ولادته:
ولد الإمام أبو محمد الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ثاني أئمة أهل البيت، وأول السبطين،
سيدي شباب أهل الجنة، في المدينة المنورة، ليلة النصف من شهر رمضان المبارك، على
الصحيح المشهور، بين الخاصة والعامة، سنة اثنتين أو ثلاث من الهجرة.
وعند ولادته، طلبت أمّه فاطمة بنت رسول الله (ص)، من أبيه عليّ، أن يسمّيه، فقال:
ما كنت لأسبق رسول الله (ص)، فجاء النبيّ، فأخرج إليه، فقال: اللّهم إني أعيذه بك
من الشيطان الرّجيم، وأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ثم سماه حسناً، ولم
يكن يعرف هذا الاسم في الجاهلية، كما في أسد الغابة.
أولاده:
كان له خمسة عشر ولداً، ما بين ذكر وأنثى، من أمّهات شتّى، ولم يعقب منهم، غير
الحسن وزيد.
نشأته:
ولد ونشأ في كنف جدّه النبي (ص)، وفي رعاية أبيه علي، وأمه فاطمة، وهو أول ولد يولد
من سلالة الرسالة، ليحفظ الله به وبأخيه الإمام الحسين، نموّ تلك الشجرة الطيبة،
التي أصلها ثابت، وفرعها في السماء.
وهبه جدّه العظيم من الحنان والمحبة، ما رّق به طبعه، وصفت به ذاته، وابتعدت به عن
دوافع الغلظة نفسه، فكان الحلم من أبرز صفاته، والمحبّة للناس من أروع مشاعره.
ورعاه جده العظيم، بعينه وقلبه، فهو قطعة من وجوده، وومضة من روحه، وصورة تحكيه .وورّثه
هيبته وسؤدده، حتى فرِق منه أعداؤه، وأعظمه مخلصوه وأحباؤه .وأعظم بإنسان، جدّه
محمّد، وأبوه عليّ، وأمّه فاطمة، وأيّ فخر بعد هذا لمفتخر، وأيّ مجد بعده لإنسان؟!
صفته:
عن الغزالي في "الإحياء"، أنّ النبي (ص) قال للحسن: "أشبهت خَلقي وخُلقي". وعن
المفيد في "الإرشاد": كان الحسن، أشبه الناس برسول الله خَلقاً، وهيئة، وهدياً،
وسؤدداً .وفي "أسد الغابة"، بسنده إلى أنس بن مالك: لم يكن أحد أشبه برسول الله من
الحسن بن علي.
ووصفه ابن الصباغ المالكي، في "الفصول المهمّة"، مرفوعاً إلى أحمد بن محمد بن أيوب
المقبري وغيره، قالوا:
كان الحسن (ع)، أبيض اللّون، مشرَّباً بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدّين، دقيق
المسربة، كثّ اللّحية، ذا وفرة، كأن عنقه بريق فضّة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين
المنكبين، ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحاً، من أحسن النّاس وجهاً، وكان يخضب
بالسّواد، وكان جعد الشّعر حسن البدن.
صفاته:
قال المدائني: كان الحسن بن عليّ أكبر ولد علي، وكان سيداً سخياً حليماً، وكان رسول
الله يحبّه.
وعن واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي، عليه سيماء الأنبياء، وهيبة الملوك. وعن محمد
بن إسحاق، كما رواه الطبرسي في أعلام الورى، قال: ما بلغ أحد من الشرف، بعد رسول
الله (ص)، ما بلغ الحسن بن عليّ، كان يبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس، انقطع
الطريق، فما يمرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم، قام ودخل بيته، فيمرّ
الناس.
قال الراوي: ولقد رأيته في طريق مكّة، نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحد إلا
نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقاص، قد نزل ومشى إلى جنبه. ويقول ابن حجر الهيثمي
في صواعقه: كان (رض) سيداً، كريماً حليماً، ذا سكينة ووقار وحشمة، جواداً ممدوحاً.
فضائله:
وهي أكثر من أن تحصى، ويكفي في ذلك، ما ورد عن جده من الروايات الناطقة بفضله،
والتي تعكس لنا عظمته وجلاله.
أخرج الترمذي والحاكم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: "الحسن والحسين
سيّدا شباب أهل الجنّة."
وأخرج البخاري عن ابن عمر، قال: قال النبيّ (ص): "هما ريحانتاي من الدنيا"، يعني
الحسن والحسين.
وأخرج الشيخان عن البراء: رأيت رسول الله (ص) والحسن على عاتقه، وهو يقول: "اللّهم
إني أحبّه فأحبَّه".
وأخرج الترمذي عن أسامة بن زيد قال: رأيت رسول الله (ص) والحسن والحسين على وركيه،
فقال: "هذان ابناي وابنا ابنتي، اللّهم إني أحبهما فأحبّهما، وأحبّ من يحبّهما".
وعن أحمد: "من أحبني وأحب هذين ـ يعني الحسن والحسين ـ وأباهما وأمّهما، كان معي في
درجتي يوم القيامة."
إلى غير ذلك من الروايات، التي وردت في حقه وحق أخيه الإمام الحسين، التي تبرز لنا
عظمتهما وفضلهما.
بعض مآثره:
أخرج أبو نعيم في الحلية، عن الحسن (ع) أنّه قال: "إني لأستحيي من ربي أن ألقاه،
ولم أمش إلى بيته"، فمشى عشرين حجّة.
وأخرج الحاكم عن ابن عمر، قال: لقد حجّ الحسن خمساً وعشرين حجة، وإن النجائب لتقاد
بين يديه.
وأخرج أبو نعيم، أنّه (ع) خرج من ماله مرَّتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات،
حتى إنّه كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطي خفّاً ويمسك خفّاً.
وأخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق: أنه لم يسمع منه كلمة فحش، إلا مرّة كان بينه وبين
عمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض، فقال: "ليس له عندنا إلا ما أرغم أنفه"، قال:
فهذه أشدّ كلمة فحش سمعتها منه.
وعن ابن شهر آشوب في المناقب: أنّ الحسن (ع) مرّ على فقراء، وقد وضعوا كسيرات على
الأرض، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا: هلمّ يا بن بنت رسول الله إلى الغداء،
فنزل وقال: فإنّ الله لا يحبّ المتكبرين، وجعل يأكل معهم، ثم دعاهم إلى ضيافته،
وأطعمهم وكساهم.
وغير ذلك من المآثر الأصيلة، التي ورثها عن أبيه وجدّه، وأطلقها نماذج حيّة
للإنسانيّة، لكي تسير على هديها، وتلتزم بطابعها الأخلاقيّ الرّفيع، لتكون واجهة
فذة لمجتمع إسلامي رائد.
من أخباره:
رافق أباه في جميع مراحل حياته، فكان الولد البارّ بأبيه، السامع له، المطيع أوامره،
ولم يفارقه في جميع مواقفه، بل نصره بسيفه ولسانه.
أرسله أبوه سفيراً عنه لأهل الكوفة، لكي يستنهضهم، ويستنفر بهم لقتال أهل الجمل،
فأدّى الرسالة، وحفظ الأمانة، وخطب خطبته المعروفة، التي حركت في أهل الكوفة، حماس
الحرب، وهزّت في نفوسهم مشاعر النصرة.
وكان على ميمنة أبيه في يوم الجمل، يدافع ويقاتل، لإرساء دعامة الحق، المتمثّل
بالجمل وعصباته.
وشهد صفين، وكانت له فيها مواقف لنصرة الحقّ رائعة، منها ما نقله نصر بن مزاحم في
كتابه "صفين"، قال: "أرسل عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن علي، أن لي إليك حاجة
فالقني، فلقيه الحسن، فقال له عبيد الله: إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً، وقد
شنئه الناس، فهل لك في خلعه، وأن تتولى أنت هذا الأمر؟
فقال: كلا، والله لا يكون ذلك: ثم قال: "يا بن الخطاب، والله لكأني أنظر إليك،
مقتولاً في يومك أو غدك، أما إنّ الشيطان قد زيَّن لك وخدعك، حتى أخرجك مخلقاً
بالخلوق، تري نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله ويبطحك بوجهك قتيلاً."
قال نصر: فوالله ما كان إلا بياض ذلك اليوم، حتى قتل عبيد الله". وكان (ع)، وصي
أبيه أمير المؤمنين (ع) وولي أوقافه.
إمامته:
تولّى منصب الإمامة بعد قتل أبيه، بتنصيب من قبل الله عزّ وجلّ، وبنصّ من جدّه رسول
الله (ص)، فقد صح ّعنه (ص) أنه قال: "الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا"، وبتعيين
من أبيه (ع)، وبايعه الناس بالخلافة، وحصلت بينه وبين معاوية مراسلات حادّة، تعقّبت
بإعلان الحرب بينهما، ثم حدثت بعد ذلك خطوب وأزمات، شلّت خطط الإمام في الحرب،
فصالح، وسلّم الأمر إلى معاوية، كما سنعرضه عليك في دراستنا هذه.
وفاته:
ثم عاد إلى المدينة، ليقيم فيها، منتظراً أمرَ ربّه، حتى دسّت إليه زوجته جعدة بنت
الأشعث بن قيس سماً، بأمر من معاوية، وتزيين منه، كما سنقرأه عليك فيما بعد.
وباشر أخوه الإمام الحسين (ع) أمر تجهيزه، وأخرجه ليجدّد به عهداً بجدّه رسول الله
(ص)، ولم يشكّ مروان، ومن معه من بني أميّة، أنهم سيدفنونه هناك، فتجمعوا لذلك،
ولبسوا السّلاح، وأقبلوا ومعهم عائشة على بغل وهي تقول:
"ما لي ولكم، تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أحبّ"؟! وجعل مروان يقول: "يا ربّ هيجا،
هي خير من دعة، أيدفن عثمان في أقصى المدينة، ويدفن الحسن عند جدّه؟ لا يكون ذلك
أبداً، وأنا أحمل السّيف".
وكادت الفتنة أن تقع، بين بني هاشم وبني أميّة. فقال الحسين: "والله لولا عهد الحسن
بحقن الدّماء، وأن لا أهريق في أمره محجمة دم، لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم
مأخذها، وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا".
ثم مضوا بالحسن، ودفنوه بالبقيع، عند جدّته فاطمة بنت أسد بن عبد مناف. وانطوت بذلك
أروع صفحة من صفحات الإمام الحقّة، التي كان رصداً، تخافه أقزام الضلال.
قالوا بعد وفاته:
ويستبشر معاوية بالنبأ، وتطيب له الدنيا، فقد مات من كان يخافه على ملك أميّة، في
حين تعتصر قلوب المؤمنين ألماً ولوعاً.
يحدثنا التاريخ أن عبد الله بن العباس، وفد على معاوية، قال: "فوالله ، إني لفي
المسجد، إذ كبّر معاوية في الخضراء، فكبّر أهل الخضراء، ثم كبّر أهل المسجد بتكبير
أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف من خوخة لها، فقالت:
سرّك الله يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به؟ قال: موت الحسن بن عليّ.
فقالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم بكت، وقالت: "مات سيّد المسلمين، وابن بنت
رسول الله (ص)".
فقال معاوية: نعمّا والله ما فعلت، إنه كان كذلك أهلاً أن تبكي عليه. ثم بلغ الخبر
ابن عباس، فراح فدخل على معاوية، قال: علمتُ يا بن عباس أن الحسن توفي.
قال: ألذلك كبّرت؟ قال: نعم.
قال: أما والله ما موته بالذي يؤخّر أجلك، ولا حفرته بسادّة حفرتك، ولئن أصبنا به،
فقد أصبنا قبله بسيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين، ثم بعده بسيد
الأوصياء، فجبر الله تلك المصيبة، ورفع تلك العثرة.
فقال: ويحك يا بن عباس! ما كلّمتك قطّ، إلا وجدتك مُعداً.
ووقف محمد بن الحنفية أخوه على قبره فقال: "لئن عزت حياتك، لقد هدَّت وفاتك، ولنعم
الروح روح تضمّنه كفنك، ولنعم الكفن كفن تضمّنه بدنك، وكيف لا تكون هكذا، وأنت عقبة
الهدى، وخلف أهل التّقوى، وخامس أهل الكساء، غذّتك بالتقوى أكفُّ الحقّ، وأرضعتك
ثديّ الإيمان، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حياً وميتاً، وإن كانت أنفسنا غير سخية
بفراقك، رحمك الله أبا محمد".
وقال ابن عباس: أوّل ذلّ دخل على العرب موت الحسن (ع). وقيل لأبي إسحاق السبيعي:
متى ذلّ الناس؟
فقال: حين مات الحسن، وادّعى زياد، وقتل حجر بن عدي.
وروى أبو الحسن المدائني، قال: أوّل من نعى الحسن بالبصرة عبد الله بن سلمة، نعاه
لزياد، فخرج الحكم بن أبي العاص الثّقفي، فنعاه، فبكى النّاس ـ وأبو بكرة يومئذٍ
مريض ـ فسمع الضجّة، فقال: ما هذا؟ فقالت امرأته ميسة بنت سخام الثقفية: مات الحسن
بن علي، فالحمد لله الذي أراح الناس منه! فقال: اسكتي ويحك! فقد أراحه الله من شرّ
كثير، وفقد الناس بموته خيراً كثيراً، يرحم الله حسناً.
وهكذا اتّفق أعداؤه وأحبّاؤه على المأساة بفقده، وكانت وفاته لليلتين بقيتا من صفر،
سنة خمسين للهجرة على المشهور.
"فسلام عليه يوم ولد، ويوم اختاره الله إليه، ويوم يبعث حياً".
*من كتاب "صلح الإمام الحسن (ع).