ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
المنهج الأخلاقي الإسلامي:
عالجوا الغضب بالحلم والصبر...
الغضب والاستغضاب:
من الأمور الّتي عالجها النظام الأخلاقي الإسلامي، ما يحدث من ردود فعل قد تصدر من الإنسان في بعض المواقف تثير انفعاله وتحرّك غضبه، سواء كان ذلك من خلال كلمة حادّة، أو موقف مضادّ، أو من خلال وضع نفسي لا ينسجم مع أوضاعه الداخلية، وسواء كان ذلك داخل البيت، ممّا قد يصدر من الزوجة أو الزوج أو الأولاد من كلام حاد، أو في المجتمع في ما يواجهه من أوضاع سلبية تثيره وتدفعه إلى أن ينفّس عن غضبه بطريقة عنيفة، فقد يدفعه إلى أن يسبّ ويشتم أو يضرب أو يطلّق زوجته أو يقذفها في شرفها، وقد يتعاظم تأثير الغضب في نفسه فيقتل، وذلك عندما يخرج الإنسان من طوره، ويفقد عقله، وخصوصاً إذا كان مسلَّحاً، فيبادر إلى استعمال سلاحه تنفيساً عن غضبه.
وهذه مسألةٌ قد تمثِّل ظاهرةً عند الكثير من الناس الذين يحكمهم الانفعال، ويبتعدون عن العقلانية، بحيث إذا استُغضبوا غضبوا، وربما يعتبرون أن الغضب عند الاستغضاب قيمة أخلاقية، وربما يجري على لسان بعضهم القول: "من استغضب ولم يغضب فهو حمار"، أي أنَّ على الإنسان أن يثور غضبه عندما يُثار، وأن ينفّس عن حاله النفسية بأية وسيلة؛ بالسبِّ، والضرب، وربما بالقتل.
وقد تصل هذه المسألة إلى حدّ تهديم الأسرة والبيت، عندما يكون الزوج انفعالياً يغضب بسهولة، أو إذا كانت الزوجة كذلك.
وفي المجتمعات القبليّة والعشائريّة، قد تحدث حرب بين عشيرة وأخرى، لأنّ شخصاً من هذه العشيرة كان في حال غضب فتكلّم كلاماً مُسيئاً بحق شخص من تلك العشيرة الأخرى أو رئيسها...
وهذا ما يحدث الآن في واقعنا المعاصر، وما نلحظه في واقع العلاقات الدولية، فالعلاقات قد تسوء بين دولة وأخرى، انطلاقاً من كلمة حادّة نطق بها مسؤول من هذه الدولة تسيء إلى موقع مسؤول آخر في دولة أخرى، فيقاطع هذا ذاك على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، مع أنّنا نعتقد بأن القضايا الشخصية، لا يجوز أن تترك تأثيرها على قضايا الشعوب.
الصَّبر عند الغضب:
وقد كان النبي(ص) يؤكّد للنَّاس الذين يستنصحونه أن لا يغضبوا، وأن لا يجعلوا الغضب يحرِّكهم، وقد تقدّم القرآن الكريم بالحديث عن كظم الغيظ، فاعتبره من صفات المتّقين: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(آل عمران/134). فالإنسان الّذي يكظم غيظه، ويلجأ إلى الحلم والصّبر في حالات الغضب، فإنّ الله يعدّه من الأتقياء الذين يستحقّون دخول الجنّة، ولكنَّ بعض الناس لا يتحدّث إلاّ عن تنفيس الغضب، وإن أدّى ذلك إلى القتل أو الهدم والخراب.
ومن الأسس الّتي يرتكز عليها النظام الأخلاقي: الصبر، وقد ورد في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزّمر/10)، فرحمة الله الواسعة ورضاه ومغفرته ومحبته هي للصابرين. وهم الّذين قال الله تعالى عنهم: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ}(البقرة/157).
فينبغي لنا ـ أيها الأحبّة ـ أن نتخلّق بأخلاق الإسلام، وذلك بأن لا نبادر إلى التنفيس عن غيظنا، بل أن نكظمه، وأن ندرس نتائج ردود أفعالنا بعقلانية، وخصوصاً أنّ بعض الناس، وبعض أجهزة المخابرات، قد يدفعونك دفعاً إلى الغضب لتتصرف بانفعال ووفق ما يريدون. وفي مقابل ذلك، عليك أن تتذكر أنّ الله سبحانه وتعالى رزقك عقلاً، وأراد منك أن تعرض كل شيء عليه، لأنّ قيمة الحياة هي أن يملك الإنسان عقله وشعوره وتوازنه واستقامته.
وفي هذا الموقف، نستهدي بما ورد عن النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، في توجيهنا إلى التخلّص من مسألة الغضب.
معصية الغضب:
يروى عن الإمام الصَّادق(ع) أنه قال: «سمعت أبي ـ الإمام محمد الباقر(ع) ـ يقول: أتى رسول الله(ص) رجلٌ بدوي، فقال: إني أسكن الباديةـ بعيد عنك وعن مواعظك وخطبك ـ فعلّمني جوامع الكلم ـ ما قلّ لفظه وكثر معناه ـ فقال: آمرك أن لا تغضبـ إذا استغضبت أو أثارك أحد فليكن عقلك معك، وواجه القضايا بهدوء وعقلانية وحكمة ـ فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات، حتى رجع الرجل إلى نفسه ـ فأقلع عن إلحاحه على النبي(ص) ـ فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله إلا بالخير».
قال(ع): «وكان أبي يقول: أيُّ شيء أشدُّ من الغضب؛ إنَّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرّم الله، ويقذف المحصنة».
وعن الإمام الباقر(ع): «مكتوب في التوراة، فيما ناجى الله عز وجل به موسى(ع): يا موسى، أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه ـ فربما تصدر أخطاء أو أشياء أو كلمات لا ترتاح إليها ممن هم في عهدتك أو تحت مسؤوليتك، فلا تنفعل عليهم ـ أكفُّ عنك غضبي».
وعن الصادق(ع): «أوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض أنبيائه: يا بن آدم، أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وارض بي منتصراً، فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك».
وعن الصَّادق(ع): «قال رجل للنبي(ص) علمني، قال: اذهب ولا تغضب. فقال الرجل: قد اكتفيت بذلك. فمضى إلى أهله، فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه، ثم قام معهم، ثم ذكر قول رسول الله(ص): لا تغضب، فرمى السلاح، ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدوّ قومه، فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضربٍ ليس فيه أثر، فعليّ في مالي أنا أفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم، فاصطلح القوم وذهب الغضب»، فهو حين حمل السلاح لم يكن عقله معه، ولكنّه حين فكر في نتائج الحرب والقتال، حكّم عقله وأراد حلّ المشكلة بالسلام، وهذا ما كان.
نتائج الغضب:
وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «الغضب ممحقة لقلب الحكيم». وعنه(ع) أيضاً: «من لم يملك غضبه لم يملك عقله»، لأنّ الإنسان الذي يغضب ينطلق من حالٍ غريزية انفعالية، فيغيب عقله، ويفقد توازن فكره، فيؤدّي به ذلك إلى نتائج سلبيّة كبيرة.
وعن الإمام الباقر(ع): «من كفّ غضبه عن النَّاس، كفّ الله عنه عذاب يوم القيامة».
وقد مرّ النبي(ص) على بعض أصحابه وهم يتشاءلون حجراً ـ يحاول كلّ منهم أن يحمله ـ فقال(ص): «ما هذا؟ وما يدعوكم إليه؟»، قالوا: «لنعرف أشدّنا وأقوانا»، فقال(ص): «أفلا أدلّكم على أشدّكم وأقواكم؟»، قالوا: «بلى يا رسول الله»، قال(ص): «أشدّكم وأقواكم الّذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق». وسأل(ص) قوماً: «ما الصرعة فيكم؟» قالوا: «الشّديد القويّ الّذي لا يوضع جنبه»، فقال(ص): «بل الصرعة حقّ الصرعة، رجل وكز الشيطان في قلبه واشتدّ غضبه، وظهر دمه، ثم ذكر الله فصرع بحلمه غضبه».
وقد قال الشاعر:
أغضِبْ صديقك تستطلعْ سريرته للسرِّ نافذتان السِّكر والغضب
ما صرَّح الحوض عمّا في قرارته من راسب الطين إلاّ وهو مضطرب
فما دام الماء في البركة صافياً، فلا ينكشف ما في الماء، ولكن عندما يضطرب يظهر الطين الراسب، وكذلك حين تغضب يظهر كل ما في نفسك وسرك وتفضح نفسك عند الآخر.
هذا هو ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يربي نفسه وأهله عليه، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «الغضب مفتاح كلّ شر».
الخطبة الثانية
سم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكلِّ مسؤولية عندما تتحدّاكم الأمم وتحاصركم، وتتعسّف في تعاملها معكم. وعليكم أن تتفهَّموا ماذا يراد ويخطَّط لكم، لتواجهوه تخطيطاً بتخطيط، وتدبيراً بتدبير، حتى تنقذوا أنفسكم من كلِّ الفتن والمؤامرات التي يخطِّط لها أعداء الله والإنسان والإسلام... فماذا هناك؟
فلسطين: مسلسل من الجرائم الوحشية:
في فلسطين المحتلة، تتواصل حلقة الجرائم الإسرائيلية، في حركة الاغتيالات الوحشية المتتالية في الضفة الغربية، وفي الغارات المتقطّعة على غزة، إلى جانب الإعلان الصادر عن مسؤولي العدو في عزمهم على مواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني، من دون أن يدفع ذلك السلطة الفلسطينية إلى حفظ ماء الوجه حتى في وقف التفاوض مع العدوّ.
والى جانب ذلك، بدأ العدوُّ بناء ألف ومائة وحدة استيطانية جديدة في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية، الأمر الذي اعتبره المستوطنون إذلالاً للرئيس الفلسطيني الذي لا يملك أية ورقة عربية أو دولية للضغط على إسرائيل في المفاوضات لإيقاف الاستيطان، لأنّه من المسائل الاستراتيجية للامتداد الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية لضمّها إلى الدولة العبرية في المفاوضات النهائية بحجة حاجة الأمن الصهيوني إليها، أو استبدالها ببعض المناطق الصحراوية، في الوقت الذي يستهلك الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته الحديث حول الدولة الفلسطينية، والإعلان عن التطمينات السياسية بإمكانية تحقيقها قبل انتهاء ولايته، ودعوة الطّرفين إلى الوفاء بتعهّداتهما في السَّعي نحو ما يسمّونه السلام.
ولكننا نلاحظ أن أمريكا واللجنة الرباعية الدولية ــ ومعهما بعض الدول العربية ــ لم تضعا أية آليّة للوصول إلى النتائج الإيجابية الواقعية لتحقيق هذا الهدف، ما يجعل من الأسلوب الأمريكي وسيلةً من وسائل اللعب على امتداد عنصر الوقت الضائع لمصلحة الدولة اليهودية، واعتبار المفاوضات مسألةً استهلاكيةً لا تحقق للفلسطينيين أية نتيجة على مستوى الأمن والسياسة.
وإذا كانت بعض الدول العربية تعمل على القيام بوساطةٍ للتهدئة، فإننا نلاحظ أنَّ الإدارة الأمريكية تعمل على تعقيد أيّ طرح قد يساهم في هذا المسعى، باعتبار الخطَّة الأمريكية للإجهاز على حركة حماس وغيرها من الفصائل المقاوِمة، حيث لم ترَ وزيرة الخارجية الأمريكية التهدئة شرطاً في العودة إلى المفاوضات، كما أن الالتزام الأمريكي بالأمن الإسرائيلي، ولا سيما الموقف الأمريكي من عملية القدس النوعية، يمنع من إيجاد قاعدة سياسية أو أمنية أو إنسانية للشعب الفلسطيني في غزة.
ولذلك، فقد منعت الإدارة الأمريكية صدور أيّ قرار في مجلس الأمن لرفع الحصار الاقتصادي عن غزَّة، وهو ما يفاقم عذابات أهلها ويزيد من تجويعهم، وكأن هذه الإدارة المتوحّشة قد أصدرت قرارها بالعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني كلّه... ومن المؤسف أنَّ الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية لم تقم بأيّ ضغط على إسرائيل لرفع الحصار الظالم عن هذا الشعب المجاهد!!
إنّنا نعتقد أنَّ الشعب الفلسطيني سوف يواصل جهاده من أجل استعادة وطنه وإنهاء الاحتلال، وسوف يتابع مسيرته بالرّغم من مرور ستين عاماً على اغتصاب اليهود لأرضه وإقامة كيانهم عليها. وعلى كلِّ فصائل هذا الشعب أن تتكامل وتتعاون وتتوحَّد وتتابع خط المواجهة، في انتفاضة وراء انتفاضة، وقصف يتبع قصفاً، حتى تمنع هذه الدولة الغاصبة من الأمن والاستقرار، لأنها لن تعطيهم شيئاً بالمفاوضات، فالاستراتيجية الإسرائيلية تلعب على عامل الزمن في الزحف على الأرض وإبادة الإنسان، وتحريك حال اليأس في النفوس، حتى لا يبقى هناك أمل في المستقبل للدولة الفلسطينية الحرّة المستقلّة.
الرئيس الأمريكي يسقط كلَّ الأعراف والقيم الإنسانية:
وفي المشهدِ الأمريكي، فقد أقدم الرئيس بوش على خطوة أسقط معها كل القيم الحضارية التي يتغنّى بها ويبشّر العالم بأنَّه سوف ينشرها، حيث استخدم حقَّ النقض ضدَّ قانونٍ يمنع أجهزة الاستخبارات من استخدام أساليب التعذيب التي حرّمها الجيش الأمريكي، مثل الإيهام بالغرق، لدى استجوابها المشتبه فيهم بأنهم إرهابيون، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المنطق القانوني الحضاري في العالم لا يقيم وزناً للاعترافات التي تحصل عليها أجهزة الاستخبارات من أيّ موقوف تحت التعذيب، لأنها أُخذت بالإكراه...
إن هذا القرار الوحشي يُظهر بشكل حاسم وواضح الطبيعة العدوانية التي يحملها هذا الرئيس الذي قلنا عنه يوماً إنّه "شيطان ساذج"، وهو ما سيخلّده له التاريخ، بأنه الرئيس الذي أسقط كلَّ الأعراف والقيم الإنسانية. ولعل العالم كله يعرف أنَّ المؤسسة العسكرية الأمريكية بجيشها واستخباراتها، كانت ــ ولا تزال ــ تمارس تعذيب السجناء بعيداً عن القوانين الأمريكية، لأن التعليمات الصادرة عن رؤسائهم تبيح لهم ذلك، لا بل تشجّعهم على ممارسته، وهو ما كشفت عنه الفضائح اللاإنسانية في السجون الأمريكية في العراق، والتي وصل فيها مستوى التعذيب إلى قتل المعتقلين بدم بارد. وهذا ما ينبغي للشعوب والدول أن تفهمه جيداً، ولا سيما بعدما أقدمت الإدارة الأمريكية على نقل بعض المتَّهمين لديها إلى سجون عربية أو أوروبية تبرر استعمال الأساليب الوحشية للتعذيب، حتى لا تتعرّض أمريكا لأيّ انتقاد داخلي بأنها خرقت القانون في ذلك، الأمر الذي تتحوّل معه مطالبة الإدارة الأمريكية لهذه الدول باحترام حقوق الإنسان إلى ما يشبه النكتة السمجة.
سلاح النّفط:
ومن جانب آخر، فقد قرر الرئيس الأمريكي إيفاد نائبه "تشيني" إلى الشرق الأوسط، بحجة تقديم تطمينات بشأن التزام واشنطن بالعمل لتطبيق اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إضافةً إلى ترويجه المستمر لما يزعمه من خطر إيران، إلى جانب عنوان النفط الذي يُراد له أن يتحوّل إلى سلاح ضد العرب والمسلمين وقضاياهم، لتتحرك أسعاره وفق المصالح الأمريكية.
إننا نلاحظ أنَّ هذا الرجل الدموي الإرهابي يتَّصف بالرغبة في إثارة الحروب في المنطقة العربية والإسلامية، ويتحرَّك بخطته في تعقيد العلاقات بين إيران وجيرانها من دول الخليج من أجل أن تساعده في أيّ حرب أمريكية استباقية قد تُشنّ على إيران، لتتكفّل هذه الدول بتمويلها وإيجاد الظروف المعقّدة التي تدفعها إلى المشاركة في البدايات، ما يؤدي إلى تدمير المنطقة، هذا إلى جانب الحريق الذي قد يُشعل المواقع المحيطة بالخليج كلّه، إضافةً إلى إرباك العلاقات بين بعض الدّول العربية الأخرى، كمصر والأردن وبين إيران...
أما مسألة اتفاق السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فهو مشروع يقترب من مراعاة الجانب اليهودي على حساب الجانب الفلسطيني، وذلك لتطمين إسرائيل من قِبَل أمريكا بأنَّ الحلّ لن يكون على حساب أطماعها التوسعية، لأن نائب الرئيس الأمريكي الذي يمثّل الوسواس الخنّاس لرئيسه، هو من السائرين في الخطِّ الصهيوني، ليكون الحلّ في فلسطين حلاّ يهودياً لا يمنح الشعب الفلسطيني إلا هوامش الأمور، وخصوصاً أنه وفريقه من المحافظين الجدد يعتبرون الحرب على حركة حماس والفصائل المقاوِمة ضرورة أمنية للسياسة الأمريكية والصهيونية، لأنّها ـ حسب زعمهم ـ تمثِّل الحرب على الإرهاب، إضافةً إلى أن التصريحات الصادرة عنه وعن الإدارة كلِّها، لا يُراد منها إلاّ الاستهلاك الكلامي الذي يحاول إرضاء بعض العرب اللاّهثين وراء الاستراتيجية الأمريكية.
أمَّا الضغط على دول "أوبك" من خلال رفع بعض الدول العربية سقف إنتاج النفط، فإنه يمثل الخطة التي تتحرّك من أجل إضعاف الاقتصاد العربي والإسلامي وبعض دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية لحساب الاقتصاد الغربي، ولا سيما الأمريكي، وقد تعوّد بعض هؤلاء على الخضوع لهذا الضغط الأمريكي.
صانع المشكلة عرّاب الحلّ:
أمّا لبنان، فإنَّ المشكلة فيه هي أنَّ عدم التوصل إلى توافق بين الفرقاء على ساحته، ناتج من فقدان الإرادة السياسية في صنع التسوية، وليس فقدان الأفكار الجديدة، إضافةً إلى فقدان الثقة بين الأطراف وما يرافق ذلك من اتهامات متبادلة بنوع من سوء النيّة وحراسة الفراغ الرئاسي من أجل مصالح فئوية، أو الخضوع لأمر عمليات دولي أو إقليمي. وإذا كان التأجيل من وقت إلى آخر هو القرار الذي تفرضه الأزمة الداخلية في غياب التوافق السياسي، فإن انتظار الجميع للقمة العربية، قد يحرّك بعض الصّراعات العربية في عناوينها الشخصية تارةً، والدولية أخرى.
وربما يرى البعض أن المبادرة العربية انطلقت من إجماع داخل الجامعة العربية، لكن الواقع أنَّ هذه المبادرة خرجت من أزمة النظام العربي، وجرى التعامل معها من زاوية المصالح القِطْرية للأنظمة، لا من باب الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي العربي والاستقرار في النظام الإقليمي، لأن أكثر العرب قد ابتعدوا عن الاستراتيجية القومية، وأخذوا بالخصوصيات المعقّدة للأشخاص المسيطرين على الواقع العربي.
وفي الختام نسأل: هل بقي للبنانيين أن يصوموا عن المطالبة بحقوقهم الإنسانية والحياتية والخدماتية والسياسية، لأن ذلك قد يكلِّفهم الكثير من الدماء والفوضى والاتهامات المتبادلة، ليبقى الجوع والحرمان هو طابع لبنان الذي لا يملك معنى الدولة التي تُشبع الجائعين، وتعالج أوضاع المحرومين، انتظاراً للزمن الذي قد يأتي وقد لا يأتي، من أجل حلّ مشكلة الإنسان فيه؟
ومن الغريب في هذا البلد العجائبي، أنّ الذين صنعوا المشكلة داخله هم الذين يُراد لهم أن يحلّوها... هل هذا معقول؟
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
المنهج الأخلاقي الإسلامي:
عالجوا الغضب بالحلم والصبر...
الغضب والاستغضاب:
من الأمور الّتي عالجها النظام الأخلاقي الإسلامي، ما يحدث من ردود فعل قد تصدر من الإنسان في بعض المواقف تثير انفعاله وتحرّك غضبه، سواء كان ذلك من خلال كلمة حادّة، أو موقف مضادّ، أو من خلال وضع نفسي لا ينسجم مع أوضاعه الداخلية، وسواء كان ذلك داخل البيت، ممّا قد يصدر من الزوجة أو الزوج أو الأولاد من كلام حاد، أو في المجتمع في ما يواجهه من أوضاع سلبية تثيره وتدفعه إلى أن ينفّس عن غضبه بطريقة عنيفة، فقد يدفعه إلى أن يسبّ ويشتم أو يضرب أو يطلّق زوجته أو يقذفها في شرفها، وقد يتعاظم تأثير الغضب في نفسه فيقتل، وذلك عندما يخرج الإنسان من طوره، ويفقد عقله، وخصوصاً إذا كان مسلَّحاً، فيبادر إلى استعمال سلاحه تنفيساً عن غضبه.
وهذه مسألةٌ قد تمثِّل ظاهرةً عند الكثير من الناس الذين يحكمهم الانفعال، ويبتعدون عن العقلانية، بحيث إذا استُغضبوا غضبوا، وربما يعتبرون أن الغضب عند الاستغضاب قيمة أخلاقية، وربما يجري على لسان بعضهم القول: "من استغضب ولم يغضب فهو حمار"، أي أنَّ على الإنسان أن يثور غضبه عندما يُثار، وأن ينفّس عن حاله النفسية بأية وسيلة؛ بالسبِّ، والضرب، وربما بالقتل.
وقد تصل هذه المسألة إلى حدّ تهديم الأسرة والبيت، عندما يكون الزوج انفعالياً يغضب بسهولة، أو إذا كانت الزوجة كذلك.
وفي المجتمعات القبليّة والعشائريّة، قد تحدث حرب بين عشيرة وأخرى، لأنّ شخصاً من هذه العشيرة كان في حال غضب فتكلّم كلاماً مُسيئاً بحق شخص من تلك العشيرة الأخرى أو رئيسها...
وهذا ما يحدث الآن في واقعنا المعاصر، وما نلحظه في واقع العلاقات الدولية، فالعلاقات قد تسوء بين دولة وأخرى، انطلاقاً من كلمة حادّة نطق بها مسؤول من هذه الدولة تسيء إلى موقع مسؤول آخر في دولة أخرى، فيقاطع هذا ذاك على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، مع أنّنا نعتقد بأن القضايا الشخصية، لا يجوز أن تترك تأثيرها على قضايا الشعوب.
الصَّبر عند الغضب:
وقد كان النبي(ص) يؤكّد للنَّاس الذين يستنصحونه أن لا يغضبوا، وأن لا يجعلوا الغضب يحرِّكهم، وقد تقدّم القرآن الكريم بالحديث عن كظم الغيظ، فاعتبره من صفات المتّقين: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(آل عمران/134). فالإنسان الّذي يكظم غيظه، ويلجأ إلى الحلم والصّبر في حالات الغضب، فإنّ الله يعدّه من الأتقياء الذين يستحقّون دخول الجنّة، ولكنَّ بعض الناس لا يتحدّث إلاّ عن تنفيس الغضب، وإن أدّى ذلك إلى القتل أو الهدم والخراب.
ومن الأسس الّتي يرتكز عليها النظام الأخلاقي: الصبر، وقد ورد في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزّمر/10)، فرحمة الله الواسعة ورضاه ومغفرته ومحبته هي للصابرين. وهم الّذين قال الله تعالى عنهم: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ}(البقرة/157).
فينبغي لنا ـ أيها الأحبّة ـ أن نتخلّق بأخلاق الإسلام، وذلك بأن لا نبادر إلى التنفيس عن غيظنا، بل أن نكظمه، وأن ندرس نتائج ردود أفعالنا بعقلانية، وخصوصاً أنّ بعض الناس، وبعض أجهزة المخابرات، قد يدفعونك دفعاً إلى الغضب لتتصرف بانفعال ووفق ما يريدون. وفي مقابل ذلك، عليك أن تتذكر أنّ الله سبحانه وتعالى رزقك عقلاً، وأراد منك أن تعرض كل شيء عليه، لأنّ قيمة الحياة هي أن يملك الإنسان عقله وشعوره وتوازنه واستقامته.
وفي هذا الموقف، نستهدي بما ورد عن النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، في توجيهنا إلى التخلّص من مسألة الغضب.
معصية الغضب:
يروى عن الإمام الصَّادق(ع) أنه قال: «سمعت أبي ـ الإمام محمد الباقر(ع) ـ يقول: أتى رسول الله(ص) رجلٌ بدوي، فقال: إني أسكن الباديةـ بعيد عنك وعن مواعظك وخطبك ـ فعلّمني جوامع الكلم ـ ما قلّ لفظه وكثر معناه ـ فقال: آمرك أن لا تغضبـ إذا استغضبت أو أثارك أحد فليكن عقلك معك، وواجه القضايا بهدوء وعقلانية وحكمة ـ فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات، حتى رجع الرجل إلى نفسه ـ فأقلع عن إلحاحه على النبي(ص) ـ فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله إلا بالخير».
قال(ع): «وكان أبي يقول: أيُّ شيء أشدُّ من الغضب؛ إنَّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرّم الله، ويقذف المحصنة».
وعن الإمام الباقر(ع): «مكتوب في التوراة، فيما ناجى الله عز وجل به موسى(ع): يا موسى، أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه ـ فربما تصدر أخطاء أو أشياء أو كلمات لا ترتاح إليها ممن هم في عهدتك أو تحت مسؤوليتك، فلا تنفعل عليهم ـ أكفُّ عنك غضبي».
وعن الصادق(ع): «أوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض أنبيائه: يا بن آدم، أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وارض بي منتصراً، فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك».
وعن الصَّادق(ع): «قال رجل للنبي(ص) علمني، قال: اذهب ولا تغضب. فقال الرجل: قد اكتفيت بذلك. فمضى إلى أهله، فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه، ثم قام معهم، ثم ذكر قول رسول الله(ص): لا تغضب، فرمى السلاح، ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدوّ قومه، فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضربٍ ليس فيه أثر، فعليّ في مالي أنا أفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم، فاصطلح القوم وذهب الغضب»، فهو حين حمل السلاح لم يكن عقله معه، ولكنّه حين فكر في نتائج الحرب والقتال، حكّم عقله وأراد حلّ المشكلة بالسلام، وهذا ما كان.
نتائج الغضب:
وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «الغضب ممحقة لقلب الحكيم». وعنه(ع) أيضاً: «من لم يملك غضبه لم يملك عقله»، لأنّ الإنسان الذي يغضب ينطلق من حالٍ غريزية انفعالية، فيغيب عقله، ويفقد توازن فكره، فيؤدّي به ذلك إلى نتائج سلبيّة كبيرة.
وعن الإمام الباقر(ع): «من كفّ غضبه عن النَّاس، كفّ الله عنه عذاب يوم القيامة».
وقد مرّ النبي(ص) على بعض أصحابه وهم يتشاءلون حجراً ـ يحاول كلّ منهم أن يحمله ـ فقال(ص): «ما هذا؟ وما يدعوكم إليه؟»، قالوا: «لنعرف أشدّنا وأقوانا»، فقال(ص): «أفلا أدلّكم على أشدّكم وأقواكم؟»، قالوا: «بلى يا رسول الله»، قال(ص): «أشدّكم وأقواكم الّذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق». وسأل(ص) قوماً: «ما الصرعة فيكم؟» قالوا: «الشّديد القويّ الّذي لا يوضع جنبه»، فقال(ص): «بل الصرعة حقّ الصرعة، رجل وكز الشيطان في قلبه واشتدّ غضبه، وظهر دمه، ثم ذكر الله فصرع بحلمه غضبه».
وقد قال الشاعر:
أغضِبْ صديقك تستطلعْ سريرته للسرِّ نافذتان السِّكر والغضب
ما صرَّح الحوض عمّا في قرارته من راسب الطين إلاّ وهو مضطرب
فما دام الماء في البركة صافياً، فلا ينكشف ما في الماء، ولكن عندما يضطرب يظهر الطين الراسب، وكذلك حين تغضب يظهر كل ما في نفسك وسرك وتفضح نفسك عند الآخر.
هذا هو ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يربي نفسه وأهله عليه، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «الغضب مفتاح كلّ شر».
الخطبة الثانية
سم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بكلِّ مسؤولية عندما تتحدّاكم الأمم وتحاصركم، وتتعسّف في تعاملها معكم. وعليكم أن تتفهَّموا ماذا يراد ويخطَّط لكم، لتواجهوه تخطيطاً بتخطيط، وتدبيراً بتدبير، حتى تنقذوا أنفسكم من كلِّ الفتن والمؤامرات التي يخطِّط لها أعداء الله والإنسان والإسلام... فماذا هناك؟
فلسطين: مسلسل من الجرائم الوحشية:
في فلسطين المحتلة، تتواصل حلقة الجرائم الإسرائيلية، في حركة الاغتيالات الوحشية المتتالية في الضفة الغربية، وفي الغارات المتقطّعة على غزة، إلى جانب الإعلان الصادر عن مسؤولي العدو في عزمهم على مواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني، من دون أن يدفع ذلك السلطة الفلسطينية إلى حفظ ماء الوجه حتى في وقف التفاوض مع العدوّ.
والى جانب ذلك، بدأ العدوُّ بناء ألف ومائة وحدة استيطانية جديدة في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية، الأمر الذي اعتبره المستوطنون إذلالاً للرئيس الفلسطيني الذي لا يملك أية ورقة عربية أو دولية للضغط على إسرائيل في المفاوضات لإيقاف الاستيطان، لأنّه من المسائل الاستراتيجية للامتداد الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية لضمّها إلى الدولة العبرية في المفاوضات النهائية بحجة حاجة الأمن الصهيوني إليها، أو استبدالها ببعض المناطق الصحراوية، في الوقت الذي يستهلك الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته الحديث حول الدولة الفلسطينية، والإعلان عن التطمينات السياسية بإمكانية تحقيقها قبل انتهاء ولايته، ودعوة الطّرفين إلى الوفاء بتعهّداتهما في السَّعي نحو ما يسمّونه السلام.
ولكننا نلاحظ أن أمريكا واللجنة الرباعية الدولية ــ ومعهما بعض الدول العربية ــ لم تضعا أية آليّة للوصول إلى النتائج الإيجابية الواقعية لتحقيق هذا الهدف، ما يجعل من الأسلوب الأمريكي وسيلةً من وسائل اللعب على امتداد عنصر الوقت الضائع لمصلحة الدولة اليهودية، واعتبار المفاوضات مسألةً استهلاكيةً لا تحقق للفلسطينيين أية نتيجة على مستوى الأمن والسياسة.
وإذا كانت بعض الدول العربية تعمل على القيام بوساطةٍ للتهدئة، فإننا نلاحظ أنَّ الإدارة الأمريكية تعمل على تعقيد أيّ طرح قد يساهم في هذا المسعى، باعتبار الخطَّة الأمريكية للإجهاز على حركة حماس وغيرها من الفصائل المقاوِمة، حيث لم ترَ وزيرة الخارجية الأمريكية التهدئة شرطاً في العودة إلى المفاوضات، كما أن الالتزام الأمريكي بالأمن الإسرائيلي، ولا سيما الموقف الأمريكي من عملية القدس النوعية، يمنع من إيجاد قاعدة سياسية أو أمنية أو إنسانية للشعب الفلسطيني في غزة.
ولذلك، فقد منعت الإدارة الأمريكية صدور أيّ قرار في مجلس الأمن لرفع الحصار الاقتصادي عن غزَّة، وهو ما يفاقم عذابات أهلها ويزيد من تجويعهم، وكأن هذه الإدارة المتوحّشة قد أصدرت قرارها بالعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني كلّه... ومن المؤسف أنَّ الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية لم تقم بأيّ ضغط على إسرائيل لرفع الحصار الظالم عن هذا الشعب المجاهد!!
إنّنا نعتقد أنَّ الشعب الفلسطيني سوف يواصل جهاده من أجل استعادة وطنه وإنهاء الاحتلال، وسوف يتابع مسيرته بالرّغم من مرور ستين عاماً على اغتصاب اليهود لأرضه وإقامة كيانهم عليها. وعلى كلِّ فصائل هذا الشعب أن تتكامل وتتعاون وتتوحَّد وتتابع خط المواجهة، في انتفاضة وراء انتفاضة، وقصف يتبع قصفاً، حتى تمنع هذه الدولة الغاصبة من الأمن والاستقرار، لأنها لن تعطيهم شيئاً بالمفاوضات، فالاستراتيجية الإسرائيلية تلعب على عامل الزمن في الزحف على الأرض وإبادة الإنسان، وتحريك حال اليأس في النفوس، حتى لا يبقى هناك أمل في المستقبل للدولة الفلسطينية الحرّة المستقلّة.
الرئيس الأمريكي يسقط كلَّ الأعراف والقيم الإنسانية:
وفي المشهدِ الأمريكي، فقد أقدم الرئيس بوش على خطوة أسقط معها كل القيم الحضارية التي يتغنّى بها ويبشّر العالم بأنَّه سوف ينشرها، حيث استخدم حقَّ النقض ضدَّ قانونٍ يمنع أجهزة الاستخبارات من استخدام أساليب التعذيب التي حرّمها الجيش الأمريكي، مثل الإيهام بالغرق، لدى استجوابها المشتبه فيهم بأنهم إرهابيون، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المنطق القانوني الحضاري في العالم لا يقيم وزناً للاعترافات التي تحصل عليها أجهزة الاستخبارات من أيّ موقوف تحت التعذيب، لأنها أُخذت بالإكراه...
إن هذا القرار الوحشي يُظهر بشكل حاسم وواضح الطبيعة العدوانية التي يحملها هذا الرئيس الذي قلنا عنه يوماً إنّه "شيطان ساذج"، وهو ما سيخلّده له التاريخ، بأنه الرئيس الذي أسقط كلَّ الأعراف والقيم الإنسانية. ولعل العالم كله يعرف أنَّ المؤسسة العسكرية الأمريكية بجيشها واستخباراتها، كانت ــ ولا تزال ــ تمارس تعذيب السجناء بعيداً عن القوانين الأمريكية، لأن التعليمات الصادرة عن رؤسائهم تبيح لهم ذلك، لا بل تشجّعهم على ممارسته، وهو ما كشفت عنه الفضائح اللاإنسانية في السجون الأمريكية في العراق، والتي وصل فيها مستوى التعذيب إلى قتل المعتقلين بدم بارد. وهذا ما ينبغي للشعوب والدول أن تفهمه جيداً، ولا سيما بعدما أقدمت الإدارة الأمريكية على نقل بعض المتَّهمين لديها إلى سجون عربية أو أوروبية تبرر استعمال الأساليب الوحشية للتعذيب، حتى لا تتعرّض أمريكا لأيّ انتقاد داخلي بأنها خرقت القانون في ذلك، الأمر الذي تتحوّل معه مطالبة الإدارة الأمريكية لهذه الدول باحترام حقوق الإنسان إلى ما يشبه النكتة السمجة.
سلاح النّفط:
ومن جانب آخر، فقد قرر الرئيس الأمريكي إيفاد نائبه "تشيني" إلى الشرق الأوسط، بحجة تقديم تطمينات بشأن التزام واشنطن بالعمل لتطبيق اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إضافةً إلى ترويجه المستمر لما يزعمه من خطر إيران، إلى جانب عنوان النفط الذي يُراد له أن يتحوّل إلى سلاح ضد العرب والمسلمين وقضاياهم، لتتحرك أسعاره وفق المصالح الأمريكية.
إننا نلاحظ أنَّ هذا الرجل الدموي الإرهابي يتَّصف بالرغبة في إثارة الحروب في المنطقة العربية والإسلامية، ويتحرَّك بخطته في تعقيد العلاقات بين إيران وجيرانها من دول الخليج من أجل أن تساعده في أيّ حرب أمريكية استباقية قد تُشنّ على إيران، لتتكفّل هذه الدول بتمويلها وإيجاد الظروف المعقّدة التي تدفعها إلى المشاركة في البدايات، ما يؤدي إلى تدمير المنطقة، هذا إلى جانب الحريق الذي قد يُشعل المواقع المحيطة بالخليج كلّه، إضافةً إلى إرباك العلاقات بين بعض الدّول العربية الأخرى، كمصر والأردن وبين إيران...
أما مسألة اتفاق السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فهو مشروع يقترب من مراعاة الجانب اليهودي على حساب الجانب الفلسطيني، وذلك لتطمين إسرائيل من قِبَل أمريكا بأنَّ الحلّ لن يكون على حساب أطماعها التوسعية، لأن نائب الرئيس الأمريكي الذي يمثّل الوسواس الخنّاس لرئيسه، هو من السائرين في الخطِّ الصهيوني، ليكون الحلّ في فلسطين حلاّ يهودياً لا يمنح الشعب الفلسطيني إلا هوامش الأمور، وخصوصاً أنه وفريقه من المحافظين الجدد يعتبرون الحرب على حركة حماس والفصائل المقاوِمة ضرورة أمنية للسياسة الأمريكية والصهيونية، لأنّها ـ حسب زعمهم ـ تمثِّل الحرب على الإرهاب، إضافةً إلى أن التصريحات الصادرة عنه وعن الإدارة كلِّها، لا يُراد منها إلاّ الاستهلاك الكلامي الذي يحاول إرضاء بعض العرب اللاّهثين وراء الاستراتيجية الأمريكية.
أمَّا الضغط على دول "أوبك" من خلال رفع بعض الدول العربية سقف إنتاج النفط، فإنه يمثل الخطة التي تتحرّك من أجل إضعاف الاقتصاد العربي والإسلامي وبعض دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية لحساب الاقتصاد الغربي، ولا سيما الأمريكي، وقد تعوّد بعض هؤلاء على الخضوع لهذا الضغط الأمريكي.
صانع المشكلة عرّاب الحلّ:
أمّا لبنان، فإنَّ المشكلة فيه هي أنَّ عدم التوصل إلى توافق بين الفرقاء على ساحته، ناتج من فقدان الإرادة السياسية في صنع التسوية، وليس فقدان الأفكار الجديدة، إضافةً إلى فقدان الثقة بين الأطراف وما يرافق ذلك من اتهامات متبادلة بنوع من سوء النيّة وحراسة الفراغ الرئاسي من أجل مصالح فئوية، أو الخضوع لأمر عمليات دولي أو إقليمي. وإذا كان التأجيل من وقت إلى آخر هو القرار الذي تفرضه الأزمة الداخلية في غياب التوافق السياسي، فإن انتظار الجميع للقمة العربية، قد يحرّك بعض الصّراعات العربية في عناوينها الشخصية تارةً، والدولية أخرى.
وربما يرى البعض أن المبادرة العربية انطلقت من إجماع داخل الجامعة العربية، لكن الواقع أنَّ هذه المبادرة خرجت من أزمة النظام العربي، وجرى التعامل معها من زاوية المصالح القِطْرية للأنظمة، لا من باب الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي العربي والاستقرار في النظام الإقليمي، لأن أكثر العرب قد ابتعدوا عن الاستراتيجية القومية، وأخذوا بالخصوصيات المعقّدة للأشخاص المسيطرين على الواقع العربي.
وفي الختام نسأل: هل بقي للبنانيين أن يصوموا عن المطالبة بحقوقهم الإنسانية والحياتية والخدماتية والسياسية، لأن ذلك قد يكلِّفهم الكثير من الدماء والفوضى والاتهامات المتبادلة، ليبقى الجوع والحرمان هو طابع لبنان الذي لا يملك معنى الدولة التي تُشبع الجائعين، وتعالج أوضاع المحرومين، انتظاراً للزمن الذي قد يأتي وقد لا يأتي، من أجل حلّ مشكلة الإنسان فيه؟
ومن الغريب في هذا البلد العجائبي، أنّ الذين صنعوا المشكلة داخله هم الذين يُراد لهم أن يحلّوها... هل هذا معقول؟