المنهج الأخلاقي في الإسلام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ...

المنهج الأخلاقي في الإسلام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ...

المنهج الأخلاقي في الإسلام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

دراسة عناصر الشخصية الإنسانية

من أهداف الإسلام أن يعرف الإنسان نفسه في كل عناصر شخصيته، وأن ينفتح على مستقبله في قضية المصير، حتى يسير في كل مسيرته على نور، فلا يتخبّط في ظلمات الجهل. لذلك، فالمنهج الأخلاقي في الإسلام هو أن يدرس الإنسان بنيانه الفكري في شخصيته، لأنّ أية فكرة يحملها الإنسان فيها حق وفيها باطل، فيها خير وفيها شر، وبعض الناس عندما ينتمون إلى فكر معيّن أو يلتزمونه، قد يأخذون هذا الفكر من آبائهم أو أجدادهم أو من بيئتهم، على طريقة الجاهليين الذين كانوا إذا خاطبهم النبي(ص) في الاستماع إلى رسالته: {قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم لمقتدون}، ولذلك كان النبي(ص) يناقشهم بأن الفكر لا يورث، لأن قضية الاعتقاد هي قضية شخصية تمسّ الإنسان الذي يعتقد شيئاً من خلال اقتناعه به، ولذلك ليس من الضروري أن يكون فكر الولد فكر الأب على نحو التقليد والإرث، لأن لا علاقة للنسب في مسألة وحدة الفكر، ولذلك كان(ص) يقول لهم: {أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً}، أنت تحترم أباك وتحبّه وتحسن إليه، ولكن ليس معنى ذلك أن تلتزم فكره.

وقد يأخذ بعض الناس أفكارهم من البيئة التي يعيشون فيها، وقد تكون للبيئة عادات وتقاليد ومسلّمات غير صحيحة وغير واقعية، فالله تعالى أعطى الإنسان عقلاً يفكر فيه، ليدرس كل ما يحيط به إن من خلال عقله، إذا كان يملك الثقافة أو أن يناقشها مع الناس الآخرين الذين يملكون هذه الثقافة. كل ذلك لأن المسؤولية في الإسلام فردية، فعندما يلتزم شخص ما فكراً وخطاً ونهجاً لاقتناعه به، عليه أن يدافع عنه يوم القيامة: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}، الله تعالى سيسأله: لماذا اختار هذا الدين أو ذاك الدين، هذا المذهب أو ذاك المذهب، هذا الخط السياسي أو ذاك الخط السياسي، لماذا انطلق مع هذه القيادة أو تلك القيادة، وما إلى ذلك.

التدبر والتأمل في أمور الآخرة

فالإسلام يريد للمجتمع أن يكون واعياً مفكراً متسائلاً، ليكوِّن مجتمعاً حضارياً يحمل الدعوة الإسلامية ليقنع الآخرين بها، ويدافع عن الإسلام عندما يعيش في مجتمع آخر. والله تعالى فتح هذا الجانب ليعرف الإنسان نفسه في كيف يفكر وكبق يدرس عواطفه، على أي أساس يحبّ أو يبغض، وعلى أي أساس يعادي أو يصادق، ليبني بذلك الأسس في حال إذا سئل عليه أن يجيب عندما تتحرك الأسئلة من قِبَل ربّ العزة، وهكذا في كل جوانب الحياة، وقد ورد في الحديث: "يسأل المرء يوم القيامة عن أربع: عن عمره فيما أبلاه، وعن شبابه فيما أفناه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه".

يُسأل الإنسان عن كل الخصوصيات والمسؤوليات، فيُسأل مثلاً عن سلوكه في الحياة الزوجية، هل أدّى كل طرف الحق للآخر، فالإنسان هو عبد الله ولا يملك حرية أمام ربّه، له أن يكون حراً أمام العالم كله، ولكن أمام الله عليه أن يركع ولا يركع لغيره، وعليه أن يسجد ولا يسجد لغيره، لذلك عليه أن يفكر كيف يعدّ تقريره وصحيفة أعماله لربه: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

فالآيات التي قرأناها تؤكد على هذه المسألة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ـ فعلى كل إنسان أن يعرف ما هو رصيده العملي عند الله، وعليه بعد ذلك أن يحاسب نفسه، وإذا أحسّ أن له مقدار من العمر عليه أن يتقي الله فيما يستقبل ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله ـ عاشوا الغفلة عن ربهم واستسلموا لما حولهم، وقيمة ذكر الله الذي تركّز عليه التربية الإسلامية أنها تجعل الإنسان يشعر برقابة الله عليه ليعيش قيمة الله في وجوده ـ فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ـ والله يريد أن يخيّر الإنسان وهو في الدنيا بين الجنة والنار ـ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

محاسبة النفس

وفي قضية الحساب نقرأ حديث الإمام عليّ(ع): "حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهبوا قبل أن تُبعثوا"، وفي حديث رسول الله(ص): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ـ قبل أن تقفوا للحساب بين يدي الله ـ وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر"، وعن عليّ(ع): "ما أحق للإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يحاسب فيها نفسه"، وعن الإمام الكاظم(ع): "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله منه وتاب إليه"، وقد سئل الإمام عليّ(ع) عن كيفية محاسبة النفس، فأعطى(ع) نموذجاً: "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه فقال: يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته فما الذي عملت فيه، أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت حق أخ مؤمن، أنفّست عنه كربة، أحفظته بظهر الغيب، أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه، أكففت غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عزّ وجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على أن لا يعود".

هذا المنهج يؤكد على معنى واحد وهو: على الإنسان أن يكون واعياً لنفسه ليكون واعياً لربه ولحياته ولمصيره، وقد ورد: "من عرف نفسه عرف ربه"، وقد قال تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا المسؤولية في الدنيا بأعمالكم، لتكونوا في موقع النجاة والفوز برضى الله في كل مواقعكم في الآخرة، وراقبوا الواقع كله والتحديات كلها حتى تملكوا أمركم وتواجهوا عدوكم، وحتى تنطلقوا على أساس أنكم أمة واحدة، وأن عليكم أن تأخذوا بأسباب العزة والكرامة التي منحكم الله إياها، وأن تؤكدوا على موقع الحرية في كل مواقع حياتكم، تعالوا لنواجه ماذا في ساحة الأمة من تحديات، وماذا ينبغي لنا أن نقوم به في مواجهتها.

إسرائيل: لا فرق بين سلطة وانتفاضة

في المشهد الفلسطيني، لا تزال الخطة الصهيونية في الاحتلال للضفة الغربية تنتقل ما بين اعتقال للعشرات، وقتل للأفراد، ومصادرة للأرض، واعتداء على الطلاب الصغار في مدارسهم لتصادر ملاعبهم فيها بشكل وحشي تعذب من خلاله أحاسيس الطفولة، في عملية تخطيط لضمّ الضفة الغربية ـ ومعها القدس ـ إلى كيان العدو من الناحية القانونية.

وإلى جانب ذلك، يعاني الفلسطينيون من الفتنة الداخلية التي يتوجَّه فيها السلاح الفلسطيني ضد الشعب الفلسطيني بطريقة مشبوهة يختفي خلفها العملاء المصطادون في الماء العكر، من خلال أساليبهم الملتوية الخفيّة، حتى أن بعض الشخصيات التي تملك بعض المواقع في السلطة تشجّع بعض مسؤوليها على تفجير الحرب الأهلية لأنها تسهّل الحلول الواقعية الإسرائيلية والأمريكية، في محاولةٍ منها للتأكيد أن أكثر من بلد في العالم في الواقع التاريخي استطاع أن يحصل على الاستقلال بفعل الحرب الأهلية.

إننا نعتقد أن مجاهدي الانتفاضة لا يخضعون لتأثير حرب الفتنة، ولا يرون أيّ دور للسلاح في حركة الداخل، ويعملون على تفادي ذلك كله، ويقدّمون التنازلات لمصلحة السلام الشعبي الداخلي، لأنهم يرون أمامهم هدف المستقبل الكبير في الوصول إلى التحرير الكامل، حيث لا يبقى للسلاح أيّ دور إلا في قتال العدو.

وفي هذا الاتجاه، فإننا نريد للسلطة الفلسطينية أن تعرف جيداً أن الفتنة الداخلية لن تحقق نصراً للقضية، بل إنها تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، لأن إسرائيل لا تفرّق بين سلطة وانتفاضة، بل تريد مصادرة القضية الفلسطينية لحساب استراتيجيتها الاستيطانية في الأرض كلها. ولذلك لا بد للسلطة من أن تدخل في خط التنسيق الوطني مع الفصائل المجاهدة المخلصة، لأن قضية حرية الشعب والأرض هي الهدف المقدّس للجميع، ولا سيما مع شعار اعتبار القدس التي تمثل فلسطين كلها عاصمة للوطن كله.

العراق: الاحتلال لا يحقق حرية وديمقراطية

أما في العراق الذي يقف بعض مسؤوليه الكبار في السلطة ليطلب من قيادة الاحتلال الأمريكي والبريطاني البقاء طويلاً في أرضه بحجة "حماية البلد من الإرهاب"، على أساس عدم قدرة الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي على الدفاع عن أمن الشعب. فإننا نلاحظ أن قوى الاحتلال لم تستطع أن تقدّم للعراقيين أية قاعدة للأمن الذاتي أو في مواجهة التكفيريين، حتى أنها لم تملك الدفاع عن أمنها الخاص، ولا يزال الشعب العراقي يعاني من وحوش التكفير في أكثر من عملية إرهابية تستهدف المصلّين في مساجدهم وهم يبتهلون إلى الله ويقفون بين يديه في الصلاة في شهر رمضان، كما حدث في العملية الوحشية الانتحارية التي استهدفت مسجداً في مدينة الحلة، فحصدت العشرات بين قتيل وجريح، إلى جانب العمليات المتنوّعة في أكثر من بلد في العراق.

إننا في الوقت الذي نشجب ونرفض فيه مثل هذه الجرائم والمجازر الوحشية نتساءل: لماذا هذا الصمت في العالم الإسلامي عن إدانة هذه العمليات التي تستهدف المسلمين لا الاحتلال، من خلال عقدة مذهبية تعلن استهداف الشيعة وقتلهم من دون رأفة ولا رحمة، بالإضافة إلى بعض التصريحات السياسية من بعض المسؤولين العرب الذين يتحدثون عن الواقع العراقي بلغة مذهبية طائفية، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن الشيعة في العراق لا يفكرون بوضع خاص تقسيمي، بل يريدون ـ في كل مواقفهم السياسية ـ أن يعيشوا في عراق موحَّد يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعرقية؟!

إننا نناشد المسلمين جميعاً الرحمة بالعراق وأهله، لأن الفتنة إذا اشتعلت فيه فسوف تمتد إلى ساحات العالم العربي والإسلامي، والسؤال: هل هذه هي الفوضى البنّاءة التي بشّر بها الرئيس الأمريكي في ولايته الرئاسية الثانية؟؟ إننا نؤكد لـه أن الفوضى لا تصنع نظاماً، وأن الاحتلال لا يحقق لأي شعب حرية وديمقراطية وحقوقاً إنسانية للإنسان، وأن النار سوف تحرق الذين يوقدونها، وأن على الباغي تدور الدوائر. وهذا ما نراه في الوحول التي بدأت الإدارة الأمريكية تغرق فيها في العراق وأفغانستان وفي أكثر من بلد عربي وإسلامي، وفي العواصف السياسية التي تشبه العواصف الطبيعية التي بدأت تهب على المستكبرين.

ومن جانب آخر، فإننا نناشد أهلنا في العراق أن يرتفعوا إلى مستوى الأخطار المحيطة بهم، ليواجهوا ذلك كله بالوعي السياسي المنفتح على المستقبل، لا سيما في اختيار الدستور الذي يؤكد وحدتهم ويحفظ هويتهم العربية والإسلامية، ويحقق لهم الأمن الذاتي الذي يُسقط كل أعداء الله والأمة والإنسانية من المحتلين أو التكفيريين الذين يستحلّون دماء المسلمين التي حرّمها الله. وندعو كل الفعاليات الدينية والثقافية والسياسية إلى مواجهة التحديات الكبرى بكل الوسائل والإمكانات.

لبنان: لا للوصاية الأجنبية

أما لبنان، فإننا نلاحظ أن الجدل السياسي في أكثر من موقع يوحي بالمراهقة السياسية التي لا تنطلق من مخطط لدراسة قضايا الوطن بطريقة موضوعية دقيقة، ما يجعل المسألة الأمنية تعيش في نطاق الغموض الضبابي لفقدان الخطة الواقعية التي يلتقي الجميع على التفكير في التخطيط لها، لأن المسألة ليست مسألة حكومة تسجَّل النقاط عليها في واقع المسؤولية، بل هي قضية الشعب كله في تعاون الفعاليات من أعلى الهرم إلى أسفله، في البحث عن المخرج من المأزق الذي بدأ يفترس الأمن والاقتصاد والسياسة، في الوقت الذي يتحوّل فيه الواقع السياسي إلى أسلوب المهاترات الكلامية، والجدال الحاقد، والتحالفات التي لا ترتكز على خطة مدروسة للوطن، إضافة إلى الحركة الخارجية في خلفياتها الدولية التي تتحدث عن مصالح الآخرين في تدخّلاتهم في لبنان، فيتحوّل البلد إلى ورقة للضغط على بلد آخر في لعبة التجاذبات، ما يجعل اللبنانيين يفكرون هل أن الوطن يواجه القدر التاريخي الذي يُراد لـه أن يبقى أوراقاً للضغط في لعبة الصراع الإقليمي والدولي، بدلاً من أن يكون وطناً يتكامل فيه أهله في النادي السياسي في التخطيط لحرية لا ينتقص منها الارتهان للخارج، واستقلال لا تختفي وراءه الوصاية الخارجية، وكرامة وطنية تحافظ على الشكل ولا تتعمّق في المضمون؟!

إننا نقول للشعب: ليكن صوتك للذين يخلصون للإنسان وللأرض وللمستقبل الكبير، لا للامتيازات الشخصية والحزبية والطائفية، في كل موقف للتأييد أو الرفض، فهل تستجيب؟

المنهج الأخلاقي في الإسلام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

دراسة عناصر الشخصية الإنسانية

من أهداف الإسلام أن يعرف الإنسان نفسه في كل عناصر شخصيته، وأن ينفتح على مستقبله في قضية المصير، حتى يسير في كل مسيرته على نور، فلا يتخبّط في ظلمات الجهل. لذلك، فالمنهج الأخلاقي في الإسلام هو أن يدرس الإنسان بنيانه الفكري في شخصيته، لأنّ أية فكرة يحملها الإنسان فيها حق وفيها باطل، فيها خير وفيها شر، وبعض الناس عندما ينتمون إلى فكر معيّن أو يلتزمونه، قد يأخذون هذا الفكر من آبائهم أو أجدادهم أو من بيئتهم، على طريقة الجاهليين الذين كانوا إذا خاطبهم النبي(ص) في الاستماع إلى رسالته: {قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم لمقتدون}، ولذلك كان النبي(ص) يناقشهم بأن الفكر لا يورث، لأن قضية الاعتقاد هي قضية شخصية تمسّ الإنسان الذي يعتقد شيئاً من خلال اقتناعه به، ولذلك ليس من الضروري أن يكون فكر الولد فكر الأب على نحو التقليد والإرث، لأن لا علاقة للنسب في مسألة وحدة الفكر، ولذلك كان(ص) يقول لهم: {أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً}، أنت تحترم أباك وتحبّه وتحسن إليه، ولكن ليس معنى ذلك أن تلتزم فكره.

وقد يأخذ بعض الناس أفكارهم من البيئة التي يعيشون فيها، وقد تكون للبيئة عادات وتقاليد ومسلّمات غير صحيحة وغير واقعية، فالله تعالى أعطى الإنسان عقلاً يفكر فيه، ليدرس كل ما يحيط به إن من خلال عقله، إذا كان يملك الثقافة أو أن يناقشها مع الناس الآخرين الذين يملكون هذه الثقافة. كل ذلك لأن المسؤولية في الإسلام فردية، فعندما يلتزم شخص ما فكراً وخطاً ونهجاً لاقتناعه به، عليه أن يدافع عنه يوم القيامة: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}، الله تعالى سيسأله: لماذا اختار هذا الدين أو ذاك الدين، هذا المذهب أو ذاك المذهب، هذا الخط السياسي أو ذاك الخط السياسي، لماذا انطلق مع هذه القيادة أو تلك القيادة، وما إلى ذلك.

التدبر والتأمل في أمور الآخرة

فالإسلام يريد للمجتمع أن يكون واعياً مفكراً متسائلاً، ليكوِّن مجتمعاً حضارياً يحمل الدعوة الإسلامية ليقنع الآخرين بها، ويدافع عن الإسلام عندما يعيش في مجتمع آخر. والله تعالى فتح هذا الجانب ليعرف الإنسان نفسه في كيف يفكر وكبق يدرس عواطفه، على أي أساس يحبّ أو يبغض، وعلى أي أساس يعادي أو يصادق، ليبني بذلك الأسس في حال إذا سئل عليه أن يجيب عندما تتحرك الأسئلة من قِبَل ربّ العزة، وهكذا في كل جوانب الحياة، وقد ورد في الحديث: "يسأل المرء يوم القيامة عن أربع: عن عمره فيما أبلاه، وعن شبابه فيما أفناه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه".

يُسأل الإنسان عن كل الخصوصيات والمسؤوليات، فيُسأل مثلاً عن سلوكه في الحياة الزوجية، هل أدّى كل طرف الحق للآخر، فالإنسان هو عبد الله ولا يملك حرية أمام ربّه، له أن يكون حراً أمام العالم كله، ولكن أمام الله عليه أن يركع ولا يركع لغيره، وعليه أن يسجد ولا يسجد لغيره، لذلك عليه أن يفكر كيف يعدّ تقريره وصحيفة أعماله لربه: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

فالآيات التي قرأناها تؤكد على هذه المسألة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ـ فعلى كل إنسان أن يعرف ما هو رصيده العملي عند الله، وعليه بعد ذلك أن يحاسب نفسه، وإذا أحسّ أن له مقدار من العمر عليه أن يتقي الله فيما يستقبل ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله ـ عاشوا الغفلة عن ربهم واستسلموا لما حولهم، وقيمة ذكر الله الذي تركّز عليه التربية الإسلامية أنها تجعل الإنسان يشعر برقابة الله عليه ليعيش قيمة الله في وجوده ـ فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ـ والله يريد أن يخيّر الإنسان وهو في الدنيا بين الجنة والنار ـ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

محاسبة النفس

وفي قضية الحساب نقرأ حديث الإمام عليّ(ع): "حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهبوا قبل أن تُبعثوا"، وفي حديث رسول الله(ص): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ـ قبل أن تقفوا للحساب بين يدي الله ـ وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر"، وعن عليّ(ع): "ما أحق للإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يحاسب فيها نفسه"، وعن الإمام الكاظم(ع): "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله منه وتاب إليه"، وقد سئل الإمام عليّ(ع) عن كيفية محاسبة النفس، فأعطى(ع) نموذجاً: "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه فقال: يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته فما الذي عملت فيه، أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت حق أخ مؤمن، أنفّست عنه كربة، أحفظته بظهر الغيب، أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه، أكففت غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عزّ وجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على أن لا يعود".

هذا المنهج يؤكد على معنى واحد وهو: على الإنسان أن يكون واعياً لنفسه ليكون واعياً لربه ولحياته ولمصيره، وقد ورد: "من عرف نفسه عرف ربه"، وقد قال تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا المسؤولية في الدنيا بأعمالكم، لتكونوا في موقع النجاة والفوز برضى الله في كل مواقعكم في الآخرة، وراقبوا الواقع كله والتحديات كلها حتى تملكوا أمركم وتواجهوا عدوكم، وحتى تنطلقوا على أساس أنكم أمة واحدة، وأن عليكم أن تأخذوا بأسباب العزة والكرامة التي منحكم الله إياها، وأن تؤكدوا على موقع الحرية في كل مواقع حياتكم، تعالوا لنواجه ماذا في ساحة الأمة من تحديات، وماذا ينبغي لنا أن نقوم به في مواجهتها.

إسرائيل: لا فرق بين سلطة وانتفاضة

في المشهد الفلسطيني، لا تزال الخطة الصهيونية في الاحتلال للضفة الغربية تنتقل ما بين اعتقال للعشرات، وقتل للأفراد، ومصادرة للأرض، واعتداء على الطلاب الصغار في مدارسهم لتصادر ملاعبهم فيها بشكل وحشي تعذب من خلاله أحاسيس الطفولة، في عملية تخطيط لضمّ الضفة الغربية ـ ومعها القدس ـ إلى كيان العدو من الناحية القانونية.

وإلى جانب ذلك، يعاني الفلسطينيون من الفتنة الداخلية التي يتوجَّه فيها السلاح الفلسطيني ضد الشعب الفلسطيني بطريقة مشبوهة يختفي خلفها العملاء المصطادون في الماء العكر، من خلال أساليبهم الملتوية الخفيّة، حتى أن بعض الشخصيات التي تملك بعض المواقع في السلطة تشجّع بعض مسؤوليها على تفجير الحرب الأهلية لأنها تسهّل الحلول الواقعية الإسرائيلية والأمريكية، في محاولةٍ منها للتأكيد أن أكثر من بلد في العالم في الواقع التاريخي استطاع أن يحصل على الاستقلال بفعل الحرب الأهلية.

إننا نعتقد أن مجاهدي الانتفاضة لا يخضعون لتأثير حرب الفتنة، ولا يرون أيّ دور للسلاح في حركة الداخل، ويعملون على تفادي ذلك كله، ويقدّمون التنازلات لمصلحة السلام الشعبي الداخلي، لأنهم يرون أمامهم هدف المستقبل الكبير في الوصول إلى التحرير الكامل، حيث لا يبقى للسلاح أيّ دور إلا في قتال العدو.

وفي هذا الاتجاه، فإننا نريد للسلطة الفلسطينية أن تعرف جيداً أن الفتنة الداخلية لن تحقق نصراً للقضية، بل إنها تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، لأن إسرائيل لا تفرّق بين سلطة وانتفاضة، بل تريد مصادرة القضية الفلسطينية لحساب استراتيجيتها الاستيطانية في الأرض كلها. ولذلك لا بد للسلطة من أن تدخل في خط التنسيق الوطني مع الفصائل المجاهدة المخلصة، لأن قضية حرية الشعب والأرض هي الهدف المقدّس للجميع، ولا سيما مع شعار اعتبار القدس التي تمثل فلسطين كلها عاصمة للوطن كله.

العراق: الاحتلال لا يحقق حرية وديمقراطية

أما في العراق الذي يقف بعض مسؤوليه الكبار في السلطة ليطلب من قيادة الاحتلال الأمريكي والبريطاني البقاء طويلاً في أرضه بحجة "حماية البلد من الإرهاب"، على أساس عدم قدرة الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي على الدفاع عن أمن الشعب. فإننا نلاحظ أن قوى الاحتلال لم تستطع أن تقدّم للعراقيين أية قاعدة للأمن الذاتي أو في مواجهة التكفيريين، حتى أنها لم تملك الدفاع عن أمنها الخاص، ولا يزال الشعب العراقي يعاني من وحوش التكفير في أكثر من عملية إرهابية تستهدف المصلّين في مساجدهم وهم يبتهلون إلى الله ويقفون بين يديه في الصلاة في شهر رمضان، كما حدث في العملية الوحشية الانتحارية التي استهدفت مسجداً في مدينة الحلة، فحصدت العشرات بين قتيل وجريح، إلى جانب العمليات المتنوّعة في أكثر من بلد في العراق.

إننا في الوقت الذي نشجب ونرفض فيه مثل هذه الجرائم والمجازر الوحشية نتساءل: لماذا هذا الصمت في العالم الإسلامي عن إدانة هذه العمليات التي تستهدف المسلمين لا الاحتلال، من خلال عقدة مذهبية تعلن استهداف الشيعة وقتلهم من دون رأفة ولا رحمة، بالإضافة إلى بعض التصريحات السياسية من بعض المسؤولين العرب الذين يتحدثون عن الواقع العراقي بلغة مذهبية طائفية، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن الشيعة في العراق لا يفكرون بوضع خاص تقسيمي، بل يريدون ـ في كل مواقفهم السياسية ـ أن يعيشوا في عراق موحَّد يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعرقية؟!

إننا نناشد المسلمين جميعاً الرحمة بالعراق وأهله، لأن الفتنة إذا اشتعلت فيه فسوف تمتد إلى ساحات العالم العربي والإسلامي، والسؤال: هل هذه هي الفوضى البنّاءة التي بشّر بها الرئيس الأمريكي في ولايته الرئاسية الثانية؟؟ إننا نؤكد لـه أن الفوضى لا تصنع نظاماً، وأن الاحتلال لا يحقق لأي شعب حرية وديمقراطية وحقوقاً إنسانية للإنسان، وأن النار سوف تحرق الذين يوقدونها، وأن على الباغي تدور الدوائر. وهذا ما نراه في الوحول التي بدأت الإدارة الأمريكية تغرق فيها في العراق وأفغانستان وفي أكثر من بلد عربي وإسلامي، وفي العواصف السياسية التي تشبه العواصف الطبيعية التي بدأت تهب على المستكبرين.

ومن جانب آخر، فإننا نناشد أهلنا في العراق أن يرتفعوا إلى مستوى الأخطار المحيطة بهم، ليواجهوا ذلك كله بالوعي السياسي المنفتح على المستقبل، لا سيما في اختيار الدستور الذي يؤكد وحدتهم ويحفظ هويتهم العربية والإسلامية، ويحقق لهم الأمن الذاتي الذي يُسقط كل أعداء الله والأمة والإنسانية من المحتلين أو التكفيريين الذين يستحلّون دماء المسلمين التي حرّمها الله. وندعو كل الفعاليات الدينية والثقافية والسياسية إلى مواجهة التحديات الكبرى بكل الوسائل والإمكانات.

لبنان: لا للوصاية الأجنبية

أما لبنان، فإننا نلاحظ أن الجدل السياسي في أكثر من موقع يوحي بالمراهقة السياسية التي لا تنطلق من مخطط لدراسة قضايا الوطن بطريقة موضوعية دقيقة، ما يجعل المسألة الأمنية تعيش في نطاق الغموض الضبابي لفقدان الخطة الواقعية التي يلتقي الجميع على التفكير في التخطيط لها، لأن المسألة ليست مسألة حكومة تسجَّل النقاط عليها في واقع المسؤولية، بل هي قضية الشعب كله في تعاون الفعاليات من أعلى الهرم إلى أسفله، في البحث عن المخرج من المأزق الذي بدأ يفترس الأمن والاقتصاد والسياسة، في الوقت الذي يتحوّل فيه الواقع السياسي إلى أسلوب المهاترات الكلامية، والجدال الحاقد، والتحالفات التي لا ترتكز على خطة مدروسة للوطن، إضافة إلى الحركة الخارجية في خلفياتها الدولية التي تتحدث عن مصالح الآخرين في تدخّلاتهم في لبنان، فيتحوّل البلد إلى ورقة للضغط على بلد آخر في لعبة التجاذبات، ما يجعل اللبنانيين يفكرون هل أن الوطن يواجه القدر التاريخي الذي يُراد لـه أن يبقى أوراقاً للضغط في لعبة الصراع الإقليمي والدولي، بدلاً من أن يكون وطناً يتكامل فيه أهله في النادي السياسي في التخطيط لحرية لا ينتقص منها الارتهان للخارج، واستقلال لا تختفي وراءه الوصاية الخارجية، وكرامة وطنية تحافظ على الشكل ولا تتعمّق في المضمون؟!

إننا نقول للشعب: ليكن صوتك للذين يخلصون للإنسان وللأرض وللمستقبل الكبير، لا للامتيازات الشخصية والحزبية والطائفية، في كل موقف للتأييد أو الرفض، فهل تستجيب؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية