كان المسلمون يسألون النبيّ عن بعض القضايا التي تشغل تفكيرهم في تفاصيل بعض الواجبات أو المحرّمات، وكانت في غالبها ـ كما ينقل عن ابن عباس ـ خفيفة لا تعقيد فيها؛ عملية لا ترف فيها ولا تكلّف، انطلاقاً من شعورهم بأنَّ دور السؤال هو أن يحل للإنسان مشكلة يواجهها في حياته العقيدية أو العملية. فإذا لم تكن هناك مشكلة مطروحة في ساحة اهتماماته الطبيعيَّة، فلا معنى لأن يبادر بالسّؤال الذي يتحوّل إلى تكلّف لا فائدة فيه، وعبث لا معنى له، وإضاعة لوقت السّائل والمسؤول في ما لا جدوى منه...
وقد جاء في الذكر الحكيم: {يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة: 215].
وهكذا نفهم الدور المطلوب للسؤال في الإسلام، بأن يكون نافذة فكرية تطلّ على ما ينبغي للإنسان معرفته من شؤون الكون والحياة في ما يتعلّق بأمر الدنيا والآخرة. وهذا ما نستوحيه من الحديث القرآني عن الأسئلة التي لا يريد اللّه للإنسان أن يخوض فيها، لأنها لا تتصل بالمعرفة المرتبطة بالمسؤوليَّة، فلا تضيف للإنسان جديداً في حياته كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا* فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا* إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ* إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}[النازعات: 42 ـ 45]. فقد أغلق القرآن باب السّؤال عن توقيت يوم القيامة، لأنه لا يعود بفائدة عقيدية أو عملية، لأنَّ من واجب الإنسان الاستعداد لها بعيداً عن أي توقيت معين، من خلال مسؤوليته أمام اللّه، كما أنَّ مهمة النبيّ هي الحديث عمّا يحدث فيها لا عن وقتها الذي قد لا يكون محيطاً بعلمه، كما توحي به بعض الآيات التي تقول: {يَسْألُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّه وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لاَ يَعْلَمُونَ}[الأعراف: 187]، ونلاحظ ذلك في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وفي بعض الأحاديث التي تقول: "سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً". وفي الجانب المقابل، نجد أمامنا قول اللّه تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].
وهكذا نستوحي الدور الإسلامي للسؤال الذي يجب أن يكون نافذة للمعرفة المتصلة بالعقيدة والعمل والحياة.
وكان النبيّ يستجيب لكلّ ما يُوَجَّه إليه من أسئلة، فلم يكن ليضيق في الردّ عن أي سؤال مما يريد المسلمون معرفته، لأنه يشعر بأنَّ مهمته الأساسيَّة هي أن يعلّم النّاس الكتاب والحكمة في ما يجهلونه من شؤونهما المتصلة بحياتهم. ولكنَّه كان دقيقاً في الإجابة من موقع رسالته، فيختار الجواب الذي يتناسب مع حاجتهم، وإن كان بعيداً عن النص الحرفي للسؤال، لأنَّ دوره هو دور الموجّه للسائل؛ فيوحي له ـ من خلال الجواب ـ بما ينبغي له أن يسأل عنه، لا بما يحبّ أن يعرفه. وهذا ما نستشعره من الجواب النبوي الذي علّمه اللّه لنبيّه(ص)، فإنه أجاب عمّن يلزمهم الإنفاق عليهم من الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، بدلاً من الجواب عمّا سألوا عنه مما يلزمهم الإنفاق منه من أنواع الطعام، فقد نلاحظ أنه مر بها مروراً خاطفاً، ولم يتوقف عند التفاصيل، فقد يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء إليهم بأنَّ نوع الطعام الذي يُقدّم ليس مشكلة تبحث عن حل، باعتبار أنه لا يُقدّم ولا يؤخر شيئاً في هذا المجال ما دام خيراً ونافعاً، بل القضيَّة هي نوعية النّاس الَّذين يتصدّق عليهم، من حيث علاقاتهم القريبة به الَّتي تجعل من صلته لهم صلة رحم، ومن حيث حاجتهم التي تجعل من صلتهم إنفاقاً في حل المشكلة الاجتماعية؛ فإذا خلا الأمر عن هذين النحوين، أصبح شيئاً لا معنى له أو لا منفعة منه. ولذا كان التركيز الكبير على ذلك باعتبار أنه هو الخير، لأنَّ كون الإنفاق خيراً لا يتَّصل بطبيعة المال الَّذي ينفقه الإنسان، بل يتَّصل بطبيعة الحالة أو المشكلة التي عالجها، والإنسان الَّذي أعانه.
ثُمَّ انطلقت الآية بأسلوب تشجيعي على الخير القائم على الإنفاق في موارده التي يحبّها اللّه، لتقرّر الحقيقة الإلهية في قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة:273]، الأمر الذي يوحي إلينا بالاندفاع في هذا الاتجاه، لأنه لا يضيع عند الله الذي يعلم ما نعمل بكلّ دوافعه ونتائجه الخيّرة.
يَسْألُونَكَيا محمَّد في حركة المعرفة التفصيلية في وجدان المسلمين الذين اتبعوك وتابعوا معك الوحي الإلهي في العقيدة والشريعة والحياة، وواجهوا ـ من خلال ذلك ـ أكثر من علامة استفهام حول هذا الموضوع، أو هذه القضية، أو ذاك الواقع، ليحصلوا على الطمأنينة الفكرية الوجدانية أمام الأسئلة الكثيرة عندهم، مَاذَا يُنفِقُونَ من أنواع الأموال التي يملكونها في حياتهم من ألوان الطعام والشراب والألبسة والنقود وغيرها؟ هل هناك شيء معين يلتزمونه في إنفاقاتهم؟ وهل هناك فريضة محدّدة في نوعيةٍ خاصةٍ منها؟ لأنهم يريدون أن تكون التزاماتهم العملية ـ حتى في العطاء ـ خاضعةً لتعليماتك الرساليَّة الَّتي تمتد إلى كلّ شؤون الإنسان في الواقع. قُلْ لهم ـ يا محمَّد ـ جواباً عن هذا السؤال الَّذي لا يختزن في داخله أية أهمية في المفهوم الإنساني لقضية العطاء، فإنَّه من الطبيعي أن ينفق النّاس مما لديهم من الأموال التي تمثّل حاجات النّاس المتنوّعة، ليكون الإنفاق على كلّ شخص بما يحتاجه في حياته الخاصة، بالطريقة المألوفة في هذا السلوك الإنساني الذي يتصل بالآخرين، إلا أنَّ الأهمية هي لتحديد النّاس الذين نعطيهم، من خلال تحديد الأولويات في الإنفاق، لأننا لا نملك الإنفاق على كلّ النّاس، فهناك النّاس الذين لا يجدون أيّة فرصة للحياة الكريمة وتأمين ما يحتاجونه من الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها، لأنَّ أبواب الحياة أغلقت أمامهم، ولأنَّ الطرق التي يتحرّكون عليها إلى حاجاتهم سُدّت في وجوههم؛ وهكذا عاشوا في حصار الظروف القاسية الخانقة التي منعتهم من أن يتنفسوا الهواء الطلق الذي يكفل لهم استمرار الحياة، فالسؤال ينبغي أن يكون عمّن هو الأولى بالإنفاق بين النّاس، ولذلك كانت الحكمة الإلهية توحي إليك بالجواب عن السؤال الذي ينبغي لهم أن يسألوه، لا عمّا سألوه.
مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍمن المال الذي تملكونه وتعطونه، ليتحوّل إلى خير للنّاس، لأنه يلبّي لهم حاجاتهم، ويحقّق لهم مشتهياتهم، ويبلغ بهم أهدافهم من أي نوع من هذه الأنواع التي تمثّل حاجة النّاس، باعتبار أنَّ الخير هو عنوان العطاء في دلالاته الروحيَّة المنفتحة على إنسانيّته القيّمة في خطّ التكافل الاجتماعي لرعاية الحالات الصّعبة أو المتَّصلة بالعاطفة الإنسانيَّة.
وهذا ما تؤكده الفقرة التالية في الآية، حيث الدعوة إليه كعنوان لا بُدَّ للنّاس من أن يحرّكوه في قضية الإنفاق، فـ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَلِدَيْنِ اللذين هما سرّ حياة الإنسان في وجوده الحيّ، ما يفرض عليه الاهتمام بهما ورعايتهما في شيخوختهما ومرضهما وتعبهما، والإحسان إليهما في كلّ أوضاعهما في الحياة، كبادرة عرفان الجميل لما قاما به، على هدى ما جاء في قوله تعالى، في إثارة ذكريات الطفولة الأولى في وجدان الإنسان في شبابه عندما يتذكر ذلك كلّه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
وَالأقْرَبِينَمن أرحامكم الذين يتصل نسبكم بنسبهم، وتجري في عروقكم دماؤهم، أو تجري دماؤكم في عروقهم؛ هؤلاء الذين يمثّلون المجتمع الأول الذي ترتبطون به من الداخل في حركة الوجود، ما يجعل منه الخلية الاجتماعية الأولى التي تمنحكم الكثير من عناصر شخصيتكم وملامحها الداخلية والخارجية، وهذا ما أكد الله فيه شريعته في اعتبار صلة الرحم قيمة أخلاقية إيجابية، وقطيعة الرحم قيمة سلبية، لأنَّ ذلك يوثق الرابطة الاجتماعية الإنسانية الأقرب في الواقع الإنساني، بما يؤهّل المجتمع لتوثيق الروابط الأخرى.
وَالْيَتَامَىالذين فقدوا الآباء في طفولتهم، فلا يجدون الإنسان الذي يرعاهم ويحضنهم ويمنحهم الحبّ والحنان، ويضمهم إلى صدره، ويفتح لهم روحه، فيشبع جوعهم، ويروي ظمأهم، ويكسو عريهم، بما يجعل من الإنفاق عليهم تحصيناً للمجتمع من ضياع الفئة الضعيفة فيه في متاهات الحياة، لتستند إلى قوّة المجتمع في مسؤوليته المجتمعيَّة بعد أن فقدت قوّة الأب أو الأم، فيمنحها الثقة بالذات وبالحياة.
وَالْمَسَاكِينَالذين ضاقت بهم سبل الحياة، فلم يحصلوا على العيش الكريم من خلال الظروف القاسية التي مرّت بهم، والضغوط الصعبة التي أطبقت عليهم، والأوضاع المعقدة المتحرّكة في داخل حياتهم، الأمر الذي يجعل من الإنفاق عليهم إيجاد حالةٍ من التوازن الاجتماعي وتحقيق نوعٍ من التكافل الإنساني، بما يحقّق للمجتمع الظروف الطبيعية في سلامته واستقامته وقوّته، بدلاً من الاهتزاز الواقعي الناشئ من اختلال الأوضاع الاقتصادية للنّاس بين إنسان يموت من التخمة، وآخر يموت من الجوع.
وَابْنِ السَّبِيلِ الذي انقطع به الطريق، فلم يكن معه مال يستخدمه لقضاء حاجات السفر، ولم تكن له فرصة في الحصول عليه بأية طريقة؛ الأمر الذي يفرض على الواقع الإسلامي، أن يجد له حلاً في إدخاله في دائرة الكفالة الاجتماعية في الحياة العامة.
وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ مما يمثّله فعل الخير من انفتاح الإنسان في حياته على تفجير طاقاته في اتجاه حل مشكلة إنسان هنا وقضاء حاجته هناك، ورفع مستواه المادي والمعنوي، وتهيئة الظروف الملائمة لإيجاد واقع الخير والعدل للإنسان... فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء مما يقوم به عباده في السرّ والعلانية.
المصدر: تفسير من وحي القرآن