لتكن علاقتنا بأهل البيت(ع) علاقة الولاية في خطّ الإمامة

لتكن علاقتنا بأهل البيت(ع) علاقة الولاية في خطّ الإمامة

  من وحي ذكرى الإمام الصادق(ع):
لتكن علاقتنا بأهل البيت(ع) علاقة الولاية في خطّ الإمامة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي التقينا بذكرى مولده في السابع عشر من شهر ربيع الأول الجاري.

المدرسة الجامعة

وهذا الإمام (ع) يتميّز في رحابة وامتداد عطائه الثقافي والفكري والروحي عن بقية الأئمة من أهل البيت (ع)، لا من جهة المستوى العلمي، بل للفرصة أُتيحت له للقيام بدوره الرسالي في الواقع الإسلامي من خلال بعض الظروف الموضوعية التي شغلت الأمويين والعباسيين في صراعهم مع بعضهم البعض عن التعرّض للأئمة من أهل البيت(ع). وقد استفاد الإمام الصادق (ع) من ذلك كله، فامتدّت مدرسته في كل الساحات الإسلامية، وكان يدرس فيها من كان على خلاف مذهب أهل البيت (ع)، كما كان يدرس فيها من كان على مذهبهم، ونحن نعرف أن من تلامذته المبرّزين "أبا حنيفة النعمان"، إمام المذهب الحنفي الذي تلمّذ عليه في مدى سنتين، وكان يُسأل عن الإمام الصادق (ع) فيقول: إنه أفضل الناس لأنه أعلم الناس بأفكار الناس.

وقد نقل "أبو حنيفة النعمان" أنّ الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور قال له: إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد لعلمه وفضله ولتقدّمه على علماء عصره، فحضّر له من مسائلك الصعبة، وجاء "أبو حنيفة" والتقى بالإمام الصادق (ع) في مجلس المنصور وطرح عليه مسائله مسألة مسألة، وكان الإمام (ع) يجيبه أن أهل المدينة يقولون كذا، وأهل الكوفة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، وفصّل الآراء الفقهية الموجودة في الوسط الإسلامي آنذاك، وقد عقّب "أبو حنيفة": "ألسنا نعلم أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس".

وكان الإمام الصادق (ع) يلتقي حتى بالملاحدة والزنادقة الذين لا يؤمنون بالله، والذين كانوا يسخرون بالعبادات مثل الطواف والسعي، فكانوا يلتقون به في المسجد الحرام، وكان يحاورهم برحابة صدر، ويستمع إلى أطروحاتهم بحرية، فيقولون ما يشاؤون، وكان يرد عليهم بكل علم وموضوعية واحترام، حتى إن بعض هؤلاء، وهو "ابن المقفع"، كان يقول: "لا أرى أحداً يستحقُّ اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد الصادق"، لأنه يحمل في شخصيته كل عناصر الإنسانية في العلم والروح والأخلاق وقبول الآخر والرحابة العقلية والفكرية، وكان بعضهم، وهو "ابن أبي العوجاء"، يقول: "ما أقول في رجل يتروّح إذا شاء ويتجسّد إذا شاء مثل جعفر بن محمد"، بمعنى أنك تشعر إذا نظرت إليه أنه روح تحلّق أمامك.

منهج شامل وثروة متنوعة

ولو درسنا الثروة الثقافية التي تركها الإمام الصادق(ع) في كل جوانب المعرفة الإسلامية وغير الإسلامية في ذلك الوقت، لرأينا أنها تمثل الثروة المتنوّعة في كل ما يحتاجه الإنسان، فإذا أردت الفقه، فهناك فقه الإمام الصادق(ع) الذي لا يزال المجتهدون حتى الآن يدرسونه ويستفيدون منه، وإذا أردت الفلسفة والكلام، فإنك تجد في أحاديث الإمام الصادق(ع) في حواراته الفلسفية مع الذين يأخذون بأسباب الفلسفة العمق الفلسفي والكلامي، وإذا انطلقت في حياة الناس، تجد أن الإمام الصادق(ع) لم يترك شيئاً مما يتصل بحياة الناس الفردية والاجتماعية إلا وتحدّث عنها. ومن هنا، فإننا نجد أن المنهج الأخلاقي الذي خطط له الإمام الصادق(ع) هو منهجٌ يتّسع لكل الأخلاق الإنسانية، حتى إنه(ع) يقول إن الحرية تنبع من الداخل ولا تأتي بمرسوم من الخارج، أنت تكون حراً بمقدار ما تملك إرادتك وموقفك وعقلك، وتملك أن تقول"لا" عندما تكون هي الموقف، وأن تقول الـ"نعم" عندما تكون هي الموقف.

الإسلام دين الحرية والعزة

وليست الحرية أن يصدر مرسوم بإعطاء الحرية، كما هي الحالات التي تعيشها الشعوب في عصور الاستعمار والانتداب، عندما يُستعمر شعب من خلال قوة استكبارية كبرى، ثم بعد ذلك يصدر مرسوم بإعطاء هذا الشعب أو ذاك الاستقلال والحرية، إن الإمام الصادق(ع) يقول للشعوب وللأفراد: إن الحرية تنبع من الداخل ولا تأتي من الخارج، لأن الحرية جزء من كيان الشخص.. يقول(ع): "إن الحر حرّ في جميع أحواله ـ حتى لو كان في الزنزانة فإنه يملك أن يقول "لا" للطاغية، وقد يكون في الصحراء الواسعة، ولكنه عبدٌ لأنه لا يملك موقفاً وإرادةً عندما يجعل إرادته منحنية لإرادة الآخرين. ونحن نعرف أن كثيراً من المجاهدين في العالم الإسلامي كانوا يعيشون الحرية وهم في أشد حالات التعذيب، ففي تاريخ الدعوة الإسلامية الأولى، نجد أن الصحابيين الجليلين ياسر وزوجته سمية كانا يتعرضان لأقسى أنواع التعذيب، وكانا يصرخان بكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وكان بلال الحبشي عندما يتعرض للتعذيب يصرخ من عمق حريته "أحد.. أحد"، وهكذا رأينا الكثير من شبابنا المجاهد الذي عاش ـ ولا يزال ـ في سجون إسرائيل أو الذين عاشوا في معتقل الخيام وأنصار، ولكنه ظلّ حراً على الرغم من الإغراءات التي كانت تقدّم إليهم، لأنهم كانوا يعيشون هذه الحرية من الداخل، وقد كان الانتصار في التحرير نتيجة إرادة الحرية في المجاهدين ـ إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ولم تقهره وإن استُعبد وأُسر".

كان الإمام الصادق (ع) يؤكد هذه المفاهيم، من أجل أن يزرع في قلوب المسلمين معنى الحرية والعزة والكرامة والاستقلال، وقد روي عنه (ع) أنه في تفسيره لقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، قال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً". فأنت لست حراً في أن تأخذ بأسباب الذل، لأن الله يريد لك أن تكون عزيزاً.. هذه هي تعاليم أهل البيت(ع)، ونحن ندعو كل العلماء والخطباء والمثقفين أن يدرسوا أهل البيت (ع) في هذا الجانب الثقافي الذي يرفع مستوى الإنسان، والذي يقدم الإسلام للعالم على أنه الدين الذي يعطي الإنسان حضارةً في كلِّ زمان ومكان، وأنه دين الحرية والعزة والكرامة، والدين الذي يؤصّل للإنسان إنسانيته. ومع الأسف، نجد أن الأساليب المتّبعة في التبليغ لا تتحرك في هذا الاتجاه، وإنما تتحرك في القضايا الصغيرة التي تجعلنا لا نفهم أهل البيت(ع). إنهم يحدثونك عن أهل البيت في الغيب ولا يحدثونك عنهم في الحضور، الغيب أمر يخصّهم في ما يحلّقون فيه، ولكن الشهود والحضور أمر يمتد في حياتنا.

أهل البيت(ع) موضع الرسالة

لذلك، فإن علاقتنا بأهل البيت (ع) هي علاقة الولاية في خط الإمامة، والولاية فكر، أن تكون معهم في ما خططوا له من فكر، والولاية علم وموقف، إنها حالة رسالية، فأهل البيت (ع) هم الرسل في خط الإمامة بعد الرسل في خط النبوة، هذا ما يجب أن نفهمه.

وعلى ضوء هذا، نحبّ ـ ولو ببعض العجالة ـ أن نلمَّ ببعض كلمات الإمام الصادق (ع). يقول (ع): "أوحى الله عزّ وجلّ إلى آدم أني سأجمع لك الكلام في أربع كلمات.. قال: يا ربّ وما هنّ؟ قال: واحدة لي وواحدة لك وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس.. قال: يا ربّ بيّنهن لي.. قال: أما التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً ـ أن توحّدني لأنني أنا الخالق المهيمن على الأمر كله، لا شريك لي، فالكل مخلوقون لي ولا يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق، حتى إن الخالق لا يشارك المخلوق في مواقع قدرته، وبعض الناس يقول لك إن الله سبحانه أعطى بعض المخلوقات المقدّسة قدرته وولايته على الكون، الله تعالى لم يعطها لأحد، الله تعالى يعطي بحسابات، فإذا كان النبي يحتاج إلى معجزة يعطه إياها، وإذا كان الإمام يحتاج إلى كرامة يعطه إياها، ولكن النبي(ص) يقول: {لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك إن أتّبع إلا ما يوحى إليّ}، ونحن وصلنا إلى درجة من الغلوّ والضلال أن الله يخلق له شريك في الطول، بحيث جعل لنفسه شريكاً بإذنه، والآن عندنا تيار جاهل ـ ومع الأسف، فإن هناك من يوجّهه إلى الجهل ـ يقول بأننا لا ندعو الله أن يرزقنا ، بل ندعو الإمام عليّ والإمام الحسين أن يشفونا ويرزقونا. أهل البيت (ع) شفعاؤنا إلى الله، نتوسّل بهم لكرامتهم عند الله، نسأل الله أن يكرمنا بكرامتهم وأن يقبل شفاعتهم فينا، ولكن الله تعالى هو الرازق والمعطي والشافي، والمشكلة في الأفكار التي فيها الكثير من الشرك الذي لا يلتفت الناس إليه، نحن نؤمن أن أهل البيت (ع) هم موضع الرسالة ومختلف الملائكة وأمناء الله في خلقه وحججه على عباده، ولكن هم عبيد الله، ألا نقول في التشهّد: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" ـ وأما التي لك فأجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعليّ الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره لهم ما تكره لها".

وفي كلمة للإمام الصادق (ع) يخاطب بها أصحابه يقول: "اتقوا الله واعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون". نحن نصرخ بالموت لأمريكا ولإسرائيل لأنهما لا تعدلان مع الشعوب ومع العرب والمسلمين، ونثور على هذا الحاكم وعلى هذا الطاغية لأنهم لا يعدلون، ولكن من منا يراجع حساباته في علاقاته مع زوجته وأولاده وعمّاله؟؟ فهناك ظلم صغير وهناك ظلم كبير، وعلى الإنسان أن ينزع الظلم الصغير من داخل نفسه، لأن الظلم الصغير يكبر كلما كبر موقعك في الحياة.. ومن كلماته (ع) يقول: "في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه ـ أن تفهم الجانب الاجتماعي والسياسي في عصرك، بحسب إمكاناتك، فلا تعيش خارج نطاق عصرك بحيث لا تفهم منه شيئاً، بل أن يكون لك وعي المجتمع بسلبياته وإيجابياته، بنقاط ضعفه وقوته، لتشارك المجتمع في مشاكله ومحاولة حلها ـ مقبلاً على شأنه ـ مهتماً بأموره، فلا تواجه الحياة في ما يتعلق بمسؤولياتك مواجهة اللامبالاة ـ حافظاً للسانه".

هذه كلمات الإمام الصادق (ع)، فتعالوا ننطلق معه لنرتبط بكل هذا الثراء الروحي والفكري، لأن أهل البيت (ع) يريدون أن يرفعوا مستوانا ويوحّدوا فيما بيننا، فقد كان الإمام الصادق (ع) يريد للشيعة أن ينفتحوا على أهل السنّة، وقد قال: "عودوا مرضاهم، شيّعوا جنائزهم، وصلوا جماعتهم، حتى يقولوا: رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدّب أصحابه"، ثم كان يقول: "ما أيسر ما رضي الناس منكم، كفُّ ألسنتكم عنهم"، فلا تسبّوا وتلعنوا وتشتموا مقدّساتهم، بل عيشوا مع الناس باحترام، احترموا مقدّساتهم كما تريدون منهم أن يحترموا مقدّساتكم. هذا هو خط أهل البيت(ع)، فنسأل الله تعالى أن يعمّق ارتباطنا الولائي بهم في خط الوعي، ونسأله تعالى أن يرزقنا في الدنيا دعاءهم وفي الآخرة شفاعتهم، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم وفي كل اهتماماتكم بأمور الإسلام والمسلمين، فإن الله تعالى حمّلنا مسؤولية أمتنا بحسب طاقاتنا، أن ننطلق لنتابع كل التحديات التي تواجهنا على جميع المستويات، وأن نكون الواعين لما يدبّر لنا، حتى نستطيع أن نحمي أنفسنا وأمتنا عندما نأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية والاعتصام بحبل الله جميعاً، والاستجابة لقول الله تعالى: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة}، لأن ذلك هو سبيل القوة والنصر والعزة والكرامة. تعالوا لنتعرّف ماذا يحيط بنا من مشاكل وتحديات في واقع العالم الإسلامي.

العدالة الأمريكية: إرهاب وتدمير!!

ما هي الخطة الأمريكية لفلسطين؟ كل الأمن لإسرائيل، ولا أمن للفلسطينيين إلا على هامش الأمن الإسرائيلي بشروطه الاستيطانية التدميرية.. ثم التأكيد على شرعية الاحتلال اليهودي للمناطق المحتلة، ورفض دعوته إلى الانسحاب إلا بعد إعلان الانتصار المطلق على الانتفاضة الفلسطينية.. ثم التبرير للدولة العبرية في تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، بشيوخه وأطفاله ونسائه وشبابه وجامعاته ومزارعه وبيوته، وحصاره الغذائي والجغرافي، في عملية عقاب جماعي للشعب كله باسم "دفاع إسرائيل عن نفسها"!!

والسؤال الذي نوجّهه إلى الرئيس "بوش" الذي يدعو إلى العدالة والحرية وحقوق الإنسان: هل العقاب الجماعي للمدنيين من أهالي الاستشهاديين، وتدمير البيوت على رؤوس أصحابها أو تشريدهم من بيوتهم، وملاحقة التلاميذ في مدارسهم، هو صورة العدالة الأمريكية؟؟ لقد قتلت إسرائيل من خلال حكومتها "الشارونية" منذ إعلان "خريطة الطريق" أكثر من أربعين مدنياً من الشيوخ والأطفال والنساء، ولم يصدر من حكومتكم أيّ استنكار لذلك، في الوقت الذي تدينون فيه رجال الانتفاضة بالإرهاب.. والسؤال: هل إن إرهاب الدولة شرعي مبرَّر ودفاع الشعب عن حريته إرهاب؟؟ لقد طلب الفلسطينيون من الأمم المتحدة ـ من خلال قيادتهم الجهادية الشعبية ـ أن ترسل مراقبين دوليين لمراقبة العدوان الإسرائيلي، مع التأكيد على استعدادهم لإيقاف الانتفاضة، ولكن أمريكا لم توافق على ذلك؟!

حتى إن أمريكا لا تزال تضغط على الفلسطينيين في تنفيذ "خريطة الطريق" بتصفية قواعد الانتفاضة، من دون أن تقوم بأيّ ضغط على إسرائيل للقبول بها أو التوازن في تنفيذ بنودها المشتركة بينها وبين الفلسطينيين، لأن الرئيس "بوش" لا يملك الشجاعة حتى للاعتراض على "شارون"، لأنه خاضع له في سياسته الشرق أوسطية، وفي تخطيطه للانتخابات الرئاسية المقبلة التي يملك اليهود فيها تأثيراً كبيراً..

وفي ضوء ذلك، كيف يريدنا الرئيس "بوش" وإدارته أن نصدقه في وعوده وشعاراته التي رأيناها كيف تطايرت في الهواء أمام الضغط اليهودي عليه؟.. وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدث عن حربه ضد ما يسمّيه الإرهاب، تعليقاً على التفجيرات التي حدثت في المنطقة أو المحتملة في بلده، فإننا نريد التأكيد بأن العنف يجتذب العنف، وأن ما يسمّيه الإرهاب قد يتحوّل إلى جماعات متناثرة لا يربط بينها أيّ رابط، وقد تدخل في متاهات المفاهيم في المفردات الإسلامية وغيرها..

إننا لا نبرر ممارسة العنف ضد المدنيين ـ إلى أيّ جهة انتموا والى أيّ دين انتسبوا ـ في غير حالة حرب، ولكن المسألة أن الشعوب ستبقى تختزن المرارة والآلام والقهر من السياسة الأمريكية، ما قد يقود بعض أفراد هذه الشعوب إلى أكثر من حالة عنف فوضوي في أيّ مكان في العالم، وهذا ما نلاحظه في ممارسات السياسة الأمريكية التي سوف تحوّل العالم إلى عالم مليء بالفوضى.

الأمم المتحدة تشرعن الاحتلال للعراق

أما في العراق، فقد حصل الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني من الأمم المتحدة على قرار بشرعيته، وتأكيد سلطته في التصرف بثروات العراق النفطية، من دون أيّ رقابة للأمم المتحدة، تحت شعار "رفع العقوبات عن العراق"، لتشريع الانتداب والوصاية على الشعب العراقي من دون تحديد مدة للانتخاب الشعبي لممثليه، الأمر الذي يوحي للعراقيين بأن عليهم أن يتعايشوا مع الاحتلال زمناً طويلاً حتى تتصدّق عليهم أمريكا بشهادة بلوغهم "سنّ الرشد"..

إننا ـ أمام هذا الواقع ـ ندعو أهلنا الطيبين في العراق إلى أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، وأن يجمّدوا الكثير من الحساسيات والتعقيدات والخلافات الحزبية والمذهبية والعرقية والطائفية، ليتجاوزوا المرحلة الخطيرة التي يمرون بها، لتسود لغة الحوار الموضوعي العقلاني والاعتراف بالآخر، لأن الاحتلال يعمل على استغلال ذلك كله في خطته الرامية إلى الإمساك بالعراق في ثرواته وإعماره واستثماراته وسياسته وأمنه، من دون أن يملك العراقيون أيّ إرادة استقلالية في إدارة ذلك كله.

إن العراق بلد مسلم يمثّل الإسلام قاعدته الفكرية والروحية، وعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب الوحدة من أجل بناء قاعدة إسلامية وحدوية حضارية منفتحة على قضايا العدالة والحرية، وملتزمة بالحوار مع الأديان والاتجاهات في خط حوار الأفكار والحضارات.. وبذلك ينطلق العراق الجديد ليكون في موقع القيادة، ليأخذ دوره الريادي الحضاري في المنطقة والعالم.

الوحدة: السبيل إلى النصر

أما في لبنان، فإننا نرفض حرب المخيمات الجديدة بين الفلسطينيين أنفسهم في هذه المرحلة، كما رفضنا حرب المخيمات ضد الفلسطينيين في الماضي، ولا سيما أن سكان المخيمات يعيشون حالة من البؤس والفقر كأقسى ما تكون، ويعيشون في المتاهات السياسية الدولية والإقليمية التي لا تمنحهم شيئاً إلا على هامش المطامع الإسرائيلية..

إننا نقول لهم: حذارِ من العودة إلى هذه الحرب العبثية المجنونة، لأنكم ـ بذلك ـ تعطون العدو الفرصة في إعطاء صورة مشوّهة لهذا الشعب الذي يقتل بعضه بعضاً، ويدمّر مواقعه السكنية بطريقة وحشية.. إن عليكم أن تتحمّلوا مسؤولية ضبط الأمن في المخيمات، لأنه هو السبيل الوحيد لتوازن أهلها، ولأن هذا الأمن جزء من أمن اللبنانيين الذي إذا اختلّ فسوف يختل الأمن في البلد كله.. ارجعوا إلى العقل والوعي ودراسة المرحلة الخطيرة، وتذكّروا أن هذه المرحلة تلتقي بذكرى تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي بفعل وحدة المجاهدين ووحدة اللبنانيين، وتذكّروا أن المؤامرة تتحرك للقضاء على وحدة الشعب الفلسطيني المجاهد، من خلال "خريطة الطريق" التي لن تصل بكم إلا إلى النهايات التي تريدها أمريكا وإسرائيل.

إن الحرب الفلسطينية ـ الفلسطينية في الداخل والخارج خيانة ما بعدها خيانة، وإن الوحدة على أساس التكامل والتفاهم والحوار هي السبيل إلى النصر، ولو بعد حين.

  من وحي ذكرى الإمام الصادق(ع):
لتكن علاقتنا بأهل البيت(ع) علاقة الولاية في خطّ الإمامة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي التقينا بذكرى مولده في السابع عشر من شهر ربيع الأول الجاري.

المدرسة الجامعة

وهذا الإمام (ع) يتميّز في رحابة وامتداد عطائه الثقافي والفكري والروحي عن بقية الأئمة من أهل البيت (ع)، لا من جهة المستوى العلمي، بل للفرصة أُتيحت له للقيام بدوره الرسالي في الواقع الإسلامي من خلال بعض الظروف الموضوعية التي شغلت الأمويين والعباسيين في صراعهم مع بعضهم البعض عن التعرّض للأئمة من أهل البيت(ع). وقد استفاد الإمام الصادق (ع) من ذلك كله، فامتدّت مدرسته في كل الساحات الإسلامية، وكان يدرس فيها من كان على خلاف مذهب أهل البيت (ع)، كما كان يدرس فيها من كان على مذهبهم، ونحن نعرف أن من تلامذته المبرّزين "أبا حنيفة النعمان"، إمام المذهب الحنفي الذي تلمّذ عليه في مدى سنتين، وكان يُسأل عن الإمام الصادق (ع) فيقول: إنه أفضل الناس لأنه أعلم الناس بأفكار الناس.

وقد نقل "أبو حنيفة النعمان" أنّ الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور قال له: إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد لعلمه وفضله ولتقدّمه على علماء عصره، فحضّر له من مسائلك الصعبة، وجاء "أبو حنيفة" والتقى بالإمام الصادق (ع) في مجلس المنصور وطرح عليه مسائله مسألة مسألة، وكان الإمام (ع) يجيبه أن أهل المدينة يقولون كذا، وأهل الكوفة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، وفصّل الآراء الفقهية الموجودة في الوسط الإسلامي آنذاك، وقد عقّب "أبو حنيفة": "ألسنا نعلم أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس".

وكان الإمام الصادق (ع) يلتقي حتى بالملاحدة والزنادقة الذين لا يؤمنون بالله، والذين كانوا يسخرون بالعبادات مثل الطواف والسعي، فكانوا يلتقون به في المسجد الحرام، وكان يحاورهم برحابة صدر، ويستمع إلى أطروحاتهم بحرية، فيقولون ما يشاؤون، وكان يرد عليهم بكل علم وموضوعية واحترام، حتى إن بعض هؤلاء، وهو "ابن المقفع"، كان يقول: "لا أرى أحداً يستحقُّ اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد الصادق"، لأنه يحمل في شخصيته كل عناصر الإنسانية في العلم والروح والأخلاق وقبول الآخر والرحابة العقلية والفكرية، وكان بعضهم، وهو "ابن أبي العوجاء"، يقول: "ما أقول في رجل يتروّح إذا شاء ويتجسّد إذا شاء مثل جعفر بن محمد"، بمعنى أنك تشعر إذا نظرت إليه أنه روح تحلّق أمامك.

منهج شامل وثروة متنوعة

ولو درسنا الثروة الثقافية التي تركها الإمام الصادق(ع) في كل جوانب المعرفة الإسلامية وغير الإسلامية في ذلك الوقت، لرأينا أنها تمثل الثروة المتنوّعة في كل ما يحتاجه الإنسان، فإذا أردت الفقه، فهناك فقه الإمام الصادق(ع) الذي لا يزال المجتهدون حتى الآن يدرسونه ويستفيدون منه، وإذا أردت الفلسفة والكلام، فإنك تجد في أحاديث الإمام الصادق(ع) في حواراته الفلسفية مع الذين يأخذون بأسباب الفلسفة العمق الفلسفي والكلامي، وإذا انطلقت في حياة الناس، تجد أن الإمام الصادق(ع) لم يترك شيئاً مما يتصل بحياة الناس الفردية والاجتماعية إلا وتحدّث عنها. ومن هنا، فإننا نجد أن المنهج الأخلاقي الذي خطط له الإمام الصادق(ع) هو منهجٌ يتّسع لكل الأخلاق الإنسانية، حتى إنه(ع) يقول إن الحرية تنبع من الداخل ولا تأتي بمرسوم من الخارج، أنت تكون حراً بمقدار ما تملك إرادتك وموقفك وعقلك، وتملك أن تقول"لا" عندما تكون هي الموقف، وأن تقول الـ"نعم" عندما تكون هي الموقف.

الإسلام دين الحرية والعزة

وليست الحرية أن يصدر مرسوم بإعطاء الحرية، كما هي الحالات التي تعيشها الشعوب في عصور الاستعمار والانتداب، عندما يُستعمر شعب من خلال قوة استكبارية كبرى، ثم بعد ذلك يصدر مرسوم بإعطاء هذا الشعب أو ذاك الاستقلال والحرية، إن الإمام الصادق(ع) يقول للشعوب وللأفراد: إن الحرية تنبع من الداخل ولا تأتي من الخارج، لأن الحرية جزء من كيان الشخص.. يقول(ع): "إن الحر حرّ في جميع أحواله ـ حتى لو كان في الزنزانة فإنه يملك أن يقول "لا" للطاغية، وقد يكون في الصحراء الواسعة، ولكنه عبدٌ لأنه لا يملك موقفاً وإرادةً عندما يجعل إرادته منحنية لإرادة الآخرين. ونحن نعرف أن كثيراً من المجاهدين في العالم الإسلامي كانوا يعيشون الحرية وهم في أشد حالات التعذيب، ففي تاريخ الدعوة الإسلامية الأولى، نجد أن الصحابيين الجليلين ياسر وزوجته سمية كانا يتعرضان لأقسى أنواع التعذيب، وكانا يصرخان بكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وكان بلال الحبشي عندما يتعرض للتعذيب يصرخ من عمق حريته "أحد.. أحد"، وهكذا رأينا الكثير من شبابنا المجاهد الذي عاش ـ ولا يزال ـ في سجون إسرائيل أو الذين عاشوا في معتقل الخيام وأنصار، ولكنه ظلّ حراً على الرغم من الإغراءات التي كانت تقدّم إليهم، لأنهم كانوا يعيشون هذه الحرية من الداخل، وقد كان الانتصار في التحرير نتيجة إرادة الحرية في المجاهدين ـ إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ولم تقهره وإن استُعبد وأُسر".

كان الإمام الصادق (ع) يؤكد هذه المفاهيم، من أجل أن يزرع في قلوب المسلمين معنى الحرية والعزة والكرامة والاستقلال، وقد روي عنه (ع) أنه في تفسيره لقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، قال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً". فأنت لست حراً في أن تأخذ بأسباب الذل، لأن الله يريد لك أن تكون عزيزاً.. هذه هي تعاليم أهل البيت(ع)، ونحن ندعو كل العلماء والخطباء والمثقفين أن يدرسوا أهل البيت (ع) في هذا الجانب الثقافي الذي يرفع مستوى الإنسان، والذي يقدم الإسلام للعالم على أنه الدين الذي يعطي الإنسان حضارةً في كلِّ زمان ومكان، وأنه دين الحرية والعزة والكرامة، والدين الذي يؤصّل للإنسان إنسانيته. ومع الأسف، نجد أن الأساليب المتّبعة في التبليغ لا تتحرك في هذا الاتجاه، وإنما تتحرك في القضايا الصغيرة التي تجعلنا لا نفهم أهل البيت(ع). إنهم يحدثونك عن أهل البيت في الغيب ولا يحدثونك عنهم في الحضور، الغيب أمر يخصّهم في ما يحلّقون فيه، ولكن الشهود والحضور أمر يمتد في حياتنا.

أهل البيت(ع) موضع الرسالة

لذلك، فإن علاقتنا بأهل البيت (ع) هي علاقة الولاية في خط الإمامة، والولاية فكر، أن تكون معهم في ما خططوا له من فكر، والولاية علم وموقف، إنها حالة رسالية، فأهل البيت (ع) هم الرسل في خط الإمامة بعد الرسل في خط النبوة، هذا ما يجب أن نفهمه.

وعلى ضوء هذا، نحبّ ـ ولو ببعض العجالة ـ أن نلمَّ ببعض كلمات الإمام الصادق (ع). يقول (ع): "أوحى الله عزّ وجلّ إلى آدم أني سأجمع لك الكلام في أربع كلمات.. قال: يا ربّ وما هنّ؟ قال: واحدة لي وواحدة لك وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس.. قال: يا ربّ بيّنهن لي.. قال: أما التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً ـ أن توحّدني لأنني أنا الخالق المهيمن على الأمر كله، لا شريك لي، فالكل مخلوقون لي ولا يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق، حتى إن الخالق لا يشارك المخلوق في مواقع قدرته، وبعض الناس يقول لك إن الله سبحانه أعطى بعض المخلوقات المقدّسة قدرته وولايته على الكون، الله تعالى لم يعطها لأحد، الله تعالى يعطي بحسابات، فإذا كان النبي يحتاج إلى معجزة يعطه إياها، وإذا كان الإمام يحتاج إلى كرامة يعطه إياها، ولكن النبي(ص) يقول: {لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك إن أتّبع إلا ما يوحى إليّ}، ونحن وصلنا إلى درجة من الغلوّ والضلال أن الله يخلق له شريك في الطول، بحيث جعل لنفسه شريكاً بإذنه، والآن عندنا تيار جاهل ـ ومع الأسف، فإن هناك من يوجّهه إلى الجهل ـ يقول بأننا لا ندعو الله أن يرزقنا ، بل ندعو الإمام عليّ والإمام الحسين أن يشفونا ويرزقونا. أهل البيت (ع) شفعاؤنا إلى الله، نتوسّل بهم لكرامتهم عند الله، نسأل الله أن يكرمنا بكرامتهم وأن يقبل شفاعتهم فينا، ولكن الله تعالى هو الرازق والمعطي والشافي، والمشكلة في الأفكار التي فيها الكثير من الشرك الذي لا يلتفت الناس إليه، نحن نؤمن أن أهل البيت (ع) هم موضع الرسالة ومختلف الملائكة وأمناء الله في خلقه وحججه على عباده، ولكن هم عبيد الله، ألا نقول في التشهّد: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" ـ وأما التي لك فأجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعليّ الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره لهم ما تكره لها".

وفي كلمة للإمام الصادق (ع) يخاطب بها أصحابه يقول: "اتقوا الله واعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون". نحن نصرخ بالموت لأمريكا ولإسرائيل لأنهما لا تعدلان مع الشعوب ومع العرب والمسلمين، ونثور على هذا الحاكم وعلى هذا الطاغية لأنهم لا يعدلون، ولكن من منا يراجع حساباته في علاقاته مع زوجته وأولاده وعمّاله؟؟ فهناك ظلم صغير وهناك ظلم كبير، وعلى الإنسان أن ينزع الظلم الصغير من داخل نفسه، لأن الظلم الصغير يكبر كلما كبر موقعك في الحياة.. ومن كلماته (ع) يقول: "في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه ـ أن تفهم الجانب الاجتماعي والسياسي في عصرك، بحسب إمكاناتك، فلا تعيش خارج نطاق عصرك بحيث لا تفهم منه شيئاً، بل أن يكون لك وعي المجتمع بسلبياته وإيجابياته، بنقاط ضعفه وقوته، لتشارك المجتمع في مشاكله ومحاولة حلها ـ مقبلاً على شأنه ـ مهتماً بأموره، فلا تواجه الحياة في ما يتعلق بمسؤولياتك مواجهة اللامبالاة ـ حافظاً للسانه".

هذه كلمات الإمام الصادق (ع)، فتعالوا ننطلق معه لنرتبط بكل هذا الثراء الروحي والفكري، لأن أهل البيت (ع) يريدون أن يرفعوا مستوانا ويوحّدوا فيما بيننا، فقد كان الإمام الصادق (ع) يريد للشيعة أن ينفتحوا على أهل السنّة، وقد قال: "عودوا مرضاهم، شيّعوا جنائزهم، وصلوا جماعتهم، حتى يقولوا: رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدّب أصحابه"، ثم كان يقول: "ما أيسر ما رضي الناس منكم، كفُّ ألسنتكم عنهم"، فلا تسبّوا وتلعنوا وتشتموا مقدّساتهم، بل عيشوا مع الناس باحترام، احترموا مقدّساتهم كما تريدون منهم أن يحترموا مقدّساتكم. هذا هو خط أهل البيت(ع)، فنسأل الله تعالى أن يعمّق ارتباطنا الولائي بهم في خط الوعي، ونسأله تعالى أن يرزقنا في الدنيا دعاءهم وفي الآخرة شفاعتهم، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم وفي كل اهتماماتكم بأمور الإسلام والمسلمين، فإن الله تعالى حمّلنا مسؤولية أمتنا بحسب طاقاتنا، أن ننطلق لنتابع كل التحديات التي تواجهنا على جميع المستويات، وأن نكون الواعين لما يدبّر لنا، حتى نستطيع أن نحمي أنفسنا وأمتنا عندما نأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية والاعتصام بحبل الله جميعاً، والاستجابة لقول الله تعالى: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة}، لأن ذلك هو سبيل القوة والنصر والعزة والكرامة. تعالوا لنتعرّف ماذا يحيط بنا من مشاكل وتحديات في واقع العالم الإسلامي.

العدالة الأمريكية: إرهاب وتدمير!!

ما هي الخطة الأمريكية لفلسطين؟ كل الأمن لإسرائيل، ولا أمن للفلسطينيين إلا على هامش الأمن الإسرائيلي بشروطه الاستيطانية التدميرية.. ثم التأكيد على شرعية الاحتلال اليهودي للمناطق المحتلة، ورفض دعوته إلى الانسحاب إلا بعد إعلان الانتصار المطلق على الانتفاضة الفلسطينية.. ثم التبرير للدولة العبرية في تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، بشيوخه وأطفاله ونسائه وشبابه وجامعاته ومزارعه وبيوته، وحصاره الغذائي والجغرافي، في عملية عقاب جماعي للشعب كله باسم "دفاع إسرائيل عن نفسها"!!

والسؤال الذي نوجّهه إلى الرئيس "بوش" الذي يدعو إلى العدالة والحرية وحقوق الإنسان: هل العقاب الجماعي للمدنيين من أهالي الاستشهاديين، وتدمير البيوت على رؤوس أصحابها أو تشريدهم من بيوتهم، وملاحقة التلاميذ في مدارسهم، هو صورة العدالة الأمريكية؟؟ لقد قتلت إسرائيل من خلال حكومتها "الشارونية" منذ إعلان "خريطة الطريق" أكثر من أربعين مدنياً من الشيوخ والأطفال والنساء، ولم يصدر من حكومتكم أيّ استنكار لذلك، في الوقت الذي تدينون فيه رجال الانتفاضة بالإرهاب.. والسؤال: هل إن إرهاب الدولة شرعي مبرَّر ودفاع الشعب عن حريته إرهاب؟؟ لقد طلب الفلسطينيون من الأمم المتحدة ـ من خلال قيادتهم الجهادية الشعبية ـ أن ترسل مراقبين دوليين لمراقبة العدوان الإسرائيلي، مع التأكيد على استعدادهم لإيقاف الانتفاضة، ولكن أمريكا لم توافق على ذلك؟!

حتى إن أمريكا لا تزال تضغط على الفلسطينيين في تنفيذ "خريطة الطريق" بتصفية قواعد الانتفاضة، من دون أن تقوم بأيّ ضغط على إسرائيل للقبول بها أو التوازن في تنفيذ بنودها المشتركة بينها وبين الفلسطينيين، لأن الرئيس "بوش" لا يملك الشجاعة حتى للاعتراض على "شارون"، لأنه خاضع له في سياسته الشرق أوسطية، وفي تخطيطه للانتخابات الرئاسية المقبلة التي يملك اليهود فيها تأثيراً كبيراً..

وفي ضوء ذلك، كيف يريدنا الرئيس "بوش" وإدارته أن نصدقه في وعوده وشعاراته التي رأيناها كيف تطايرت في الهواء أمام الضغط اليهودي عليه؟.. وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدث عن حربه ضد ما يسمّيه الإرهاب، تعليقاً على التفجيرات التي حدثت في المنطقة أو المحتملة في بلده، فإننا نريد التأكيد بأن العنف يجتذب العنف، وأن ما يسمّيه الإرهاب قد يتحوّل إلى جماعات متناثرة لا يربط بينها أيّ رابط، وقد تدخل في متاهات المفاهيم في المفردات الإسلامية وغيرها..

إننا لا نبرر ممارسة العنف ضد المدنيين ـ إلى أيّ جهة انتموا والى أيّ دين انتسبوا ـ في غير حالة حرب، ولكن المسألة أن الشعوب ستبقى تختزن المرارة والآلام والقهر من السياسة الأمريكية، ما قد يقود بعض أفراد هذه الشعوب إلى أكثر من حالة عنف فوضوي في أيّ مكان في العالم، وهذا ما نلاحظه في ممارسات السياسة الأمريكية التي سوف تحوّل العالم إلى عالم مليء بالفوضى.

الأمم المتحدة تشرعن الاحتلال للعراق

أما في العراق، فقد حصل الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني من الأمم المتحدة على قرار بشرعيته، وتأكيد سلطته في التصرف بثروات العراق النفطية، من دون أيّ رقابة للأمم المتحدة، تحت شعار "رفع العقوبات عن العراق"، لتشريع الانتداب والوصاية على الشعب العراقي من دون تحديد مدة للانتخاب الشعبي لممثليه، الأمر الذي يوحي للعراقيين بأن عليهم أن يتعايشوا مع الاحتلال زمناً طويلاً حتى تتصدّق عليهم أمريكا بشهادة بلوغهم "سنّ الرشد"..

إننا ـ أمام هذا الواقع ـ ندعو أهلنا الطيبين في العراق إلى أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، وأن يجمّدوا الكثير من الحساسيات والتعقيدات والخلافات الحزبية والمذهبية والعرقية والطائفية، ليتجاوزوا المرحلة الخطيرة التي يمرون بها، لتسود لغة الحوار الموضوعي العقلاني والاعتراف بالآخر، لأن الاحتلال يعمل على استغلال ذلك كله في خطته الرامية إلى الإمساك بالعراق في ثرواته وإعماره واستثماراته وسياسته وأمنه، من دون أن يملك العراقيون أيّ إرادة استقلالية في إدارة ذلك كله.

إن العراق بلد مسلم يمثّل الإسلام قاعدته الفكرية والروحية، وعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب الوحدة من أجل بناء قاعدة إسلامية وحدوية حضارية منفتحة على قضايا العدالة والحرية، وملتزمة بالحوار مع الأديان والاتجاهات في خط حوار الأفكار والحضارات.. وبذلك ينطلق العراق الجديد ليكون في موقع القيادة، ليأخذ دوره الريادي الحضاري في المنطقة والعالم.

الوحدة: السبيل إلى النصر

أما في لبنان، فإننا نرفض حرب المخيمات الجديدة بين الفلسطينيين أنفسهم في هذه المرحلة، كما رفضنا حرب المخيمات ضد الفلسطينيين في الماضي، ولا سيما أن سكان المخيمات يعيشون حالة من البؤس والفقر كأقسى ما تكون، ويعيشون في المتاهات السياسية الدولية والإقليمية التي لا تمنحهم شيئاً إلا على هامش المطامع الإسرائيلية..

إننا نقول لهم: حذارِ من العودة إلى هذه الحرب العبثية المجنونة، لأنكم ـ بذلك ـ تعطون العدو الفرصة في إعطاء صورة مشوّهة لهذا الشعب الذي يقتل بعضه بعضاً، ويدمّر مواقعه السكنية بطريقة وحشية.. إن عليكم أن تتحمّلوا مسؤولية ضبط الأمن في المخيمات، لأنه هو السبيل الوحيد لتوازن أهلها، ولأن هذا الأمن جزء من أمن اللبنانيين الذي إذا اختلّ فسوف يختل الأمن في البلد كله.. ارجعوا إلى العقل والوعي ودراسة المرحلة الخطيرة، وتذكّروا أن هذه المرحلة تلتقي بذكرى تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي بفعل وحدة المجاهدين ووحدة اللبنانيين، وتذكّروا أن المؤامرة تتحرك للقضاء على وحدة الشعب الفلسطيني المجاهد، من خلال "خريطة الطريق" التي لن تصل بكم إلا إلى النهايات التي تريدها أمريكا وإسرائيل.

إن الحرب الفلسطينية ـ الفلسطينية في الداخل والخارج خيانة ما بعدها خيانة، وإن الوحدة على أساس التكامل والتفاهم والحوار هي السبيل إلى النصر، ولو بعد حين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية