الزهـراء(ع) نمـوذج رسالـي

الزهـراء(ع) نمـوذج رسالـي
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الزهـراء(ع) نمـوذج رسالـي

ما تمنّى غيرَها نسـلاً ومَنْ                   يلدِ الزهراءَ يزهدْ في سواها

العمر القصير والمسؤولية الكبيرة
نعيش في هذه الأيام ذكرى مولد السيدة الطاهرة المعصومة بعصمة الله، المجاهدة العابدة، السيدة فاطمة الزهراء(ع). وقد اختلفت الروايات في تاريخ ولادتها، فهناك من يقول إنها وُلدت قبل البعثة بخمس سنوات، وهناك من يقول بعد البعثة بسنة، والمشهور بين علماء المسلمين الشيعة أنها وُلدت بعد أن بُعث رسول الله بالرسالة بخمس سنوات، وأن عمرها كان عمراً قصيراً، فقد اختارها الله إلى جواره في سن الثامنة عشرة، على حسب هذه الرواية.

ولكن هذا العمر القصير كان عمراً مليئاً بكل ما يقرّب الإنسان إلى الله، وما يحرّكه في خطّ المسؤولية، وما ينطلق به ليجسّد أعلى القيم الإنسانية. فالسيدة الزهراء(ع) تمثل الإنسانة التي عُجنت شخصيتها بكل الطهارة، وانفتح عقلها على كل الحقيقة، ونبضَ قلبُها بكل الخير والمحبة، حتى إننا نقرأ في تاريخها، أنها حين ألقى المشركون على ظهر أبيها رسول الله(ص) أمعاء الجزور وهو ساجد، جاءت وأزالت ذلك عنه، ووقفت أمامهم وهي في سنّها البالغة خمس سنوات، وشتمت كبار قريش في تلك اللحظة.

تجسيد الأمومة
وعندما توفيت أمها أم المؤمنين خديجة في السنة العاشرة من البعثة، وكان عمرها خمس سنوات، كانت(ع) تملأ كل مشاعر أبيها، كانت تحتضن روحه، وتراقب كل آلامه، وكانت ترعى مشاعره وأحاسيسه، وخصوصاً أن رسول الله(ص) فَقَد أمه بعد ولادته، كما كان قد فَقَد أباه وهو حَمْل، فكانت(ع) ترعى أباها، حيث كانت تمنحه عاطفة كعاطفة الأم، ورعايةً كرعاية الأم، وهذا ما جعله(ص) ـ في ما يروى عنه ـ يقول: "إنها أمّ أبيها"، ما يوحي بأن كل ما كان ينفتح عليه قلبها هو فيض الشعور الأمومي الذي كان يملأ مشاعر رسول الله(ص).

ولذلك رأينا أن العلاقة بين رسول الله(ص) وبين ابنته الزهراء(ع) كانت علاقةً من أعمق العلاقات، فكانت هناك حياة أشبه بالحياة الاندماجية؛ كان عقلها من عقله، وكانت روحها من روحه، وكان قلبها من قلبه، وكان يرى فيها كل المعاني الروحية في رسالته.

ولذلك فإننا عندما نعيش ذكرى الزهراء(ع)، فلا بد لنا من أن نتعرّف هذه السيرة الطيبة العطرة، لأن المشكلة عند الكثيرين من الناس أنهم يذكرون الزهراء(ع) بالجانب المأساوي فقط، ولهذا شُغل الناس عن شخصية الزهراء(ع) بمسألة أنه كُسر ضلعها، وهذا أمر لا نتعقّله. لماذا؟ لأنّ السيدة الزهراء(ع) هي زوجة عليّ(ع)، وهي وديعة رسول الله(ص) عند عليّ، وهي محبوبة عند كل الأمّة، لما كانوا يرونه من تعظيم رسول الله لها، كما سيأتي، على الرغم من أنه عندما امتنع عليّ عن البيعة، جاؤوا وهددوا بإحراق البيت، وقد استنكر عليهم المسلمون ذلك، وقالوا إنّ في البيت فاطمة، فقال بعضهم: "وإنْ"، وفي رواية  أنه قال: "أورأيتموني فعلت". ومع فرض أنّ ذلك حصل، فما الذي منع عليّاً(ع) من الدفاع عن الزهراء، وهو أمر لا يقبله الشخص العادي إذا ما تعرّض أحد لزوجته أو لأمه؟ وثانياً، كان بنو هاشم في الدار، وقد خرج الزبير مسلطاً سيفه... بعض الناس يبررون عدم دفاع عليّ(ع) عنها بأن النبي أوصاه بذلك؟! هل يمكن لأحد أن يتصوّر أن النبي(ص) يحرّم على عليّ(ع) الدفاع عن ابنته، حبيبة رسول الله؟!

الزهراء(ع) في أحاديث أهل السنّة
وأنا أحبّ للناس أن يقرأوا أحاديث رسول الله(ص) التي وردت من غير طرق الشيعة، فقد ورد عن عائشة أمّ المؤمنين أنها قالت: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً وسمتاً ـ صفةً ـ وهدياً ودلاًّ  ـ قُرباً ـ برسول الله(ص) من فاطمة، وكانت إذا دخلت قام إليها فقبّلها ورحّب بها، كما كانت تصنع هي به". وفي رواية لأبي داوود، وهو من رواة أهل السنّة: "كان النبي(ص) إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبّلتها وأجلسته في مجلسها". وعن أمّ سلمة أمّ المؤمنين قالت: "كانت فاطمة بنت رسول الله أشبه الناس وجهاً برسول الله(ص)". وهذه الصفة ورثها الإمام الحسن أيضاً الذي كان أشبه الناس بجده(ص)، وورثها علي الأكبر ابن الإمام الحسين(ع).

وفي صحيح مسلم، ورد عن النبي(ص): "إنما ابنتي فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". وكان رسول الله(ص) إذا رجع من غزاة أو سفر، أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين، ثم ثنّى بفاطمة، ثم يأتي أزواجه. وعن عبد الله بن عمر، أن النبي(ص) كان إذا سافر، كان آخر الناس عهداً به فاطمة، وكان إذا قَدِم من سفر، كان أول الناس به عهداً فاطمة. وروي عن عائشة أن عليّاً(ع) قال للنبي(ص) لما جلس بينه وبين فاطمة(ع) وهما مضطجعان: "أيّنا أحبّ إليك؛ أنا أو هي"؟ فقال(ص): "هي أحبّ إليّ وأنت أعزّ عليّ"، وتفسير ذلك، أن فاطمة أحبّ إليه حبّ حنان وشفقة ورأفة، وأن عليّاً أعزّ عليه معزة فضلٍ ومكانة.

وفي "الاستيعاب"، وهو كتاب لأحد علماء أهل السنّة، أنّ عائشة سُئلت: "أيّ الناس أحبّ إلى رسول الله(ص)"؟ قالت: "فاطمة"، قلت: "فمن الرجال"؟ قالت: "زوجها، إنْ كان ما علمته صوّاماً قوّاماً". وعن عائشة: "ما رأيت أحداً أصدق لهجةً من فاطمة إلا الذي وَلَدَها"..

الزهـراء المعصومة
أما الآية التي تدلّ على عصمة السيدة الزهراء(ع)، فقد ورد عن أم سلمة أنها قالت: "في بيتي نزلت: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} [الأحزاب:33]، فأرسل رسول الله(ص) إلى فاطمة وعليّ والحسن والحسين فقال: "هؤلاء أهل بيتي". وفي رواية أخرى عنها: "كانوا في البيت، فجلّلهم بكساء ـ ولذلك سُمّي حديث الكساء ـ كان عليه، وقال: "هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"، قالها ثلاث مرات، فقلت: "يا رسول الله، وأنا معكم"؟ فقال(ص): "إنك على خير". وهذا دليل على أن هذه الآية لم تنـزل بأزواج النبي(ص)، بل في هؤلاء الخمسة المعصومين، وكان النبي(ص) يريد أن يؤكد كلمة (أهل البيت) في هذه المجموعة، لذلك كان عندما ينطلق إلى الصلاة، يمرّ على بيت فاطمة يقول: "السلام عليكم يا أهل البيت"، ويتلو الآية الكريمة.

علي(ع) كفؤ الزهراء(ع)
وقد كانت السيدة الزهراء(ع) صلة الوصل بين النبوة والإمامة، فهي ابنة النبي، وزوجة أول إمام، وأمّ الأئمة الباقين من أولادها وأحفادها، ففيها شيء من سرّ النبوة وسرّ الإمامة. وقد جاء كثير من الخطّاب لرسول الله(ص) يخطبون فاطمة، وكان يجيب: "أنتظر أمر الله". وعنه(ص): "لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ". والكفاءة تنطلق من تعلّمهما معاً في بيت النبي(ص). فكما أن عليّاً تعلّم وانطبع وتربى عقله وقلبه وانطلقت عصمته من خلال تربية رسول الله(ص)، فكذلك كانت فاطمة، ولذلك لم يكن هناك أحد يساوي فاطمة في الروحانية والعلم وكل الصفات الرائعة التي تقرّب الإنسان إلى الله إلا عليّ(ع).

الزهراء ومريم: الاشتراك والافتراق
وورد عن النبي(ص): "إنها سيدة نساء أهل الجنة"، وفي رواية أنها "سيدة نساء العالمين"، وفي رواية ثالثة أنها "سيدة نساء المؤمنين". أما مريم(ع)، فإنها سيدة نساء عالمها، وقد اختارها الله واصطفاها لتكون أمّاً للنبي عيسى(ع)، ولذلك فإننا عندما نقارن بين السيدة مريم والسيدة الزهراء(ع)، نجد أنهما يشتركان في أنهما كانتا تعيشان العبادة لله كأفضل ما تكون العبادة، ولكننا لا نجد أيّ نشاط للسيدة مريم(ع)، بينما كانت السيدة الزهراء تعيش النشاط الرسالي، وكانت تعلّم نساء المهاجرين والأنصار، وكانت المجاهدة التي تقف وتخطب في المسلمين دفاعاً عن الإمامة، وتواجه الآخرين دفاعاً عن الحق، ولذلك تميّزت السيدة الزهراء(ع) عن السيدة مريم(ع)، وهما القريبتان إلى الله، في أنها عاشت الجهاد والمواجهة للباطل والدفاع عن الحق، ولم يكن للسيدة مريم سوى رعايتها لابنها وموقفها أمام قومها في الدفاع عن عفتها وطهارتها.

العبادة والقوة
أما بالنسبة إلى عبادتها(ع)، فقد ورد عن الإمام الحسن(ع): "رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعةً ساجدةً حتى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين وتسمّيهم وتكثر لهم من الدعاء ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه، لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار".

والسيدة الزهراء(ع)، التي يصوّرها بعض الخطباء بأنها الضعيفة، كانت تعيش القوة المتحدّية، وقد اكتسبت هذه القوة من أبيها رسول الله(ص) الذي يقول فيه عليّ(ع) في بيان شجاعته: "كنا إذا اشتد البأس لذنا برسول الله". ونلاحظ قوة السيدة الزهراء عندما حدَثَ ما حدث، وأُبعد عليّ(ع)، فوقفت في المسجد وقالت لهم: "اعلموا أني فاطمة وأبي رسول الله"، وخطبت خطبتها التي واجهت فيها الخليفة في منعها إرثها من فدك، وكانت خطبتها من أمهات الخطب، لأنها تضمنت كل أسرار التشريع وأسباب المواجهة، بحيث إنها أقامت الحجّة عليهم في ما التزموا به من إبعاد عليّ(ع) عن حقه.

ثم عندما جاءت نساء المهاجرين والأنصار يعدنها في مرضها، خاطبتهن خطاباً عنيفاً. وعندما طلب الشيخان من عليّ(ع) أن تستقبلهما الزهراء(ع) ليسترضياها، أبدت الرفض أولاً، ولكن كرامةً لعليّ(ع) قبلت، وعندما جاءا إليها قالت لهما: "أما سمعتما أبي يقول: فاطمة بضعة مني، يغضبني ما يغضبها، ويؤذيني ما يؤذيها"؟ قالا: "نعم"، فقالت: "أُشهد الله أني غاضبة عليكما". وكانت قمة الموقف القوي المتحدي، أنها أوصت أن تدفن ليلاً، وأن لا يحضر جنازتها أحد ممن أبعد عليّاً واغتصبوا حقها، وهكذا كان. وهو ما يدلّ على الموقف القوي الذي أرادت أن تعبّر من خلاله عن رفضها وغضبها حتى بعد وفاتها.

إن الزهراء(ع) هي سيدتنا الطاهرة العابدة العالمة المعلّمة المعصومة بعصمة الله، القوية بنفسها، وعلى الرجال والنساء أن يقتدوا بها في كل القيم الروحية والإنسانية المتمثلة بها. وقد أنتجت للأمة ابنتها السيدة زينب(ع)، التي كانت القوية في موقفها أمام الطغاة في الكوفة وفي الشام، وكانت الصابرة المجاهدة التي تسلّمت المسؤولية بعد الحسين(ع).

والسلام على السيدة الزهراء، يوم وُلدت، ويوم انتقلت إلى جوار ربها، ويوم تُبعث حيّةً، ونسأل الله أن يرزقنا شفاعتها وشفاعة أبيها وزوجها وأبنائها، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

الحرب على المسلمين
يعوم العالم الإسلامي، في كثير من مواقعه، على أنهار من الدماء تسيل في شكل يومي، وذلك جرّاء الحروب الطاحنة التي دبّرتها مواقع الاستكبار العالمي، كما في الصومال الذي أضحى فريسةً لحرب داخلية تغذّيها الدول المستكبرة، ويتصارع فيها أخوة السلاح، ويدفع فيها المسلمون الأثمان مضاعفةً من لحمهم ودمهم وموقعهم السياسي والاستراتيجي.

أما في باكستان، التي تسفك فيها الدماء في التفجيرات الانتحارية، وفي الحرب التي تدور رحاها في وادي سوات، فالمشهد يشبه الكارثة، إذ إنّ هناك ملايين المشرّدين الذين كانوا ضحية لعبة دولية أرادت لهذا الموقع الإسلامي أن يتحوّل إلى ساحةٍ للفوضى والاهتزاز، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، وهي الحرب التي تأكل من أفغانستان المجاورة المزيد من الضحايا الأبرياء، ومئات المدنيين العزل الذين يسقطون تحت نيران الطائرات الأميركية، تارةً بحجة الخطأ، وطوراً باسم ملاحقة الإرهابيين.

وفي العراق، تتوالى الهجمات التي تقوم بها الجهات التكفيرية، والتي تستهدف المدنيين، وتقتل المؤمنين حتى في مساجدهم ومواقعهم العبادية، وتستحلّ دماء المسلمين، فيما تتناقص أعداد القتلى في صفوف المحتلّين الأميركيين، وكأن المطلوب هو إرباك الوضع الداخلي في العراق من خلال مجموعات سياسية ترتبط بالنظام البائد، أو مجموعات تكفيرية لا تريد للبلد أن يتعافى وأن يُنجز أهدافه في إخراج المحتل، ووَصْلِ ما انقطع من وحدة داخلية وتشتّتٍ سياسي وتمزّق أمني أحرق الأخضر واليابس، وكاد أن يطيح بآمال العراقيين في تحقيق الاستقلال وصون الوحدة وحماية الاستقرار.

إن العالم الإسلامي يرزح تحت نير الاستكبار العالمي الذي يريد لمواقعه الاستراتيجية أن تتساقط تحت هراوة الاحتلال، أو أن تلتهمها نيران التطرّف والتقاتل الداخلي، بما يجعل الأمة تنشغل بهمومها الداخلية، وتضعف أمام مشاكلها، فتسلّم الأمر للجزّار الدولي الذي لم يتخلَّ عن مشاريعه التقسيمية والتمزيقية، والذي يريد للمسلمين والعرب أن يختاروا بين فوضى عارمة تجتاح مواقعهم، وتطبيع كامل مع العدوّ يقودهم في نهاية المطاف إلى التسليم بشروطه والرضوخ لإملاءاته.

فلسطين: رهان على الفتنة
ولعل المشهد الفلسطيني يمثل الصورة الأبرز في رهانات العدو والدول المستكبرة على إحداث فتنة داخلية تتّسع دائرتها ولا تنتهي فصولاً في استهداف فصائل المقاومة، بما يدفع إلى تحضير الساحة وتهيئتها لاستقبال المشاريع والطروحات الوافدة، بحجة أن الوضع في الداخل لا يساعد على الاستمرار في المواجهة، وأن العرب من حول الفلسطينيين قد فوَّضوا واشنطن وإدارتها الجديدة المضيّ قدماً في ترتيب التسوية التي يأتي المبعوث الأميركي ليرسم معالمها عبر دولة إسرائيلية يهودية ـ كما يقول ـ ودولة فلسطينية لا يعرف الفلسطينيون لونها ولا طعمها ولا رائحتها، وخصوصاً أن الكلام يدور على تجميد الاستيطان لا تفكيك المستوطنات، وعن "التزام أميركي لا يتزحزح بالأمن الإسرائيلي"، وعن احتلال يبقى ولا يطالب أحد بإنهائه، وعن خريطة طريق قد تتحوّل إلى خريطة طريق إسرائيلية بالكامل.

الوحدة في مواجهة الفتن
إننا نريد للعالم الإسلامي، وخصوصاً للجهات الطليعية فيه، ولمرجعياته الدينية وفئاته المثقفة والواعية، وفصائله المجاهدة والمقاوِمة، أن ينخرط في مشروع الوحدة الداخلية والوحدة الإسلامية، ليواجه الهجمة الدولية الضاغطة والهجمات التكفيريّة المتواصلة، وليرسم خطاً بيانياً واضحاً في مواجهة المحتلين، والعاملين على تخريب البلاد الإسلامية من الداخل، وليرتفع الصوت واحداً ضد كل الحركات العُنْفية التي تستحلّ دماء المسلمين والأبرياء، وضد كل العاملين لإغراق العالم الإسلامي في أتون من الفتنة المذهبية تحول بينه وبين تحقيق أهدافه، في إخراج المحتلين من بلاده، وإرساء قواعد الوحدة الداخلية على أسس وطنية سليمة، ووفق شروط شرعية حكيمة.

إننا نريد للعالم الإسلامي والعربي أن يصحو من كبوته، وأن ينطلق في ورشة الحوار الداخلي بين أحزابه وفئاته ومكوّناته السياسية والمذهبية، قبل أن يستجيب لدعوات الآخرين إلى الحوار، لأن الجهات الدولية لا تطلب الحوار إلا خدمةً لمصالحها، ولأن الحوار الداخلي بين أجنحة الأمة، وخصوصاً بين السنّة والشيعة، هو أولى من كل أنواع الحوار، ويمثل أولويةً  فكريةً وسياسيةً ودينيةً غير قابلة للجدال، ولا يمكن الاستغناء عنها بحالٍ من الأحوال.

كما ندعو الأحزاب والحركات الإسلامية إلى أن ترتفع في أدائها وخطابها وحركتها إلى مستوى المصلحة الإسلامية العليا، والمستقبل الإسلامي الكبير، ليكون للإسلام دوره الفاعل، ليس في المنطقة العربية والإسلامية فحسب، بل على مستوى العالم كله، وليكون الخروج من شرك التفاصيل المحلية، ومن الاستغراق في الهوامش الداخلية، سبيلاً من سبل الارتقاء بقضايا الأمة الكبرى إلى الأفق الكبير والمستقبل الواعد.

الانتخابات الإيرانية: قوة الإسلام
وفي جانب آخر، فإننا عندما نتطلّع إلى ما يجري في الجمهورية الإسلامية في إيران مع انطلاق حملة الانتخابات، وخصوصاً في المناظرات الإعلامية والسياسية المباشرة التي يبرز فيها المرشحون بصورتهم الواضحة تماماً أمام الناس، والتي يتعرّض فيها هذا المرشح أو ذاك الحاكم للمحاسبة والمساءلة بطريقة وأخرى، نستشعر من خلال ذلك قوة الدولة وانفتاحها، ورحابة الإسلام في نظرته إلى الحاكم والآخرين، من خلال هذه التجربة التي نريد لها أن تتأصّل في الخط الإسلامي، على الرغم مما قد يشوبها من سلبيات لا تؤثِّر في الخط الاستراتيجي العام لحركة الثورة، وانطلاقة الدولة.

الانتخابات اللبنانية والاستنفار المذهبي
أما لبنان، الذي تجاوز مرحلة الانتخابات النيابية بسلام، فهو بحاجة إلى ترميم يتجاوز الخطاب السياسي المتشنّج، وإلى إصلاح من الداخل، من الذات المذهبية والطائفية والحزبية.

لقد دلّلت الانتخابات النيابية على وجود حافزية عليا للاستنفار المذهبي على أكثر من صعيد، وأبرزت وجهاً عصبياً هنا، يقابله وجه عصبي هناك، وجاء الخطاب السياسي المتشنّج، والسلوك المذهبي المتحفّز، ليصبَّ الزيت على النار، وليضع الطوائف والمذاهب أمام اختيارات جديدة، تركت بصماتها في أكثر من مكان، وإنْ لم تصل المسألة إلى مستوى الاهتزاز الميداني، إلا أنها طاولت العمق فيما هي الحساسيات والتوترات والتعقيدات.

ولعل ما يبعث على الكثير من الارتياح، أن الخطاب السياسي عاد إلى مستويات مهمة من الهدوء، فترك آثاراً إيجابية من خلال بعض المواقف المؤكِّدة على التوافق والمشاركة وعدم استبعاد أحد... ولكننا نعتقد أن الوضع يحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وخصوصاً في الدائرة الإسلامية، وعلى الأخص بين المسلمين السنّة والشيعة، لأن الضرورة الإسلامية والوطنية تستدعي حركةً مركّزةً على مستوى المرجعيات والشخصيات الدينية الفاعلة، لردم الهوة من خلال لقاءات شعبية ومناطقية، تعمل على إعادة اللحمة إلى هذه الساحة التي تمثل الضمانة الأساسية لاستقرار لبنان وازدهاره، وتسعى لتغيير واقع الاهتزاز الذي خلق توترات نفسية وتشنّجات سياسية، ينبغي أن يسعى الجميع لتغييرها، وسنعمل من موقعنا الشرعي لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، بما يُساهم في حماية الوحدة الوطنية، والتفاعل مع القضايا الكبرى التي تتصل بالوطن والأمة.

إننا نقول للّبنانيين: إن العدوّ قد حسم أمره، وقرر أن الانتخابات النيابية لم تجعل من لبنان ساحة اطمئنان له، كما قرر أن يواصل تجاربه واستعداداته العسكرية التي يحاكي فيها هجوماً واسعاً على لبنان والمنطقة، فعلى اللبنانيين أن يحسموا أمرهم في الاستعداد المتواصل لمنع العدوّ، الذي يملك قرار الحرب والسلم، ويملك التغطية الدولية للقيام بمغامرات إجرامية جديدة، من أن يحقق ما يصبو إليه أو من القيام بعدوان جديد ضد لبنان.

الالتفاف حول المقاومة والجيش
إننا في الوقت الذي نرحب بالمواقف الأخيرة التي أكدت ضرورة التعاون والمشاركة وحماية السلم الأهلي في الداخل، ندعو إلى التفاف وطني حول المقاومة والجيش لقطع الطريق على العدوّ، الذي بات عليه أن يعرف أن لا سبيل أمامه لاختراق وحدة اللبنانيين بعد الانتخابات كما كانت المسألة قبلها.

إننا نؤكد أن على الفاعليات السياسية أن تحدد الآليات التي يمكن من خلالها إخراج البلد من مآزقه المتعددة، وأن لا تكتفي بالمفردات والعناوين التي استهلكتها الطبقة السياسية بين مرحلة وأخرى، فالناس تسأل: كيف السبيل لإخراج البلد من متاهات المديونية، وكيف السبيل لبناء الدولة القوية العادلة القادرة على مواجهة أي عدوان إسرائيلي، وكيف يمكن التأسيس لدولة المواطنة على حساب دولة المذاهب التي تكرّسها الممارسات السياسية والخطابات التهويلية؟ إننا نتطلّع إلى حركة في الأرض، لا إلى عناوين تتطاير في الهواء.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الزهـراء(ع) نمـوذج رسالـي

ما تمنّى غيرَها نسـلاً ومَنْ                   يلدِ الزهراءَ يزهدْ في سواها

العمر القصير والمسؤولية الكبيرة
نعيش في هذه الأيام ذكرى مولد السيدة الطاهرة المعصومة بعصمة الله، المجاهدة العابدة، السيدة فاطمة الزهراء(ع). وقد اختلفت الروايات في تاريخ ولادتها، فهناك من يقول إنها وُلدت قبل البعثة بخمس سنوات، وهناك من يقول بعد البعثة بسنة، والمشهور بين علماء المسلمين الشيعة أنها وُلدت بعد أن بُعث رسول الله بالرسالة بخمس سنوات، وأن عمرها كان عمراً قصيراً، فقد اختارها الله إلى جواره في سن الثامنة عشرة، على حسب هذه الرواية.

ولكن هذا العمر القصير كان عمراً مليئاً بكل ما يقرّب الإنسان إلى الله، وما يحرّكه في خطّ المسؤولية، وما ينطلق به ليجسّد أعلى القيم الإنسانية. فالسيدة الزهراء(ع) تمثل الإنسانة التي عُجنت شخصيتها بكل الطهارة، وانفتح عقلها على كل الحقيقة، ونبضَ قلبُها بكل الخير والمحبة، حتى إننا نقرأ في تاريخها، أنها حين ألقى المشركون على ظهر أبيها رسول الله(ص) أمعاء الجزور وهو ساجد، جاءت وأزالت ذلك عنه، ووقفت أمامهم وهي في سنّها البالغة خمس سنوات، وشتمت كبار قريش في تلك اللحظة.

تجسيد الأمومة
وعندما توفيت أمها أم المؤمنين خديجة في السنة العاشرة من البعثة، وكان عمرها خمس سنوات، كانت(ع) تملأ كل مشاعر أبيها، كانت تحتضن روحه، وتراقب كل آلامه، وكانت ترعى مشاعره وأحاسيسه، وخصوصاً أن رسول الله(ص) فَقَد أمه بعد ولادته، كما كان قد فَقَد أباه وهو حَمْل، فكانت(ع) ترعى أباها، حيث كانت تمنحه عاطفة كعاطفة الأم، ورعايةً كرعاية الأم، وهذا ما جعله(ص) ـ في ما يروى عنه ـ يقول: "إنها أمّ أبيها"، ما يوحي بأن كل ما كان ينفتح عليه قلبها هو فيض الشعور الأمومي الذي كان يملأ مشاعر رسول الله(ص).

ولذلك رأينا أن العلاقة بين رسول الله(ص) وبين ابنته الزهراء(ع) كانت علاقةً من أعمق العلاقات، فكانت هناك حياة أشبه بالحياة الاندماجية؛ كان عقلها من عقله، وكانت روحها من روحه، وكان قلبها من قلبه، وكان يرى فيها كل المعاني الروحية في رسالته.

ولذلك فإننا عندما نعيش ذكرى الزهراء(ع)، فلا بد لنا من أن نتعرّف هذه السيرة الطيبة العطرة، لأن المشكلة عند الكثيرين من الناس أنهم يذكرون الزهراء(ع) بالجانب المأساوي فقط، ولهذا شُغل الناس عن شخصية الزهراء(ع) بمسألة أنه كُسر ضلعها، وهذا أمر لا نتعقّله. لماذا؟ لأنّ السيدة الزهراء(ع) هي زوجة عليّ(ع)، وهي وديعة رسول الله(ص) عند عليّ، وهي محبوبة عند كل الأمّة، لما كانوا يرونه من تعظيم رسول الله لها، كما سيأتي، على الرغم من أنه عندما امتنع عليّ عن البيعة، جاؤوا وهددوا بإحراق البيت، وقد استنكر عليهم المسلمون ذلك، وقالوا إنّ في البيت فاطمة، فقال بعضهم: "وإنْ"، وفي رواية  أنه قال: "أورأيتموني فعلت". ومع فرض أنّ ذلك حصل، فما الذي منع عليّاً(ع) من الدفاع عن الزهراء، وهو أمر لا يقبله الشخص العادي إذا ما تعرّض أحد لزوجته أو لأمه؟ وثانياً، كان بنو هاشم في الدار، وقد خرج الزبير مسلطاً سيفه... بعض الناس يبررون عدم دفاع عليّ(ع) عنها بأن النبي أوصاه بذلك؟! هل يمكن لأحد أن يتصوّر أن النبي(ص) يحرّم على عليّ(ع) الدفاع عن ابنته، حبيبة رسول الله؟!

الزهراء(ع) في أحاديث أهل السنّة
وأنا أحبّ للناس أن يقرأوا أحاديث رسول الله(ص) التي وردت من غير طرق الشيعة، فقد ورد عن عائشة أمّ المؤمنين أنها قالت: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً وسمتاً ـ صفةً ـ وهدياً ودلاًّ  ـ قُرباً ـ برسول الله(ص) من فاطمة، وكانت إذا دخلت قام إليها فقبّلها ورحّب بها، كما كانت تصنع هي به". وفي رواية لأبي داوود، وهو من رواة أهل السنّة: "كان النبي(ص) إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبّلتها وأجلسته في مجلسها". وعن أمّ سلمة أمّ المؤمنين قالت: "كانت فاطمة بنت رسول الله أشبه الناس وجهاً برسول الله(ص)". وهذه الصفة ورثها الإمام الحسن أيضاً الذي كان أشبه الناس بجده(ص)، وورثها علي الأكبر ابن الإمام الحسين(ع).

وفي صحيح مسلم، ورد عن النبي(ص): "إنما ابنتي فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". وكان رسول الله(ص) إذا رجع من غزاة أو سفر، أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين، ثم ثنّى بفاطمة، ثم يأتي أزواجه. وعن عبد الله بن عمر، أن النبي(ص) كان إذا سافر، كان آخر الناس عهداً به فاطمة، وكان إذا قَدِم من سفر، كان أول الناس به عهداً فاطمة. وروي عن عائشة أن عليّاً(ع) قال للنبي(ص) لما جلس بينه وبين فاطمة(ع) وهما مضطجعان: "أيّنا أحبّ إليك؛ أنا أو هي"؟ فقال(ص): "هي أحبّ إليّ وأنت أعزّ عليّ"، وتفسير ذلك، أن فاطمة أحبّ إليه حبّ حنان وشفقة ورأفة، وأن عليّاً أعزّ عليه معزة فضلٍ ومكانة.

وفي "الاستيعاب"، وهو كتاب لأحد علماء أهل السنّة، أنّ عائشة سُئلت: "أيّ الناس أحبّ إلى رسول الله(ص)"؟ قالت: "فاطمة"، قلت: "فمن الرجال"؟ قالت: "زوجها، إنْ كان ما علمته صوّاماً قوّاماً". وعن عائشة: "ما رأيت أحداً أصدق لهجةً من فاطمة إلا الذي وَلَدَها"..

الزهـراء المعصومة
أما الآية التي تدلّ على عصمة السيدة الزهراء(ع)، فقد ورد عن أم سلمة أنها قالت: "في بيتي نزلت: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} [الأحزاب:33]، فأرسل رسول الله(ص) إلى فاطمة وعليّ والحسن والحسين فقال: "هؤلاء أهل بيتي". وفي رواية أخرى عنها: "كانوا في البيت، فجلّلهم بكساء ـ ولذلك سُمّي حديث الكساء ـ كان عليه، وقال: "هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"، قالها ثلاث مرات، فقلت: "يا رسول الله، وأنا معكم"؟ فقال(ص): "إنك على خير". وهذا دليل على أن هذه الآية لم تنـزل بأزواج النبي(ص)، بل في هؤلاء الخمسة المعصومين، وكان النبي(ص) يريد أن يؤكد كلمة (أهل البيت) في هذه المجموعة، لذلك كان عندما ينطلق إلى الصلاة، يمرّ على بيت فاطمة يقول: "السلام عليكم يا أهل البيت"، ويتلو الآية الكريمة.

علي(ع) كفؤ الزهراء(ع)
وقد كانت السيدة الزهراء(ع) صلة الوصل بين النبوة والإمامة، فهي ابنة النبي، وزوجة أول إمام، وأمّ الأئمة الباقين من أولادها وأحفادها، ففيها شيء من سرّ النبوة وسرّ الإمامة. وقد جاء كثير من الخطّاب لرسول الله(ص) يخطبون فاطمة، وكان يجيب: "أنتظر أمر الله". وعنه(ص): "لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ". والكفاءة تنطلق من تعلّمهما معاً في بيت النبي(ص). فكما أن عليّاً تعلّم وانطبع وتربى عقله وقلبه وانطلقت عصمته من خلال تربية رسول الله(ص)، فكذلك كانت فاطمة، ولذلك لم يكن هناك أحد يساوي فاطمة في الروحانية والعلم وكل الصفات الرائعة التي تقرّب الإنسان إلى الله إلا عليّ(ع).

الزهراء ومريم: الاشتراك والافتراق
وورد عن النبي(ص): "إنها سيدة نساء أهل الجنة"، وفي رواية أنها "سيدة نساء العالمين"، وفي رواية ثالثة أنها "سيدة نساء المؤمنين". أما مريم(ع)، فإنها سيدة نساء عالمها، وقد اختارها الله واصطفاها لتكون أمّاً للنبي عيسى(ع)، ولذلك فإننا عندما نقارن بين السيدة مريم والسيدة الزهراء(ع)، نجد أنهما يشتركان في أنهما كانتا تعيشان العبادة لله كأفضل ما تكون العبادة، ولكننا لا نجد أيّ نشاط للسيدة مريم(ع)، بينما كانت السيدة الزهراء تعيش النشاط الرسالي، وكانت تعلّم نساء المهاجرين والأنصار، وكانت المجاهدة التي تقف وتخطب في المسلمين دفاعاً عن الإمامة، وتواجه الآخرين دفاعاً عن الحق، ولذلك تميّزت السيدة الزهراء(ع) عن السيدة مريم(ع)، وهما القريبتان إلى الله، في أنها عاشت الجهاد والمواجهة للباطل والدفاع عن الحق، ولم يكن للسيدة مريم سوى رعايتها لابنها وموقفها أمام قومها في الدفاع عن عفتها وطهارتها.

العبادة والقوة
أما بالنسبة إلى عبادتها(ع)، فقد ورد عن الإمام الحسن(ع): "رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعةً ساجدةً حتى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين وتسمّيهم وتكثر لهم من الدعاء ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه، لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار".

والسيدة الزهراء(ع)، التي يصوّرها بعض الخطباء بأنها الضعيفة، كانت تعيش القوة المتحدّية، وقد اكتسبت هذه القوة من أبيها رسول الله(ص) الذي يقول فيه عليّ(ع) في بيان شجاعته: "كنا إذا اشتد البأس لذنا برسول الله". ونلاحظ قوة السيدة الزهراء عندما حدَثَ ما حدث، وأُبعد عليّ(ع)، فوقفت في المسجد وقالت لهم: "اعلموا أني فاطمة وأبي رسول الله"، وخطبت خطبتها التي واجهت فيها الخليفة في منعها إرثها من فدك، وكانت خطبتها من أمهات الخطب، لأنها تضمنت كل أسرار التشريع وأسباب المواجهة، بحيث إنها أقامت الحجّة عليهم في ما التزموا به من إبعاد عليّ(ع) عن حقه.

ثم عندما جاءت نساء المهاجرين والأنصار يعدنها في مرضها، خاطبتهن خطاباً عنيفاً. وعندما طلب الشيخان من عليّ(ع) أن تستقبلهما الزهراء(ع) ليسترضياها، أبدت الرفض أولاً، ولكن كرامةً لعليّ(ع) قبلت، وعندما جاءا إليها قالت لهما: "أما سمعتما أبي يقول: فاطمة بضعة مني، يغضبني ما يغضبها، ويؤذيني ما يؤذيها"؟ قالا: "نعم"، فقالت: "أُشهد الله أني غاضبة عليكما". وكانت قمة الموقف القوي المتحدي، أنها أوصت أن تدفن ليلاً، وأن لا يحضر جنازتها أحد ممن أبعد عليّاً واغتصبوا حقها، وهكذا كان. وهو ما يدلّ على الموقف القوي الذي أرادت أن تعبّر من خلاله عن رفضها وغضبها حتى بعد وفاتها.

إن الزهراء(ع) هي سيدتنا الطاهرة العابدة العالمة المعلّمة المعصومة بعصمة الله، القوية بنفسها، وعلى الرجال والنساء أن يقتدوا بها في كل القيم الروحية والإنسانية المتمثلة بها. وقد أنتجت للأمة ابنتها السيدة زينب(ع)، التي كانت القوية في موقفها أمام الطغاة في الكوفة وفي الشام، وكانت الصابرة المجاهدة التي تسلّمت المسؤولية بعد الحسين(ع).

والسلام على السيدة الزهراء، يوم وُلدت، ويوم انتقلت إلى جوار ربها، ويوم تُبعث حيّةً، ونسأل الله أن يرزقنا شفاعتها وشفاعة أبيها وزوجها وأبنائها، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

الحرب على المسلمين
يعوم العالم الإسلامي، في كثير من مواقعه، على أنهار من الدماء تسيل في شكل يومي، وذلك جرّاء الحروب الطاحنة التي دبّرتها مواقع الاستكبار العالمي، كما في الصومال الذي أضحى فريسةً لحرب داخلية تغذّيها الدول المستكبرة، ويتصارع فيها أخوة السلاح، ويدفع فيها المسلمون الأثمان مضاعفةً من لحمهم ودمهم وموقعهم السياسي والاستراتيجي.

أما في باكستان، التي تسفك فيها الدماء في التفجيرات الانتحارية، وفي الحرب التي تدور رحاها في وادي سوات، فالمشهد يشبه الكارثة، إذ إنّ هناك ملايين المشرّدين الذين كانوا ضحية لعبة دولية أرادت لهذا الموقع الإسلامي أن يتحوّل إلى ساحةٍ للفوضى والاهتزاز، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، وهي الحرب التي تأكل من أفغانستان المجاورة المزيد من الضحايا الأبرياء، ومئات المدنيين العزل الذين يسقطون تحت نيران الطائرات الأميركية، تارةً بحجة الخطأ، وطوراً باسم ملاحقة الإرهابيين.

وفي العراق، تتوالى الهجمات التي تقوم بها الجهات التكفيرية، والتي تستهدف المدنيين، وتقتل المؤمنين حتى في مساجدهم ومواقعهم العبادية، وتستحلّ دماء المسلمين، فيما تتناقص أعداد القتلى في صفوف المحتلّين الأميركيين، وكأن المطلوب هو إرباك الوضع الداخلي في العراق من خلال مجموعات سياسية ترتبط بالنظام البائد، أو مجموعات تكفيرية لا تريد للبلد أن يتعافى وأن يُنجز أهدافه في إخراج المحتل، ووَصْلِ ما انقطع من وحدة داخلية وتشتّتٍ سياسي وتمزّق أمني أحرق الأخضر واليابس، وكاد أن يطيح بآمال العراقيين في تحقيق الاستقلال وصون الوحدة وحماية الاستقرار.

إن العالم الإسلامي يرزح تحت نير الاستكبار العالمي الذي يريد لمواقعه الاستراتيجية أن تتساقط تحت هراوة الاحتلال، أو أن تلتهمها نيران التطرّف والتقاتل الداخلي، بما يجعل الأمة تنشغل بهمومها الداخلية، وتضعف أمام مشاكلها، فتسلّم الأمر للجزّار الدولي الذي لم يتخلَّ عن مشاريعه التقسيمية والتمزيقية، والذي يريد للمسلمين والعرب أن يختاروا بين فوضى عارمة تجتاح مواقعهم، وتطبيع كامل مع العدوّ يقودهم في نهاية المطاف إلى التسليم بشروطه والرضوخ لإملاءاته.

فلسطين: رهان على الفتنة
ولعل المشهد الفلسطيني يمثل الصورة الأبرز في رهانات العدو والدول المستكبرة على إحداث فتنة داخلية تتّسع دائرتها ولا تنتهي فصولاً في استهداف فصائل المقاومة، بما يدفع إلى تحضير الساحة وتهيئتها لاستقبال المشاريع والطروحات الوافدة، بحجة أن الوضع في الداخل لا يساعد على الاستمرار في المواجهة، وأن العرب من حول الفلسطينيين قد فوَّضوا واشنطن وإدارتها الجديدة المضيّ قدماً في ترتيب التسوية التي يأتي المبعوث الأميركي ليرسم معالمها عبر دولة إسرائيلية يهودية ـ كما يقول ـ ودولة فلسطينية لا يعرف الفلسطينيون لونها ولا طعمها ولا رائحتها، وخصوصاً أن الكلام يدور على تجميد الاستيطان لا تفكيك المستوطنات، وعن "التزام أميركي لا يتزحزح بالأمن الإسرائيلي"، وعن احتلال يبقى ولا يطالب أحد بإنهائه، وعن خريطة طريق قد تتحوّل إلى خريطة طريق إسرائيلية بالكامل.

الوحدة في مواجهة الفتن
إننا نريد للعالم الإسلامي، وخصوصاً للجهات الطليعية فيه، ولمرجعياته الدينية وفئاته المثقفة والواعية، وفصائله المجاهدة والمقاوِمة، أن ينخرط في مشروع الوحدة الداخلية والوحدة الإسلامية، ليواجه الهجمة الدولية الضاغطة والهجمات التكفيريّة المتواصلة، وليرسم خطاً بيانياً واضحاً في مواجهة المحتلين، والعاملين على تخريب البلاد الإسلامية من الداخل، وليرتفع الصوت واحداً ضد كل الحركات العُنْفية التي تستحلّ دماء المسلمين والأبرياء، وضد كل العاملين لإغراق العالم الإسلامي في أتون من الفتنة المذهبية تحول بينه وبين تحقيق أهدافه، في إخراج المحتلين من بلاده، وإرساء قواعد الوحدة الداخلية على أسس وطنية سليمة، ووفق شروط شرعية حكيمة.

إننا نريد للعالم الإسلامي والعربي أن يصحو من كبوته، وأن ينطلق في ورشة الحوار الداخلي بين أحزابه وفئاته ومكوّناته السياسية والمذهبية، قبل أن يستجيب لدعوات الآخرين إلى الحوار، لأن الجهات الدولية لا تطلب الحوار إلا خدمةً لمصالحها، ولأن الحوار الداخلي بين أجنحة الأمة، وخصوصاً بين السنّة والشيعة، هو أولى من كل أنواع الحوار، ويمثل أولويةً  فكريةً وسياسيةً ودينيةً غير قابلة للجدال، ولا يمكن الاستغناء عنها بحالٍ من الأحوال.

كما ندعو الأحزاب والحركات الإسلامية إلى أن ترتفع في أدائها وخطابها وحركتها إلى مستوى المصلحة الإسلامية العليا، والمستقبل الإسلامي الكبير، ليكون للإسلام دوره الفاعل، ليس في المنطقة العربية والإسلامية فحسب، بل على مستوى العالم كله، وليكون الخروج من شرك التفاصيل المحلية، ومن الاستغراق في الهوامش الداخلية، سبيلاً من سبل الارتقاء بقضايا الأمة الكبرى إلى الأفق الكبير والمستقبل الواعد.

الانتخابات الإيرانية: قوة الإسلام
وفي جانب آخر، فإننا عندما نتطلّع إلى ما يجري في الجمهورية الإسلامية في إيران مع انطلاق حملة الانتخابات، وخصوصاً في المناظرات الإعلامية والسياسية المباشرة التي يبرز فيها المرشحون بصورتهم الواضحة تماماً أمام الناس، والتي يتعرّض فيها هذا المرشح أو ذاك الحاكم للمحاسبة والمساءلة بطريقة وأخرى، نستشعر من خلال ذلك قوة الدولة وانفتاحها، ورحابة الإسلام في نظرته إلى الحاكم والآخرين، من خلال هذه التجربة التي نريد لها أن تتأصّل في الخط الإسلامي، على الرغم مما قد يشوبها من سلبيات لا تؤثِّر في الخط الاستراتيجي العام لحركة الثورة، وانطلاقة الدولة.

الانتخابات اللبنانية والاستنفار المذهبي
أما لبنان، الذي تجاوز مرحلة الانتخابات النيابية بسلام، فهو بحاجة إلى ترميم يتجاوز الخطاب السياسي المتشنّج، وإلى إصلاح من الداخل، من الذات المذهبية والطائفية والحزبية.

لقد دلّلت الانتخابات النيابية على وجود حافزية عليا للاستنفار المذهبي على أكثر من صعيد، وأبرزت وجهاً عصبياً هنا، يقابله وجه عصبي هناك، وجاء الخطاب السياسي المتشنّج، والسلوك المذهبي المتحفّز، ليصبَّ الزيت على النار، وليضع الطوائف والمذاهب أمام اختيارات جديدة، تركت بصماتها في أكثر من مكان، وإنْ لم تصل المسألة إلى مستوى الاهتزاز الميداني، إلا أنها طاولت العمق فيما هي الحساسيات والتوترات والتعقيدات.

ولعل ما يبعث على الكثير من الارتياح، أن الخطاب السياسي عاد إلى مستويات مهمة من الهدوء، فترك آثاراً إيجابية من خلال بعض المواقف المؤكِّدة على التوافق والمشاركة وعدم استبعاد أحد... ولكننا نعتقد أن الوضع يحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وخصوصاً في الدائرة الإسلامية، وعلى الأخص بين المسلمين السنّة والشيعة، لأن الضرورة الإسلامية والوطنية تستدعي حركةً مركّزةً على مستوى المرجعيات والشخصيات الدينية الفاعلة، لردم الهوة من خلال لقاءات شعبية ومناطقية، تعمل على إعادة اللحمة إلى هذه الساحة التي تمثل الضمانة الأساسية لاستقرار لبنان وازدهاره، وتسعى لتغيير واقع الاهتزاز الذي خلق توترات نفسية وتشنّجات سياسية، ينبغي أن يسعى الجميع لتغييرها، وسنعمل من موقعنا الشرعي لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، بما يُساهم في حماية الوحدة الوطنية، والتفاعل مع القضايا الكبرى التي تتصل بالوطن والأمة.

إننا نقول للّبنانيين: إن العدوّ قد حسم أمره، وقرر أن الانتخابات النيابية لم تجعل من لبنان ساحة اطمئنان له، كما قرر أن يواصل تجاربه واستعداداته العسكرية التي يحاكي فيها هجوماً واسعاً على لبنان والمنطقة، فعلى اللبنانيين أن يحسموا أمرهم في الاستعداد المتواصل لمنع العدوّ، الذي يملك قرار الحرب والسلم، ويملك التغطية الدولية للقيام بمغامرات إجرامية جديدة، من أن يحقق ما يصبو إليه أو من القيام بعدوان جديد ضد لبنان.

الالتفاف حول المقاومة والجيش
إننا في الوقت الذي نرحب بالمواقف الأخيرة التي أكدت ضرورة التعاون والمشاركة وحماية السلم الأهلي في الداخل، ندعو إلى التفاف وطني حول المقاومة والجيش لقطع الطريق على العدوّ، الذي بات عليه أن يعرف أن لا سبيل أمامه لاختراق وحدة اللبنانيين بعد الانتخابات كما كانت المسألة قبلها.

إننا نؤكد أن على الفاعليات السياسية أن تحدد الآليات التي يمكن من خلالها إخراج البلد من مآزقه المتعددة، وأن لا تكتفي بالمفردات والعناوين التي استهلكتها الطبقة السياسية بين مرحلة وأخرى، فالناس تسأل: كيف السبيل لإخراج البلد من متاهات المديونية، وكيف السبيل لبناء الدولة القوية العادلة القادرة على مواجهة أي عدوان إسرائيلي، وكيف يمكن التأسيس لدولة المواطنة على حساب دولة المذاهب التي تكرّسها الممارسات السياسية والخطابات التهويلية؟ إننا نتطلّع إلى حركة في الأرض، لا إلى عناوين تتطاير في الهواء.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية