يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحبّ الظالمين} (الشورى:40)، ويقول سبحانه: {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوّاً قديراً} (النساء:149)، ويقول تعالى في صفات المتقين الذين يستحقون الجنة: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين} (آل عمران:134)، ويقول سبحانه: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة:237).
العفو عند الإساءة
وهكذا تتكرَّر الآيات القرآنية التي تعالج هذا الجانب في حياة الناس؛ في علاقاتهم ببعضهم بعضاً، فعندما يخطئ شخص مع شخص، أو عندما يسيء إنسان إلى إنسان، أو يتمرَّد على بعض حقوقه، أو يعتدي عليه، فإن ذلك قد يؤدِّي إلى نتائج سلبية على مستوى العلاقات في المجتمع. ولذلك، فإنَّ الله تعالى عالج هذه المسألة بطريقتين: الأولى؛ أنّه أعطي صاحب الحق الحق في أن يردّ الاعتداء بمثله، وأن يواجه السيئة بالسيئة، فهذا هو الحق القانوني الذي يملك فيه الإنسان أن يستردّ حقه وكرامته من الذي أخذ الحق منه وأساء إلى كرامته، ولذلك ورد في الآية الكريمة: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194)، لك الحق في أن تردَّ الاعتداء بمثله، وتعاقب بمثل ما عوقبت به، بشرط أن لا تزيد عليه، لأن الزيادة في ذلك ظلم للآخر، فتكون مثله.
والطريقة الثانية هي العفو والصفح والصبر، بحيث تعيش التسامي في أخلاقك، فتعفو عمّن أساء إليك، وتمتنع عن ردّ العدوان بمثله، وتدرأ السيئة بالحسنة. ومن الطبيعي أن هذا الأسلوب؛ أسلوب التنازل عن الحق لمصلحة العلاقات الإيجابية والسلام وإعادة العلاقات بالطريقة الطيبة الحسنة، هو الذي يريد الله للإنسان أن يتّبعه، ولهذا قرأنا في الآية: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}. إن الله يقول لك: إذا عفوت عمّن أساء إليك، فإنه سبحانه يعطيك في مقابل ذلك من الأجر ما لا يقف عند حد، والله هو الجواد الكريم، وخصوصاً أن هذا العمل بهذه الطريقة يمثل حال الصبر، والله يقول: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزّمر:10)، وقد اعتبر الله تعالى الإنسان الذي يعفو عن الناس من المتقين.
مكرمات العافين عن الناس
وورد في الحديث عن رسول الله(ص) في بيان الفضل في هذه المكرمة الأخلاقية: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟: العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك". وهذا ما نستوحي منه أن مسألة الأخلاق في الإسلام ليست مسألة تجارية تتحرك على طريقة ما يتعارف عليه الناس في حسابات السوق؛ أن أعطيك لأنك أعطيتني، وأصلك لأنك وصلتني، فذلك لا يمثِّل السمو الروحي، بل يمثِّل حالاً من التبادل يشبه العملية التجارية، ولكن إذا عفوت عمّن ظلمك، ووصلت من قطعك، وأحسنت إلى من أساء إليك، فإن ذلك يدل على حال من السموّ الروحي والأخلاقي، ما يجعلك أكبر من أن تسقط تحت تأثير المشاعر السلبية.
ويقول(ص) فيما روي عنه: "إذا أوقف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجره على الله وليدخل الجنة"، قيل: من ذا الذي أجره على الله؟ قال(ص): "العافون عن الناس". وورد عنه(ص) في رواية أخرى: "إذا عنّت لكم غضبة، فادرأوها بالعفو، إنه ينادي منادٍ يوم القيامة: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا العافون"، ثم استشهد بالآية الكريمة: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}. وقد ورد في الحديث عنه(ص): "تعافوا ـ ليعفُ بعضكم عن بعض ـ تسقط الضغائن فيما بينكم"، لأن العفو ينطلق من حال نفسية طيبة منفتحة. وعنه(ص): "إن الله عفوّ يحب العفو".
فإذا كنا نطلب من الله تعالى أن يعفو عن ذنوبنا، فعلينا أن نعفو عن ذنوب بعضنا بعضاً، وقد ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي: "اللهم إنك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعفُ عنا، فإنك أولى بذلك منا". وعن النبي(ص): "رأيت ليلة أُسري بي قصوراً مستوية مشرفة على الجنة، فقلت: يا جبرائيل لمن هذا؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين". وعنه(ص): "من عفا عند قدرة ـ عندما يكون قادراً على الاقتصاص ـ عفا الله عنه يوم العثرة". وعن الإمام الحسين(ع): "إن أعفى الناس من عفا عند قدرته"، وفي الحديث عن عليّ(ع): "إذا قدرت على عدوّك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه".
ولكن بعض الناس إذا عفوت عنهم، ازدادوا شراسةً وعدواناً، فيعتدون على أناس آخرين، بحيث يؤثّر العفو عنهم سلباً في نظرتهم إلى أنفسهم، وقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع): "وأما حق من ساءك فأن تعفو عنه، فإن رأيت أن العفو عنه يضره انتصرت". وفي الرواية: "العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم"، فلا بد من دراسة كل حالة حتى لا نخطئ في تمييز الكريم من اللئيم. وعن الإمام عليّ(ع): "جازِ بالحسنة، وتجاوز عن السيئة، ما لم يكن ثلماً في الدين، أو وهناً في سلطان الإسلام".
وورد في كتاب الإمام عليّ(ع) لمالك الأشتر في عهده له، وهو موجّه إلى كل من يملك السلطة في المجتمع: "ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه... ولا تندمنَّ على عفو، ولا تبجحنّ بعقوبة"، وعنه(ع) عندما ضربه ابن ملجم: "إن أبقَ فأنا وليّ دمي، وإن أفنَ فالفناء ميعادي، وإن أعفُ فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم".
هذا هو الخلق الإسلامي الذي ركّز الله عليه في القرآن، والذي أراد للإنسان أن يعيشه ويسمو به انفتاحاً روحياً على الناس في حياته، في البيت والسوق والمجتمع، لأن الله تعالى يريد العدل من جهة، والإحسان من جهة أخرى، وهذا الخلق الإسلامي هو الذي يزيل الأحقاد من النفوس، ويحقق لنا السلام والطمأنينة والهدوء في بيوتنا ومواقعنا في كل المجالات.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الحياة بالمسؤولية التي حمّلكم الله إياها، في الوحدة بين المسلمين، والأخذ بعناصر القوة، والانفتاح على كل التحديات التي يوجّهها إليكم المستكبرون والظالمون والكافرون، لتكونوا أمة واحدة، وهناك في الواقع الإسلامي الكثير من التحديات من خلال الدول المستكبرة والمواقع الظالمة، فكيف نفهمها ونواجهها؟
حرب أمريكية على العالمين العربي والإسلامي
في الخطة الأمريكية، سعي متواصل لتحريك الحرب السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد إيران، بحجة اتهامها باستخدام الخبرة النووية لإنتاج السلاح النووي، في تعاون أمريكي مع بريطانيا وفرنسا، الدولتين الخاضعتين للسياسة الأمريكية في الضغط على العالمين العربي والإسلامي، وخصوصاً إيران وسوريا وفلسطين، لحسابات إسرائيلية في التحالف الجديد الذي يدعم أمريكا في خططها الاستكبارية، ويساعد إسرائيل في ضغوطها على الفلسطينيين، وفي حصارها للشعب الفلسطيني أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وحربها على العرب والمسلمين، ما يجعل من الاتحاد الأوروبي محوراً جديداً للعداوة ضد العالمين العربي والإسلامي، بعدما كان يمثل التوازن والاعتدال في علاقته بالمنطقة.
وفي بعض تفاصيل الخطة الأمريكية، التقدّم إلى مجلس الأمن الدولي بقرار فرنسي الصياغة، أمريكي السياسة والأهداف، في نطاق العلاقات بين لبنان وسوريا، لترسيم الحدود، وتثبيت هوية مزارع شبعا، كمدخل لإنهاء دور المقاومة الإسلامية، لم تبادر أمريكا إلى مساعدة الدولة اللبنانية وتزويد جيشها بالقوة اللازمة للدفاع عن البلد في مواجهة العدوان الإسرائيلي، بل إن الشرط الأمريكي الأساس لتزويد الجيش بالسلاح، هو عدم استخدامه ضد إسرائيل عند الحاجة، في الوقت الذي نجد تصاعداً في المساعدة الأمريكية لإسرائيل لتكون أقوى قوة في المنطقة، حتى ضد المنطقة كلها، لأن التحالف الأمريكي ـ الصهيوني موجَّه ضد العالم العربي والإسلامي؛ هذا التحالف المتمثّل الآن في الاحتلال الأمريكي المتعاون مع العدو في العراق وأفغانستان، وفي التهديد العسكري لإيران، وفي استخدام الحلف الأطلسي لخدمة حاجات إسرائيل الأمنية... وفي هذا الاتجاه، يتضمَّن القرار الضغط لإقامة علاقات دبلوماسية بين لبنان وسوريا، مع العلم أن هذا القرار كسابقه، يشكّل تدخلاً في الشؤون الداخلية بين البلدين التي لا علاقة لمجلس الأمن الدولي بها.
أما القرار الثاني، فيتعلّق بإيران ومشروعها لتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، وهو قرار إسرائيلي في جوهره، حتى لو كان مقدَّماً من المندوب الأمريكي ومعه بريطانيا وفرنسا، وذلك لحساب إضعاف أية دولة في المنطقة تسعى إلى حيازة القوة لحماية استقلالها ومصالحها الحيوية، وكل ذلك لحساب مصالح هذه الدول وغيرها من دول الغرب التي ترى في الشعوب المستضعفة مصدراً لاستغلال مواردها الطبيعية وأسواقها الاستهلاكية لحساب الاستكبار العالمي.
نحذِّر اللبنانيين من الخطة الاستعمارية
أما موقع لبنان من ذلك، فإنَّ هذه الدول تستخدمه من خلال بعض مواقع النادي السياسي اللبناني المنسجمة مع الخط السياسي الأمريكي ضد سوريا، في التعقيدات السلبية في أكثر من حالة انتقامية أو ثأرية مغطاة بغطاء الرغبة في العلاقات المميّزة، ولكن لا لحساب لبنان، بل لحساب المصالح الأمريكية في الضغط على سوريا، ليكون ذلك جسراً للضغط على الحكومة الفلسطينية الجديدة، ولمصلحة اسمرار الاحتلال الأمريكي للعراق، وللوصول إلى محاصرة إيران، لا في ملفها النووي فحسب، بل في سياستها الداعمة لمواقع الحرية، وفي مواجهتها لحركة الاستكبار...
وبذلك، يتحوّل لبنان السياسي إلى أداة لإشغال سوريا بنفسها سياسياً، وربما إذا لزم الأمر عسكرياً، في حين أن الهدف إيران ومعها فلسطين وقبلها العراق... والسؤال: ما هي مصلحة لبنان في هذه الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية ـ الأوروبية؟ وهل يملك هذا البلد الصغير أن يكون جسراً للاستكبار في تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي الفوضى "الخلاّقة"، وفي استنزاف الطاقات والثروات الطبيعية من المنطقة لحساب الشركات الاحتكارية؟!
إننا نحذّر اللبنانيين من خلفيات هذه الخطة الجهنمية التي تجعل البلد ممراً للاستعمار، ومقراً لمخططاته في العمق الواقعي للسياسة، على الرغم من نفي الحكومة اللبنانية لذلك... إننا كنا ولا نزال نؤكد عدم رفضنا المساعدات الدولية للبنان، ولكننا نرفض أن تكون محمّلة بألف شرط وشرط أو وسيلة للضغط على شعوب المنطقة، ولاسيما الشعوب العربية والإسلامية في سوريا وفلسطين والعراق وإيران... وعلى الجميع أن يدرسوا تاريخ خطط الآخرين في الواقع اللبناني، في لعبة الأمم التي قد تنتج الفوضى من جهة، والحرب من جهة أخرى.
سياسة المجازر في العراق وفلسطين
وفي هذا المناخ الفوضوي الأمريكي، لا يزال الوضع العراقي يعاني من المجازر اليومية التي تحصد الأبرياء من المدنيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، تحت حماية قوات الاحتلال الأمريكي بطريقة غير مباشرة، وفي حركة الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، التي تعبث بالأمن العراقي بكل الوسائل الإجرامية، بما فيها إثارة الفتن الطائفية والعرقية وتصفية العلماء العراقيين ممن يملكون الطاقات العلمية في الجامعات وغيرها..
وإلى جانب ذلك، فإن الإرباك السياسي الذي تشرف عليه السفارة الأمريكية في بغداد، والمسؤولون الأمريكيون الذين يزورون العراق بين وقت وآخر، يعمل للتدخّل في شؤون تشكيل الحكومة العراقية بالضغط على أكثر من فريق سياسي عراقي من هذه القائمة أو تلك، من أجل أن لا تنطلق حكومة وحدة وطنية تخطط لانسحاب المحتل من العراق.
أما فلسطين، فإنها تعيش في ظل عمليات الاغتيال اليومية للمجاهدين، وحصار الشعب كله وتجويعه، ومنعه من إقامة دولته الحرة المستقلة، تحت غطاء أمريكي وأوروبي وعربي، يتمثّل في الضغط على الحكومة الفلسطينية التي انتخبها الفلسطينيون بكل حرية، لأنها لا تنسجم مع الخطة الأمريكية الإسرائيلية ـ وربما العربية ـ في إبقاء واقع السلطة الفلسطينية تحت رحمة المناخ السياسي الذي لا يسمح لحركة شعبية ديمقراطية إسلامية أن تؤكد عملية الإصلاح والتغيير لمصلحة الفلسطينيين بكل صدق وأمانة.