تقدَّم الكلام عن تجربة النبيّ إبراهيم(ع) في قومه، من خلال منهجه وكيفية معالجته لقضايا الشرك في ذلك المجتمع الوثني، واليوم نتابع الحديث مع نهج آخر من مناهج الأنبياء، ونستعرض أسلوباً آخر من أساليب تحدّي الشرك، وهو أسلوب النبيّ موسى(ع) وتجربته؛ هذا النبي الذي ولد في مجتمعٍ يعاني العداوة القاسية الَّتي تتمثَّل في ذبح الأولاد واستحياء النساء من قبل العدوّ المستكبر المستعلي، وهو فرعون الذي ادّعى الربوبية لنفسه، واستضعف قوم موسى واضطهدهم من موقع عقدة ذاتية، وهذا ما تحدَّث عنه القرآن فيما أوحى به إلى أمّ موسى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ}[1].
وقد أدّت هذه العداوة بين الفريقين إلى القتال في بعض الأحيان، وواجه موسى(ع) بعض هذه الحالات بقوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}؛ عمل الشيطان الذي تمثَّل بإثارة الخلاف بين هذين الشخصين، نتيجة اعتداء الفرعوني على الإسرائيلي الَّذي استنجد بموسى(ع)، فبادر موسى(ع) إلى الدّفاع عنه، لكونه شخصاً مستضعفاً، إضافةً إلى محاولة قتله من قبل ذلك الفرعوني، فكانت النتيجة أن سقط الفرعوني ميتاً تحت تأثير ضربات موسى(ع)، الذي سرعان ما شعر بهول النتائج الأمنيّة التي تترتب عليه أمام السلطات الحاكمة كقاتل، وإن كان في مقام الدّفاع عن صاحبه المستضعف.
ورأى موسى نفسه أمام تجربة صعبة، لناحية الآثار السلبيّة المترتّبة عليها، الأمر الذي جعله ظالماً لنفسه، مما كان يشعر به، حيث كان الأولى به أن يحلّ المسألة بطريقة أخرى، فناجى ربّه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، لأنَّ الله يعلم ما في سريرة موسى(ع)، وأنه لم يقصد قتل ذلك القبطي، ولم يتعمّده، بل كانت النتائج خاضعة لطبيعة الواقعة في ظروفها الخاصّة.
ولذلك، أفاض الله عليه رضوانه، وكان ردّ فعله أن أعطى الله عهداً بالالتزام الحاسم، بأن لا ينصر مجرماً مهما كانت درجة علاقته به: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ}[2]، وفي ذلك إيحاء لكلّ الناس الّذين منحهم الله نعمة القوّة، بأن لا يستخدموها إلا في مواقع الدّفاع عن المظلومين.
وكانت التجربة الثانية أمامه في المدينة: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}، بحيث أكثر من إثارة المشاكل بين النّاس ومعهم، {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا}، لينصره على المستضعف، {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}، والظاهر أن موسى(ع) امتنع عن إكمال المواجهة في استخدام قوّته ضدّ هذا القبطي، وربما أصلح بينه وبين الإسرائيلي، وهذا مما لم يذكره القرآن. {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[3]، فقال له، كما في قوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[4]، وتوجّه تلقاء مدين، والتقى النبيّ شعيب، وتزوّج من ابنته، وانتهت هذه المرحلة المتحركة في واقع العداوة من حياة النبيّ موسى(ع)، حتى أصبح ملاحقاً من قبل السّلطات المعادية، ولكنّها لم تكن عداوة في ساحة الرّسالة، بل في التعقيدات الواقعية في مجتمع المستكبرين والمستضعفين.
المسؤوليّة الثقيلة
وكانت المرحلة الثانية هي مرحلة النبوّة التي حمّلته مسؤوليّة كبيرة، وهي دعوة فرعون وقومه إلى الله، ليعبدوه ويتركوا وثنيّتهم، وكانت المهمَّة ثقيلة على موسى(ع)، لأنَّ الحجم الذي يملكه فرعون في ميزان القوّة قد يمنعه من الاستماع إليه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}، لأنّي لا أزال ملاحقاً من قبلهم بسبب ذلك، ثم إني بحاجة إلى مساعد في هذه المسؤوليَّة الثقيلة الّتي قد تحتاج إلى شخص أفصح مني لساناً: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}، لأنّ كلّ الظروف المحيطة بالواقع الذي يتحركون فيه، تؤدّي إلى تكذيبـي وإسقاط موقعي، من خلال طبيعة الرسالة في مضمونها التوحيدي المضادّ لكلّ ما يلتزمونه من أفكار وأعمال، فكان الجواب الإلهيّ: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً}[5]، يحميكما من بطش فرعون وسطوته، من خلال عناصر القوّة المعنوية والمادية التي تحصلان عليها مني، {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}، وصدر الأمر إليهما، {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، لأنّ الرسالة في مضامينها تستهدف النفاذ إلى عقل الإنسان الذي تتوجَّه إليه، ما يفرض الكلام اللّيّن الذي يدخل القلب ويستولي على المشاعر في احترامه الإنسان الآخر، ولكنهما كانا في موقع الصّدمة، من خلال القوّة الطاغية التي يملكها فرعون، مقارنةً بما يملكانه من قوّة لا تمثّل شيئاً، {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وليكن هذا هو المطلب الأوّل الذي يوحي إليه بأنّكما تريدان إنقاذ المستضعفين الّذين تنتمون إليهما، من دون أيّة إثارة في القضايا الجسديّة، {وَلَا تُعَذِّبْهُمْ}، كما كنت تفعل معهم من خلال العقدة التي حملتها ضدَّهم، {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}، وهي العصا واليد البيضاء، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}، فلك السلام إذا اتبعت هدى الله، وإلا فإنّك ستواجه العذاب الذي يستحقّه من أعرض عن ذكر ربه، وكذَّب به، {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.
وفوجئ فرعون بهذه الجرأة التي لم يسبق له أن واجه مثلها، وبهذا المنطق الجديد في الحديث عن ربه الذي لم يسمع به، وبهذا العرض الذي يستهدف إضعاف سلطته بإرسال بني إسرائيل معهما، وهم القوّة العاملة عنده. ولكنه واجه الموقف بهدوء وحذر بعد أن رأى الآيتين "العصا واليد البيضاء"، اللّتين اقتنع منهما أنّ هناك قوّة خفيَّة تختفي وراءهما، {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، فهو الخالق للموجودات كلّها، وقد أعطى كلّ مخلوق هداه، من خلال ما ركَّب فيه من قوانين، وما أودعه فيه من سنن، {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}، الّتي لم تهتدِ بهذا المنطق؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}.
وربما كانت هذه المفاهيم واردةً على نحو الجملة الاعتراضيّة القرآنيّة، من خلال أسلوب القرآن في التدخّل ببعض الأفكار الإيمانيّة في داخل الحوار، وربما كانت مما تحدَّث به موسى(ع) مع فرعون بطريقة خاصّة، باعتبار أنّه كان في موقف الدّعوة التي تعمل على أن تفصّل له مقام ربّه في فيوضات نعمه وأسرار خلقه.
ولم يستجب لهما، فقد أخذته العزّة بالإثم في ذهنيّته الاستعلائيّة وفي طغيانه وجبروته، {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}، واعتبر موسى(ع) ساحراً يملك القوّة السحريَّة التي تملك اقتلاعه من أرضه، أو هكذا أراد الإيحاء للنّاس ليبتعد بهم عن الاستجابة لدعوته، {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ}[6]. وبدأت العداوة الفرعونيَّة الّتي تستجمع كلّ عناصر القوّة ضدّ هذا الذي يعتبره الساحر القويّ، الذي ملأ قلبه خوفاً ورهبة، ليخوض المعركة بكلّ أسلحته السحريّة، وانطلق موسى(ع) ليجد أنّ الرسالة صنعت عدوّها، وأنّ الرسول الذي كان يواجه العداوة من موقعه الإنساني في حركة الاستكبار ضدّ الاستضعاف، إذا به يواجه من موقعه الرسالي في حركة القوى المضادّة للرسالة وللرسول، وتحقّقت النبوءة القرآنية التي تحدث بها القرآن في قصة ولادة موسى، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}[7]، فها هو الطّفل الذي احتضنه فرعون وربّاه كما خاطبه بذلك: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[8]، يتحوَّل إلى إنسان يتحدّى جبروته، من خلال المفاهيم التوحيديّة الجديدة التي لم يجرؤ أحد من قبله على أن يطلقها في ساحة ملك فرعون، وهكذا طلب موسى(ع) تحديد موعد المنازلة في موقع التحدّي، وهذه نقطة ضعف فرعونيّة أخرى تُسجَّل لمصلحة موسى في احترام فرعون له: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى* قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى}.
الإنذار والتّبليغ
وهنا، وقف موسى منذراً وواعظاً للجموع المحتشدة في تلك الساحة الواسعة بأسلوب قويّ، لأنّ المسألة عنده هي البحث عن فرصة يبلِّغ بها رسالته للنّاس الذين لم يستطع إيصال الدعوة إليهم قبل ذلك، {قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، وربما اختار موسى(ع) هذه الطريقة التهديدية بعذاب الله للمفترين، لأنَّ الناس في تلك المرحلة كانوا يسقطون أمام تهاويل الخوف وسطوة التّهديد، {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}، وربما شعروا بأن كلامه ترك أثره في الناس، فلم يطرح عليهم شيئاً يربك حياتهم أو يسيء إلى مصالحهم، ما يدفعهم إلى التفكير في كلامه، ولهذا، اتفقوا على شعار يؤلّب الناس ضدّه، لأنه يهدّد وجودهم في أرضهم، {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا}، فلا بدَّ لكم من الدفاع عن استقراركم في هذه الأرض، حتى لا تتيهوا في مواقع التيه، {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}، ويغيِّرا نمط حياتكم الذي قام عليه مجتمعكم في عاداتكم وتقاليدكم ومقدساتكم، مما يربك كل الواقع الذي تعيشون به، {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً}، في وحدة شاملة لا يجد فيها موسى وأخوه(ع) أية ثغرة أو أية نقطة ضعف يستفيدان منها، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[9]، وحصل على الانتصار الكبير في مواقع العلوِّ في الأرض.
هزيمة الاستكبار والاستعلاء
وكانت الجولة الأولى مع السحرة الذين سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وألقى موسى عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}، وفوجئ فرعون بهذا الانهيار الكبير والهزيمة الشنيعة أمام الجماهير، فهؤلاء الذين أراد منهم أن يهزموا موسى(ع) بسحرهم، سقطوا أمامه، وأعلنوا إيمانهم بالله، وكفروا بفرعون، وحاول أن يغطّي فشله باتهامهم بالتنسيق مع موسى(ع)، فلم يستأذنوه في إعلانهم الإيمان، وهو وليّ نعمتهم، وأخذ يهدّدهم بإنزال العقاب بهم، {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}، وكانت هذه الاندفاعة الفرعونية منطلقة من عقدة ضعف سببها الخلل الذي أصاب كبرياءه وسلطته، ما قد يفسح المجال أمام الآخرين من الناس لأن يتمرّدوا عليه، تماماً كما هم الطغاة الذين يحرِّكون عداوتهم للمصلحين بأسلوب القوّة المستعلية، للمحافظة على هيبتهم.
وكان ردّ فعل السّحرة الَّذين أراد لهم أن يسقطوا أمام تهديده، ويتراجعوا عمّا أعلنوا في مستوى المناجاة الثانية، {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}، الّتي أوضحت لنا الخطّ الفاصل بين الضّلال الذي كنّا فيه، من خلال الخضوع لك والاعتراف بربوبيتك، والهدى الذي يدعو إليه موسى(ع)، من خلال الإيمان بالله الواحد، {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ}، فلا مشكلة عندنا في كلّ العذاب الذي تنزله بنا، فإننا في إيماننا الجديد، لا تعني الدّنيا شيئاً عندنا، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، لنقبل على الله، فيجزينا الجزاء الأوفى. وبدأوا مهمة الدعوة إلى الله، ليكون إيمانهم في مستوى الدعوة إلى الرسالة، ليزداد تحدّيهم للضلال الفرعوني، وليثيروا أمام الناس النتائج الإيجابيّة للإيمان والنتائج السلبيّة للكفر، {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ}، الذي كنت تسخّرنا فيه لبسط سلطانك على الناس، {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى}.
واستمرَّ موسى(ع) بعد هذا الانتصار الكبير في الصّراع مع عدوّه؛ عدوّ الله، بالضّغوط المتنوّعة، واستمرّ فرعون في طغيانه واضطهاده للمستضعفين، وتخطيطه للقضاء على موسى(ع)، حتى إذا ما أوحى الله إلى موسى أن يسير بعباده ليقطع البحر، لاحقهم فرعون: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[10]، وغرقوا جميعاً، وكانت نهاية فرعون، {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}[11]، وانتصر موسى(ع) الانتصار الأخير.
ولكنَّ النبيّ موسى(ع) ما لبث أن بدأ عمليّة الدّعوة بأسلوب جديد، وهو تربية بني إسرائيل الّذين عانى الكثير من تخلّفهم وتمرّدهم وانحرافهم، من خلال الرّواسب الكامنة في داخلهم، لينتقل من العداوة الخارجية إلى العداوة الداخلية في الإرباكات التي واجهته في مسيرته الجديدة. وهكذا كانت مرحلة موسى الجديدة التي أنزل الله عليه فيها التوراة، لتكون الشريعة التفصيلية للناس كافّةً، وبدأت الدعوة مرحلة منفتحة على الكثير من التفاصيل، بعد أن كانت تتحرك بشيء من الإجمال.
مع تجربة النبيّ عيسى(ع)
أمّا عيسى(ع)، فقدأرسله الله ليكون آيةً للناس، ورحمةً منه، ووجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين، ويكلّم الناس في المهد، وكهلاً ومن الصالحين، ويعلّمه الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل، ورسولاً إلى بني إسرائيل، الّذين قدَّم نفسه إليهم لتأكيد رسوليّته وقربه من الله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}. ولكن الأكثريّة لم تستجب له، بل وقفت منه موقف العداوة، وعانى منهم ما عاناه من الاضطهاد الجسديّ، حتى حاولوا قتله وصلبه، وخيّل إليهم أنهم وصلوا إلى ما يريدون، ولكنّ الله رفعه إليه، وقد أراد أن يقود التيار المؤمن معه، ليقوم بمهمة الدّعوة إلى الله في المجتمع الآخر، {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[12]. وهكذا، كانت النتيجة للدّعوة: {فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[13]، وكان مما قاله عيسى بن مريم(ع): {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[14].
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [طه: 39].
[2] [القصص: 15 ـ 17].
[3] [قصص: 18 ـ 21].
[4] [القصص: 25].
[5] [القصص: 33 ـ 35].
[6] [طه: 42 ـ 58].
[7] [القصص: 8].
[8] [الشعراء: 18].
[9] [طه: 58 ـ 64].
[10] [طه: 70 ـ 79].
[11] [يونس: 90 ـ 92].
[12] [آل عمران: 49 ـ 54].
[13] [الصف: 14].
[14] [الصف: 6].