تجسيد حي للإسلام في علمه وروحانيته وأخلاقيته...

تجسيد حي للإسلام في علمه وروحانيته وأخلاقيته...

الإمام الحسن(ع) في نهجه:
تجسيد حي للإسلام في علمه وروحانيته وأخلاقيته...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33). في السابع من هذا الشهر ـ شهر صفر ـ نلتقي بذكرى وفاة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، الذي استشهد من خلال السمّ الذي دسّه إليه معاوية بن أبي سفيان، ليتملّص من عهده له بأن تكون ولاية المسلمين والخلافة من بعده للحسن(ع)، لأنه كان يخطط لولاية ولده يزيد.

في كنف النبوَّة والإمامة:

وعندما ندرس الإمام الحسن بن علي(ع)، نجد أنه كان أوَّل وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وعندما وُلد، عاش في أحضان رسول الله(ص) الذي فَقَد ولده الوحيد إبراهيم، وكان النبي(ص) يحتضنه كما يحتضن أخاه الإمام الحسين(ع) بعد ولادته بسنة، وقال فيما يرويه المسلمون: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، و«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، وكان(ص) يقول: «اللهمَّ إني أحبّهما فأحبَّهما، وأبغض من يبغضهما». وقد عاشا طفولتهما الأولى في أحضان رسول الله(ص) الذي أعطانا منهجاً تربوياً في رعاية الأب أو الجدّ للطفولة، فكان النبي(ص)، مع هذه المنـزلة العظيمة عند الله تعالى، يلاعبهما، حتى إنه كان يركِبهَما على كتفيه، وكان يقول: «نعم المطيّة مطيّتكما، ونعم الراكبان أنتما».

ويُنقل أنَّ الحسن(ع) كان ذات يوم يزحف على ظهر رسول الله(ص)، والنبي ساجد، فأطال السجود، وعندما رفع رأسه قال له المسلمون: يا رسول الله، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدةً ما كنت تسجدها، كأنّما يوحي إليك، فقال(ص): «لم يوح إليّ، ولكنَّ ابني كان على كتفي، فكرهت أن أعجّله حتّى نزل». وكان النبي(ص) يقول في هذا الاتّجاه لكلِّ الآباء: "من كان له صبي فليتصابَ له"، عليك أن تتنازل لطفلك وتتعامل معه كما لو كنت طفلاً، في حديثك وفي حركتك، لتحتضن بذلك كلَّ شخصيّته.

وعاش الإمام الحسن(ع) في أحضان أمّه السيدة فاطمة الزهراء(ع)؛ هذه السيدة الطَّاهرة العظيمة المعصومة التي تربّت مع عليّ(ع) على عقل رسول الله، فكان يعطيها من عقله عقلاً، ومن روحه روحاً، ومن استقامته استقامةً، وكان(ص) يحبّها ويقول عنها: "فاطمة بضعة مني"، و "سيدة نساء العالمين" و"سيدة نساء أهل الجنة". وكان الحسن(ع) يراقب أمَّه وهي تصلِّي صلاة الليل وتدعو ربها، فكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وهي ضعيفة الجسم منهدة الركن، ولا تدعو لنفسها، فسألها سؤال الطفل الواعي المنفتح: "يا أماه، لمَ لا تدعين لنفسك"؟ فقالت: "يا بني، الجار ثم الدار"، نحن نفكر في الناس قبل أن نفكر في أنفسنا، وندعو لهم قبل أن ندعو لأنفسنا، هؤلاء هم أهل البيت: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(الإنسان/8-9).

وهكذا، انطبعت شخصية الحسن(ع) بشخصية رسول الله(ص)، كما انطبعت بشخصية أمِّه الزهراء(ع) في كلِّ معاني الروحانية والانفتاح على الله تعالى وعلى الناس. وكانت الزهراء(ع) في حزنها على أبيها رسول الله(ص) بعد وفاته، تأخذ الحسن والحسين(ع) إلى قبر النبي(ص)، وتحدّثهما: ها هنا كان يصلّي جدكما، وها هنا كان يدعو، وها هنا كان يخطب بالناس. لتؤكد لهما سيرة النبي(ص) في موقعه الروحي والرسالي والإنساني.

ثمّ كانت حياة الإمام الحسن(ع) مع أبيه عليّ(ع)، وذلك بعد وفاة جدّه وأمّه، وكان يرافقه في ذهابه ومجيئه، ويجلس إليه ليعطيه من علمه علماً؛ ذلك العلم الذي قال فيه عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كلِّ بابٍ ألف باب"، حتى قال رسول الله(ص) عنه: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها". وكان الحسن(ع) ـ مع أخيه الحسين ـ يعيش مع أبيه في اللّيل والنهار، وكان يختزن علم عليّ(ع) في عقله، فكان عقله عقل عليّ، وكانت روحانيّته روحانيّة عليّ، وكان علمه علم عليّ. لذلك كان عليّ(ع) يعتمده عندما يأتي بعض المسلمين إليه ليسألوه عن أمور دينهم، ليثبت لهم أن الحسن(ع) يتحرك في علمه في الخطِّ الذي يتحرك فيه هو (ع).

وكان عليّ(ع) يعتمده في كل مواقفه، فنراه يخرج معه ومع الحسين(ع) في عملية احتجاج على نفي أبي ذر إلى الربذة، ليودّعه ويثبت أن هذا النفي لا ينسجم مع ما كان رسول الله(ص) يتحدث به عن أبي ذر في قوله: "ما أقلّت الغبراء وما أظلّت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر". وبعد أن استلم الإمام عليّ(ع) الخلافة، أرسل الإمام الحسن(ع) إلى الكوفة، بعد أن انطلق بعض المعارضين للإمام عليّ(ع) ليربكوا الواقع هناك، ووقف الحسن(ع) خطيباً كأعظم ما يكون الخطباء، ليعرّفهم مكانة عليّ(ع) وعظمته وسابقته في الإسلام وقربه من رسول الله، وسموّ روحه في كلِّ مواقع العظمة في العلم والعقل والروحانية والإخلاص لله تعالى. وكان(ع) مع أبيه عليّ(ع) في موقعتي الجمل وصفين...

وبعد استشهاد الإمام عليّ(ع)، بويع الإمام الحسن(ع) بالخلافة، ولكن الأمور في المجتمع الإسلامي كانت بالغة التعقيد، ولاسيما مع حركة معاوية الذي كان يطالب عليّا(ع) بدم عثمان وهو براء منه، سعياً للوصول إلى الخلافة، حيث بذل ما عنده من جهد في سبيل إرباك الوضع على الإمام الحسن(ع)، وانتهت الأمور بالحرب التي رأى الحسن(ع) في نهايتها أن الواقع الإسلامي لا يسمح بامتدادها، فكانت الهدنة في المعاهدة بينه وبين معاوية، من دون أن يتنازل عن إمامته، لأن الإمامة ليست شيئاً خاصاً به، ولكنها للأمّة مما أعطاه الله تعالى ذلك.

القمة في التسامح والعفو:

وكان الحسن(ع) يمثل القمة في سماحته وأخلاقيته وتسامحه وفي عفوه عن الناس، وفي كرمه وإخلاصه لله تعالى، حتى قيل إنّه حجّ ماشياً على قدميه خمساً وعشرين مرةً، وخرج من ماله مرتين، وكان مهاباً بين المسلمين، حتى إذا رأوه يمشي في طريق الحج نزلوا عن دوابهم ومشوا معه هيبةً له. ونقرأ في سيرته(ع)، أنه كان ذات يوم في المدينة ومعه أهل بيته وأصحابه، وجاء شخص من الشام ممن غسل معاوية أدمغتهم في بغض عليّ(ع) وأهل بيته، فعندما رأى الإمام الحسن وعرفه، تحركت أحقاد هذا الشخص من خلال تربية الأمويين له، وبدأ يسبّ الحسن وأباه، والإمام(ع) ينظر إليه نظر رأفة ورحمة، فلما انتهى من سبابه قال له الإمام(ع): «أظنُّك غريباً، ولعلّك اشتبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك...». وذهبوا به إلى المنـزل، ورأى في بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، التجسيد للخط الإسلامي الأصيل، وبدأ العمى ينقشع عن عينيه، فما لبث أن قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

هذا المنهج الذي نهجه الإمام الحسن(ع)، ينطلق من قاعدة أخلاقية في كيفية التعامل مع بعض الناس، فقد تلتقي مع أناس لا علاقة بينك وبينهم، ولكن تراهم يبغضونك ويحقدون عليك، لأنهم سمعوا كلاماً سلبياً عنك، وربما تجدهم يتحدّثون عن ضلالك وعن سلبيّاتك، وما إلى ذلك، ولكنّ الإمام الحسن(ع) فكّر بهذا الشامي الذي لا علاقة بينه وبينه، والّذي كان يسبّه ويسبّ أباه، ورأى أن هذا الرجل قد ربّاه معاوية على بغض عليّ(ع) وسبّه كل يوم على منابر الجمعة، لأنه لا يريد أن يبقى حبّ عليّ(ع) في نفوس الناس، لأن قضية عليّ هي قضية القيم الروحية الكبرى التي يمثلها، وهي قضية الخط الإسلامي الأصيل، ولأن قيمة عليّ هي ما يتميّز به في معرفة الله ورسوله وفي إخلاصه للإسلام، وهذه قيم لا يريد معاوية للنّاس أن يلتزموا بها، فأراد الإمام الحسن(ع) أن لا يعنف في ردّ فعله، حتى إنه منع أولاده وأهل بيته من أن يعرضوا له بسوء، بل أرسله إلى البيت ليستضيفه ليتعرّف من هو الحسن بن عليّ(ع)، ومن هم أهل البيت(ع)، وهكذا كان.

التجسيد الحقيقي لمعاني الإسلام:

وعاش الإمام الحسن(ع) ليجسِّد كلَّ المعاني التي كان ينفتح عليها ويتمثَّل بها رسول الله(ص)، حتّى إنَّ الرواة يحدّثون أنه كان أشبه الناس خَلْقاً وخُلُقاً برسول الله(ص)، وكان الناس إذا اشتاقوا إلى رسول الله يأتون إلى الحسن(ع) ليروا النبي(ص) فيه، لأنه كان شبيهه. وهكذا انطلق الإمام الحسن(ع) في حياته واستشهد كما استشهد أبوه، وكان قد أوصى أن يزوروا به قبر جدّه، وعرف أن القوم سوف يمنعونهم، فأوصاهم أن لا يهرقوا في أمره ملء محجمة دماً، وعندما جاؤوا بجنازته إلى قبر النبي(ص)، جاءت إحدى زوجات جدّه لتمنعهم من ذلك وتقول: "لا تُدخلوا بيتي من لا أحبّ"، وعندما وقف بنو هاشم، قام الإمام الحسين(ع) وقال: «الله الله في وصية أخي». كان(ع) يفكر في مصلحة المسلمين حتى لما بعد وفاته.

لقد كان الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) القمتين الكبيرتين في كل المعاني التي تجسّد الإسلام كلَّه في علمه وروحانيته وكل أخلاقيته، لذلك عندما نتذكر الإمامين الحسن والحسين(ع)، علينا أن ننفتح على حياتهما لنستفيد منها؛ كيف نكون مسلمين منفتحين، نعمل من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين، وننطلق حيث انطلق رسول الله(ص). والسلام على الإمام الحسن(ع) يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يبعث حيّاً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله، وارتفعوا إلى مستوى التحديات الكبرى في هذه المرحلة التي ينطلق فيها الاستكبار العالمي لإيجاد حالة من الزلزال السياسي والأمني، ولواقع يخطِّط فيه لإثارة الفتن بين المسلمين ودفعهم إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، ويهجّر بعضهم بعضاً. إنَّ علينا في هذه المرحلة التي لم يمر على الإسلام والمسلمين في تاريخهم مثلها في كل تحدياتها وصعوباتها وأوضاعها، أن نقف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، تماماً كما يقف المستكبرون ليواجهوا المسلمين في كل قضاياهم الحيوية والمصيرية، فماذا هناك؟

إفشال أمريكيّ للاتّفاق الفلسطينيّ:

في المشهد الفلسطيني: كانت البداية اتفاق "بوش" مع رئيس حكومة العدو "أولمرت" على عدم الاعتراف بحكومة الوحدة الفلسطينية إذا لم تعترف بإسرائيل، وتعلن قبولها بالاتفاقات المعقودة معها، وتنبذ العنف، على الرغم من أن إسرائيل لم تنفِّذ شيئاً من هذه الاتفاقات... وكان لقاء "رايس" مع "أولمرت" و"محمود عباس" يتحرك في هذا الاتجاه، فقد تحدَّثت الوزيرة عن الاتفاق على دولتين إسرائيلية وفلسطينية، وفقاً للشروط التعجيزية التي أصرّ عليها المجتمع الدولي من خلال اللجنة الرباعية، ما يجعل اللقاء فاشلاً في الحسابات الفلسطينية، لأن الرئيس الأمريكي وإدارته وضعا الجانب الأمني كشرط للمفاوضات، بينما يعرف الجميع أن المسألة كانت ولا تزال مسألة سياسية ناشئة من الاحتلال الذي يسيطر على كل الساحة الفلسطينية، بما فيها غزة التي تحاصر إسرائيل كل مواقعها في عملية ضغط شامل.

استكمال خطة اليهود في إحكام السيطرة:

إن أمريكا تلعب لعبة الوقت الضائع الذي يسمح لليهود باستكمال خطتهم الاستيطانية، إلى جانب تهويد القدس وبناء الجدار العنصري الفاصل الذي يصادر أكثر الأراضي الفلسطينية التي يطرد منها أهلها، مع تأكيد منع اللاجئين من حق العودة، لأنَّ الخطَّة الإسرائيلية في اللّعبة المشتركة بينها وبين ما يسمى المجتمع الدولي تتمثل في منع الوصول إلى التسوية ريثما ييأس الفلسطينيون من أيّ حل، بالرغم من أنَّ الفريق السياسي الغالب في السلطة الفلسطينية قدَّم التنازلات من أرض فلسطين ليطالب بالأراضي المحتلة في الـ67، ملتزماً المبادرة العربية لقمّة بيروت التي لم تحترمها إسرائيل ولا أمريكا.

لقد جاءت وزيرة الخارجية الأميركية لخداع الدول العربية في المنطقة، والإيحاء بأنها تسعى لحل مشكلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومن اللافت أنها استدعت مسؤولي المخابرات في أربع دول عربية من أجل التنسيق بينها في دعم الخطة الأميركية في احتلالها للعراق وفي مواجهتها لإيران، لأن المطلوب أمريكياً هو توظيف الخطة المخابراتية لخدمة الخطة السياسية من أجل العبث بالمنطقة، لتنفيذ المشروع الأمريكي في السيطرة على الواقع العربي ـ الإسلامي لخدمة المصالح الاستكبارية على حساب مصالح العرب والمسلمين.

الملفّ النووي: أداة لتهديد إيران:

ويبقى الملف الإيراني النووي أداةً أميركيةً لتهديد إيران وإخضاعها للشروط الدولية الأمريكية والأوروبية، لإيقاف تخصيب اليورانيوم، وتجميد مشروعها في الاستفادة من الخبرة النووية في مشاريع الطاقة السلمية التي تمثل حاجة ضرورية للشعب الإيراني في المستقبل، وذلك من خلال اتهام إيران بالتخطيط لصنع السلاح النووي الذي أعلنت أعلى قيادة إسلامية في إيران تحريمها الشرعي له...

إن الأمريكيين والأوروبيين يصرُّون على توجيه هذا الاتهام من دون أساس، وهذه هي المشكلة التي أصبحت تفرض نفسها على العالم، والمتمثلة في سيطرة أمريكا وحلفائها على مجلس الأمن لإصدار القرارات الدولية التي تفرض العقوبات على أية دولة لا تخضع للسياسة الأمريكية، وتالياً الأوروبية التابعة لها. وهذا هو الذي بدأ يشكِّل الخطر على العالم الذي تخطط الإدارة الأمريكية ليكون خاضعاً للتأثيرات الاستكبارية على مصائر الشعوب المستضعفة، لتبقى إسرائيل ـ وحدها ـ هي الدولة المدلَّلة التي لا تجرؤ أية دولة في العالم العربي على معارضتها أو مناقشة السلاح النووي الذي تملكه، والذي تهدد به المنطقة العربية والإسلامية.

إثارة الفتن وتدمير الواقع الإسلامي:

إن المشكلة في الواقع العربي والإسلامي، هي أن الإدارة الأمريكية خططت ولا تزال تعمل على إيجاد حالة خطرة من الفوضى الأمنية والسياسية، حتى إنها أثارت أكثر من فتنة بخلط أوراق المنطقة في نطاق الخلاف بين السنة والشيعة، والتطرف والاعتدال، والعروبة والقومية الفارسية، لتمنع قيام أية علاقة إسلامية منفتحة على التنوع الإسلامي والقومي والجغرافي، لأن الخطة الأمريكية هي تدمير الواقع الإسلامي على مستوى الدين أو الأمة، من خلال الفتن التي تثيرها من قبل عملائها، ولاسيما القائمين على الأنظمة التي أرادت لها أن تسجن شعوبها في السجن الكبير، لتبقى أمريكا هي القوة الوحيدة الضاربة في المنطقة لتأمين استمرار خضوع شعوبها لسياستها الاستكبارية.

وإننا أمام ذلك كله، ندعو الأمة العربية والإسلامية إلى أن تعرف كيف تأخذ بأسباب الوعي لمواجهة هذا المخطط التدميري، لتعرف كيف تواجه الهجمة الاستكبارية بالمزيد من الوحدة والقوة والتخطيط الدقيق في خط المواجهة.

الابتعاد عن الإثارة الطائفية في العراق:

ويبقى العراق الجرح النازف في الأمة، من خلال الوحوش المفترسة التي تعمل على افتراس المدنيين العراقيين من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، بالتفجيرات الوحشية التي تحصد الناس من دون تمييز في جامعاتهم ومدارسهم ومساجدهم وأسواقهم، بحجة تعطيل الخطة الأمنية. ومن المضحك المبكي أن هؤلاء يتحدثون عن مقاومة الاحتلال، في الوقت الذي نرى أنّ الذين يسقطون من جنوده لا يزيدون عن عدد أصابع اليد، بينما يسقط المدنيون العراقيون في كل يوم بالمئات من القتلى والجرحى، الأمر الذي يوحي بأن هؤلاء لا يملكون طهر المقاومة، التي إذا أخلصت لوطنها، فإن عليها أن تصوّب كل بنادقها وتفجر كل عبواتها ضد المحتلّ...

وعلى العالم العربي والإسلامي أن يتعرَّف حقيقة الوضع في العراق، فلا يدخل في عملية الإثارة الطائفية التي قد تزوِّر الكثير من المعلومات، لتشوّه الصورة الحقيقية على نحو يخلق حالات من الفهم الخاطئ للواقع العراقي، وعلى العراقيين أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة في القضية السياسية، ليعرفوا أن أسلوب المقاطعة بين الأفرقاء لن يحقق لهذا الفريق أو ذاك الفريق أيَّ مكسب على المستوى الطائفي أو العرقي أو السياسي... بل إن على الجميع أن يفكروا في المكاسب الكبيرة للوطن كله من خلال وحدتهم، لأن هذا النوع من التجاذب السياسي لن يستفيد منه إلاّ المحتل الذي يجب على الجميع أن يتعاونوا لمقاومته بالخطة القوية الحكيمة، من أجل تحقيق مشروع انسحابه من البلد كله.

أمريكا تعطِّل مبادرات الحلّ في لبنان:

أما لبنان، فقد قالت وزيرة الخارجية الأمريكية "رايس" إنّه يمثّل الساحة التي تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية موقعها المفضَّل في تحريك سياستها في المنطقة، لممارسة الضغوط المتنوعة على أكثر من بلد، وإعطاء الفرصة لمشاريعها في تعطيل أكثر من مبادرة لحلّ الأزمة السياسية الداخلية، بالرغم من سعي بعض الدول العربية الحليفة لأمريكا في إطلاق أكثر من مبادرة، كما هو الشأن في حركة السياسية الأمريكية المعطِّلة للحل في فلسطين، ورفض الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية هناك، لأن الخطة الأمريكية هنا وهناك هي إخضاع الواقع العربي للخطوط الفوضوية لإرباك العلاقات بين دول المنطقة، وإثارة المشاكل المذهبية والقومية بين شعوبها...

ولذلك، فإنَّ من الصعب الحديث في لبنان الذي تحوّل إلى ساحة صراع وتجاذبات إقليمية ودولية ـ بالرغم من رفض السلطة الاعتراف بذلك ـ، من الصّعب الحديث عن حلٍّ واقعي يزاوج بين المحكمة ذات الطابع الدولي التي يعتبرها البعض أساس المشكلة، وبين حكومة الوحدة الوطنية، ولاسيما في ظل انعدام الثقة بين أهل السياسة، بالمستوى الذي قد يصل إلى سقوط البلد تحت تأثير مخاوف الانهيار الاقتصادي، واحتدام الصراع الذي قد يقود إلى بعض المواقف التي لا تحمد عقباها...

الإخلاص أولاًَ للوطن والشعب:

إن مشكلة البلد أنه لا يتحرك من خصوصيات حركة الإنقاذ في الداخل، بالبحث عن الأسس التي تحفظ وحدته وفاعليته، وتؤكد قاعدة المواطنة بين أهله، وعن الظروف الواقعية التي قد تقود إلى الحوار الموضوعي العقلاني الهادئ الذي لا يستهدف تسجيل النقاط على هذا الفريق أو ذاك، بل إجراء دراسة شاملة تستهدف الوصول إلى حلٍّ لكل المشاكل العالقة في معطياتها الواقعية، والاتفاق على الحلّ الذي يؤكِّد فيه الجميع أنهم معنيون بوطنهم وبقضاياه المصيرية وأوضاعه الحيوية، وليسوا معنيين بالاستماع إلى هذه القوة الخارجية أو تلك لتنفيذ سياستها في البلد، ولو كان ذلك على حساب مصالح الشعب كله...

وأخيراً، إننا نقول للذين يتحركون في الساحة السياسية للبلد: كونوا لبنانيين في الإخلاص للبنان الوطن والشعب والمستقبل، لبنان الإنسان، ولا تستغرقوا في خصوصياتكم الذاتية أو طائفياتكم الاستهلاكية، لتعرفوا أن هذا الجدل العقيم الذي تتراشقون فيه بالاتهامات بعضكم ضد بعض لن ينقذ البلد، بل قد يساهم في سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.

الإمام الحسن(ع) في نهجه:
تجسيد حي للإسلام في علمه وروحانيته وأخلاقيته...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33). في السابع من هذا الشهر ـ شهر صفر ـ نلتقي بذكرى وفاة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، الذي استشهد من خلال السمّ الذي دسّه إليه معاوية بن أبي سفيان، ليتملّص من عهده له بأن تكون ولاية المسلمين والخلافة من بعده للحسن(ع)، لأنه كان يخطط لولاية ولده يزيد.

في كنف النبوَّة والإمامة:

وعندما ندرس الإمام الحسن بن علي(ع)، نجد أنه كان أوَّل وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وعندما وُلد، عاش في أحضان رسول الله(ص) الذي فَقَد ولده الوحيد إبراهيم، وكان النبي(ص) يحتضنه كما يحتضن أخاه الإمام الحسين(ع) بعد ولادته بسنة، وقال فيما يرويه المسلمون: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، و«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، وكان(ص) يقول: «اللهمَّ إني أحبّهما فأحبَّهما، وأبغض من يبغضهما». وقد عاشا طفولتهما الأولى في أحضان رسول الله(ص) الذي أعطانا منهجاً تربوياً في رعاية الأب أو الجدّ للطفولة، فكان النبي(ص)، مع هذه المنـزلة العظيمة عند الله تعالى، يلاعبهما، حتى إنه كان يركِبهَما على كتفيه، وكان يقول: «نعم المطيّة مطيّتكما، ونعم الراكبان أنتما».

ويُنقل أنَّ الحسن(ع) كان ذات يوم يزحف على ظهر رسول الله(ص)، والنبي ساجد، فأطال السجود، وعندما رفع رأسه قال له المسلمون: يا رسول الله، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدةً ما كنت تسجدها، كأنّما يوحي إليك، فقال(ص): «لم يوح إليّ، ولكنَّ ابني كان على كتفي، فكرهت أن أعجّله حتّى نزل». وكان النبي(ص) يقول في هذا الاتّجاه لكلِّ الآباء: "من كان له صبي فليتصابَ له"، عليك أن تتنازل لطفلك وتتعامل معه كما لو كنت طفلاً، في حديثك وفي حركتك، لتحتضن بذلك كلَّ شخصيّته.

وعاش الإمام الحسن(ع) في أحضان أمّه السيدة فاطمة الزهراء(ع)؛ هذه السيدة الطَّاهرة العظيمة المعصومة التي تربّت مع عليّ(ع) على عقل رسول الله، فكان يعطيها من عقله عقلاً، ومن روحه روحاً، ومن استقامته استقامةً، وكان(ص) يحبّها ويقول عنها: "فاطمة بضعة مني"، و "سيدة نساء العالمين" و"سيدة نساء أهل الجنة". وكان الحسن(ع) يراقب أمَّه وهي تصلِّي صلاة الليل وتدعو ربها، فكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وهي ضعيفة الجسم منهدة الركن، ولا تدعو لنفسها، فسألها سؤال الطفل الواعي المنفتح: "يا أماه، لمَ لا تدعين لنفسك"؟ فقالت: "يا بني، الجار ثم الدار"، نحن نفكر في الناس قبل أن نفكر في أنفسنا، وندعو لهم قبل أن ندعو لأنفسنا، هؤلاء هم أهل البيت: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(الإنسان/8-9).

وهكذا، انطبعت شخصية الحسن(ع) بشخصية رسول الله(ص)، كما انطبعت بشخصية أمِّه الزهراء(ع) في كلِّ معاني الروحانية والانفتاح على الله تعالى وعلى الناس. وكانت الزهراء(ع) في حزنها على أبيها رسول الله(ص) بعد وفاته، تأخذ الحسن والحسين(ع) إلى قبر النبي(ص)، وتحدّثهما: ها هنا كان يصلّي جدكما، وها هنا كان يدعو، وها هنا كان يخطب بالناس. لتؤكد لهما سيرة النبي(ص) في موقعه الروحي والرسالي والإنساني.

ثمّ كانت حياة الإمام الحسن(ع) مع أبيه عليّ(ع)، وذلك بعد وفاة جدّه وأمّه، وكان يرافقه في ذهابه ومجيئه، ويجلس إليه ليعطيه من علمه علماً؛ ذلك العلم الذي قال فيه عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كلِّ بابٍ ألف باب"، حتى قال رسول الله(ص) عنه: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها". وكان الحسن(ع) ـ مع أخيه الحسين ـ يعيش مع أبيه في اللّيل والنهار، وكان يختزن علم عليّ(ع) في عقله، فكان عقله عقل عليّ، وكانت روحانيّته روحانيّة عليّ، وكان علمه علم عليّ. لذلك كان عليّ(ع) يعتمده عندما يأتي بعض المسلمين إليه ليسألوه عن أمور دينهم، ليثبت لهم أن الحسن(ع) يتحرك في علمه في الخطِّ الذي يتحرك فيه هو (ع).

وكان عليّ(ع) يعتمده في كل مواقفه، فنراه يخرج معه ومع الحسين(ع) في عملية احتجاج على نفي أبي ذر إلى الربذة، ليودّعه ويثبت أن هذا النفي لا ينسجم مع ما كان رسول الله(ص) يتحدث به عن أبي ذر في قوله: "ما أقلّت الغبراء وما أظلّت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر". وبعد أن استلم الإمام عليّ(ع) الخلافة، أرسل الإمام الحسن(ع) إلى الكوفة، بعد أن انطلق بعض المعارضين للإمام عليّ(ع) ليربكوا الواقع هناك، ووقف الحسن(ع) خطيباً كأعظم ما يكون الخطباء، ليعرّفهم مكانة عليّ(ع) وعظمته وسابقته في الإسلام وقربه من رسول الله، وسموّ روحه في كلِّ مواقع العظمة في العلم والعقل والروحانية والإخلاص لله تعالى. وكان(ع) مع أبيه عليّ(ع) في موقعتي الجمل وصفين...

وبعد استشهاد الإمام عليّ(ع)، بويع الإمام الحسن(ع) بالخلافة، ولكن الأمور في المجتمع الإسلامي كانت بالغة التعقيد، ولاسيما مع حركة معاوية الذي كان يطالب عليّا(ع) بدم عثمان وهو براء منه، سعياً للوصول إلى الخلافة، حيث بذل ما عنده من جهد في سبيل إرباك الوضع على الإمام الحسن(ع)، وانتهت الأمور بالحرب التي رأى الحسن(ع) في نهايتها أن الواقع الإسلامي لا يسمح بامتدادها، فكانت الهدنة في المعاهدة بينه وبين معاوية، من دون أن يتنازل عن إمامته، لأن الإمامة ليست شيئاً خاصاً به، ولكنها للأمّة مما أعطاه الله تعالى ذلك.

القمة في التسامح والعفو:

وكان الحسن(ع) يمثل القمة في سماحته وأخلاقيته وتسامحه وفي عفوه عن الناس، وفي كرمه وإخلاصه لله تعالى، حتى قيل إنّه حجّ ماشياً على قدميه خمساً وعشرين مرةً، وخرج من ماله مرتين، وكان مهاباً بين المسلمين، حتى إذا رأوه يمشي في طريق الحج نزلوا عن دوابهم ومشوا معه هيبةً له. ونقرأ في سيرته(ع)، أنه كان ذات يوم في المدينة ومعه أهل بيته وأصحابه، وجاء شخص من الشام ممن غسل معاوية أدمغتهم في بغض عليّ(ع) وأهل بيته، فعندما رأى الإمام الحسن وعرفه، تحركت أحقاد هذا الشخص من خلال تربية الأمويين له، وبدأ يسبّ الحسن وأباه، والإمام(ع) ينظر إليه نظر رأفة ورحمة، فلما انتهى من سبابه قال له الإمام(ع): «أظنُّك غريباً، ولعلّك اشتبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك...». وذهبوا به إلى المنـزل، ورأى في بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، التجسيد للخط الإسلامي الأصيل، وبدأ العمى ينقشع عن عينيه، فما لبث أن قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

هذا المنهج الذي نهجه الإمام الحسن(ع)، ينطلق من قاعدة أخلاقية في كيفية التعامل مع بعض الناس، فقد تلتقي مع أناس لا علاقة بينك وبينهم، ولكن تراهم يبغضونك ويحقدون عليك، لأنهم سمعوا كلاماً سلبياً عنك، وربما تجدهم يتحدّثون عن ضلالك وعن سلبيّاتك، وما إلى ذلك، ولكنّ الإمام الحسن(ع) فكّر بهذا الشامي الذي لا علاقة بينه وبينه، والّذي كان يسبّه ويسبّ أباه، ورأى أن هذا الرجل قد ربّاه معاوية على بغض عليّ(ع) وسبّه كل يوم على منابر الجمعة، لأنه لا يريد أن يبقى حبّ عليّ(ع) في نفوس الناس، لأن قضية عليّ هي قضية القيم الروحية الكبرى التي يمثلها، وهي قضية الخط الإسلامي الأصيل، ولأن قيمة عليّ هي ما يتميّز به في معرفة الله ورسوله وفي إخلاصه للإسلام، وهذه قيم لا يريد معاوية للنّاس أن يلتزموا بها، فأراد الإمام الحسن(ع) أن لا يعنف في ردّ فعله، حتى إنه منع أولاده وأهل بيته من أن يعرضوا له بسوء، بل أرسله إلى البيت ليستضيفه ليتعرّف من هو الحسن بن عليّ(ع)، ومن هم أهل البيت(ع)، وهكذا كان.

التجسيد الحقيقي لمعاني الإسلام:

وعاش الإمام الحسن(ع) ليجسِّد كلَّ المعاني التي كان ينفتح عليها ويتمثَّل بها رسول الله(ص)، حتّى إنَّ الرواة يحدّثون أنه كان أشبه الناس خَلْقاً وخُلُقاً برسول الله(ص)، وكان الناس إذا اشتاقوا إلى رسول الله يأتون إلى الحسن(ع) ليروا النبي(ص) فيه، لأنه كان شبيهه. وهكذا انطلق الإمام الحسن(ع) في حياته واستشهد كما استشهد أبوه، وكان قد أوصى أن يزوروا به قبر جدّه، وعرف أن القوم سوف يمنعونهم، فأوصاهم أن لا يهرقوا في أمره ملء محجمة دماً، وعندما جاؤوا بجنازته إلى قبر النبي(ص)، جاءت إحدى زوجات جدّه لتمنعهم من ذلك وتقول: "لا تُدخلوا بيتي من لا أحبّ"، وعندما وقف بنو هاشم، قام الإمام الحسين(ع) وقال: «الله الله في وصية أخي». كان(ع) يفكر في مصلحة المسلمين حتى لما بعد وفاته.

لقد كان الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) القمتين الكبيرتين في كل المعاني التي تجسّد الإسلام كلَّه في علمه وروحانيته وكل أخلاقيته، لذلك عندما نتذكر الإمامين الحسن والحسين(ع)، علينا أن ننفتح على حياتهما لنستفيد منها؛ كيف نكون مسلمين منفتحين، نعمل من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين، وننطلق حيث انطلق رسول الله(ص). والسلام على الإمام الحسن(ع) يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يبعث حيّاً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله، وارتفعوا إلى مستوى التحديات الكبرى في هذه المرحلة التي ينطلق فيها الاستكبار العالمي لإيجاد حالة من الزلزال السياسي والأمني، ولواقع يخطِّط فيه لإثارة الفتن بين المسلمين ودفعهم إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، ويهجّر بعضهم بعضاً. إنَّ علينا في هذه المرحلة التي لم يمر على الإسلام والمسلمين في تاريخهم مثلها في كل تحدياتها وصعوباتها وأوضاعها، أن نقف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، تماماً كما يقف المستكبرون ليواجهوا المسلمين في كل قضاياهم الحيوية والمصيرية، فماذا هناك؟

إفشال أمريكيّ للاتّفاق الفلسطينيّ:

في المشهد الفلسطيني: كانت البداية اتفاق "بوش" مع رئيس حكومة العدو "أولمرت" على عدم الاعتراف بحكومة الوحدة الفلسطينية إذا لم تعترف بإسرائيل، وتعلن قبولها بالاتفاقات المعقودة معها، وتنبذ العنف، على الرغم من أن إسرائيل لم تنفِّذ شيئاً من هذه الاتفاقات... وكان لقاء "رايس" مع "أولمرت" و"محمود عباس" يتحرك في هذا الاتجاه، فقد تحدَّثت الوزيرة عن الاتفاق على دولتين إسرائيلية وفلسطينية، وفقاً للشروط التعجيزية التي أصرّ عليها المجتمع الدولي من خلال اللجنة الرباعية، ما يجعل اللقاء فاشلاً في الحسابات الفلسطينية، لأن الرئيس الأمريكي وإدارته وضعا الجانب الأمني كشرط للمفاوضات، بينما يعرف الجميع أن المسألة كانت ولا تزال مسألة سياسية ناشئة من الاحتلال الذي يسيطر على كل الساحة الفلسطينية، بما فيها غزة التي تحاصر إسرائيل كل مواقعها في عملية ضغط شامل.

استكمال خطة اليهود في إحكام السيطرة:

إن أمريكا تلعب لعبة الوقت الضائع الذي يسمح لليهود باستكمال خطتهم الاستيطانية، إلى جانب تهويد القدس وبناء الجدار العنصري الفاصل الذي يصادر أكثر الأراضي الفلسطينية التي يطرد منها أهلها، مع تأكيد منع اللاجئين من حق العودة، لأنَّ الخطَّة الإسرائيلية في اللّعبة المشتركة بينها وبين ما يسمى المجتمع الدولي تتمثل في منع الوصول إلى التسوية ريثما ييأس الفلسطينيون من أيّ حل، بالرغم من أنَّ الفريق السياسي الغالب في السلطة الفلسطينية قدَّم التنازلات من أرض فلسطين ليطالب بالأراضي المحتلة في الـ67، ملتزماً المبادرة العربية لقمّة بيروت التي لم تحترمها إسرائيل ولا أمريكا.

لقد جاءت وزيرة الخارجية الأميركية لخداع الدول العربية في المنطقة، والإيحاء بأنها تسعى لحل مشكلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومن اللافت أنها استدعت مسؤولي المخابرات في أربع دول عربية من أجل التنسيق بينها في دعم الخطة الأميركية في احتلالها للعراق وفي مواجهتها لإيران، لأن المطلوب أمريكياً هو توظيف الخطة المخابراتية لخدمة الخطة السياسية من أجل العبث بالمنطقة، لتنفيذ المشروع الأمريكي في السيطرة على الواقع العربي ـ الإسلامي لخدمة المصالح الاستكبارية على حساب مصالح العرب والمسلمين.

الملفّ النووي: أداة لتهديد إيران:

ويبقى الملف الإيراني النووي أداةً أميركيةً لتهديد إيران وإخضاعها للشروط الدولية الأمريكية والأوروبية، لإيقاف تخصيب اليورانيوم، وتجميد مشروعها في الاستفادة من الخبرة النووية في مشاريع الطاقة السلمية التي تمثل حاجة ضرورية للشعب الإيراني في المستقبل، وذلك من خلال اتهام إيران بالتخطيط لصنع السلاح النووي الذي أعلنت أعلى قيادة إسلامية في إيران تحريمها الشرعي له...

إن الأمريكيين والأوروبيين يصرُّون على توجيه هذا الاتهام من دون أساس، وهذه هي المشكلة التي أصبحت تفرض نفسها على العالم، والمتمثلة في سيطرة أمريكا وحلفائها على مجلس الأمن لإصدار القرارات الدولية التي تفرض العقوبات على أية دولة لا تخضع للسياسة الأمريكية، وتالياً الأوروبية التابعة لها. وهذا هو الذي بدأ يشكِّل الخطر على العالم الذي تخطط الإدارة الأمريكية ليكون خاضعاً للتأثيرات الاستكبارية على مصائر الشعوب المستضعفة، لتبقى إسرائيل ـ وحدها ـ هي الدولة المدلَّلة التي لا تجرؤ أية دولة في العالم العربي على معارضتها أو مناقشة السلاح النووي الذي تملكه، والذي تهدد به المنطقة العربية والإسلامية.

إثارة الفتن وتدمير الواقع الإسلامي:

إن المشكلة في الواقع العربي والإسلامي، هي أن الإدارة الأمريكية خططت ولا تزال تعمل على إيجاد حالة خطرة من الفوضى الأمنية والسياسية، حتى إنها أثارت أكثر من فتنة بخلط أوراق المنطقة في نطاق الخلاف بين السنة والشيعة، والتطرف والاعتدال، والعروبة والقومية الفارسية، لتمنع قيام أية علاقة إسلامية منفتحة على التنوع الإسلامي والقومي والجغرافي، لأن الخطة الأمريكية هي تدمير الواقع الإسلامي على مستوى الدين أو الأمة، من خلال الفتن التي تثيرها من قبل عملائها، ولاسيما القائمين على الأنظمة التي أرادت لها أن تسجن شعوبها في السجن الكبير، لتبقى أمريكا هي القوة الوحيدة الضاربة في المنطقة لتأمين استمرار خضوع شعوبها لسياستها الاستكبارية.

وإننا أمام ذلك كله، ندعو الأمة العربية والإسلامية إلى أن تعرف كيف تأخذ بأسباب الوعي لمواجهة هذا المخطط التدميري، لتعرف كيف تواجه الهجمة الاستكبارية بالمزيد من الوحدة والقوة والتخطيط الدقيق في خط المواجهة.

الابتعاد عن الإثارة الطائفية في العراق:

ويبقى العراق الجرح النازف في الأمة، من خلال الوحوش المفترسة التي تعمل على افتراس المدنيين العراقيين من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، بالتفجيرات الوحشية التي تحصد الناس من دون تمييز في جامعاتهم ومدارسهم ومساجدهم وأسواقهم، بحجة تعطيل الخطة الأمنية. ومن المضحك المبكي أن هؤلاء يتحدثون عن مقاومة الاحتلال، في الوقت الذي نرى أنّ الذين يسقطون من جنوده لا يزيدون عن عدد أصابع اليد، بينما يسقط المدنيون العراقيون في كل يوم بالمئات من القتلى والجرحى، الأمر الذي يوحي بأن هؤلاء لا يملكون طهر المقاومة، التي إذا أخلصت لوطنها، فإن عليها أن تصوّب كل بنادقها وتفجر كل عبواتها ضد المحتلّ...

وعلى العالم العربي والإسلامي أن يتعرَّف حقيقة الوضع في العراق، فلا يدخل في عملية الإثارة الطائفية التي قد تزوِّر الكثير من المعلومات، لتشوّه الصورة الحقيقية على نحو يخلق حالات من الفهم الخاطئ للواقع العراقي، وعلى العراقيين أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة في القضية السياسية، ليعرفوا أن أسلوب المقاطعة بين الأفرقاء لن يحقق لهذا الفريق أو ذاك الفريق أيَّ مكسب على المستوى الطائفي أو العرقي أو السياسي... بل إن على الجميع أن يفكروا في المكاسب الكبيرة للوطن كله من خلال وحدتهم، لأن هذا النوع من التجاذب السياسي لن يستفيد منه إلاّ المحتل الذي يجب على الجميع أن يتعاونوا لمقاومته بالخطة القوية الحكيمة، من أجل تحقيق مشروع انسحابه من البلد كله.

أمريكا تعطِّل مبادرات الحلّ في لبنان:

أما لبنان، فقد قالت وزيرة الخارجية الأمريكية "رايس" إنّه يمثّل الساحة التي تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية موقعها المفضَّل في تحريك سياستها في المنطقة، لممارسة الضغوط المتنوعة على أكثر من بلد، وإعطاء الفرصة لمشاريعها في تعطيل أكثر من مبادرة لحلّ الأزمة السياسية الداخلية، بالرغم من سعي بعض الدول العربية الحليفة لأمريكا في إطلاق أكثر من مبادرة، كما هو الشأن في حركة السياسية الأمريكية المعطِّلة للحل في فلسطين، ورفض الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية هناك، لأن الخطة الأمريكية هنا وهناك هي إخضاع الواقع العربي للخطوط الفوضوية لإرباك العلاقات بين دول المنطقة، وإثارة المشاكل المذهبية والقومية بين شعوبها...

ولذلك، فإنَّ من الصعب الحديث في لبنان الذي تحوّل إلى ساحة صراع وتجاذبات إقليمية ودولية ـ بالرغم من رفض السلطة الاعتراف بذلك ـ، من الصّعب الحديث عن حلٍّ واقعي يزاوج بين المحكمة ذات الطابع الدولي التي يعتبرها البعض أساس المشكلة، وبين حكومة الوحدة الوطنية، ولاسيما في ظل انعدام الثقة بين أهل السياسة، بالمستوى الذي قد يصل إلى سقوط البلد تحت تأثير مخاوف الانهيار الاقتصادي، واحتدام الصراع الذي قد يقود إلى بعض المواقف التي لا تحمد عقباها...

الإخلاص أولاًَ للوطن والشعب:

إن مشكلة البلد أنه لا يتحرك من خصوصيات حركة الإنقاذ في الداخل، بالبحث عن الأسس التي تحفظ وحدته وفاعليته، وتؤكد قاعدة المواطنة بين أهله، وعن الظروف الواقعية التي قد تقود إلى الحوار الموضوعي العقلاني الهادئ الذي لا يستهدف تسجيل النقاط على هذا الفريق أو ذاك، بل إجراء دراسة شاملة تستهدف الوصول إلى حلٍّ لكل المشاكل العالقة في معطياتها الواقعية، والاتفاق على الحلّ الذي يؤكِّد فيه الجميع أنهم معنيون بوطنهم وبقضاياه المصيرية وأوضاعه الحيوية، وليسوا معنيين بالاستماع إلى هذه القوة الخارجية أو تلك لتنفيذ سياستها في البلد، ولو كان ذلك على حساب مصالح الشعب كله...

وأخيراً، إننا نقول للذين يتحركون في الساحة السياسية للبلد: كونوا لبنانيين في الإخلاص للبنان الوطن والشعب والمستقبل، لبنان الإنسان، ولا تستغرقوا في خصوصياتكم الذاتية أو طائفياتكم الاستهلاكية، لتعرفوا أن هذا الجدل العقيم الذي تتراشقون فيه بالاتهامات بعضكم ضد بعض لن ينقذ البلد، بل قد يساهم في سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية