ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الإسلام: تأكيدٌ على الحرية:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون* وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون}.
المسؤولية في الإسلام فردية، أنت وحدك مسؤول عن عملك، ولا يتحمّل أحد مسؤوليّة ما تعمل، كما لا تتحمَّل أنت مسؤولية عمل الآخر، لأن الله تعالى كرّم الإنسان وأراد له أن يكون حراً في كل قراراته ومواقفه، مستقلاً لا يخضع في ذلك لأحد، وأراد سبحانه له أن يكون حرّ الإرادة، يملك أن يقول "لا" في كلِّ شيء لا يقتنع به، وأن يقول "نعم" لما يقتنع به، أن يكون الصوت في كل ما يريد أن يؤكده في الحياة من خلال إنسانيته، وأن لا يكون الصدى، أن لا يصفّق مع المصفّقين لمجرد التصفيق، لأن أصوات التصفيق تهزّه وتؤثّر عليه، وأن لا يهتف مع الهاتفين لأن الآخرين يهتفون، أن تصفّق إذا كانت الفكرة أو الموقف يدخل في حساب وجدانك لتعبّر عن استحسانك له، وأن تهتف لأنّ من تهتف له تقتنع به، لا لأن الآخرين يقتنعون به.
وقد أكّد الله تعالى ذلك في أكثر من آية كريمة، عندما حدّثنا عن يوم القيامة: {وكلُّهم آتيه يوم القيامة فرداً}، {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}، {يوم يفرُّ المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.
الكافرون ومنطق الاتّباع:
ولكن هناك في الواقع أناس يرتضون لأنفسهم أن يكونوا التابعين للآخرين، بحيث لا يفكرون ماذا يريدون، بل يفكرون ماذا يريد الآخرون، سواء كان ذلك في القضايا الخاصة أو العامة: ماذا تريد العائلة، ماذا تريد العشيرة، ماذا يريد الحزب، ماذا يريد أهل الضيعة، ماذا تريد الحركة أو المنظمَّة؟ بعض الناس لا يملكون أصالة إنسانيّتهم، ولكنهم مشدودون إلى إرادة الآخرين، لا يريدون أن يفكروا بالأمور، بل يقولون للآخرين: فكّروا لنا ونحن نتبعكم!! هذا واقع موجود في الشرق بشكل عام، حتى إننّا تعوّدنا أن لا يكون لدينا رأي عندما ننتمي إلى أيّ جهة، فلو انتمى شخص إلى حزب أو حركة أو منظمة، وأصدرت هذه الجهة قراراً فإنه لا يحاول أن يفكر به هل هو خطأ أم صواب، بل يغمض عينيه ويسير، مع أن هذا الحزب أو الحركة أو الجمعيّة أو الضيعة قد تخطئ، وذلك بحجَّة أن هؤلاء يتحمّلون المسؤولية؟! ومَن قال لك إنّهم يتحمّلون المسؤولية؟ ما هي صفتهم؟ هل يجيبون عنك عندما يُقدّم كتابك؟ فهل تقرأ برنامج الحزب في ذلك اليوم؟ هذا واقع موجود عندنا، ولكن في الغرب ـ وهم غير مسلمين ـ يملكون خطوطاً هي من قلب الإسلام.
فنحن نرى مثلاً في بريطانيا حزبان رئيسيان هما المحافظون والعمّال، فلو أصدرت الحكومة ـ وهي عمّالية ـ قراراً، فإنَّ كل أعضاء الحزب لا يوقّعون القرار من دون دراسة، وقد يقف الكثيرون من داخل الحزب ضدَّ حزبهم ويصوّتون مع المحافظين، والعكس صحيح، وهكذا في أكثر من بلد غربي، لماذا ذلك؟ لأن الإنسان هناك عندما يمثّل شعبه، فإنه يتحمّل مسؤولية هذا التمثيل، فلا يعتبر الحزب الذي ينتمي إليه معصوماً، بل يناقش حزبه، وبذلك استطاعوا أن يحفظوا المؤسّسات، لأنَّهم لا يعتبرون الدولة قائمة على أشخاص، بل على مؤسسات، والذين هم في داخل هذه المؤسسات يعتبرون هذه المؤسسات أمانة، لأنهم يخافون من شعبهم الذي سوف يحاسبهم.
فمنطق الاتّباع كان يستعمله الكافرون ليضلّلوا المؤمنين: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ـ امشوا معنا وعلى طريقتنا، ادعموا كلَّ طروحاتنا ـ ولنحمل خطاياكم ـ فإذا كان هناك خطأ فإننا نقف ونتحمّل مسؤوليّته ـ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ـ لأن كل نفس لا تملك لنفس شيئاً ـ إنهم لكاذبون ـ إنهم مخادعون، وهذه الأمور موجودة في واقعنا، فعندما يأمرك البعض أن تعمل الشيء الفلاني ويقول لك: على ذمّتي!! فما قيمة ذمّته أمام أمر الله ونهيه، وما الضمانة التي يملكها من الله تعالى؟ وهذا ما يحصل حتى في حياتنا العائلية، عندما يأمر الزوج زوجته بأن لا تتحجّب ويقول لها: على مسؤوليتي!! من أعطاك هذه الضمانة، فالزواج يجعل المرأة ملزمة بما يفرضه عقد الزواج، وهكذا كل العقود، إنما تلزم المتعاقدين بمضمونها، ولذلك ليس لك عليها شيء سوى هذه الحقوق، ولكننا نستعبد بعضنا بعضاً، كالزعماء الذين يفرضون على الناس أموراً لا يؤمنون بها لحاجتهم إليهم ـ وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون}.
ماذا نفهم من هذه الآيات الكريمة؟ إننا نفهم منها أن يكون الإنسان حراً في قراره وإرادته وموقفه، فلا يكون "قشة" في الهواء، و"خشبة في مجرى التيار". أصّل إنسانيتك وتحمّل مسؤولية ما تريد لا ما يريد الآخرون، لأنك ستقف غداًَ بين يدي الله ويحاسبك على كل ما قمت به، {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}. إن الله خلقكم أحراراً فكونوا أحراراً، فـ«لا تكن عبد غيرك ـ كما قال أمير المؤمنين (ع) ـ وقد جعلك الله حراً». هذا هو درس شهر رمضان، أن تملك إرادتك في العمر كلِّه، فهل نملك إرادتنا؟ إن المسألة هي أن لكلِّ إنسان كتابه {عن اليمين وعن الشمال قعيد* ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد} {إقرأ كتابك ـ كتاب عملك ـ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتّقوا الله في كلِّ ما حمّلكم من مسؤوليات، وقد قال عليّ (ع): «اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم». إنَّكم مسؤولون عن حماية عباد الله من المسلمين والمستضعفين، ومسؤولون عن حماية أرض الله حتى لا يحتلَّها محتلّ أو يصادرها مستكبر. لتكن لكم حرية الإرادة والموقف والقرار والمواجهة، لأن العالم يعمل على مصادرة حرياتكم لتكونوا مجرد هامش مما يعيشه في سياسته واقتصاده. علينا أن نكون القلب لا الهامش، كما علينا أن نؤكد إنسانيتنا أمام إنسانية الآخرين. ونحن نعيش في هذه المرحلة من مراحل تاريخنا الإسلامي تطوّرات ضخمة أمام حركة الصراع الدامي المتنوّع مع المستكبرين، سواء كانوا صغاراً أو كباراً.. والسؤال:
القضية الفلسطينية إلى أين؟
ما هو مستقبل القضية الفلسطينية من خلال التطوّرات المتلاحقة في أوضاعها السياسية؟ وكيف يمكن للقائمين على الشؤون السياسية والأمنية ـ من سلطة وأجهزة أمنية وانتفاضة وفصائل متنوّعة ـ إدارة المرحلة الجديدة بالمستوى الذي يحفظ للقضية قوّتها وسلامتها واستراتيجيتها في خطِّ التحرير؟
إن هناك أكثر من حديث دولي وإقليمي ومحلي لاحتواء الوضع الجديد، تحت تأثير أصوات متناقضة، فهناك صوت يتحدث عن عقبة للحلّ السلميّ قد سقطت برحيل القيادة التاريخية، ما يفسح المجال لأكثر من ضغط على الفلسطينيين للقبول اليوم بما لم يقبلوه بالأمس، وهناك صوتٌ يتحدَّث عن الواقعية السياسية التي تفرض عليهم أن يقدّموا بعض التنازلات لتسهيل مهمَّة الرئيس الأمريكي في ولايته الثانية، ولا سيّما في نطاق الاستمرار في سياسته الموعودة حول الدولة الفلسطينية بالشروط الإسرائيلية، لتحقيق الحلم اليهودي بالدولة اليهودية التي لا بد أن تكون خالصة صافية للعنصر اليهودي ولو في المستقبل، ومصادرة أكثر من أرض فلسطينية لإقامة المستوطنات والجدار العنصري عليها، ورفض عودة اللاجئين، لأن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً هو ممارسة الضغط على الشعب الفلسطيني لا على اليهود، باعتبار أنَّ المسألة لدى الإدارة الأمريكية هي الأمن لإسرائيل بالمطلق بكلِّ الحلم التّاريخي، لا الأمن للفلسطينيين أو العرب، بفعل عنصرية المحافظين الجدد الذين ينتمي إليهم الرئيس الأمريكي بوش، مع اللوبي الصهيوني الأمريكي. إنَّ المطلوب ـ أمريكياً ـ من السلطة الفلسطينية الجديدة، أن يتخلَّى الفلسطينيون عن شيئين: حقوقهم وأسلحتهم، وأن يرفعوا الرايات البيضاء لينالوا بعض الوعود الأمريكية المعسولة في تحويل الدولة الفلسطينية الموعودة إلى سجن كبير داخل الجدار العنصري الذي تعيش في داخله البؤر الاستيطانية في نطاق الأمن السياسي والاقتصادي والأمني الإسرائيلي.
ولذلك، فإننا نريد للشعب الفلسطيني أن يبقى هو القائد لحركة القضية، في التأكيد على التحرير الكامل والمتابعة لدراسة أصول اللّعبة الجديدة التي يتحرك فيها الخداع الدولي، ولا سيّما الأمريكي، تحت عنوان خريطة الطريق التي تقفز من سنة 2005 إلى سنة 2009، في عملية تجاذب تبقى فيه المسألة الأمنية خاضعةً للمسألة السياسية على حساب الانتفاضة المجاهدة. ونؤكِّد ـ من جديد ـ على الوحدة المدروسة التي تلتقي على حماية الاستراتيجية من متاهات التكتيك، ونريد للدول العربية التي تحررت من القضية الفلسطينية أن لا تضغط على الفلسطينيين لخدمة المشروع الأمريكي، تحت عناوين أمنية مشبوهة هنا وهناك، لأن ذلك يمثل الخيانة الكبرى للمستقبل العربي كله.
حرب إبادة أمريكية في العراق:
أما العراق، فإنه يتحرك تحت تأثير الهجمة الأمريكية في عملية الإبادة للشعب العراقي في الفلّوجة وما حولها، من خلال القصف الجهنّمي الوحشي العشوائي بالأسلحة الأمريكية المتطوّرة التي يتساقط فيها المدنيون من أطفال ونساء وشيوخ، بحيث تنتشر الجثث على الأرصفة والشوارع، والجرحى يتوسّلون لكنَّ أحداً لا يقدر على مساعدتهم ـ حسب وكالات الأنباء ـ والقطط والكلاب تنهش أجساد الضحايا المتناثرة في الشوارع، ويقوم الجنود الأمريكيون بالإجهاز على الجرحى في المساجد، مما نقلته الصور في الإعلام المرئي والمقروء، ما يوحي بأن ذلك لا يمثِّل عملية فردية، بل يمثِّل ذهنية عسكرية أمريكية، تماماً كما تناقلته أجهزة الإعلام في سجن أبي غريب، الأمر الذي يؤكد بأن الشعارات الأمريكية في الحديث عن حقوق الإنسان أكذوبة مفضوحة. إننا لا نتحدث عن حالة فردية من جندي أمريكي، ولكنها ذهنية الإبادة الشاملة على الطريقة الإسرائيلية في فلسطين، وحيث لا توجد إحصاءات حقيقية عن القتلى في صفوف المدنيين.
إننا لا نعتقد أنَّ هذه هي الطريقة المثلى لبسط الأمن في البلد من أجل نشر الحرية والديمقراطية ـ حسب تقرير الحكومة العراقية المؤقتة في بياناتها الأمنية والسياسية ـ بل إن هذا الاستقواء بالقوات المحتلّة سوف يؤدِّي إلى جروح عميقة ليست في مصلحة الوضع السياسي في العراق.
ندين كلَّ الممارسات الإرهابية والتكفيرية:
وإذا كنَّا ندين كلَّ الممارسات الإرهابية التي يقوم بها الاحتلال الأمريكي في العراق، فإننا ندين بكلِّ شدة عملية خطف الرهائن وإعدامهم، ولا سيَّما جريمة قتل الرهينة البريطانية التي قدّمت الخدمات للشعب العراقي، فإنَّ ذلك من الأعمال الوحشية التي لا يقبل بها أيّ دين، ولا سيّما الإسلام الذي يرفع القائمون بهذه الأعمال شعاراته على مواقعهم.
وإننا ـ في الوقت نفسه ـ نحذّر من استمرار عمليات قتل الأبرياء على أساس مذهبي حاقد من قِبَل قطّاع الطرق من التكفيريين الذين يقومون بالإعدامات العشوائية في أكثر من منطقة، الأمر الذي نخشى معه من حركة مضادَّة على صعيد ردة الفعل من قِبَل فريق مذهبي آخر تحت عنوان الدفاع عن أهلهم، ما يؤدي إلى مذابح طائفية مذهبية على الساحة الإسلامية العراقية التي قد تمتدُّ إلى مناطق أخرى.
إننا نحذّر عقلاء السنّة والشيعة والفعاليات الدينية والسياسية والعشائرية من النتائج المميتة لهذا الواقع المأساوي الوحشي، ونريد لهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم لمعالجة هذه المشكلة الصعبة، لأن القضية هي قضيّة الاحتلال لا قضيّة الصراع المذهبي الإسلامي ـ الإسلامي. إنّنا نعتقد أنَّ هؤلاء التكفيريين هم الطابور الخامس للاحتلال وللمخابرات الدولية الأمريكية والصهيونية، مهما حاولوا إعطاء أعمالهم عنواناً إسلامياً. أيُّها الناس: إن العراقيين ينتقلون من مأساة تاريخية إلى مأساة واقعية حالية ومستقبلية، فلا تزيدوا مآسيهم بخططكم المتخلّفة الوحشية.
لبنان: الحكم ليس بيانات سياسية:
أما لبنان، فإنه لا يزال يعيش القلق الكبير المدمِّر في الأوضاع الخطيرة التي يعيشها مغتربونا في ساحل العاج، من خلال الاهتزاز الأمني الذي يعرّض أنفسهم وأموالهم وبيوتهم للاجتياح بطريقة وبأخرى، ونطالب الدولة أن تتحمّل مسؤولياتها في حمايتهم بما يشبه حالة الطوارئ، لأنها مسؤولة عن المغتربين بالدرجة نفسها في مسؤوليّتها عن المقيمين.
ولا يزال النّاس ينتظرون الوعود بتحسين أوضاعهم المعيشية، وبمعالجة المشاكل الصعبة التي تلاحق المواطنين على أبواب الشتاء. وإذا كانت الحكومة الحاضرة تضع في أولويّاتها محاربة الهدر والفساد، فإنَّ عليها العمل على القيام بالإحصاءات لكلِّ مواقع الهدر وكل القائمين على حماية الفساد وممارسته، وكشف ذلك للمواطنين، ولا سيّما أن القضية لا ترتبط بهذه الحكومة، بل هي حصيلة تاريخ لأكثر من حكومة ممن يتحدث بعض أفرادها عن الإصلاح والمصلحين؟!
إنّ القضيّة هي أن الحكم شجاعة وصلابة وموقف وليس بيانات سياسية. ولذلك، فإنَّ المطلوب هو أن يتجاوز الحاكم في أيّ موقع ذاته، فلا يخاف على مواقعه، لأنَّ الوطن أكبر من الأشخاص، وعلينا العمل على أساس أن يكون الخاص في خدمة العام، بدلاً من سقوط العام أمام خدمات الخاص، وخصوصاً في مناسبة الاستقلال الذي نريده أن لا يبقى احتفالياً استعراضياً، بل حقيقياً يشعر فيه المواطن أنه يعيش في لبنان حرّ سيّد مستقل، ليس مقراً للاحتلال ولا ممراً له.
إنَّ الحرية هي الرئة التي يتنفّس فيها لبنان الهواء النقي للمستقبل، فلا تحرموه منها أيُّها القائمون عليه. |