ممّا تحدّث به تعالى عن شخصيَّة النّبيّ إبراهيم(ع) في القرآن الكريم، قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}[1]. والسّؤال الَّذي يرد هنا: كيف نفسِّر إطلاق كلمة "أمَّة" على إبراهيم(ع)؟
تفسير كلمة "أمّة"
لهذا الإطلاق عدَّة تفسيرات:
الأوَّل: ما جاء في مفردات الرّاغب، أنَّ المراد من كونه "أمَّةً": أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلانٌ في نفسه قبيلة، أو كأنَّ القبيلة تجمَّعت في شخصه، باعتبار أنّه يختزن كلّ المعاني القيميَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة في الأمَّة، والّتي تتوزّع مواقعها في أفرادها. ولعلَّ هذا يتمثَّل بالشَّخصيَّة المتكاملة الَّتي قد تختصر الأمَّة في ذاته، بالمعنى الَّذي يمثّل قوّتها وعنفوانها ووجهها، وهذا ما يجعل شخصيَّته تعادل شخصيَّة أمَّة بكاملها.
الثاني: إنّ إبراهيم كان في موقع القيادة القويَّة، والقدوة الحسنة، والمعلّم الكبير للإنسانيَّة الَّتي تقتدي به، وتتعلّم منه، وتخضع له، تماماً كما لو كان يختزن في داخله كلّ واحد من النّاس، وقيل إنَّ أمَّة اسم مفعول يطلق على الَّذي تقتدي به النَّاس وتنصاع له.
الثالث: إنَّ إبراهيم كان رمز الوحدانيَّة المتمثِّلة بعقله وروحه وشعوره وعبادته في محيط خالٍ من أيِّ موحِّد، فالجميع كانوا يعبدون الأصنام ويخوضون في وحول الوثنيَّة المشركة، فهو يمثّل الأمّة الموحِّدة في مقابل الأمَّة المشركة، كالكلّي المنحصر في فرد.
الرّابع: إنَّ إبراهيم كان منطلقاً لتكوين أمّة الرّسالة الموحِّدة، ما يجعل الأمَّة توجد بوجوده، فاستعيرت الكلمة لذاته. وربما يوحي ببعض هذه المعاني قول الشَّاعر:
لَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِد
وقد جاء في بعض الرّوايات: "إنَّ عبد المطّلب ـ جدّ النبيّ ـ يُبعث يوم القيامة أمّةً وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء، لأنّه كان مدافعاً عن التَّوحيد في بيئة الشّرك وعبادة الأوثان"[2].
وعلى ضوء هذه التّفاسير الَّتي قد تلتقي في بعض جوانبها بالمعنى اللّفظيّ، حقيقةً أو مجازاً، نلتقي بشخصيَّة إبراهيم(ع) الّتي تتجمَّع فيها خصائص الإنسان الّذي تعيش شخصيّةُ الأمَّة فيه، وتمتدُّ منه في حركة رسالته، وتلتقي في أجوائه الرّوحيَّة روحيَّة الجماعة في صورة الفرد.
وربما كان السرّ في ذلك، أنَّ الرّساليّين، ولا سيَّما الأنبياء منهم، لا ينطلقون في نشاطاتهم الحركيّة النَّظريَّة والعمليّة في خطِّ الدَّعوة من حالةٍ ذاتيَّة تتحوّل معها الذّات إلى دائرة مغلقة تحجبهم عن الآخرين وتخنق في داخلهم روح الامتداد، بل ينطلقون من الرّوح الرساليَّة الّتي تمتدّ في شخصيَّتهم لتحوي الأمَّة بأسرها في حركة الرِّسالة، فيسقط الحاجز بين روح الفرد وروح الجماعة.
شخصيَّة إبراهيم الإيمانيَّة
{قَانِتاً للهِ}، يعيش الطّاعة لله والعبادة له، باعتبار أنَّ الإيمان كان متجذِّراً في عمق شخصيَّته، حتّى كانت صفة الإنسان المطيع لله، الخاضع له، تمثِّل الطّابع الرّوحيّ لشخصيّتَه، ولم تكن هذه الصّفة مجرَّد حركةٍ عمليّة، بل كانت صفة إنسانيّة في التطلّع المعرفيّ إلى عظمة الله في موقع ربوبيّته المطلقة.
{حَنِيفاً}، مائلاً بفكره وعمله عن خطّ التطرّف المنحرف في التواءاته النَّفسيَّة والشّعوريَّة الَّتي لا ترتكز على أساس، ولا تخضع لقاعدةٍ من عقل أو روح، منفتحاً على خطِّ الاعتدال في الإخلاص للحقيقة العليا في الخطِّ المستقيم الَّذي يمثّله خطّ التَّوحيد في مضمونه الَّذي لا يقتصر على حالةٍ فكريَّة في العقل، أو شعوريَّة في الحسّ، بل يمتدّ إلى كلّ مواقع رضا الله ومحبّته، في أوامر الله ونواهيه، وفي المفاهيم الإنسانيّة الّتي ترتفع بالإنسان إلى آفاق المعرفة لله، والانفتاح على أسرار عظمته.
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[3]، لأنّه عاش التّوحيد في روحه وفكره ووجدانه كأفضل ما يكون التَّوحيد. وأيّ توحيدٍ أصفى وأنقى من الإسلام لله في كلِّ شيء بشكلٍ مطلق، حتى إذا خُيِّر بين أن يطيع الله في ذبح ولده، وأن يستسلم لعاطفته الأبويَّة في الامتناع عن ذلك، اختار الاستسلام لله على الخضوع لمشاعره وأحاسيسه!
{شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ} الَّتي أنعم الله بها عليه وعلى من حوله، مؤكِّداً أنَّ ما به وبالناس من نعمةٍ فمن الله، في كلِّ ما يتَّصل بحاجات النّاس وقضاياهم الحيويّة الخاصّة والعامّة، بحيث لو أنَّ الله حجب هذه النِّعم عنهم، لضاقت بهم الحياة في كلّ مصادرها ومواردها، ولما استطاعوا الحصول عليها من مصدرٍ آخر.
وهكذا، وقف إبراهيم ليستعرض كلَّ هذه النعم الَّتي لا يملك أحد أن يحصيها، لأنّها فوق حدِّ الإحصاء، وليشكر الله على ذلك بالكلمة الشّاكرة، وبالعمل الصَّالح الَّذي يتقرّب به إلى الله، في تعبيره عن الشّكر العمليّ، فيما يمثّله ذلك من سموّ الشّكر وعلوّ شأنه.
{اجْتَبَاهُ}، أي اختاره الله واصطفاه لرسالته، بعدما اختبره بالتّجربة الرساليّة في قوَّة الموقف وأصالة الحقّ وصفاء الحجّة،كما أنَّ ذاته مُزجت بالرّسالة في معنى الرّوح، فأضحت الرّسالة تتحرَّك في حياته الدّاخليَّة كجزءٍ من ذاته.
{وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، فالله سبحانه يتعهَّد أنبياءه بالهداية الروحيَّة والعمليَّة، ليملكوا وضوح الرّؤية الَّتي تمنح الإنسان المعرفة بالله، وتفتح قلبه على معاني الرّسالة في خطّ النبوَّة الَّتي تحدِّد له الطّريق المستقيم الّذي لا التواء فيه ولا عوج ولا انحراف، وتخطِّط له من خلاله خطّ السّير.
{وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً}، مما قد يراد بها المعيشة الطيِّبة، وربما يراد بها النبوّة الّتي يرتفع بها مقامه وتسمو بها منـزلته. {وَإِنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، بما يختصّ به الصَّالحون في عملهم وفي دعوتهم وفي جهادهم من درجاتٍ عاليةٍ في ساحة رضوانه ونعيم جنَّته.
وامتدَّ تأثير الخطّ الرّسالي الّذي انطلق به إبراهيم(ع) في رسالته الّتي أوحى الله بها إليه، حتى أراد الله له أن يكون عنواناً للرّسالات التي جاءت بعده، إلى أن جاء دور النبيّ محمَّد(ص)، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[4]، فإذا كانت ملّته هي التّوحيد الخالص لله ورفض الشّركاء له، وإسلام الوجه والعقل والقلب والذّات كلّها لله، فإنَّ الله يريد للنّبيّ(ص) أن يتَّبع هذا النَّهج في الدَّعوة، وأن يتحرّك مع هذا الخطِّ من الرّسالة، بحيث لا يبتعد الإسلام في الدَّعوة المحمَّدية عن ذلك كلّه.
ولعلَّ تأكيد صفة الحنيفيَّة في شخصه، ونفي صفة الإشراك عنه، يوحي بأنّه يمثِّل التَّجسيد للملَّة، حتى تحوَّل اسمه إلى صورة حيّة لها.
استغفار إبراهيم لأبيه
أمّا الحديث عن استغفار إبراهيم(ع) لأبيه في وعده إيّاه في قوله تعالى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}[5]، فقد أثار مسألةً فكريَّةً حول الطَّبيعة الإيمانيَّة للإنسان المؤمن، وإمكانيَّة انفتاحها على المشركين من أولي القربى، لأنَّ ذلك قد يوحي بالتّنافي بينهما، أو بانحرافه عن الإخلاص في الإيمان.
ولكن قد يكون من بديهيَّات حركة الإيمان في شخصيَّة المؤمن، أن تلتقي منطقة الشّعور بمنطقة الفكر في أجوائه الداخليَّة، فيكون الموقف العاطفيّ انعكاساً للموقف الفكريّ والعقيديّ، لأنَّ ذلك يمثّل جدّية الخطّ العقيديّ في مواقع القرار، فليس الفكر في أجواء العقيدة والإيمان مجرّد معادلة عقليَّة في زوايا الفكر التّجريديّ، بل هو جزء من موقف داخليّ يتفاعل مع الحياة ويحدِّد موقفه من مفرداتها على هذا الأساس، وبذلك يكون أيّ رفضٍ لأيّ خطّ هنا، سبباً في رفض أيّ تعاطفٍ عمليٍّ مع القوى الّتي تمثّله وتؤيّده وتقوّيه، والأمر بالعكس في حال القبول والموافقة.
وهذا ما أرادت الآية معالجته في موقف النّبيّ والّذين آمنوا معه من المشركين، مروراً بموقف إبراهيم من أبيه، فقد بدا أنَّ المشركين من أقرباء النّبيّ أو من غيرهم، أو من أقرباء المؤمنين وأصدقائهم، كانوا يأملون أو يفكّرون في أنَّ العلاقة العاطفيَّة الّتي تفرضها القرابة أو الصَّداقة بشكلٍ طبيعيّ، يمكن أن تكون أساساً لتحقيق بعض الامتيازات على مستوى الواقع.
وربّما لم تكن القضيَّة بهذا الحجم منهم، بل قد تكون خاطرةً في أذهان بعض المؤمنين في حالة عاطفيَّة انفعاليَّة، أنّ من الممكن أن يستغفروا لهؤلاء الأقرباء والأصدقاء، أو يطلبوا من النّبيّ الاستغفار لهم، كما كان الأمر مطروحاً في السَّاحة في مسألة المنافقين، وربما رأوا في استغفار إبراهيم لأبيه الكافر أساساً لهذا الموقف، لهذا لم يجدوا في هذا الطلب من النّبيِّ أيَّ غرابة أو انحراف عن خطِّ الإيمان الّذي يسيرون عليه. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى}[6]، لأنَّ الاستغفار في حال الشّرك، يعني اعتبار الشّرك حالةً هامشيَّة في انحراف الإنسان، تماماً كما هي حالات المعصية الطّارئة العاديَّة القابلة للغفران، ما يعني استهانةً بمسألة التَّوحيد الإلهيّ ودوره في حركة العقيدة لدى الإنسان، وتأثيره في مسيرته في كلِّ جانب، ومدلوله الروحيّ في الإحساس العميق بعظمة الله وجلالة قدره، بينما يُعتبر الشّرك ظلماً عظيماً لا يمكن أن يغفره الله، في الوقت الّذي يمكن أن يغفر أيَّ معصية أخرى، كما ورد في قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[7]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[8].
ولذلك، لا يمكن للنّبيِّ أن يقوم بذلك، مهما كانت الحالة العاطفيَّة ضاغطةً على الذّات، ولا يمكن أن ينتظر الآخرون منه أو من المؤمنين ممارسة ذلك، لأنَّ التَّوحيد والشِّرك موقفان متضادّان يتحرَّك واحد منهما على أساس الهدى في جانب التّوحيد، والآخر على أساس الضّلال في جانب الشّرك، فلا يمكن أن يلتقيا في الحياة في موقع واحد، ولا يمكن أن يعيشا في الذات في قلب واحد.
وهكذا ينبغي أن يكون موقف المؤمنين من المشركين رافضاً للاستغفار لهم: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[9]، من خلال ما عرفوه من هذا الارتباط بين الشِّرك والمصير الأسود الّذي ينتظر المشركين في الآخرة في نار جهنَّم، ما يعني ابتعادهم عن رحمة الله ورضوانه الَّذي يفرض على المؤمنين الابتعاد عنهم.
سبب الاستغفار
ولكن، كيف نفسِّر موقف النّبيّ إبراهيم(ع) الّذي يمثِّل في إيمانه قمَّة التّوحيد الخالص في مواجهته العنيفة للشّرك كلّه، حتّى لأقرب الناس إليه ولأقوى المواقع في عهده، هذا الموقف الذي حدَّثنا القرآن عنه في آيةٍ أخرى، عندما قال إبراهيم(ع) لأبيه: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}[10]؟ هل هو استسلام للعاطفة على حساب العقيدة؟ وهل يمكن أن نقبل هذا التَّفسير في حالة هذا النّبيّ العظيم، الّذي لا يمثِّل مجرَّد إنسانٍ صاحب عقيدة، بل هو ـ إلى جانب ذلك ـ نبيٌّ صاحب رسالة يريد أن يغيّر النّاس على أساس انتصار الفكر والعقيدة في ذاته، على الحسّ والعاطفة في شعوره؟!
إنَّ القرآن يجيب عن هذا السّؤال بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}، فقد كان يأمل أن يستقيم أبوه على الصِّراط المستقيم ويرجع إلى الله، لأنّه كان يعتبر أنَّ حالة الانحراف الّتي يمرُّ بها قد تكون حالةً طارئةً لا تعقيد فيها ولا عمق ولا امتداد لها في شخصيَّته، لأنّها ربما انطلقت من خلال تأثّره بالبيئة الَّتي نشأ فيها، وبالقوم الّذين كانوا من عشيرته ممّن لا يريد مفارقتهم والابتعاد عنهم والخروج من الخطِّ العباديّ الّذي يخضعون له. وفي مثل هذا الواقع، كان إبراهيم يتمنَّى أن يزول عن أبيه ذلك الانحراف.
وينطلق إبراهيم(ع) في استغفاره له من هذا الموقع الّذي يطلب فيه الهداية له، لينفتح قلبه، ويصفو فكره، وترقّ مشاعره، وتشرق حياته، فيلتقي بالله من أقرب طريق، وربما كان يفكِّر في هذا الاتجاه من موقع الرَّغبة في أن تربح العقيدة إنساناً جديداً، ومن موقع العاطفة الّتي تتحرَّك في خدمة الرِّسالة، من أجل أن توحي إلى هؤلاء الّذين تتعاطف معهم، بأنَّ المشاعر تحتضنهم بالحبّ والرّحمة، ليحتضنوا الحقيقة في مشاعرهم حتى تحتضنهم في أفكارهم. وبقي هذا الأمل ينمو في روحه وضميره وعقله ـ بعد حواره معه ـ حتى استنفد كلّ تجربة وأسلوب وشعور، ولكن الأمل أخذ يتضاءل، حتى سقط في التراب، وانكشفت له الحقيقة، وتبيّن له أنَّ كفر هذا الإنسان ليس مجرّد حالة طارئة، بل هو عقيدة مستعصية مستحكمة.
إنّه الكفر المتجسِّد في وحشيَّة الفكر المنحرف في الإنسان، فهو عدوّ الله في فكره وعمله، إنّه يخلص للحجارة الَّتي يصنعها أصناماً يتعبَّد لها، ولا يرضى بأن يتعبّد لله الذي صنع له وجوده. وهو لا يرضى بأن يفكِّر ويتأمَّل ويحاور ليكتشف خطأ فكره وضلال طريقه، بل يدافع عن انحرافه بإصرار، لأنَّه يخاف من التَّغيير والابتعاد عن عقيدة الآباء الَّذين رآهم يعبدون الأصنام ويخضعون للوثنيَّة.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ}، من خلال إصراره على الاستمرار في التزامه العباديّ الوثنيّ، وفي ضغطه القاسي على ولده إبراهيم بالتّهديد وهجرانه وإخراجه من منـزل الأسرة، ومشاركته قومه الّذين يخطِّطون لإحراق ولده بالنّار بعيداً عن أيّة عاطفة أبويَّة، {تَبَرَّأَ مِنْهُ}، لأنَّ الله أقرب إليه من كلِّ إنسان، حتى لو كان أباه؛ فالله هو الخالق الّذي وهبه الحياة، وأدار وجوده في النّظام الكوني من خلال كلِّ هذه القوانين الّتي كان منها قانون ولادته من أبيه، فهو الأوَّل والآخِر في تكوينه الوجوديّ وحركة حياته، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ}، في روحانيَّته الصَّافية الخاشعة الخاضعة أمام الله، الَّذي يقف بين يديه في موقف العبادة، ليتأوَّه أمام الله حبّاً وحزناً وخشوعاً وعبوديةً، تدليلاً على إخلاصه العميق لربّه، {حَلِيمٌ}[11]، في سعة صدره وقلبه المفتوح وروحه الكبيرة، التي يعفو بها عند المقدرة ويفتح قلبه للنّاس.
صفات إبراهيم(ع)
وفي آيةٍ ثانيةٍ مماثلةٍ للآية السّابقة، يقول تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}[12]، وذلك عندما دخل في جدالٍ مع الملائكة حول عقاب قوم لوط، محاولاً صرف العذاب عنهم، لا لأنَّه كان راضياً عن سلوكهم، بل هو غاضب عليهم، لأنَّ الشّذوذ الجنسيّ الّذي كانوا يمارسونه، كان يمثّل عصياناً وتمرّداً على تعاليم الله، واحتقاراً للنّبيّ لوط وضغطاً عليه.
{لَحَلِيمٌ}؛ وهكذا كانت صفته صفة الحلم المنفتح على كلِّ المعاني الإنسانيَّة، في انفتاح الإنسان على الإنسان من أجل الخير له والسَّلام الرّوحيّ معه، {أَوَّاهٌ}، كثير التأوّه في حزنه الرّوحيّ لما يحيط به أو يشاهده من السّوء، وقد يكون كنايةً عن تأثّره بذلك، وانفعاله بآلام الآخرين، إضافةً إلى الآهات الّتي كان يطلقها في ابتهالاته لله، {مُّنِيبٌ} إلى الله في كلِّ أموره، فلا يعترض على الله في شيء، ولكنَّه يتشفَّع الله ويتوسَّله ويرجوه فيما لا يعلم فيه حتميَّة القضاء والإرادة.
ونقرأ في ابتهالات إبراهيم(ع)، بعد أن أسَّس البيت الحرام، وكانت مكَّة حرماً آمناً، طلبه من الله أن يحقِّق السّلام لساكنيه وزائريه، من الّذين يحجّون إلى بيته المحرَّم من سائر أصقاع الأرض، ويؤكِّد ـ بكلّ قوّة ـ طلبه الإيماني التّوحيدي، أن يجنّبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام، الّتي ربما تدخل في شعائر بعض النَّاس الذين يفدون هذا البيت، لأنه أراد له أن يكون بيتاً للتوحيد وللعبادة الخالصة والطّواف العباديّ، بينما تتحرَّك الأصنام من خلال الّذين يدعون إليها ويتعبَّدون لها، لتضلَّ الناس عن الانفتاح على الله في ربوبيّته المطلقة وتوحيده الخالص.
وهذه هي خطوط إبراهيم في الالتزامات التّوحيديّة الّتي تربطنا بالله، وتحقِّق لنا السَّعادة في الدّنيا والآخرة. وللحديث بقيَّة، إن شاء الله، والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [النّحل: 120].
[2] سفينة البحار: 9/12.
[3] [النحل: 120]
[4] [النحل: 121 ـ 123].
[5] [مريم: 47].
[6] [التوبة: 113].
[7] [لقمان: 13].
[8] [النساء: 116].
[9] [التوبة: 113].
[10] [مريم: 47].
[11] [التوبة: 114].
[12] [هود: 75].