مع الرّسول(ص) والصّادق(ع).. توجيهات ووصايا

مع الرّسول(ص) والصّادق(ع).. توجيهات ووصايا

في السّابع عشر من شهر ربيع الأوّل، التقى مولد النبوّة في مولد النبيّ محمّد(ص)، ومولد الإمامة في مولد الإمام جعفر الصّادق(ع). وعندما نتذكَّر التأريخ، فإنَّنا لا نريد أن نستغرق فيه لننسى حاضرنا، بل نريد للتأريخ الذي يبقى مضمونه في حيويته كلّها، أن يعيش معنا، لأنَّه لن يبقى تأريخاً، بل سيتحوَّل إلى حركة حياة، يتجاوز فيها الماضي لينفتح على الحاضر والمستقبل، وهذا هو نهج القرآن في قصص التّأريخ كلّها.

فالله تعالى عندما يقدّم لنا القصص في القرآن، يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[1]، فدعوة القرآن هي أن نأخذ من القصص الدَّرس والعبرة، وأن لا نستغرق فيها. أمّا مسؤوليّتنا، فهي أن نعيش عصرنا في قضاياه كلّها ومفاهيمه كلّها، وأن نعمل على أن نحرّك الإبداع فيما نرويه، لنبدع في فهمه، وفيما ننتجه، لنبدع في حركته.

ذكرى النبوَّة والإمامة

ولهذا، فإنَّ ذكرى النّبيّ(ص) هي ذكرى النبوَّة في حركتها في الزَّمن، وحركتها هي حركة الرّسالة الّتي أراد الله لها أن تكون في حجم الحياة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[2]، الآن، وغداً، وبعد غد، لأنَّه يحمل في طبيعته سرَّ الحياة المتجدِّدة.

ومثل ذلك، يقال عندما نثير ذكرى الإمام(ع)، فنحن بذلك نثير حركة الإمامة الّتي انطلقت من أجل أن تعطي المضمون الرّساليّ الّذي حمله الرّسول(ص) حركته وتجدّده وصفاءه، وأن تحميه من كلّ تحريفٍ وانحراف.

ومن هنا، فإنَّنا عندما نستذكر الشَّخص العظيم هنا، والشَّخص العظيم هناك، فإنّنا لا نستذكر الذّات من حيث الذّات، وإن كانت ذات الرّسول(ص) تمثّل تجسيد الرّسالة، وذات الإمام(ع) تمثّل التَّجسيد لخطّ الإمامة، لكنَّنا فيما يبقى لنا من الحياة، نتحرك مع الرّسالة في دور النبوّة، ومع الرّسالة في دور الإمامة.

محاصرة خطِّ الإمامة

وقد نطلّ على تأريخ الإمامة في إمامة أهل البيت(ع)، لنرى أنَّ دور الإمام، كما نفهمه، هو أن يعطي الناس الرسالة بكلّ حجمها وامتدادها وعمقها في القضايا كلّها، ولكنَّ المشكلة الَّتي عاشها الأئمّة من أهل البيت(ع)، تتمثّل بالحصار؛ الحصار السياسيّ والثقافيّ، بل والجسديّ أيضاً، كما هو ظاهر في حركة كلّ إمام، ما قلّص المساحة التي يتحرك فيها، بفعل ما وضعوا له من حواجز، وما بنوا من أسوار، وقد لا نجد في تراث الكثيرين منهم هذه السّعة والشّموليَّة، بالمعنى الَّذي ينفتح فيه الإمام(ع) على عصره كلّه. ولكنَّنا رأينا بعد الإمامين الحسنين(ع)، اللّذين كانا يعيشان ظروفاً صعبة معقّدة شملت المساحة الزمنيَّة الَّتي عاشاها، أنّ الإمام عليّ بن الحسين(ع) قد استطاع أن يعطي شيئاً كبيراً. وقد أشرنا في أكثر من حديث، إلى أنَّ ما يتحدَّث به الناس من أنَّ تراث الإمام زين العابدين(ع) هو تراث الدّعاء، ليس دقيقاً.

شخصيّة الإمام الحواريّة

فالإمام(ع) شارك في أكثر مفاصل الثقافة الإسلاميَّة في ذلك الوقت. لقد تحدَّث في العقيدة والشَّريعة والأخلاق، وفي كثيرٍ مما كان يدور بين الناس من قضايا ومنازعات وغير ذلك. حتى إذا جاءت مرحلة الإمام الباقر(ع) والصّادق(ع)، انفتحت السّاحة انفتاحاً كبيراً. ولذلك، فإنّنا عندما نقرأ سيرة الإمامين(ع)، فإنَّنا نجد أنّ هناك مشاركة في كلّ ما كان يثار في الواقع الإسلامي من قضايا في الفلسفة والكلام والفقه والأخلاقيات، مما لا تجد موضوعاً من الموضوعات التي تطرح في السّاحة الإنسانيّة الإسلاميّة، إلا وتجد معه كلمةً لهذا الإمام أو ذاك، ولا سيَّما بالنّسبة إلى الإمام جعفر الصّادق(ع)، الَّذي كانت مدرسته مفتوحةً على التّيارات والمذاهب الإسلاميَّة، بحيث لا نجد هناك أيَّ مسلم، سواء كان في درجة العلماء أو الرّواة، يحمل أية عقدة بالنّسبة إلى الإمام الصَّادق(ع)، لأنّه كان الإنسان المنفتح على عصره كلّه.

وعندما نتابع آثاره، نجد أنَّه لم يعش أيَّ حاجز إزاء أيّ شخص، سواء اختلف معه أو اتّفق. وليس هذا بغريب، طالما أنّه كان إمام الفكر الإسلاميّ والخطّ الإسلاميّ، الَّذي لم يقدّم وهو يحاور الآخرين، أيَّ تنازلٍ عن أيّ شيءٍ في الإسلام، لكنّه في شخصيّته الحواريّة، كان يفتح قلبه حتى للملحدين والزّنادقة، وكان لا يعنف، مهما كان أسلوب الطّرف المقابل هجوميّاً وعنيفاً، وكان الهادئ في أسلوبه الإنسانيّ المنفتح، لأنَّه كان الهادئ في عقله، وهذه مسألة يجب أن نعرفها جميعاً، وهي أنَّك كلّما كنت قويّاً في حجّتك، كنت هادئاً في حوارك، فالَّذين يعنفون ويشتمون، ويتحدَّثون بالكلمات اللامسؤولة، هم الَّذين يعيشون الهزيمة النفسيَّة، حتى أمام فكرهم، لأنَّك إذا أردت أن يحترمك الآخر، فعليك أن تحترمه.

لقد كان الإمام الصَّادق(ع) وهو يرى أنَّ الإسلام هو خطّ الله الوحيد في الحياة، لا يلغي الآخر، كما أنَّ القرآن لم يلغِ الآخر، حيث اعترف بعدّة وجودات: فلقد حاور الملحدين، لأنَّهم موجودون في السَّاحة، ولم يكن ذلك اعترافاً بشرعيّتهم، بل بوجودهم. واعترف أيضاً بالمشركين لأنهم موجودون، وهكذا بأهل الكتاب. ولهذا، فإنّك عندما تعترف بوجود الآخر، لا بدَّ لك من أن تخطّط لكيفيّة التعامل معه، لأنَّ إلغاءك له لن يلغي وجوده. وهذا ما فعله الإمام الصَّادق(ع)، الَّذي حاور الجميع، وربما يتوهَّم بعض الناس أنَّ الإنسان لا بدَّ من أن يواجه التيارات المضادّة بالعنف والقسوة والشَّتيمة دائماً، ولكنَّ هذه النّظرة غير قرآنيّة، لأنَّ الله تعالى قال لنا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[3]، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[4]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[5]، لذلك، فإنَّ الّذين يشتمون، ويعنفون، ويكفّرون، ويضلّلون، حتى في الدائرة الإسلاميّة، ليسوا إسلاميّين، لا في الخطّ، ولا في المنهج، وإن كانوا يصومون ويصلّون.

ولقد كانت المساحة السياسيّة الَّتي عاش الإمام الصَّادق(ع) فيها، تكفل له أن يمارس حريّته الكاملة، لأنَّ الحكّام كانوا يعيشون في مرحلة انتقال الخلافة من الأمويّين إلى العباسيّين، فكانوا مشغولين عن الإمام وعن خطّ الإمامة. ولذا، فإنّه أعطى عطاءً لا يملك الإنسان أن يحصيه، حتى إنَّ (جابر بن حيّان)، ينقل عنه أنّ الإمام(ع) الّذي ألهمه علم الكيمياء، وكان يتحدَّث في رسائله الَّتي كان الغرب إلى وقتٍ قريبٍ يقرأها ويدرسها، ويقول: "حدّثني سيّدي جعفر"، أو "أملى عليّ سيّدي جعفر".

وفي مولد الصَّادق(ع)، نريد أن نعيش رسول الله(ص)، فقد كان حديثه كلّه هو حديث رسول الله، ولقد أُثر عنه قوله: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله"[6]. وكان عندما يتحدَّث عن رسول الله(ص)، لا يأتي بالعنعنة الروائيّة، بل يقول: "قال رسول الله"، لأنّه يلتقي به من أقرب موقع ووسيلة.

من ثمار البستان النبويّ الإماميّ

وكما ذكرنا، فإننا نتذكَّر الرسالة بالرسول، والإمامة بالإمام، لذلك، تعالوا إلى هذا البستان النبوّي ـ الإماميّ المزهر المثمر، لنستمع إلى بعض كلمات الرّسول(ص)، من خلال الإمام، في القضايا التي تتصل ببعض حياتنا الأخلاقيّة، وما نحتاجه في الواقع. ولنسأل أوّلاً: كيف يمارس الإنسان الدّين؟ هل يملأ وقته كلّه بالصَّلاة، وعمره بالصّوم وبالحجّ؟ وهل يجهد نفسه بالعبادة، حتى يستنفد طاقته كلّها، بحيث تتحوّل المسألة عنده بعد ذلك إلى ردّ فعل سلبيّ على العبادة؟ أو أنَّ المسألة ـ إسلاميّاً ـ ليست كذلك؟! فهي أن تعبد الله تعالى، وأن تأخذ الدّين من الموقع السّهل الّذي لا تطبق فيه على نفسك، ولا تقهر فيه على طاقتك، بل تأخذ منه يسره، ليمكن لك أن تحبّ عبادة الله، وليمكن لجسدك أن يبقى معك في طاقته، لتواصل حياتك.

فليس الالتزام بالعبادة اختناقاً، وليس قهراً، بل هو رفق ولين ويسر. وفي هذا المجال، لنستمع إلى رسول الله(ص) في هذا الحديث، فعن أبي عبد الله(ع): "قال رسول الله(ص): يا عليّ، إنَّ هذا الدّين متين"، أي صلب ومتماسك، "فأوغل فيه برفق"، فإذا أردت أن تدخل فيه، فادخل فيه برفق، لأنّك إذا دخلت في الشّيء الصّلب بقوّة، فإنّك سوف تكسره أو يكسرك، أمّا إذا حاولت أن تدخل فيه بيسر، فإنّك تستطيع أن تخضع جسدك لصلابته. "ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك"، لأنّك إذا قهرت نفسك وأجهدتها، وللنفس طاقة محدودة، فربما تتمرّد عليك في نهاية المطاف، وترفض العبادة بعد ذلك، لأنَّ الله تعالى يريد للإنسان أن يعبده من خلال جهد إنسانيّته، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[7].

ويمضي الحديث بالقول: "إنّ المنبت"، أي المفرط الَّذي يفرّط في طاقته، "لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع"، وهو مثل يضرب للّذي يركب دابّة ويسير بها ليلاً ونهاراً، فتسقط في منتصف الطَّريق، فلا هو أبقى على دابّته، ولا هو أيضاً قطع الطَّريق، وهكذا الإنسان إذا أجهد نفسه بما يقهر طاقته ويستنفدها، فلن يستطيع الاستمرار في العبادة.

"فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً"، أي أنَّك عندما تعمل، لا تتصوَّر أنّك ستموت غداً، بل اعمل عمل من يرجو طول الأمل، حتى تعيش روحانيَّة العبادة ويسرها ومعناها. "واحذر حذر من يتخوَّف أن يموت غداً"[8]، فإذا دعتك نفسك إلى ما يمكن أن يضلّك، أو ينحرف بك عن الطّريق، فعليك أن تكون حذراً. وهذه هي الفكرة نفسها الَّتي طرحها الإمام عليّ(ع) في الرّواية المشهورة: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً"، فإذا كانت لديك مشاريع، فلا تفكّر في الموت غداً، بل تصوّر أنّك لن تموت حتى تستكمل مشاريعك، "واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"[9]، وعندما تفكّر في المسؤوليَّة فيما تقوم به، تصوّر أنك ستموت غداً، حتى تعدّ العدّة جيّداً لملاقاة الله سبحانه.

الصّبر على الفقر والظّلم

وعن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلاّ بالقتلوالتجبّر". أي أنَّ المسؤولين في ذلك الزمان، لا ينطلقون من موقع تأييد النّاس بكلّ محبّة وعفويّة، ولكن من خلال الاعتماد على القوّة القاهرة المسلّحة، كما نعرفه في هذه الأيام، الّتي يوظّف فيها المستكبرون من خلال قوّتهم السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، الكثيرين ممن يتوّلون أمور الأمّة، ليحرسوا مصالحهم. وهذه هي مشكلة العالم الإسلاميّ، وهي أنَّ هناك حرّاساً يحرسون مصالح المستكبرين، ولا يحرسون مصالح المستضعفين. "ولا الغنى إلا بالغصب والبخل"، وهذا ما نعيشه أيضاً، حيث نرى أنَّ الكثير من الناس يتحركون بالإثراء غير المشروع، وبالبخل عمّا فرض الله عليهم من حقوق، "ولا المحبّة إلا باستخراج الدّين واتّباع الهوى"، فالبعض من الناس يحاول الحصول على محبّة الآخرين، من جهة تقديم تنازلات دينيّة لحسابهم، أو يتحرك من خلال أهواء الناس وأهوائه، ليرضوا عنه. "فمن أدرك ذلك الزمان، فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى"، حيث الغنى يكون في قبضة المستكبرين، فهم يعطونه من أموالهم، ليعطيهم هو من مواقفه، ويكون الجاه في قبضة أعداء الله، فهم يمنحونه شيئاً منه، ليمنحهم تنازلات من دينه، فعليه في هذه الحال أن يصبر على الفقر، وهو يقدر على الغنى، لأنّ عليه أن يقف مع مبادئه ودينه، ولا يبيع دينه بدنيا غيره. "وصبر على البغضة، وهو يقدر على المحبَّة"، فإذا أراد الناس منك أن تقدِّم التنازلات من دينك ليحبّوك، فعليك أن تعرف أنّ محبّة الله لك أعظم من محبّة الناس لك الآن: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ}[10]. وحسبنا بذلك كلمة رسول الله(ص): "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي"[11]. ووصي محمّد(ص) عليّ(ع) يقول هو الآخر: "ما ترك لي الحقّ صديقاً"[12]. ويقول(ع): "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين"[13].

وعوداً إلى الحديث، يقول الرّسول(ص) لاحقاً: "وصبر على الذلّ"، وهو هنا الضّعف، "وهو يقدر على العزّ"، والمراد العزّ الظّاهري، لأنَّ الإنسان الَّذي لا يبيع دينه، ولا يعطي بيده إعطاء الذّليل، حتى لو استضعف، ولا يقرّ إقرار العبيد، هو العزيز في نفسه، وإن كان ذليلاً عند النّاس، فإذا فعل ذلك، "آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّق بي"[14]، ولكن دون ذلك خرق القتاد، فليس سهلاً أن يأخذ الإنسان بذلك كلّه، ولكنّه ليس مستحيلاً.

شذرات أخلاقيّة

وفي الختام، نتناول بعض توجيهات الإمام(ع) في المجال الأخلاقيّ، قال رسول الله(ص) في رواية الصّادق(ع): "أفضلكم أحسنكم أخلاقاً"، أي الذي يتميَّز بالأخلاق كأفضل ما تكون، "الموطأون أكنافاً"، أي الَّذين لا يستعلون على النّاس، وهم المتواضعون الّذين يخفضون جناح الذلّ من الرّحمة لإخوانهم، "الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم"[15]، أي تنزل منازلهم للضّيافة، أو لطلب الحاجة، فيرحّبون بضيوفهم وقاصديهم بالخلق والبشاشة، بحيث يشعرون بأنهم أصحاب البيوت، لا ضيوفها.

وعن أبي عبد الله(ع) قال، قال رسول الله(ص): "يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر"[16].

ونختم هذه الباقة من الأحاديث الشريفة بقول الرسول(ص) المروي عن الإمام الصّادق(ع): "قال رسول الله(ص) لرجل أتاه: ألا أدلّك على أمر يدخلك الله به الجنّة!"، ومن منّا لا يشتهي ذلك؟! "قال: بلى يا رسول الله، قال: أنل مما أنالك الله"، أي أعطِ مما أعطاك الله، فإذا كان لديك مال، فأعط النّاس من مالك، ممن يحتاج إلى هذا المال. "قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟"، أي لا مال لي، فهل تغلق عني أبواب الجنّة؟ "قال: فانصر المظلوم"، فإن لم يكن لك مال، فقد تكون لديك القوّة، سواء قوّة جاه، أو قوّة عضلات، أو قوّة سلاح. "قال: فإن كنت أضعف ممن أنصره؟ قال: فاصنع للأخرق"، يعني أشر عليه، أي الأحمق الّذي لا يستطيع أن يتعرَّف طبيعة الأمور، ولا يقدر أن يدبّر نفسه، أي أشر عليه، وقدّم له النّصح والتّعليم والخبرة. "قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له؟ قال: فاصمت لسانك إلا من خير"، أي اعقله وألجمه إذا دعاك إلى الشرّ، واجعله ناطقاً إذا دعاك إلى الخير. "أما يسرّك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال، تجرّك إلى الجنّة؟!"[17].

وفي ضوء هذا ـ أيّها الأحبّة ـ فباب الجنّة مفتوح، والطّرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، ونحن في مرحلة هدنة، فعلينا أن نجلس لنتأمّل ونفكّر، وندرس الأمور بوعي وعمق، فالحياة تسير بنا، "واعلم أنَّ من كانت مطيّته اللّيل والنّهار، فإنّه يسار به، وإن كان لا يسير"[18].

فنحن نأكل عمرنا في كلّ يوم، وقد بقي لكلّ منّا بقيّة من عمر، وإنّنا مسؤولون ـ في غضون ذلك ـ عن الإسلام، وعن الخطّ الأصيل فيه، وعن أن نفهم الإسلام، ونعمل به، وندعو له، ومسؤولون عن المسلمين، أن نعيش الاهتمام بكلّ أمورهم، وأن نعاونهم ونساعدهم فيما هم فيه.

إنَّ علينا أن نكون في حجم الأمّة القويّة، من أجل أن نجمع هذه الأعداد الكثيرة، حتى نستطيع أن نكون كما كان رسول الله(ص): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}[19]. وليكن طموحنا أن نؤسلم العالم، والعالم مفتوح للإسلام، بشرط أن تكون عقولنا مفتوحة للإسلام، وأن لا تحمل التخلّف والخرافة، أو تتحرك على أساس أن تجمّد تفكيرها، وأن لا نكون مع الذين يصادرون الفكر، ويقمعون حرية الإنسان الذي يفكّر، بل علينا أن ننفتح على الله، وأن تكون لنا آذان نسمع بها، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[20]، وأن تكون لنا عيون نبصر بها، وعقول نفكّر بها، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[21].

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 111].

[2]  [الأنفال: 24].

[3]  [النحل: 125].

[4]  [العنكبوت: 46].

[5]  [فصلت: 24].

[6]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 53.

[7]  [البقرة: 286].

[8]  الكافي، ج 2، ص 87.

[9]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 17، ص 77.

[10]  [النحل: 96].

[11]  بحار الأنوار، ج 19، ص 23.

[12]  الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج 4، ص 236.

[13]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 93.

[14]  الكافي، ج 2، ص 91.

[15]  وسائل الشيعة، ج 12، ص 158.

[16]  الكافي، ج 2، ص 103.

[17]  بحار الأنوار، ج 68، ص 296.

[18]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 78.

[19]  [سبأ: 28].

[20]  [الزمر: 18].

[21]  [الإسراء: 36].


في السّابع عشر من شهر ربيع الأوّل، التقى مولد النبوّة في مولد النبيّ محمّد(ص)، ومولد الإمامة في مولد الإمام جعفر الصّادق(ع). وعندما نتذكَّر التأريخ، فإنَّنا لا نريد أن نستغرق فيه لننسى حاضرنا، بل نريد للتأريخ الذي يبقى مضمونه في حيويته كلّها، أن يعيش معنا، لأنَّه لن يبقى تأريخاً، بل سيتحوَّل إلى حركة حياة، يتجاوز فيها الماضي لينفتح على الحاضر والمستقبل، وهذا هو نهج القرآن في قصص التّأريخ كلّها.

فالله تعالى عندما يقدّم لنا القصص في القرآن، يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[1]، فدعوة القرآن هي أن نأخذ من القصص الدَّرس والعبرة، وأن لا نستغرق فيها. أمّا مسؤوليّتنا، فهي أن نعيش عصرنا في قضاياه كلّها ومفاهيمه كلّها، وأن نعمل على أن نحرّك الإبداع فيما نرويه، لنبدع في فهمه، وفيما ننتجه، لنبدع في حركته.

ذكرى النبوَّة والإمامة

ولهذا، فإنَّ ذكرى النّبيّ(ص) هي ذكرى النبوَّة في حركتها في الزَّمن، وحركتها هي حركة الرّسالة الّتي أراد الله لها أن تكون في حجم الحياة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[2]، الآن، وغداً، وبعد غد، لأنَّه يحمل في طبيعته سرَّ الحياة المتجدِّدة.

ومثل ذلك، يقال عندما نثير ذكرى الإمام(ع)، فنحن بذلك نثير حركة الإمامة الّتي انطلقت من أجل أن تعطي المضمون الرّساليّ الّذي حمله الرّسول(ص) حركته وتجدّده وصفاءه، وأن تحميه من كلّ تحريفٍ وانحراف.

ومن هنا، فإنَّنا عندما نستذكر الشَّخص العظيم هنا، والشَّخص العظيم هناك، فإنّنا لا نستذكر الذّات من حيث الذّات، وإن كانت ذات الرّسول(ص) تمثّل تجسيد الرّسالة، وذات الإمام(ع) تمثّل التَّجسيد لخطّ الإمامة، لكنَّنا فيما يبقى لنا من الحياة، نتحرك مع الرّسالة في دور النبوّة، ومع الرّسالة في دور الإمامة.

محاصرة خطِّ الإمامة

وقد نطلّ على تأريخ الإمامة في إمامة أهل البيت(ع)، لنرى أنَّ دور الإمام، كما نفهمه، هو أن يعطي الناس الرسالة بكلّ حجمها وامتدادها وعمقها في القضايا كلّها، ولكنَّ المشكلة الَّتي عاشها الأئمّة من أهل البيت(ع)، تتمثّل بالحصار؛ الحصار السياسيّ والثقافيّ، بل والجسديّ أيضاً، كما هو ظاهر في حركة كلّ إمام، ما قلّص المساحة التي يتحرك فيها، بفعل ما وضعوا له من حواجز، وما بنوا من أسوار، وقد لا نجد في تراث الكثيرين منهم هذه السّعة والشّموليَّة، بالمعنى الَّذي ينفتح فيه الإمام(ع) على عصره كلّه. ولكنَّنا رأينا بعد الإمامين الحسنين(ع)، اللّذين كانا يعيشان ظروفاً صعبة معقّدة شملت المساحة الزمنيَّة الَّتي عاشاها، أنّ الإمام عليّ بن الحسين(ع) قد استطاع أن يعطي شيئاً كبيراً. وقد أشرنا في أكثر من حديث، إلى أنَّ ما يتحدَّث به الناس من أنَّ تراث الإمام زين العابدين(ع) هو تراث الدّعاء، ليس دقيقاً.

شخصيّة الإمام الحواريّة

فالإمام(ع) شارك في أكثر مفاصل الثقافة الإسلاميَّة في ذلك الوقت. لقد تحدَّث في العقيدة والشَّريعة والأخلاق، وفي كثيرٍ مما كان يدور بين الناس من قضايا ومنازعات وغير ذلك. حتى إذا جاءت مرحلة الإمام الباقر(ع) والصّادق(ع)، انفتحت السّاحة انفتاحاً كبيراً. ولذلك، فإنّنا عندما نقرأ سيرة الإمامين(ع)، فإنَّنا نجد أنّ هناك مشاركة في كلّ ما كان يثار في الواقع الإسلامي من قضايا في الفلسفة والكلام والفقه والأخلاقيات، مما لا تجد موضوعاً من الموضوعات التي تطرح في السّاحة الإنسانيّة الإسلاميّة، إلا وتجد معه كلمةً لهذا الإمام أو ذاك، ولا سيَّما بالنّسبة إلى الإمام جعفر الصّادق(ع)، الَّذي كانت مدرسته مفتوحةً على التّيارات والمذاهب الإسلاميَّة، بحيث لا نجد هناك أيَّ مسلم، سواء كان في درجة العلماء أو الرّواة، يحمل أية عقدة بالنّسبة إلى الإمام الصَّادق(ع)، لأنّه كان الإنسان المنفتح على عصره كلّه.

وعندما نتابع آثاره، نجد أنَّه لم يعش أيَّ حاجز إزاء أيّ شخص، سواء اختلف معه أو اتّفق. وليس هذا بغريب، طالما أنّه كان إمام الفكر الإسلاميّ والخطّ الإسلاميّ، الَّذي لم يقدّم وهو يحاور الآخرين، أيَّ تنازلٍ عن أيّ شيءٍ في الإسلام، لكنّه في شخصيّته الحواريّة، كان يفتح قلبه حتى للملحدين والزّنادقة، وكان لا يعنف، مهما كان أسلوب الطّرف المقابل هجوميّاً وعنيفاً، وكان الهادئ في أسلوبه الإنسانيّ المنفتح، لأنَّه كان الهادئ في عقله، وهذه مسألة يجب أن نعرفها جميعاً، وهي أنَّك كلّما كنت قويّاً في حجّتك، كنت هادئاً في حوارك، فالَّذين يعنفون ويشتمون، ويتحدَّثون بالكلمات اللامسؤولة، هم الَّذين يعيشون الهزيمة النفسيَّة، حتى أمام فكرهم، لأنَّك إذا أردت أن يحترمك الآخر، فعليك أن تحترمه.

لقد كان الإمام الصَّادق(ع) وهو يرى أنَّ الإسلام هو خطّ الله الوحيد في الحياة، لا يلغي الآخر، كما أنَّ القرآن لم يلغِ الآخر، حيث اعترف بعدّة وجودات: فلقد حاور الملحدين، لأنَّهم موجودون في السَّاحة، ولم يكن ذلك اعترافاً بشرعيّتهم، بل بوجودهم. واعترف أيضاً بالمشركين لأنهم موجودون، وهكذا بأهل الكتاب. ولهذا، فإنّك عندما تعترف بوجود الآخر، لا بدَّ لك من أن تخطّط لكيفيّة التعامل معه، لأنَّ إلغاءك له لن يلغي وجوده. وهذا ما فعله الإمام الصَّادق(ع)، الَّذي حاور الجميع، وربما يتوهَّم بعض الناس أنَّ الإنسان لا بدَّ من أن يواجه التيارات المضادّة بالعنف والقسوة والشَّتيمة دائماً، ولكنَّ هذه النّظرة غير قرآنيّة، لأنَّ الله تعالى قال لنا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[3]، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[4]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[5]، لذلك، فإنَّ الّذين يشتمون، ويعنفون، ويكفّرون، ويضلّلون، حتى في الدائرة الإسلاميّة، ليسوا إسلاميّين، لا في الخطّ، ولا في المنهج، وإن كانوا يصومون ويصلّون.

ولقد كانت المساحة السياسيّة الَّتي عاش الإمام الصَّادق(ع) فيها، تكفل له أن يمارس حريّته الكاملة، لأنَّ الحكّام كانوا يعيشون في مرحلة انتقال الخلافة من الأمويّين إلى العباسيّين، فكانوا مشغولين عن الإمام وعن خطّ الإمامة. ولذا، فإنّه أعطى عطاءً لا يملك الإنسان أن يحصيه، حتى إنَّ (جابر بن حيّان)، ينقل عنه أنّ الإمام(ع) الّذي ألهمه علم الكيمياء، وكان يتحدَّث في رسائله الَّتي كان الغرب إلى وقتٍ قريبٍ يقرأها ويدرسها، ويقول: "حدّثني سيّدي جعفر"، أو "أملى عليّ سيّدي جعفر".

وفي مولد الصَّادق(ع)، نريد أن نعيش رسول الله(ص)، فقد كان حديثه كلّه هو حديث رسول الله، ولقد أُثر عنه قوله: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله"[6]. وكان عندما يتحدَّث عن رسول الله(ص)، لا يأتي بالعنعنة الروائيّة، بل يقول: "قال رسول الله"، لأنّه يلتقي به من أقرب موقع ووسيلة.

من ثمار البستان النبويّ الإماميّ

وكما ذكرنا، فإننا نتذكَّر الرسالة بالرسول، والإمامة بالإمام، لذلك، تعالوا إلى هذا البستان النبوّي ـ الإماميّ المزهر المثمر، لنستمع إلى بعض كلمات الرّسول(ص)، من خلال الإمام، في القضايا التي تتصل ببعض حياتنا الأخلاقيّة، وما نحتاجه في الواقع. ولنسأل أوّلاً: كيف يمارس الإنسان الدّين؟ هل يملأ وقته كلّه بالصَّلاة، وعمره بالصّوم وبالحجّ؟ وهل يجهد نفسه بالعبادة، حتى يستنفد طاقته كلّها، بحيث تتحوّل المسألة عنده بعد ذلك إلى ردّ فعل سلبيّ على العبادة؟ أو أنَّ المسألة ـ إسلاميّاً ـ ليست كذلك؟! فهي أن تعبد الله تعالى، وأن تأخذ الدّين من الموقع السّهل الّذي لا تطبق فيه على نفسك، ولا تقهر فيه على طاقتك، بل تأخذ منه يسره، ليمكن لك أن تحبّ عبادة الله، وليمكن لجسدك أن يبقى معك في طاقته، لتواصل حياتك.

فليس الالتزام بالعبادة اختناقاً، وليس قهراً، بل هو رفق ولين ويسر. وفي هذا المجال، لنستمع إلى رسول الله(ص) في هذا الحديث، فعن أبي عبد الله(ع): "قال رسول الله(ص): يا عليّ، إنَّ هذا الدّين متين"، أي صلب ومتماسك، "فأوغل فيه برفق"، فإذا أردت أن تدخل فيه، فادخل فيه برفق، لأنّك إذا دخلت في الشّيء الصّلب بقوّة، فإنّك سوف تكسره أو يكسرك، أمّا إذا حاولت أن تدخل فيه بيسر، فإنّك تستطيع أن تخضع جسدك لصلابته. "ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك"، لأنّك إذا قهرت نفسك وأجهدتها، وللنفس طاقة محدودة، فربما تتمرّد عليك في نهاية المطاف، وترفض العبادة بعد ذلك، لأنَّ الله تعالى يريد للإنسان أن يعبده من خلال جهد إنسانيّته، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[7].

ويمضي الحديث بالقول: "إنّ المنبت"، أي المفرط الَّذي يفرّط في طاقته، "لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع"، وهو مثل يضرب للّذي يركب دابّة ويسير بها ليلاً ونهاراً، فتسقط في منتصف الطَّريق، فلا هو أبقى على دابّته، ولا هو أيضاً قطع الطَّريق، وهكذا الإنسان إذا أجهد نفسه بما يقهر طاقته ويستنفدها، فلن يستطيع الاستمرار في العبادة.

"فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً"، أي أنَّك عندما تعمل، لا تتصوَّر أنّك ستموت غداً، بل اعمل عمل من يرجو طول الأمل، حتى تعيش روحانيَّة العبادة ويسرها ومعناها. "واحذر حذر من يتخوَّف أن يموت غداً"[8]، فإذا دعتك نفسك إلى ما يمكن أن يضلّك، أو ينحرف بك عن الطّريق، فعليك أن تكون حذراً. وهذه هي الفكرة نفسها الَّتي طرحها الإمام عليّ(ع) في الرّواية المشهورة: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً"، فإذا كانت لديك مشاريع، فلا تفكّر في الموت غداً، بل تصوّر أنّك لن تموت حتى تستكمل مشاريعك، "واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"[9]، وعندما تفكّر في المسؤوليَّة فيما تقوم به، تصوّر أنك ستموت غداً، حتى تعدّ العدّة جيّداً لملاقاة الله سبحانه.

الصّبر على الفقر والظّلم

وعن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلاّ بالقتلوالتجبّر". أي أنَّ المسؤولين في ذلك الزمان، لا ينطلقون من موقع تأييد النّاس بكلّ محبّة وعفويّة، ولكن من خلال الاعتماد على القوّة القاهرة المسلّحة، كما نعرفه في هذه الأيام، الّتي يوظّف فيها المستكبرون من خلال قوّتهم السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، الكثيرين ممن يتوّلون أمور الأمّة، ليحرسوا مصالحهم. وهذه هي مشكلة العالم الإسلاميّ، وهي أنَّ هناك حرّاساً يحرسون مصالح المستكبرين، ولا يحرسون مصالح المستضعفين. "ولا الغنى إلا بالغصب والبخل"، وهذا ما نعيشه أيضاً، حيث نرى أنَّ الكثير من الناس يتحركون بالإثراء غير المشروع، وبالبخل عمّا فرض الله عليهم من حقوق، "ولا المحبّة إلا باستخراج الدّين واتّباع الهوى"، فالبعض من الناس يحاول الحصول على محبّة الآخرين، من جهة تقديم تنازلات دينيّة لحسابهم، أو يتحرك من خلال أهواء الناس وأهوائه، ليرضوا عنه. "فمن أدرك ذلك الزمان، فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى"، حيث الغنى يكون في قبضة المستكبرين، فهم يعطونه من أموالهم، ليعطيهم هو من مواقفه، ويكون الجاه في قبضة أعداء الله، فهم يمنحونه شيئاً منه، ليمنحهم تنازلات من دينه، فعليه في هذه الحال أن يصبر على الفقر، وهو يقدر على الغنى، لأنّ عليه أن يقف مع مبادئه ودينه، ولا يبيع دينه بدنيا غيره. "وصبر على البغضة، وهو يقدر على المحبَّة"، فإذا أراد الناس منك أن تقدِّم التنازلات من دينك ليحبّوك، فعليك أن تعرف أنّ محبّة الله لك أعظم من محبّة الناس لك الآن: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ}[10]. وحسبنا بذلك كلمة رسول الله(ص): "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي"[11]. ووصي محمّد(ص) عليّ(ع) يقول هو الآخر: "ما ترك لي الحقّ صديقاً"[12]. ويقول(ع): "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين"[13].

وعوداً إلى الحديث، يقول الرّسول(ص) لاحقاً: "وصبر على الذلّ"، وهو هنا الضّعف، "وهو يقدر على العزّ"، والمراد العزّ الظّاهري، لأنَّ الإنسان الَّذي لا يبيع دينه، ولا يعطي بيده إعطاء الذّليل، حتى لو استضعف، ولا يقرّ إقرار العبيد، هو العزيز في نفسه، وإن كان ذليلاً عند النّاس، فإذا فعل ذلك، "آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّق بي"[14]، ولكن دون ذلك خرق القتاد، فليس سهلاً أن يأخذ الإنسان بذلك كلّه، ولكنّه ليس مستحيلاً.

شذرات أخلاقيّة

وفي الختام، نتناول بعض توجيهات الإمام(ع) في المجال الأخلاقيّ، قال رسول الله(ص) في رواية الصّادق(ع): "أفضلكم أحسنكم أخلاقاً"، أي الذي يتميَّز بالأخلاق كأفضل ما تكون، "الموطأون أكنافاً"، أي الَّذين لا يستعلون على النّاس، وهم المتواضعون الّذين يخفضون جناح الذلّ من الرّحمة لإخوانهم، "الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم"[15]، أي تنزل منازلهم للضّيافة، أو لطلب الحاجة، فيرحّبون بضيوفهم وقاصديهم بالخلق والبشاشة، بحيث يشعرون بأنهم أصحاب البيوت، لا ضيوفها.

وعن أبي عبد الله(ع) قال، قال رسول الله(ص): "يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر"[16].

ونختم هذه الباقة من الأحاديث الشريفة بقول الرسول(ص) المروي عن الإمام الصّادق(ع): "قال رسول الله(ص) لرجل أتاه: ألا أدلّك على أمر يدخلك الله به الجنّة!"، ومن منّا لا يشتهي ذلك؟! "قال: بلى يا رسول الله، قال: أنل مما أنالك الله"، أي أعطِ مما أعطاك الله، فإذا كان لديك مال، فأعط النّاس من مالك، ممن يحتاج إلى هذا المال. "قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟"، أي لا مال لي، فهل تغلق عني أبواب الجنّة؟ "قال: فانصر المظلوم"، فإن لم يكن لك مال، فقد تكون لديك القوّة، سواء قوّة جاه، أو قوّة عضلات، أو قوّة سلاح. "قال: فإن كنت أضعف ممن أنصره؟ قال: فاصنع للأخرق"، يعني أشر عليه، أي الأحمق الّذي لا يستطيع أن يتعرَّف طبيعة الأمور، ولا يقدر أن يدبّر نفسه، أي أشر عليه، وقدّم له النّصح والتّعليم والخبرة. "قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له؟ قال: فاصمت لسانك إلا من خير"، أي اعقله وألجمه إذا دعاك إلى الشرّ، واجعله ناطقاً إذا دعاك إلى الخير. "أما يسرّك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال، تجرّك إلى الجنّة؟!"[17].

وفي ضوء هذا ـ أيّها الأحبّة ـ فباب الجنّة مفتوح، والطّرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، ونحن في مرحلة هدنة، فعلينا أن نجلس لنتأمّل ونفكّر، وندرس الأمور بوعي وعمق، فالحياة تسير بنا، "واعلم أنَّ من كانت مطيّته اللّيل والنّهار، فإنّه يسار به، وإن كان لا يسير"[18].

فنحن نأكل عمرنا في كلّ يوم، وقد بقي لكلّ منّا بقيّة من عمر، وإنّنا مسؤولون ـ في غضون ذلك ـ عن الإسلام، وعن الخطّ الأصيل فيه، وعن أن نفهم الإسلام، ونعمل به، وندعو له، ومسؤولون عن المسلمين، أن نعيش الاهتمام بكلّ أمورهم، وأن نعاونهم ونساعدهم فيما هم فيه.

إنَّ علينا أن نكون في حجم الأمّة القويّة، من أجل أن نجمع هذه الأعداد الكثيرة، حتى نستطيع أن نكون كما كان رسول الله(ص): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}[19]. وليكن طموحنا أن نؤسلم العالم، والعالم مفتوح للإسلام، بشرط أن تكون عقولنا مفتوحة للإسلام، وأن لا تحمل التخلّف والخرافة، أو تتحرك على أساس أن تجمّد تفكيرها، وأن لا نكون مع الذين يصادرون الفكر، ويقمعون حرية الإنسان الذي يفكّر، بل علينا أن ننفتح على الله، وأن تكون لنا آذان نسمع بها، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[20]، وأن تكون لنا عيون نبصر بها، وعقول نفكّر بها، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[21].

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 111].

[2]  [الأنفال: 24].

[3]  [النحل: 125].

[4]  [العنكبوت: 46].

[5]  [فصلت: 24].

[6]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 53.

[7]  [البقرة: 286].

[8]  الكافي، ج 2، ص 87.

[9]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 17، ص 77.

[10]  [النحل: 96].

[11]  بحار الأنوار، ج 19، ص 23.

[12]  الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج 4، ص 236.

[13]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 93.

[14]  الكافي، ج 2، ص 91.

[15]  وسائل الشيعة، ج 12، ص 158.

[16]  الكافي، ج 2، ص 103.

[17]  بحار الأنوار، ج 68، ص 296.

[18]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 78.

[19]  [سبأ: 28].

[20]  [الزمر: 18].

[21]  [الإسراء: 36].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية