أدعية شهر رمضان، هذه الثَّروة الفكريَّة الروحيَّة الحركيّة الّتي إذا تعمَّقت فيها، رأيت أنَّ الدعاء يمثِّل حركة ثقافيّة تموِّنك بكلّ تفاصيل العقيدة، وبكلِّ امتدادات الحركة في الحياة، وتموِّنك بأن تفهم داخلية نفسك، وهل أنت تطيع ربَّك أو تعصيه.. فعلى أيّ أساس تقوم الطاعة؟ وعلى أيّ أساس تُبنى المعصية؟ هذا هو السؤال.
وهكذا نجد أنَّ الإنسان العاصي في حياته، يحاول من خلال الدعاء في شهر رمضان أن يعلن أنَّ معصيته لا تعني الابتعاد عن إيمانه، وأنَّ معصيته لا تعني التمرّد على ربِّه، وأنَّ معصيته لا تعني الاستهانة بربِّه، وإنما تعني حالة من خطرات النَّفس، وحالة طارئة من خلال ما يحدث للإنسان: "إِلَهي لَمْ اَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ - ليس لها عمق في النَّفس، لأنَّ عمق النَّفس هو الإيمان، والإيمان لا يسمح للإنسان في كلِّ جذوره في الذَّات أن يتكبّر على ربِّه أو أن يبتعد عن طاعته - وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي - والنفس أمّارة بالسوء -، وَغَلَبَني هَوايَ - والهوى يصدُّ الإنسان عن الحقّ - وَأَعَانَني عَلَيْها شِقْوَتي"1، هي العناصر الداخليَّة الَّتي قد تجعل الإنسان شقياً من خلال كلّ هذه التراكمات التي تزحف إلى عقله وقلبه وحياته.
وهكذا - أيّها الأحبَّة - نلتقي في الأدعية في المعنى الَّذي يجعل الإنسان يتدلَّل على ربِّه، بحيث يشعر كما لو كان طفلاً يلعب بين يديه ويتدلَّل عليه: "اللَّهُمَّ إِنَّ عَفْوَكَ عَنْ ذَنْبِي، وَتَجاوُزَكَ عَنْ خَطِيئَتِي، وَصَفْحَكَ عَنْ ظُلْمِي، وَستْرَكَ عَلَى قَبِيحِ عَمَلِي، وَحِلْمَكَ عَنْ كَثِيرِ جُرْمِي، عِنْدَما كانَ مِنْ خَطَأي وَعَمْدِي، أَطْمَعَنِي فِي أَنْ أَسْأَلَكَ ما لا أسْتَوْجِبُهُ مِنْكَ، الَّذِي رَزَقْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَرَيْتَنِي مِنْ قَدْرَتِكَ، وَعَرَّفْتَنِي مِنْ إِجابَتِكَ، فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً - كما لو كنت لا أعيش أيَّ أساس للخوف - وَأَسْأَلُكَ مُسْتَأْنِساً، لاخائِفاً وَلا وَجِلاً، مُدِلًّا عَلَيْكَ فِيما قَصَدْتُ فِيهِ إِلَيْكَ، فَإنْ أَبْطأ عَنِّي عَتِبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَأ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الأمُورِ"2.
وهكذا، ينطلق الإنسان ليستحضر في نفسه كلَّ فيوضات ربِّه في حياته الداخليَّة والخارجيّة وفي الناس من حوله..
تصوَّر أنَّك في دعاء صغير واحد تختصر كلَّ ما يعيشه النَّاس من مشاكل وآلام وأوضاع سلبيَّة، حتَّى إنَّك تفكِّر في الراقدين في القبور لتطلب من الله أن يعطيهم الفرح: "اللَّهمَّ أدخِل على أهل القبور السّرور، اللَّهمَّ أغنِ كلَّ فقير، اللَّهمَّ أشبعْ كلَّ جائع، اللَّهمَّ اكسُ كلَّ عريان، اللَّهمَّ اقضِ دَيْنَ كلَّ مدين، اللَّهمَّ فرِّج عن كلِّ مكروب، اللَّهمَّ ردَّ كلَّ غريب، اللَّهمَّ فكّ كلَّ أسير، اللَّهمَّ أصلِح كلَّ فاسدٍ من أمورِ المسلمين، اللَّهمَّ اشفِ كلَّ مريض، اللَّهمَّ سُدَّ فَقْرِنا بغناك، اللَّهمَّ غيِّرْ سوءَ حَالِنا بحُسْنِ حَالِكَ، اللَّهمَّ اقضِ عنّا الدَّين، وأَغْنِنا من الفقرِ، إِنَّكَ عَلَى كلِّ شيءٍ قدير"3.
ماذا يمثِّل هذا الدّعاء؟ إنَّه يمثّلك وأنت تستحضر في وعيك وفي وجدانك كلَّ هموم العالم، ونلاحظ أنَّه لم يتحدَّث عن المؤمنين فحسب، بل عن كلِّ فقير وكلّ جائع وكلّ عريان، ما يعني أنَّك قبل أن تدعو، تفيض إنسانيتك في نفسك، فتحمل هموم كلّ المرضى وكلّ الجائعين وكلّ المدينين وكلّ الغرباء وكلّ الّذين يعانون مشكلة في الحياة، وبهذا تتربى إنسانيَّتك لتستحضر في نفسك كلمة الإمام عليّ (ع) في حديثه مع مالك الأشتر (رض): "فإنَّ الناس صنفان؛ إمَّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخلق"4.
لذلك – أيُّها الأحبَّة - في كلِّ هذه الأدعية الَّتي تتضرَّع بها في النَّهار وفي اللَّيل وفي السَّحر، حامداً مسبِّحاً مستغفراً ذاكراً مهلِّلاً مكبِّراً منفتحاً في كلِّ آلامك تفرشها بين يدي ربِّك، لا بدَّ لنا أن نختزن ذلك كلَّه، وأن نتثقَّف بذلك كلِّه، لأنَّ ذلك يمثِّل ثقافةً يمتزج فيها الفكر بالرّوح، وتمتزج فيها حركة الدنيا بحركة الآخرة، فأنت لا تبتعد عن دنياك عندما تطلب من الله أن يرزقك وأن يمنحك الصحَّة والعافية والولد والأمن وما إلى ذلك، ولكنَّك تجعل ذلك كلّه في اتجاه الآخرة، وبذلك فأنت تعيش في دنياك آخرتك، كما تعيش في مادَّتك روحك، وفي فكرك عاطفتك، وهذه هي قيمة الثقافة الإسلاميَّة الَّتي جاء بها القرآن، فهي ليست ثقافة معلَّبة، ولكنَّها ثقافة تقتحم الإنسان.
*من كتاب "النَّدوة"، ج 4.
[1]من دعاء أبي حمزة الثّمالي.
[2]من دعاء الافتتاح.
[3]من أدعية شهر رمضان، بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج95، ص 120.
[4]نهج البلاغة، ج3، ص 84.
أدعية شهر رمضان، هذه الثَّروة الفكريَّة الروحيَّة الحركيّة الّتي إذا تعمَّقت فيها، رأيت أنَّ الدعاء يمثِّل حركة ثقافيّة تموِّنك بكلّ تفاصيل العقيدة، وبكلِّ امتدادات الحركة في الحياة، وتموِّنك بأن تفهم داخلية نفسك، وهل أنت تطيع ربَّك أو تعصيه.. فعلى أيّ أساس تقوم الطاعة؟ وعلى أيّ أساس تُبنى المعصية؟ هذا هو السؤال.
وهكذا نجد أنَّ الإنسان العاصي في حياته، يحاول من خلال الدعاء في شهر رمضان أن يعلن أنَّ معصيته لا تعني الابتعاد عن إيمانه، وأنَّ معصيته لا تعني التمرّد على ربِّه، وأنَّ معصيته لا تعني الاستهانة بربِّه، وإنما تعني حالة من خطرات النَّفس، وحالة طارئة من خلال ما يحدث للإنسان: "إِلَهي لَمْ اَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ - ليس لها عمق في النَّفس، لأنَّ عمق النَّفس هو الإيمان، والإيمان لا يسمح للإنسان في كلِّ جذوره في الذَّات أن يتكبّر على ربِّه أو أن يبتعد عن طاعته - وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي - والنفس أمّارة بالسوء -، وَغَلَبَني هَوايَ - والهوى يصدُّ الإنسان عن الحقّ - وَأَعَانَني عَلَيْها شِقْوَتي"1، هي العناصر الداخليَّة الَّتي قد تجعل الإنسان شقياً من خلال كلّ هذه التراكمات التي تزحف إلى عقله وقلبه وحياته.
وهكذا - أيّها الأحبَّة - نلتقي في الأدعية في المعنى الَّذي يجعل الإنسان يتدلَّل على ربِّه، بحيث يشعر كما لو كان طفلاً يلعب بين يديه ويتدلَّل عليه: "اللَّهُمَّ إِنَّ عَفْوَكَ عَنْ ذَنْبِي، وَتَجاوُزَكَ عَنْ خَطِيئَتِي، وَصَفْحَكَ عَنْ ظُلْمِي، وَستْرَكَ عَلَى قَبِيحِ عَمَلِي، وَحِلْمَكَ عَنْ كَثِيرِ جُرْمِي، عِنْدَما كانَ مِنْ خَطَأي وَعَمْدِي، أَطْمَعَنِي فِي أَنْ أَسْأَلَكَ ما لا أسْتَوْجِبُهُ مِنْكَ، الَّذِي رَزَقْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَرَيْتَنِي مِنْ قَدْرَتِكَ، وَعَرَّفْتَنِي مِنْ إِجابَتِكَ، فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً - كما لو كنت لا أعيش أيَّ أساس للخوف - وَأَسْأَلُكَ مُسْتَأْنِساً، لاخائِفاً وَلا وَجِلاً، مُدِلًّا عَلَيْكَ فِيما قَصَدْتُ فِيهِ إِلَيْكَ، فَإنْ أَبْطأ عَنِّي عَتِبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَأ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الأمُورِ"2.
وهكذا، ينطلق الإنسان ليستحضر في نفسه كلَّ فيوضات ربِّه في حياته الداخليَّة والخارجيّة وفي الناس من حوله..
تصوَّر أنَّك في دعاء صغير واحد تختصر كلَّ ما يعيشه النَّاس من مشاكل وآلام وأوضاع سلبيَّة، حتَّى إنَّك تفكِّر في الراقدين في القبور لتطلب من الله أن يعطيهم الفرح: "اللَّهمَّ أدخِل على أهل القبور السّرور، اللَّهمَّ أغنِ كلَّ فقير، اللَّهمَّ أشبعْ كلَّ جائع، اللَّهمَّ اكسُ كلَّ عريان، اللَّهمَّ اقضِ دَيْنَ كلَّ مدين، اللَّهمَّ فرِّج عن كلِّ مكروب، اللَّهمَّ ردَّ كلَّ غريب، اللَّهمَّ فكّ كلَّ أسير، اللَّهمَّ أصلِح كلَّ فاسدٍ من أمورِ المسلمين، اللَّهمَّ اشفِ كلَّ مريض، اللَّهمَّ سُدَّ فَقْرِنا بغناك، اللَّهمَّ غيِّرْ سوءَ حَالِنا بحُسْنِ حَالِكَ، اللَّهمَّ اقضِ عنّا الدَّين، وأَغْنِنا من الفقرِ، إِنَّكَ عَلَى كلِّ شيءٍ قدير"3.
ماذا يمثِّل هذا الدّعاء؟ إنَّه يمثّلك وأنت تستحضر في وعيك وفي وجدانك كلَّ هموم العالم، ونلاحظ أنَّه لم يتحدَّث عن المؤمنين فحسب، بل عن كلِّ فقير وكلّ جائع وكلّ عريان، ما يعني أنَّك قبل أن تدعو، تفيض إنسانيتك في نفسك، فتحمل هموم كلّ المرضى وكلّ الجائعين وكلّ المدينين وكلّ الغرباء وكلّ الّذين يعانون مشكلة في الحياة، وبهذا تتربى إنسانيَّتك لتستحضر في نفسك كلمة الإمام عليّ (ع) في حديثه مع مالك الأشتر (رض): "فإنَّ الناس صنفان؛ إمَّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخلق"4.
لذلك – أيُّها الأحبَّة - في كلِّ هذه الأدعية الَّتي تتضرَّع بها في النَّهار وفي اللَّيل وفي السَّحر، حامداً مسبِّحاً مستغفراً ذاكراً مهلِّلاً مكبِّراً منفتحاً في كلِّ آلامك تفرشها بين يدي ربِّك، لا بدَّ لنا أن نختزن ذلك كلَّه، وأن نتثقَّف بذلك كلِّه، لأنَّ ذلك يمثِّل ثقافةً يمتزج فيها الفكر بالرّوح، وتمتزج فيها حركة الدنيا بحركة الآخرة، فأنت لا تبتعد عن دنياك عندما تطلب من الله أن يرزقك وأن يمنحك الصحَّة والعافية والولد والأمن وما إلى ذلك، ولكنَّك تجعل ذلك كلّه في اتجاه الآخرة، وبذلك فأنت تعيش في دنياك آخرتك، كما تعيش في مادَّتك روحك، وفي فكرك عاطفتك، وهذه هي قيمة الثقافة الإسلاميَّة الَّتي جاء بها القرآن، فهي ليست ثقافة معلَّبة، ولكنَّها ثقافة تقتحم الإنسان.
*من كتاب "النَّدوة"، ج 4.
[1]من دعاء أبي حمزة الثّمالي.
[2]من دعاء الافتتاح.
[3]من أدعية شهر رمضان، بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج95، ص 120.
[4]نهج البلاغة، ج3، ص 84.