يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً} (الأحزاب:33).من أهل هذا البيت، الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)؛ هذا الإمام الذي كانت حياته حياة الرسالة، في أجواء المأساة في كربلاء، وفي أجواء الدعوة والعلم في مختلف جوانب الحياة الإسلامية، فقد عاش مع أبيه الحسين(ع) في كربلاء، وكان ـ حسب ما نستوحي من السيرة الحسينية ـ يتشاور مع أبيه في كل القضايا التي كانت تحيط بالواقع هناك، وكان أبوه(ع) ينفتح عليه في كل وصاياه وفي كل تطلعاته، لأنه كان الإمام من بعده، وقد أراد الله تعالى له(ع) أن يبقى حيّاً، لأنه لم يستطع القتال في كربلاء بسبب مرضه الشديد، وكانت عمته السيدة زينب(ع) تمرّضه.
الصابر المحتسب
وعاش الإمام زين العابدين(ع) كل المأساة، وكان يوجّه البقية الباقية من عوائل أهل البيت(ع)، ولاسيما السيدة زينب(ع)، في إدارة المسألة بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، ولم يُعهد عنه أنه تحرك في كربلاء بتأثير المأساة بحالة انهيار عاطفي أو انفعال نفسي بالحزن، بل كان الصابر صبر الأنبياء، لأنه كان الإمام الذي يملك القيمة الإسلامية في الصبر، وكان يعي أهداف حركة الإمام الحسين(ع). ولذلك كان موقفه موقفاً قوياً في مجلس ابن زياد عندما قال له: "هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم... فانظر لمن الفلج". وهكذا كان موقفه في الشام، ليؤنّب يزيد والمجتمع الذي ساعده على قتل الحسين(ع).
لم يُعهد للإمام السجّاد(ع) أنه كان يعيش الضعف في كل تلك المسيرة، حتى في مجلس يزيد، ونحن ننتقد ما يحاول أن يثيره بعض خطباء المجالس الحسينية لتصويره بأنه كان يستشعر الذل والخضوع، لأنّه انطلق في كل مسيرة حياته من خلال العزة؛ عزة المؤمنين التي أرادها الله تعالى لكل مؤمن، فكيف بإمام المؤمنين.
وعندما كان(ع) يُظهر الحزن على مأساة كربلاء، كان لا يخضع لحالٍ من الحزن الذي يُسقط الموقف، ويُضعف الإرادة، بل كان يريد لهذه المأساة أن تبقى ذكرى تذكّر الناس بما أطلقه الإمام الحسين(ع) من مواقف وشعارات، وبما خطط له من حركة الإصلاح في أمة جده(ص). كان يقف ليستشعر الحزن بين الناس من أجل أن تبقى هذه الذكرى، كما درج عليها الأئمة من أهل البيت(ع) الذين خططوا لبقائها لتتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، ليعتبروا بها، ويستفيدوا منها، ويحملوا شعاراتها.
تجسيد القيم والمبادىء الإسلامية
وكان الإمام زين العابدين(ع) في المجتمع الإسلامي آنذاك موقع تقدير للأمة كلها، لم يختلف عليه أيّ مسلم، بل كان العلماء يأتون إليه عندما يكون في مسجد النبي(ص) في المدينة، ليسألوه عن كل قضايا الإسلام، وليحلّ لهم كل مشكلاتهم، وليوضّح ما التبس عليهم من أمور، بحيث كان المرجعية الإسلامية لكل الفقهاء وكل الناس، وقد أخذ عنه المؤرخون والفقهاء العلم، باعتبار أنه كان يحمل علم رسول الله(ص) من موقع الحقيقة والصفاء، وهو بالفعل كان يجسّد القيمة الروحية الأخلاقية التي لا تتوقف عند أية حالة من حالات ردّ الفعل ضد أعدائه، فنحن نقرأ في تاريخه، أنه عندما ثارت المدينة على يزيد، وواجهت جماعة الأمويين وطردتهم، جاء شيخ الأمويين مروان بن الحكم إلى علي بن الحسين(ع)، وكانت عائلته كبيرة، ليطلب منه أن يستضيف عياله بعد أن رفض بعض الصحابة أن يستضيفوهم، ونحن نعرف أنّ مروان هو مَن حرّض والي المدينة على قتل الإمام الحسين(ع) عندما رفض البيعة، فقال له الإمام(ع): "ضمّ عيالك إلى عيالي"، وكان عياله يبلغون الأربعمائة، وأعطاهم(ع) كل الرعاية، حتى قالت بعض نساء مروان: "إننا لم نجد الرعاية عند أبينا كما وجدنا عند علي بن الحسين"، وهو ما ينطبق عليه قول الشاعر:
مَلَكنا فكان العفو منا سجيّـةً فلمَّا ملكتـم سال بالـدم أبطـح
وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننـا وكل إنـاء بالذي فيـه ينضـح
ومن المآثر التي تروى عن الإمام زين العابدين(ع)، أنّه كان هناك والٍ أموي على المدينة، وكان يتعسّف في إيذائه لعلي بن الحسين(ع)، وعندما عزله الخليفة وأوقفه للناس حتى يشتمه من يشتمه ويؤذيه من يؤذيه، كان الإمام(ع) يوصي أهل بيته أن لا يعرضوا له بسوء، وأن ينفتحوا عليه بكل خلق عظيم، وعندما مروا عليه ورأى هذا الخلق العظيم، خصوصاً عندما عرض عليه الإمام(ع) أن يفي عنه ديونه، قال هذا الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
وهكذا يتمثّل الإمام زين العابدين(ع)، ليؤكد في الواقع الإسلامي المبادئ الإسلامية الإنسانية، وممّا يُنقل في تاريخه، أنّ عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، كتب له عندما بلغه أنه تزوّج أمةً كانت للحسن بن علي(ع)، فأسلمت وأعتقها بعد ذلك، فكتب إليه: "إنك صرت بعل الإماء"، فكتب إليه الإمام(ع): "إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم به الناقصة، فأكرم به من اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية"، فلما انتهى الكتاب إلى عبد الملك، قال لمن عنده من الناس: "أخبروني عن رجل إذا أتى ما يضع الناس لم يزده إلا شرفاً"، قالوا: "أنت"، قال: "لا والله، ما هو بأمير المؤمنين، ولكنه علي بن الحسين".
ومن سيرته أيضاً، أنّ عبد الملك كتب إليه رسالة وطلب منه أن يهب له سيف رسول الله(ص)، فرفض الإمام(ع)، فكتب إليه يهدده بأن يمنع عنه ما يستحقه من بيت المال، وكل بيت المال حق الإمام(ع)، فأجابه الإمام(ع): "أما بعد، فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: {إن الله لا يحب كل خوّان كفور} (الحج:38)، فانظر أيّنا أولى بهذه الآية"؟ وقد استطاع الإمام(ع) أن يؤكد موقف القوة أمام هذا السلطان الجائر، كما أراد في القضية الأولى أن يعالج مسألة رفض الطبقية في الزواج، وأن المسلم كفء المسلمة مهما كان نسب هذا أو ذاك، فالنسب لا يمثل حالة تمنع زواج من هو أفضل نسباً ممن هي أقل نسباً، وقد ورد في القرآن الكريم: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
كان الإمام(ع) يريد أن يؤكد بعض المفاهيم، كان ينظر في المجتمع الذي عاشه مقارَناً بالمجتمع الذي كان عليه أهل الجاهلية، حيث كان الإنسان في الجاهلية يتعصّب لعشيرته وقومه، فيفضّل ابن عشيرته حتى لو كان سيئاً، على ابن العشيرة الأخرى حتى لو كان خيّراً، كانت العصبية والتي عبّر عنها القرآن بـ"حميّة الجاهلية" هي التي تطبع المجتمع الجاهلي وتفرّق بين الناس، فلا ينظرون إلى الجانب القيمي في أخلاقية الإنسان، وامتدت هذه المسألة إلى الواقع الإسلامي الذي كان يتعصّب فيه الناس للزعماء وحتى للخلفاء غير الشرعيين، وهذا هو الذي دعا الكثيرين من الناس إلى أن يتجمهروا لقتال الإمام الحسين(ع) تعصباً للحاكمين من بني أمية، فأوضح الإمام زين العابدين(ع) معنى العصبية، وقال: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين" والتي تأخذ في أيامنا هذه عناوين مختلفة، فهناك العصبيات الدينية التي تجعل الإنسان يتعصّب لطائفته أو حزبه أو عشيرته أو زعمائه، بحيث تقود العصبية الإنسان إلى الانحراف عن الخط الإسلامي والتكليف الشرعي، لمجرد أن الشخص الذي يتعصب له يريد منه أن يعصي الله في هذا أو ذاك.
ولكنه أكّد أنّ هناك نوعاً من العصبية المحمودة: "وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم". وهذا واقع موجود عندنا ـ والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ـ بين طائفة وطائفة، وبين مذهب ومذهب.
المتواضع والمعطاء
وهناك مسألة كان الإمام زين العابدين(ع) يركِّز عليها، وهي أنه إذا أراد أن يسافر، فإنّه كان يسافر مع قوم لا يعرفونه، وسافر ذات مرة مع قوم لا يعرفونه، حتى وصلوا إلى موضع من الطريق بحيث التقوا بقافلة أخرى، وكان فيها من يعرفه، وفوجئ هؤلاء بأنه قد عُهد إلى الإمام(ع) مهمة جمع الحطب، فسألوهم: "أتعرفون من هذا"؟ قالوا: "رجل من أهل المدينة"، فقالوا: "هذا علي بن الحسين"، فجاؤوا إلى الإمام(ع) وقالوا له: "يا بن رسول الله، أتريد أن تهلكنا، ماذا لو بدر منا ما فيه إساءة"؟ فقال(ع): "إني كنت سافرت مرةً مع قوم يعرفونني، فأعطوني برسول الله ما لا أستحق"، والإمام(ع) يستحق كل تعظيم، ولكنه قال ذلك تواضعاً. وكان يقول: "أكره أن آخذ برسول الله ما لا أُعطي مثله"، بمعنى أن الناس إذا كانت تعظّمني وتقدّرني لأني ابن رسول الله فعليّ أن أعطي الناس مقابل ذلك من الخدمات والتوجيه والرعاية بهذا المقدار.
ماذا نستفيد من هذا الموقف؟ إذا أردت أن يحترمك الناس، فانظر ماذا قدّمت لهم، فمرةً يحترمونك لسواد عيونك أو لأنك ابن فلان، ومرة يحترمونك لأنك قمت بخدمتهم ورفعت مستواهم وأعطيتهم ما يحتاجونه في كل حياتهم المادية والمعنوية، فعندما تطلب من الناس أن يحترموك، فانظر ماذا أعطيتهم، وعليك عندما تعطي الناس أن لا تفكر ماذا تأخذ منهم. هذا الموقف موجّه إلى أولئك الذين لا يخدمون الناس بأي جهد أو توجيه أو توعيه، ممّن لهم موقع رسمي أو غير رسمي، وفي المقابل يطلبون من الناس أن يعظّموهم وأن يجعلوا لهم صدر المجلس!! عندما تريد أن تعطي لا تفكر ماذا أخذت، وعندما تريد أن تأخذ فعليك أن تفكر ماذا قدّمت.
وورد عنه(ع): "ثلاثة من كنّ فيه من المؤمنين كان في كنف الله، وأظلّه الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه من اليوم الأكبر: من أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدّم يداً ولا رِجلاً حتى يعلم أنه في طاعة الله قدّمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من نفسه، وكفى بالمرء شغلاً بعيبه لنفسه عن عيوب الناس". وكان(ع) يقول: "رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس". وكان(ع) يقول على نحو الكناية: "إن لسان ابن آدم يشرف على جوارحه كل صباح، يسألهم: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا"، ليدلل على أن اللسان هو الذي يمكن أن يؤدي بالناس إلى الكثير من المشاكل.
هؤلاء هم أئمة أهل البيت(ع)، وهذا هو الإمام زين العابدين(ع) الذي ملأ الثقافة الإسلامية كلها، ليس فقط بعبادته التي كان يُضرب المثل بها، وليس بما تركه من الأدعية وما خطط له من حقوق الإنسان، ولكنّه(ع) كان في كل نشاطه العلمي والثقافي يمتد في كل قضايا العقيدة والأخلاق والحياة، والسلام عليه يوم وُلد ويوم انتقل إلى جوار ربه ويوم يُبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله في مواقع رضاه، وانطلقوا من خلال وحدة الموقف ووحدة الهدف في مواجهة التحديات التي يفرضها الكفر العالمي من جهة، والاستكبار العالمي من جهة ثانية، ليعيش المسلمون الاهتمام بأمور الأمة كلها، حتى تنطلق الأمة في مواقع النصر والقوة والعزة والكرامة، وفي مواقع الوعي لكل ما يحضّر ضدّها، لترتب أمورها لمواجهته، فماذا هناك؟
التصدي للمشاريع الصهيونية
في المشهد الفلسطيني، لا تزال إسرائيل تواصل الحفريّات في الحرم القدسي ـ وإن جمّدتها لبعض الوقت ـ في نطاق ما يسمّى عمليّات التنقيب عن الآثار اليهوديّة، في إطار مخطط ضبابيّ يهوديّ قد يستهدف ـ في نهاياته ـ المسجد بالذات، عبر بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، أو في نطاق ساحة المسجد.
ولا تزال الاحتجاجات ضدّ هذا المشروع تتواصل من الداخل والخارج؛ ولكنّنا نلاحظ أنّ العالم الإسلامي ـ بكلّ دوله ومؤسّساته وشعوبه ـ لا يتحرّك بالمستوى الضاغط على العدوّ، الأمر الذي يشجّع العدوّ على الاستمرار في عدوانه، ويغري الدولة الداعمة لإسرائيل، وحلفاءها من الأوروبيّين، بالصمت، في ظلّ تاريخٍ لتلك الدول، يعكس حركةً لا تحترم المسلمين والعرب، عندما لا يحرّك هؤلاء ساكناً في تأكيد قضاياهم المصيريّة، وعندما يتقبّلون الأمر الواقع المذلّ الذي يفرضه عليهم الآخرون؛ لأنّهم فقدوا احترامهم لأنفسهم ولشعوبهم، ففقدوا احترام الآخرين لهم.
ومن جانبٍ آخر، فإنّ بعض الدول العربيّة بدأت تحذف من مناهجها التربوية المدرسيّة كلّ الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة التي تتحدّث عن اليهود، أو عن الجهاد والقتال، رعايةً للعلاقات مع إسرائيل والداعمين الغربيّين لها، وانسجاماً مع الدعوة الأمريكيّة لرفض المضمون القرآني في قضايا الجهاد؛ لأنّ هذا ما تفرضه المشاركة في الحرب على الإرهاب.
وفي هذا كلّه دلالة على أنّ بعض القائمين على شؤون الأمّة الإسلاميّة، يستمرّون في تقديم التنازلات لأعداء الإسلام، في عمليّة تنكّر للمفاهيم الإسلاميّة القُرآنيّة التي يرفضها الآخرون، ولا يلتفتون إلى قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم}، تماماً كما تنكّر هؤلاء الحاكِمون للشريعة الإسلاميّة، من خلال القوانين غير الإسلامية التي فرضوها على شعوبهم الإسلاميّة؛ الأمر الذي أبعد الواقع الإسلامي عن التزام القاعدة الإسلاميّة الأصيلة في الحياة.
يجري ذلك كلّه، في الوقت الذي يتمسّك أعداؤهم بكلّ ثقافتهم ضدّ الإسلام والمسلمين والعرب، بل وتتحرّك خططهم في سبيل تقويض دعائم الإسلام ـ في كلّ المستويات ـ في العالم كلّه.
إفشال مخططات العدوّ
وفي موازاة ذلك، فإنّ إسرائيل ـ ومعها الولايات المتّحدة الأمريكية ـ تقف ضدّ الاتفاق المعقود في مكّة المكرّمة بين فتح وحماس من أجل تأسيس حكومة الوحدة الوطنيّة، حتّى إنّ رئيس وزراء العدوّ، بدأ يدرس رفض اللقاء مع رئيس السلطة الفلسطينية، مشترطاً ـ للموافقة عليه ـ اعتراف الحكومة الوطنيّة الفلسطينية الجديدة بالمطالب الدولية التي يمثّل الاعتراف بإسرائيل الشرط الأساس فيها.
والمطلوب في هذا الاتجاه، أن يُخلص الفلسطينيّون لالتزاماتهم في هذا المجال، وأن لا يسمحوا لمواقف العدوّ بأن تؤدّي إلى إرباك الواقع السياسي الفلسطيني وإبقاء حال المراوحة في العلاقات الداخليّة، وإرجاع الأمور إلى نقطة الصفر؛ ذلك أن الأمريكيين والإسرائيليين يسعون إلى عزل حركة المقاومة عن البقاء في دائرة المواجهة للاحتلال، وفرض الخضوع لإسرائيل كشرعيّة دوليّة سياسية، من دون أن تقدّم إسرائيل شيئاً للشعب الفلسطيني، حتى على مستوى الانسحاب من الأراضي المحتلّة وإزالة المستوطنات والجدار العنصري وحقّ العودة، فضلاً عن مسألة إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة.
اقتناص الفرص لصناعة القوة
إن إسرائيل ـ ومعها الولايات المتحدة الأمريكية ـ تريد كلّ شيء من العرب، ومن الفلسطينيين بالذات، من دون أن تعطيهم أيّ شيء، إلا ما يتوافق مع استراتيجيّتها في السيطرة على فلسطين كلّها، بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا ما لاحظناه في موقف العدوّ الصهيوني من المبادرة العربية التي أطلقت في بيروت، والتي قدّمت التنازلات السياسية لإسرائيل؛ الأمر الذي يفرض على الجميع أن يدركوا أنّ تاريخ التنازلات العربيّة أثبت للصهاينة أنّ عليهم أن يدفعوا العرب إلى تقديم التنازلات عن كلّ مشاريعهم الوطنيّة تدريجياً، حيث يعيش العرب عقدة الضعف المفروضة عليهم من واقعهم الذاتي، كما من الدول الداعمة للعدوّ، وفي مقدّمها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
إنّ على شعوبنا العربيّة والإسلامية، ولاسيّما الشعب الفلسطيني، أن تفهم ذلك؛ لتأخذ بأسباب القوّة التي تملك الكثير منها عند توافر الإرادة الصلبة، والتي أثبتت المقاومة الإسلاميّة في لبنان، ولاسيّما في الحرب الأخيرة، واقعيّتها، كما أكّدت أنّ الضعف العربي ليس هو القضاء والقدر، بل إنّ هناك أكثر من فرصة لصناعة القوّة من خلال العزيمة القوّية والإيمان الثابت والخبرة الواسعة، ما أدّى إلى هزيمة العدوّ في الحرب ـ باعتراف مسؤوليه العسكريّين والسياسيّين ـ وإلى هزيمة الإدارة الأمريكية في خطّتها لإسقاط المقاومة بيد العدوّ. ومن هنا نجد أنّ أمريكا لا تزال تحاول إرباك الواقع السياسي في لبنان، وتعمل على تعقيد كلّ المبادرات الداخليّة والخارجيّة الباحثة عن حلّ للأزمة؛ لأنّها لا تريد للرافضين للسياسة الأمريكية أن ينتصروا في السياسة إلى جانب انتصارهم في الحرب.
شجب المجازر الوحشية في العراق
أمّا في العراق، فإنّ المجازر الوحشيّة لا تزال تحصد المدنيّين الأبرياء، ولاسيّما الفقراء، والتي كان آخرها ما حصل في سوق الشورجة وسوق الهرج اللذين يلتقي فيهما كلّ أطياف العراق، من سنةٍ وشيعة، ما يوحي بأنّ الذين يقومون بالتفجيرات لا يملكون أيّ حسّ إنسانيّ، وأيّ معنىً إسلاميّ، وأيّ التزام وطني، بل إنّهم يتحرّكون ـ في سلوكهم الأعمى ـ ليمارسوا القتل الوحشيّ ضدّ كلّ الناس، مفسّرين ذلك بالتخطيط لإفشال الخطّة الأمنيّة ومواجهة الاحتلال، وهو ما لا يتقبّله أيّ منطق؛ لأنّهم لو كانوا يرفضون الاحتلال ويريدون إفشال خطّته، لكان عليهم أن يفجّروا القنابل في جنود الاحتلال، ليفرضوا عليه الانسحاب من البلد، لا أن يفجّروا حقدهم في الشعب العراقي.
إنّنا ندعو العالم الإسلامي ـ وفي مقدّمه العالم العربي ـ إلى إنكار هذه الأعمال الوحشيّة التي تخطّط للقتل من دون معنىً، وإلى الكفّ عن تجهيل الفاعلين، وعن إثارة المسألة نحو الصراع الطائفي في العراق، أو تحريك الحساسيّات المذهبيّة في العالم العربي ضدّ مذهبٍ معيّن لمصلحة أتباع مذهب آخر؛ لأنّ المأساة في العراق تطاول كلّ المذاهب والأطياف والأعراق.
ونريد للشعب العراقي أن يرتفع عن مستوى ما يخطّط له من الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة، وأن يأخذ بأسباب الوحدة والتكامل بين أفراده، من أجل خطّة تحرير تُخرج المحتل من البلاد.
لبنان: نخشى توسع دائرة الجريمة
أمّا في لبنان، فإنّنا نستنكر الجريمة المروّعة في تفجير الحافلتين بالمدنيّين في قرية عين علق، هذه الجريمة التي ينبغي أن يدرس اللبنانيّون خلفيّاتها السياسيّة؛ لأنّنا نخشى أن تبدأ الجريمة في توزيع التفجيرات على أكثر من منطقة، بفعل الذين لا يريدون للبنان أن يستقرّ ويتوحّد ويحلّ مشاكله بنفسه، في محاولةٍ من قبل هؤلاء لنشر الفوضى في ساحاته، التزاماً بالمشروع الأمريكي للفوضى البنّاءة، التي تعمل على خلق المشكلة السياسية والأمنيّة لأكثر من بلدٍ في المنطقة، لتنفيذ مشاريع الإدارة الأمريكية في السيطرة على العالم العربي والإٍسلامي، في ثرواته الطبيعية وأسواقه الاستهلاكيّة وقواعده السياسية والفكريّة، في إطار حركة الصراع بين أمريكا والدول الأخرى في المسألة الاقتصاديّة والسياسية.
ونريد للبنانيّين، ولاسيّما الذين يمارسون العمل السياسي، أن يرحموا بلدهم، وأن يمتنعوا عن استعراض عضلاتهم الكلاميّة في إثارة المشاعر بالكلمات الحادّة التي تُباعد بين اللبنانييّن وتثير حساسيّتهم الطائفيّة، وتستخدم أسلوب الشتائم هنا وهناك.
ومن المضحك أنّ الجميع يتحدّثون عن الحوار، في الوقت الذي يضعون الحواجز النفسية والسياسية ضدّ ذهنيّة الحوار، ليفسحوا في المجال أمام الذين يخطّطون للفتنة في لبنان، مستغلّين الحساسيّات الدينية والمذهبيّة، في حركة الغرائز العامّة.