوية الشريفة تقصّ علينا أنّ أي مسلم كان يدخل في الإسلام، كان يأتي في اليوم الثاني أو الثالث بمسلم آخر، وهكذا كانت الدعوة الإسلامية مسؤولية الإنسان المسلم في أن يدعو أكبر عدد ممكن من النّاس إلى الإسلام ليدخلوا فيه، وقد كانوا ـ من خلال ذلك ـ يعملون على أن يتثقّفوا بالإسلام بما يتوفّر لديهم مما يحفظونه من القرآن ومما يسمعونه من كلام رسول الله(ص).

المرأة الدَّاعية

حتى إنّ النساء كُنّ يعشن الدّعوة بشكل عميق وقويّ ومنفتح، فنقرأ مثلاً قصّة امرأة مسلمة([1])، كانت متزوّجةً من شخصٍ كافرٍ مشركٍ هو (أبو العاص بن الربيع)، ولم يكن التّشريع الإسلامي ـ آنذاك ـ يحرّم زواج المسلمة من المشرك، فأقنعت زوجها بأن يُسلم، فلم يقبل، وولدت له ولداً، وعندما بلغ ولدها السنّ التي يمكن له فيها أن ينطق، كانت تعلّمه أن يقول كلمة الله، وأن يقول اسم النبي(ص)، وقال لها زوجها إنك تفسدين عليّ ولدي، فقالت له ما مضمونه إنّني أصلحه.

الإسلام عند المسلمين الأوائل

وقد كان إحساس المسلمين الأوّلين بقيمة الإسلام في عقيدتهم، بالمستوى الّذي يجعلهم يتحمّلون أقسى الآلام في مقابل أن لا يخضعوا للمشركين الّذي يعذّبونهم ويضطهدونهم لقول كلمة الكفر، ونحن نقرأ كيف أنّ (ياسراً) و(سميّة) ماتا تحت التعذيب ولم ينطقا بكلمة الكفر، أما ولدهما (عمّار)، فقد كان شابّاً طريّ العود، فبلغ به التّعذيب مبلغاً لم يستطيع أن يتحمّله، فنطق بكلمة الكفر، وعندما نطلق بكلمة الكفر، جاء إلى النبي(ص) وهو يعيش حالة الرّعب النّفسي، وقال له: لقد هلكت أو كفرت يا رسول الله، فقال له إنّ الله أنزل فيك قرآناً، وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}([2])، فإن عادوا يا عمّار فعُد..

وهكذا رأينا بقيّة المسلمين الذين حاولت قريش أن تفتنهم عن دينهم بمختلف الضّغوط، وكانوا ضعفاء، حتى اضطرَّ النّبيّ(ص) إلى أن يخفِّف عنهم، فأرسلهم إلى الحبشة.

لقد عاش المسلمون، كما قلنا، إلى جانب التزامهم الإسلاميّ في أنفسهم، التزامهم بالحركيَّة الإسلاميَّة في الواقع، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعرَّفه، وقد مرَّ على الدّعوة الإسلاميّة أكثر من أربعة عشر قرناً، وأن نتطلّع إلى المسلمين كيف كانوا، لنأخذ منهم العبرة والدرس والإحساس بالمسؤولية.

تحدّيات الكفر المثقّف!

المسؤوليّة الآن هي مسؤوليتنا، نحن المسلمين الذين نعيش في مرحلة من أصعب المراحل التي مرّت في التاريخ الإسلامي في المطلق، لأنّ التحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون اليوم هي تحدّيات الكفر المثقّف، فكل الجامعات في العالم، أو أكثرها، تعمل على محاربة الإسلام في عقيدته وفي فكره، كما تواجهنا تحدّيات في الواقع السياسي، فنحن نعرف أنّ الاستكبار العالمي المتحالف مع الكفر العالمي، يعمل على إسقاط الإسلام سياسياً في قضايا الحريات: حرية الإسلام، وحرية المسلمين في إدارة شؤونهم الإدارية بشكل مستقلّ، إنهم يعملون على إسقاط ذلك، وعلى أن تكون سياسة المسلمين على هامش سياسة الاستكبار العالمي، وقد وظّفوا الكثير من الملوك والرؤساء، ووضعوهم على رأس الأنظمة في العالم الإسلاميّ، من أجل أن يحرسوا لهم هذه الخطوط السياسيّة المتّصلة بخطّ الاستكبار العالمي.

ولذلك رأينا أنَّ هؤلاء يعملون على أن لا تكون للمسلمين سياسة مستقلّة بالمعنى الذي يحفظ للمسلمين مصالحهم، ويحرّر لهم مواقعهم، ويحفظ لهم استراتيجيتهم.. إننا نجد أن هؤلاء أصبحوا الحرّاس للمصالح السياسيّة للمستكبرين، حتى إننا عندما ندرس (منظمة المؤتمر الإسلامي) الّتي أسّست لتجمع دول المسلمين، فإننا نجد أنها انطلقت من خلال خطط السياسة الأمريكيّة الّتي أرادت أن تجمع الدول الإسلاميّة في منظّمة، حتى يسهل عليها مصادرة القرار الإسلامي على أساس قرارات المؤتمر الإسلامي، لأننا لا نجد هناك سياسة إسلامية مستقلة حرّة في قرارات المؤتمر الإسلامي كلّها، بل كان المؤتمر يصدر قراراته بشكل موجز، وبشكل يحاول فيه أن يحفظ ماء وجهه عندما يتحدّث عن القضية الفلسطينية أو عن القضايا الأخرى، ولم نجد هناك موقفاً واحداً يقف فيه المؤتمر الإسلامي ليصدر قراراً لمقاطعة الكيان الصهيوني ـ بشكل أساس ـ وبمقاطعة الدول التي تضطهد دول المسلمين، فهذه المنظمة تختفي وراءها السياسة الأمريكية منذ البداية، حتى إننا رأينا في المؤتمر الأخير الذي انعقد في طهران، كيف دجّنت القضايا الإسلامية، بما فيها القضيّة الفلسطينية.

نظرة في السياسة العالميَّة

لذلك، فإنّ المشكلة التي نعيشها ـ أيّها الأحبّة ـ هي أننا لو درسنا السياسة العامّة الموجودة في العالم، لرأينا أنها تمثّل هامشاً من هوامش السياسة الاستكبارية الآن، ولو أردنا أن ندرس الوضع في الكيان الصهيوني، لوجدنا أنه احتلّ فلسطين واحتلّ ما حول فلسطين، وهو يقف بكلّ قوّة وعنفوان ليواجه مجلس الأمن، ولا يعترف بشيء من قراراته، وليواجه الأمم المتحدة بصلفه وعناده، بينما يتحرك مجلس الأمن ـ بكلّ حرية ـ ليفرض حصاراً على (ليبيا) وحصاراً على (العراق) وآخر على (السودان)، وليفرض أكثر من حصار على أكثر من بلد عربي أو إسلامي، وذلك من أجل القضايا التي قد تتّصل بالحاكم كما في العراق، وقد تتصل ببعض القضايا الجزئية كما في ليبيا، أو تتصل بالواقع الإسلامي كما في السودان، أو يحاصر إيران بطريقة وبأخرى..

فالملاحظ أنّ العقوبات لم تُفرَض على (إسرائيل) منذ كان مجلس الأمن، ومنذ كانت (إسرائيل)، بل إنّ مجلس الأمن اعترف بوجود الكيان الصهيوني على أنقاض الشّعب الفلسطيني، وإذا أريد تقديم أيّ دعوى أو إصدار أيّ قرار في مجلس الأمن ضدّ الكيان الغاصب، فإنّ الولايات المتّحدة تقف لتمنع ذلك أو لتسجِّل نقضها "الفيتو" على هذا القرار أو ذاك، بينما نجد أنَّ المؤتمر الإسلامي لم يحرّك ساكناً، وهناك الكثير من الدّول الإسلاميّة الّتي تعترف بهذا الكيان اللّقيط وتطبّع علاقاتها به، فأيّ (منظمة إسلامية) هذه؟ إن القضية الفلسطينية تختصر تاريخ الخمسين سنة أو المئة سنة الماضية، إنها تختصر تاريخ سياسة المنطقة كلها، ولذا نجد (إسرائيل) تعتدي وتدمّر في فلسطين وفي جنوب لبنان، ولا تتحرّك أية دولة لتقدّم احتجاجاً على الأقل.

وهكذا نجد أن أمريكا تصرّح بأنّ أمن الكيان الصهيوني من أمنها، وأنها تلتزم (الأمن الإسرائيلي) بشكلٍ مطلقٍ ولو على حساب الأمن الفلسطيني والأمن العربي، بل إنها تصرّح بأنها تعمل على أن تبقى (إسرائيل) في تفوّق نوعي على الشّرق الأوسط كله، بحيث لو وقفت دول الشرق الأوسط كلها أمامها، لكانت قادرة على أن تواجهها بأحدث الأسلحة.

ومن هنا، فإن أمننا هو على هامش أمن الاستكبار العالمي، وسياستنا هي على هامش سياسة أمن الاستكبار العالمي، واقتصادنا عل هامش اقتصاده، مع العلم أننا نملك أكبر احتياطي للبترول في العالم في الدّول العربية والإسلامية، ولكن ماذا يملك العرب والمسلمون من هذا النّفط؟! إنهم يأخذون مالاً بيد ويدفعون أكثر منه باليد الأخرى، إنّ أرصدة النفط كلّها موجودة في البنوك الأمريكيّة التي تنمّي ثرواتها وتحفظ اقتصادها بالتلاعب بثرواتها وتحطيم اقتصادنا، بل راحوا يخلقون المشاكل بين بلد عربي وبلد عربي آخر، وبين بلد إسلامي وبلد إسلامي آخر، من أجل استنزافه اقتصادياً.

ولقد كانت دول الخليج من أكثر الدول غنًى وثراءً، وكانت تعمل على أن تساعد هذه الدولة أو تلك حسب الواقع السياسي، ولكنهم أدخلوا دول الخليج أولاً في الحرب العراقية ـ الإيرانية، وباعتبار أنها موّنت العراق آنذاك بالسّلاح وبالاقتصاد وبكل شيء، حتى قيل إنّ دول الخليج دفعت ما يقرب الـ(80) مليار دولاراً في الحرب العراقية الإيرانيّة، وزجّت كذلك في مسألة الكويت في حرب الخليج الثانية، وتحملت دول الخليج أو أكثر من دوله مسؤولية هذه الحرب، وتمويل الجيش الأمريكي وجيوش الحلفاء، حتى أصبحت دول الخليج الآن تعاني عجزاً في ميزانيّتها، بل أصبحت بعض دول الخليج النفطيّة تعمل على الاستقراض، ونحن نعرف أنّ دول الخليج لا تدفع المترتّب بذممها للمقاولين في المشاريع.

ثم خلقت مشاكل حدوديّة، فهناك مشكلة بين (البحرين) و(قطر)، ومشكلة بين (اليمن) و(السعودية)، ومشكلة عدّة كيلومترات في هذه الصحراء أو  عدّة كيلومترات في البحر، فما أشبه موقف المسلمين بقول رسول الله(ص) وهو ينظر إلى هذه الأيّام: "يوشك الأمم تداعى عليكم تداعي الأكلة على قصعتها". قالوا: مِن قلّة نحن يومئذٍ؟. قال: بل أنتم كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل"[3]، أي كالزّبد الطافي!

الاستغراق في الخلافات المذهبيَّة

هذا هو الواقع الإسلامي ـ أيها الأحبة ـ أمام الاستكبار العالمي، فإذا عشنا في داخل الواقع الإسلامي فماذا نرى؟ إننا نرى أن المسلمين مشغولون مع بعضهم البعض بالخلافات المذهبية، فهناك حرب بين السنّة والشيعة في أكثر من موقع من مواقع العالم الإسلامي، بحيث إننا قد نرى أنّ هناك تياراً للشيعة يفضّل المشركين على السنَّة، وأنّ هناك تياراً في السنّة يفضّل المشركين على الشيعة، على طريقة المشركين عندما قالوا عن اليهود: {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا}([4])، فالمشكلة التي يعيشها المسلمون في الخلاف السني الشيعي هي التي منعت المسلمين من أن يتوحدوا أو يتقاربوا في مواجهة التحديات الكبرى.

فهناك من الناس من لا يتحمّسون للقضية الفلسطينيّة لأنها قضيّة سنيّة، أو هناك من لا يتحمّس للقضية الإيرانية في حرب الاستكبار عليها لأنها قضية شيعية، وعندما يبتلى الشيعة في موقع من المواقع، فإن قسماً من السنّة يشمتون بهم، وعندما يبتلى السنّة في موقع من المواقع، فإن قسماً من الشيعة يشمتون بهم، حتى كدنا نفقد معنى الإسلام، والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}([5])، ويقول أيضاً: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}([6])، ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}([7]).

ففي الواقع الذي نعيشه، أصبح بعض الشيعة يكفّرون السنّة، وأصبح بعض السنّة يكفّرون الشّيعة، مع أنّنا لو درسنا القضايا التي يشترك فيها الشّيعة والسنّة، لرأينا أنها على الأقلّ 80%، فلو فحصنا القضايا الّتي بين السنّة والشّيعة، وقارنّاها مع القضايا التي بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، لرأينا أنّ التّقارب بين المسلمين أكبر، وهناك اليوم عمل من أجل توحيد المذاهب المسيحيّة، وحوارات كبرى بين (الفاتيكان) وروسيا، حيث البطريرك الأكبر الّذي يمثل رئيس الكنيسة الأرثوذكسية، ونحن لا نملك إلا شعارات في الهواء، حتى إن البعض منّا إذا طرح الوحدة الإسلاميّة، يتَّهم في أنه يدعو للوحدة الإسلاميّة.

ونجد كذلك الخلافات العرقية بين عربي وكردي، وتركي وكردي وفارسي، وما إلى ذلك، حتى إن المسلمين لا يشعرون بأنّ الإسلام يوحّدهم، بل إنهم يرون في عرقياتهم ما يوحّدهم، ونحن نقول إنّ الإسلام لا يتنكّر لهذا العرق أو ذاك، ولا لخصوصّيتك الكردية أو العربية أو الفارسية أو التركية، لأنّ خصوصيّتك العرقية كخصوصيتك الذاتيّة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ولكن الإسلام يقول لك كُن عربياً أو فارسياً أو تركياً، ولكن ليكن الإسلام هو المظلّة لكلّ هذه التنوّعات في داخلك {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}([8]).

وبلغ الأمر حدّاً أنّنا أصبحنا نعيش التمزّقات الداخليّة في داخل كلّ قوميّة أو مذهبيّة أو عرقيّة، لذلك أصبحنا مشغولين ببعضنا البعض.

واقعنا على ضوء القرآن

أليس هذا هو الواقع الإسلامي أيّها الأخوة؟ والقرآن يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}([9])، والله يريد منا إذا تنازعنا في شيء أن نردَّه إليه وإلى رسوله، وأراد لنا فيما نختلف ونتَّفق فيه مع أهل الكتاب، أن ندعو إلى كلمة سواء، مع ما بيننا وبينهم من فواصل وفروق، فلقد {وقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله}([10])، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله}([11])، و{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}([12])، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}([13])، ومع هذه الخلافات، يقول القرآن: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله}([14])، لنلتقي على التوحيد. وكم هناك من فرق بين فهمنا للتّوحيد وفهم أهل الكتاب للتوحيد! ولكن مع ذلك، دعانا إلى أن نجمِّد اختلافاتنا في التفاصيل، لنقف عند الكلمة السواء في الخطّ الواحد.

وعندما أرادنا أن نجادل أهل الكتاب، قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}([15])، ألا نستطيع أن نقول لبعضنا البعض مثل هذا القول أو لا؟ فنحن نسمع بعض السنّة يقولون إنّ ربّ الشيعة هو غير ربّ السنّة، فربّهم مجسّم وربّ الشيعة غير مجسّم، وإنّ نبيّ السنّة هو غير نبيّ الشّيعة، فهمُّ بعض النّاس هو التركيز على الفواصل، بينما يريدنا القرآن أن نركّز على الخطوط العامّة، لأنّك إذا التقيت مع الآخر في الخطّ العام، أمكنك أن تتحاور معه من موقع اللّقاء لا من موقع الفراق، فالخطّ العامّ يعطيك روحيّة أنّ هناك أرضيّة مشتركة بينك وبين الآخر.

مسؤوليّتنا في ذكرى المبعث

أيّها الأحبّة، يجب أن لا نكتفي في ذكرى المبعث النبويّ الشّريف بأن نقيم الحفلات والمهرجانات والزّينات، بل لا بدّ من أن تدفعنا الذكرى إلى أن نتصوّر مسؤوليّتنا عن الإسلام والمسلمين، والخطورة في هذا، أن الإنسان الذي يعيش اللامبالاة تجاه قضايا الإسلام والمسلمين وهمومهم، ليس بمسلم، بشهادة رسول الله(ص): "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"[16]، و"من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"[17]. ويقول(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى"[18].

ومعنى ذلك، أن الإسلام ليس مجرّد مسألة تعيش في داخل ذاتك، بل هو خطّ يتحرك في نطاق مسؤوليّتك عن الآخر، فالمطلوب منك أن تفكّر وأنت تستمع إلى المذياع وتشاهد التلفاز وتقرأ الصحيفة، بكلّ قضايا المسلمين في العالم، وأن تفكّر في كيفية تقديم شيء للإسلام والمسلمين من وقتك وطاقتك وفكرك، وأن لا تكون محايداً، كالإنسان الّذي يقف ليقول كما ورد عن الإمام الكاظم(ع): "أبلغ خيراً وقُل خيراً ولا تكن إمَّعة"، قالوا: وما الإمَّعة؟ قال: "لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النّاس"، أي لا رأي له ولا موقف، فأنا أنتظر ما تقوله العائلة أو أهل البلد أو الناس الآخرون، فالإمام(ع) يقول: "إنّ رسول الله(ص) قال: إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"[19]، وهذا يعني أن تركِّز موقفك، ويكون لك رأي فيما يطرح عليك، لأنّ مشكلة الكثيرين أنهم يجلسون على التلّ، فيخذلون الحقّ ولا ينصرون الباطل. وقد تكلّم الإمام عليّ(ع) بطريقة سلبيّة عن هؤلاء، وقد بيّنّا أنّك عندما تسحب قوّتك من السّاحة، فإنك تكون قد أعطيت العدوّ قوة سلبية، لأنك عندما تمنع قوة إيجابية في الحقّ، فإنك ستقوّي بذلك شوكة الباطل ضدّ الحق، لأن جنود الحق لا يقفون معك، فمن يخذل الحقّ ينصر الباطل بشكل سلبيّ، وإن لم ينصره بشكل إيجابي.

مشكلة الحياديَّة

ولعلَّ مشكلتنا في العالم الإسلامي هي في الحياديّين الّذين لا يقفون مع الحقّ ولا مع الباطل، وهم الّذين شاركوا في هزيمة الحقّ في كثير من معاركه، لأنهم حيّدوا أنفسهم عن معارك الحقّ، ولعلّ الكثيرين منا كذلك الرّجل في معركة صفين، الذي كان إذا جاء وقت الصلاة، وقف ليصلّي خلف علي(ع)، وإذا حضر وقت الطعام، هرع ليأكل مع معاوية، وإذا اشتدّت الحرب صعد إلى التلّ، وكان يقول أو يُقال عنه: "الصلاة خلف عليّ أقوَم، وطعام معاوية أدسَم، والقعود على هذا التلّ أسلم"[20].

فكم منا من يعتبر الصّلاة مجرد حالة ذاتية خاصة لا علاقة لها بالحياة ولا بالصراع ولا بالالتزام العملي في خطّ الله وفي حركة الواقع، وإذا جاء وقت المنافع، فكم من معاوية يُهرع إليه المصلّون والحجّاج والزائرون، وعندما تنطلق المعارك، وما أكثرها في هذه الأيام! فإنّ الّذين يجلسون على التلّ قد يبلغون الـ90%، وفي الـ10% كثير من المتردّدين، ونحن حتى إذا شاركنا في المعركة، فإنّنا نخذل بعضنا بعضاً حتى ونحن في داخل المعركة، والله يقول: {إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}([21]).

مقارنة بين اليهود والمسلمين

فانظروا إلى الكيان الصهيوني، لتروا كم يمثّل اليهود في العالم، إنّهم لا يزيدون ـ حسب الإحصائيّات ـ على (20) مليوناً، وإذا تحدّثنا عن العرب، فإنهم يمثّلون ـ بلا حسد ـ (250) مليون عربيّ أو أكثر، وخصوصاً أنّ تناسل العرب كثير.. وإذا أردنا أن نتحدّث عن المسلمين، فهناك مليار ونصف المليار مسلم أو أكثر، فلماذا تغلّب هؤلاء على قلّتهم؟ لأنهم انطلقوا في العالم كلّه ليكونوا في معركة فلسطين ضدّ العرب، فما من يهوديّ في العالم، سواء كان تاجراً أو صاحب موقع إعلامي أو اقتصادي أو سياسي، إلا ويوظّف موقعه كله لمصلحة (إسرائيل)، ونحن نملك الكثير من العرب والمسلمين الذين يوظّفون مواقعهم السياسية والاقتصادية والأمنية لمصلحة (إسرائيل) أو لمصلحة الاستكبار العالمي، ولا نجد من يوظّف موقعه لمصلحة القضية الفلسطينية أو الإسلامية أو العربية.

إنّ الكثيرين منا يقولون كما قال ذلك الشّاعر اللّبناني المهجري:

ما علينا إن قضى الشّعب         جميعاً أفلسنا في أمان؟

أو كما تقول الصّلاة المسيحيّة: "اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشّرّير".

إنّ هناك مشكلة صعبة وقاسية وخطيرة على المستويات كلّها في الواقع الإسلامي سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ولا بدّ لنا من أن نواجه ذلك بالمسؤوليّة، لأنّ الله سوف يسألنا عن ذلك، لأنه يريد للمسلمين أن يقفوا صفّاً واحداً في مواجهة التحدّيات.

أيّها الأحبّة، لنجمّد كثيراً من تفاصيل خلافاتنا، فإنّ إثارتها، سواء كانت خلافات قوميّة أو عرقيّة أو مذهبيّة أو حزبيّة أو سياسيّة، في هذه الظروف الصّعبة خيانة للإسلام وللمسلمين، وأنا أتحمّل مسؤوليّتي عن هذه الكلمة.

إنّ اليهود بأسهم بينهم شديد حتى الآن، ولكنّهم يتوحّدون ضدنا ويتوزعون الأدوار، ولقد لاحظنا في آخر مجلس نيابي صهيوني، أنّ (حزب العمل) و(حزب الليكود) في أكثريّة هنا وأكثريّة هناك، صوّتوا على مشروع واحد، فهما وجهان لعملة واحدة، ولكنّ بعضنا يحاول أن يخذل البعض الآخر.

أيّها الأحبّة، كانت صورتنا في عهد رسول الله(ص) كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}([22])، أمّا بالنّسبة إلى اليهود، فكانت صورتهم آنذاك كما جاء في قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}([23])، فلذلك انتصرنا على اليهود، لأنّنا كنّا في هذا الموقع وكانوا في ذاك الموقع، وعندما تبدّلت الأجواء، أصبحنا أشدّاء على بعضنا رحماء على العدوّ، ليس لدينا أيّ انفتاح على الله، نبتغي فضلاً من أمريكا ورضواناً، ولا نبتغي فضلاً من الله ورضواناً، بأسنا بيننا شديد، تحسبنا جميعاً وقلوبنا شتّى، أمّا اليهود فهم أشدّاء علينا رحماء بينهم.

العودة إلى الصّورة المشرقة

أيها الأحبة، لنرجع إلى تلك الصورة التي كانت هناك وسننتصر، فإنّ قضايا الشعوب لا تُحلّ بالسنة والسنتين، إنها تحلّ على مستوى الأجيال: "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً"([24])، فما رأيكم أن نجعل من ذكرى المبعث النبوي الشّريف انطلاقة جديدة نلتقي فيها على القضايا المشتركة، ونتحاور بمحبة في القضايا التي نختلف فيها، وأن نخلص لله ولرسوله، وأن ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل بالّتي هي أحسن، وأن ندفع بالّتي هي أحسن، حتى نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء، ولننطلق للتخلّص من هذا التخلّف كلّه والحقد والعداوة الّتي ننتجها بين يوم ويوم.

ولقد كان المسلمون مع رسول الله(ص)، فيما عدا المنافقين، ينتجون المحبة فيما بينهم، أما نحن، فننتج الحقد والضغينة في نفوسنا، ألا ترون ذلك، فأين هي المحبّة: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، وقد قال الإمام الصّادق(ع): "وهل الدّين إلا الحبّ"([25])، فلننتج المحبّة، فهي تغني عقولنا وقلوبنا وواقعنا، وتجعلنا نتحرّك في خطّ النّصر، ولنتقرّب إلى الله أكثر، فلعلَّنا نتقرّب من رضاه أكثر {ورضوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ}([26]).

أيّها الأحبّة، تعالوا نتوحَّد في الله وبرسوله وبأوليائه، حتى نجد الطّريق إلى الهدف الكبير، وذلك هو درس المبعث؛ أن يعود الإسلام فينا ديناً وحركةً ودعوةً وقوّةً وموقفاً وصلابةً، فلنبدأ الخطوة الأولى، وإن كان الطريق طويلاً.

والحمد لله ربّ العالمين.

المحاضرة السادسة والعشرون: 2 شعبان 1419هـ/ الموافق: 21 - 11 - 1998م


[1] قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله(ص) امرأة أبي العاص بن الرّبيع، فأسلمت ولحقت بالنبي(ص) بالمدينة، وأقام أبو العاص مشركاً في مكة، ثم أتى المدينة فآمنته زينب، ثم أسلم فردّها عليه رسول الله(ص). البحار، ج:2، باب:20، ص:339. (المعدّ)

[2] سورة النحل، الآية:106.

[3] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج1، ص110.

[4] سورة النساء، الآية:51

[5] سورة النساء، الآية:59.

[6] سورة آل عمران، الآية:103.

[7] سورة الحجرات، الآية:10.

[8] سورة الحجرات، الآية:13.

[9] سورة آل عمران، الآية:103.

[10] سورة التوبة، الآية: 30.

[11] سورة التوبة، الآية: 30.

[12] سورة المائدة، الآية:73.

[13] سورة المائدة، الآية:17.

[14] سورة آل عمران، الآية:64.

[15] سورة العنكبوت، الآية:46.

[16] الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 164.

[17] الوافي، الفيض الكاشاني، ج15، ص196.

[18] ميزان الحكمة، ج4، ص2837.

[19] ميزان الحكمة، ج4، ص3402.

[20] السّيرة الحلبيّة، ج3، ص367.

[21] سورة الصف،الآية:4.

[22] سورة الفتح، الآية:29.

[23] سورة الحشر، الآية:14.

[24] البحار، ج:44، باب:22، رواية:6، ص:139.

[25] البحار، ج:27، باب:4، رواية:57، ص:95.

[26] سورة التوبة، الآية:72.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية