في رحـاب المبعـث النبـوي وذكرى الإسراء والمعـراج

في رحـاب المبعـث النبـوي وذكرى الإسراء والمعـراج

في رحـاب المبعـث النبـوي وذكرى الإسراء والمعـراج
في حماية المسجد الحرام والأقصى حماية للرسالة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
 

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

هذا اليوم السابع والعشرون من شهر رجب يمثل في الجو الإسلامي مناسبتين: المناسبة الأولى هي أنه يصادف ذكرى المبعث النبوي الشريف، يوم ولادة الإسلام، وهو اليوم الذي اصطفى الله فيه رسوله لتلقي الرسالة ولحملها ولإلقاء هذا العبء الثقيل على ظهره {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}.

والمناسبة الثانية التي يحتفل بها المسلمون هي مناسبة الإسراء والمعراج، فقد ذكرت السيرة النبوية الشريفة أن الله أسرى بعبده في مثل هذه الليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه إلى ما يعلمه الله من آفاق السماء.

حمل الرسالة مسؤولية دائمة

ولا بد لنا، أيها الأحبة، من أن نقف أمام هاتين المناسبتين الإسلاميتين، لأنهما، ولا سيما المناسبة الأولى، ترتبطان بانتمائنا إلى الإسلام، لأن الله عندما حمّل رسوله الرسالة أراد له أن يحملها في حياته، وأن يحمّل مسؤوليتها للأوصياء من بعده، ليحمّلها الأوصياء إلى الذين يملكون علم هذه الرسالة، لتمتد في وعي كل مسلم ومسلمة، ليشعر المسلمون كلهم بأن الرسول(ص) عندما يموت، فإن الرسالة لا تموت بموته {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً}. ولذلك يموت الرسول وتبقى الرسالة، ويموت الإمام وتبقى الرسالة، ويغيب الإمام وتبقى الرسالة، لأن الرسالة انطلقت من خلال رسول الله(ص) بوحي من الله لتمتد إلى الحياة كلها: "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة".وقد قال رسول الله(ص) لعلي(ع): "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".

لذلك، فالرسالة تبقى ليتحملها كل مسلم ومسلمة، كلٌ على قدر طاقته؛ طاقته العقلية وطاقته الحركية، لأنها ليست مسؤولية العلماء فحسب، بل هي مسؤولية المسلمين كلهم في الدعوة إليها وفي الالتزام بها، وفي تقوية مواقعها ومواقفها، وفي الامتداد بها إلى العالم كله، ليكون العالم كلّه، بجهدنا، وبما نملك من طاقة، إسلامياً، تلك هي مهمتنا، لأن الله أرسل الرسالة للعالم كله، {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

وفي ضوء هذا، أيها الأحبة، نحاول أن نلتقي مع وحي الله في حديثه عن هذا المبعث، والله يمتنّ على عباده بهذه الرسالة، ويمنّ على عباده باختيار محمد(ص) للرسالة، ما يعني أن الرسالة في عظمتها وفي كل عناصرها الروحية والتشريعية والحركية، تكبر بالرسول الذي تتجسد الرسالة في ذاته، ويكبر الرسول بها.

لذلك فالله يمنّ علينا بشخصية الرسول، كما يمنّ علينا بالرسالة التي حمّله إياها، وهذا قوله تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}، وذلك ليتحسّسوا معنى النعمة في إرسال الرسول، لأنها هي التي تعطي كل النعم التي أنعم الله بها علينا، معناها وحيويتها، وكل ما يرتبط ويتصل بها، حيث لا قيمة للحياة بكل ما فيها من فهم ومن طاقات إلا من خلال الرسالة، التي تجعلك داعياً إلى لله في معنى وحدانيته وربوبيته، وللرسول في معنى رسوليته وإنسانيته، وللشريعة في معنى ما تؤكده مما يصلح به أمر الإنسان في ما تأمر به أو في إبعاده عما يفسد حياته.

{لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته} التي ينزلها الله عليهم. {ويزكيهم} وكان النبي(ص) إذا نزل عليه القرآن تلاه على الناس، ورباهم عليه، في عملية تزكية لعقولهم أن لا تنفتح إلا على الحق، وقلوبهم أن لا تنبض إلا بالمحبة، وحياتهم أن لا تتحرك إلا بالعدل والخير في خط الحق، {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وكان لا يكتفي بتلاوة القرآن عليهم، بل كان يعلمهم كيف يتثقفون به، ويتعرفون إلى أسراره، وينطلقون في السير على مناهجه في المسائل الفكرية والحركية وفي كل القضايا التي تنطلق في ساحات الصراع والمواجهة.

ونستوحي من ذلك، أن مسألة تعلم المسلمين الكتاب في كل امتداداته في الحياة هي مسؤولية لا بد للمسلمين أن يتحملوها في كل زمان ومكان، ولا بد للعلماء أن يحملوها إلى الناس ليثقفوهم بها كرسالة، فلا يتاجرون بها، أو يستعلون بها على الناس بعيداً عن ذاتياتهم، لأن الرسالي لا بد أن يجعل ذاته في خدمة رسالته، ولا يجعل رسالته في خدمة ذاته. لهذا، نشعر بأن على علماء المسلمين ومثقفيهم ومفكريهم أن يعيشوا حالة طوارىء تبليغية ليبلّغوا الناس، ولا سيما إذا انتشرت البدع والأضاليل وكثرت التحديات للإسلام كله، وهذا قول النبي(ص): "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله".

{ويعلمهم الكتاب والحكمة}، والحكمة هي حركة التطبيق للكتاب في الحياة الخاصة والعامة، وهي وضع الشيء في موضعه، لأن الله يريد للمؤمنين أن يعيشوا عقلانية الفكرة التي يؤمنون بها، بأن يقولوا الكلمة في المقام المناسب، ويضعوا الشخص في المكان المناسب، ويحركوا الخطة في الأجواء المناسبة، وهذا يتطلب منهم أن يدرسوا الواقع كله في كل أبعاده، وفي كل ما يحيط به من أوضاع تتصل بالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} فلقد جاء الرسول(ص) من أجل أن ينقذهم من كل هذا الضلال.

استمرار الدعوة من خلال الدعاة

وهكذا يقول سبحانه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}، وهذه الآية التي كررها الله في موقع آخر توحي إلينا بأن الإسلام لا بد أن يتحرك من خلال دعاته ليشمل العالم كله، حتى يعلو على كل الاتجاهات والتيارات الفكرية.

يقول الله مخاطباً الرسول(ص) ليحدد له مهمته: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، ليعيش الناس في نور الرسالة ونور الرسول، لأن الرسول(ص) جاء من أجل أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فهو النور في عقله، وفي قلبه، وفي مشاعره وأحاسيسه وكلامه، وفي عمله. لذلك عندما يتحرك في الأمة، فإنّ النور يفيض من كل ذاته القرآنية على الناس كلهم، ليعطيهم من نوره نور الحق ونور العدل ونور الخير {وبشر المؤمنين ـ يا محمد ـ بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ـ جزاء إيمانهم وجزاء تقواهم ـ ولا تطع الكافرين والمنافقين}، فهم يريدون منك أن تأخذ بما يحاولون أن يضلوك به {ودع أذاهم وتوكل على الله} في كل مسيرتك، ولا تلتفت إلى الذين يقفون حاجزاً عن انطلاقة المسيرة {وكفى بالله وكيلاً}.

وهكذا يحملنا الله سبحانه وتعالى المسؤولية {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.

ويحدثنا الله عن هؤلاء {الذين يبلِّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}، ويحدثنا عن هؤلاء الذين اهتدوا بهدى الإسلام، وعن خصائص الرسالات الإسلامية {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث}. فالإسلام هو دعوة للمعروف أن ينتشر في حياة الناس، ليرتفع مستواهم إلى الدرجات العليا، في الفكر والروح والعدل والحياة كلها، وهو دعوة لرفض المنكر في حياة الناس، لكي لا يعيش الناس المنكر بكل أبعاده في الحياة.

ويحدثنا الله سبحانه وتعالى عن شخصية هذا الرسول، وهي شخصية الإنسان الذي يعيش إنسانيته في حركته مع الناس كلهم، في قلبه وحركته وأسلوبه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

وهكذا يحدثنا الله عن الرسول(ص) وعن صحابته معه، كيف كانوا في مجتمعهم الإسلامي، وكيف كانوا في مقاومتهم لتحديات الأعداء {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}.

وهكذا أيها الأحبة، يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعيش كما عاش الرسول(ص)، أن نقوم بإنذار الأقربين {وأنذر عشيرتك الأقربين} {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} والله يخاطب الأمة من خلال خطابه للرسول(ص).

والله سبحانه يحملنا المسؤولية{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.

المبعث: ولادة الإسلام

وهكذا نشعر عندما نستقبل المبعث النبوي الشريف، بأن هذا اليوم هو يوم ولادة الإسلام، وقد كبر الإسلام وامتد ونما وقوي، حتى أصبح المسلمون يزيدون على المليار ومئة مليون أو أكثر في العالم كله. وكل هذا بفضل جهود النبي(ص) والأئمة والصحابة والعلماء والمسلمين الدعاة إلى الله، ويبقى من مسؤولياتنا أن نعمل ليتسع الإسلام بنا، لا أن يضيق الإسلام في حياة المسلمين، لأن هناك الكثير من التيارات غير الإسلامية التي تحاول أن تبعد شبابنا ونساءنا عن إسلامهم، ونشر أجواء غير إسلامية، ولذلك فإن الله حملنا مسؤولية الإسلام، لينطلق به كل جيل إلى الجيل الذي بعده، حتى نسلّم هذه الرسالة كاملة غير منقوصة إلى الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لنقف أمامه ولنقول له كنا الدعاة إلى طاعة الله في خطك، وكنا القادة إلى سبيل الله في خطك. أن لا يظهر ويرانا نظلم أو نقتل بعضنا بعضاً، أو يحقد بعضنا على بعض، أو نثير الفتنة في كل موقع من مواقعنا، لأنه إذا رآنا على هذه الحالة، سنكون نحن من الظالمين الذين سيطهّر الأرض منهم، لأنه يأتي من أجل أن ينشر العدل العالمي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، على خط رسول الله(ص).

علينا في مثل هذه الحالة أن ننفر خفافاً وثقالاً، ونعمل بكل ما عندنا من طاقة في سبيل حماية الإسلام وتحصينه ، وهذا ما جعله الإمام علي بن الحسين زين العابدين من المسؤوليات اليومية لكل مسلم ومسلمة، عندما دعا الله في يومه، وفي ليلته، إلى أن يوفقه لأشياء كثيرة منها: "حياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف".

إن علينا أن نحصِّن إسلامنا داخل البلاد الإسلامية، وأن نحمي إسلامنا في مواجهة التحديات الكافرة المستكبرة التي تريد أن تسقط الإسلام في مواقعه.

أيها الأحبة، في مرحلتنا هذه التي برز فيها الكفر كله، والاستكبار كله، إلى الإسلام كله، لا مجال للراحة والاسترخاء، والسلبية والانهزامية: "كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته". وفي الإسراء، أراد الله أن يثقف رسوله وأن يدفع به إلى مهد الرسالات، إلى القدس، ليصلي هناك وليجتمع بهم، فتتمثل عنده كل الرسالات في مواقع الرسل، ويتمثل عنده الرسل في كل حركتهم الرسالية، ليتداول معهم في مستقبل الرسالة التي حملوها وجاء من أجل أن يكملها، عندما قال:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وارتفع به الله سبحانه وتعالى إلى عليائه {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى} وحتى يعرفه الله سبحانه وتعالى آفاق الأرض وآفاق السماء: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} والمسجد الأقصى الذي باركه الله وبارك حوله هو أسير عند أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء الإنسانية، ولذلك يقع علينا كأمة إسلامية مسؤولية حماية المسجد الحرام والمسجد الأقصى، لأنهما يختصران مواقع الرسالات كلها، وفي حمايتهما هذه حماية للرسالة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وواجهوا المرحلة التي تعيشون فيها بكل مسؤولية، وبكل قوة، وبكل تخطيط، وبكل موقع للوحدة التي تشمل المسلمين جميعاً، حتى مع اختلاف مذاهبهم وقومياتهم وألوانهم، لأن الاستكبار العالمي لا يفرق بين مذهب إسلامي ومذهب إسلامي آخر، فالكل مستهدفون، ولا يفرق بين قومية في موقع إسلامي ما وبين قومية في موقع إسلامي آخر، فالكل محاربون.

إن المرحلة التي نمر بها هي من أخطر المراحل التي لم يمر على تاريخنا الإسلامي مثلها، لأن العالم المستكبر الذي تقوده أمريكا عمل على إثارة الحرب ضد الإسلام والمسلمين باسم الحرب على الإرهاب أو باسم الحرب على أسلحة الدمار الشامل، وهو الذي يملك كل أسلحة الدمار الشامل، وهو الذي يحرك إرهاب الدولة، بل إرهاب الحلف الأطلسي، وإرهاب التحالف الدولي، وهو الذي يتحرك من أجل إعطاء الضوء الأخضر لكل الذين يتابعون سياسته ليضطهدوا شعوبهم والشعوب الأخرى، وهذا ما لاحظناه عندما أعطى الضوء الأخضر إلى إسرائيل لتقتل الفلسطينيين أطفالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، وأن تحرق مزارعهم، وأن تدمر بيوتهم، وأن تخنق اقتصادهم، وأن تحاصرهم، لتحوّل بلادهم إلى سجن كبير لهم، وأمريكا لا تحرك ساكناً، بل تعتبر أن ما يقوم به الصهاينة هو دفاع عن النفس، وتعتبر مواجهة الفلسطينيين لهذا الظلم إرهاباً، ولذلك على المسلمين أن يتحملوا المسؤولية في ذلك، ولننطلق لمعرفة ما استجد في هذه المرحلة.

ممانعة مشروع الهيمنة الأميركي

أمريكا تتحدى العالم، وتضغط على مجلس الأمن، وتهدد أكثر من دولة بإرباك مصالحها إن لم تستجب لمشاريعها العسكرية والسياسية، وتعلن أنها ستتحرك في شكل يعرقل عودة المفتشين عن الأسلحة في العراق، إذا لم يصدر مجلس الأمن قراره في الصيغة التي تطالب بها... وهي في الوقت نفسه تبيع العرب كلاماً، وتعطي إسرائيل في كل قرار جديد شرعية جديدة، وهذا ما فعله الرئيس الأمريكي من خلال التوقيع على قرار الكونغرس الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ومن ثم الحديث عن أنه قرار غير ملزم، للتخفيف من وقعه على العرب الذين سارعوا إلى الترحيب بذلك، والتأكيد أن الرئيس "بوش" لم يتبنَ هذا القرار في شكل رسمي... والجميع يعرف أن هذا الرئيس كان قد وعد في حملته الانتخابية بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في الوقت المناسب، كتأكيد على الاعتراف بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني.

إننا نعرف ـ جيداً ـ أن أمريكا تخطط في لتقوية السيطرة الإسرائيلية بشكل تدريجي على الأرض الفلسطينية، وذلك باستخدام الأساليب السياسية الملتوية المنافقة المخادعة، ملوّحة بالدولة الفلسطينية بين وقت وآخر، ولكن ضمن شروط لا يمكن تحقيقها بفعل الاحتلال الإسرائيلي، وتدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، من دون أن تتقدّم خطوة واحدة للضغط على العدو في الانسحاب من الأراضي المحتلة، وفي الامتناع عن جرائمه الوحشية ضد المدنيين الفلسطينيين...

وإذا كانت أمريكا ضغطت على شارون لرفع الحصار عن مقر عرفات، فإنها فعلت ذلك من أجل مشروعها في الحرب على العراق، حتى لا يتأثّر بالضجة الدولية الإعلامية... ولكنها (أمريكا) ـ في الوقت نفسه ـ لم تضغط على إسرائيل لتنفيذ القرار، في الوقت الذي تتحدث عن ضرورة احترام قرارات الأمم المتحدة بقدر ما يتصل الأمر بالعراق، مع أن إسرائيل أعلنت أنها لا تنفذ كل القرارات الدولية ـ بما في ذلك القرار الأخير ـ لأنه يتعارض مع مصالحها، ولم يحرّك أحد ساكناً ضدها.

ومن المؤسف أن أكثر من دولة من الدول الكبرى المالكة لحق النقض في مجلس الأمن لم تدرس الظروف القاسية الوحشية التي يعانيها الشعب الفلسطيني، الذي انطلق في انتفاضته للخروج من هذا النفق الاحتلالي، ولحماية أمنه المسحوق تحت ضغط السلاح الأمريكي ـ اليهودي، وأصبحنا نسمع الحديث الدولي عما يسمّونه "الإرهاب" الفلسطيني، من دون أيّ كلمة عن إرهاب الدولة الذي يقوم به الكيان الصهيوني..

والسؤال: أيّ عالم هو هذا العالم الذي يصادر فيه المستكبرون المتحدثون عن الحرية والحضارة والمدنية والتقدّم كل قضايا المستضعفين، من خلال تداخل المصالح الاستكبارية ضد مصالح الشعوب، والمطلوب هو أن يرتفع الصوت عالياً من الشعوب في العالم الثالث كله ـ بما في ذلك عالم العرب والمسلمين ـ من أجل موقف سياسي ضاغط على هذه العولمة الوحشية التي تزيد العالم فقراً وتخلّفاً، وتنتج في كل يوم إرهاباً وعنفاً جديدين، ذلك أن عنف الدولة الكبرى لا بدّ أن ينتج أكثر من عنف لدى الأفراد والجماعات للخروج من الزنزانة السياسية والاقتصادية...

إن الإرهاب الفردي والجماعي لا يمكن معالجته بالطريقة التي تدعو فيها أمريكا العالم إلى التحالف معها ضده، بل بالابتعاد عن الإرهاب الدولي الذي يلغي مستقبل الشعوب، ويصادر ثرواتها، ويحرّك فيها الفتن والحروب لحساب مصالح شركات الأسلحة أو النفط... ونحن نعلم أن أمريكا لم تستطع حتى الآن معالجة حالات الإرهاب الفردي في أوضاعها الداخلية، لأنها لم تعالج المسألة على أساس احترام إنسانية الإنسان الأمريكي وإنقاذه من سيطرة الشركات الاحتكارية المسيطِرة على مواقع القرار السياسي في الإدارة وفي مجلسي النواب والشيوخ، التي تتحرك في قراراتها في السياسة الخارجية لحساب الأوضاع الداخلية، ما يؤدي إلى فرض الإرادة الأمريكية بالقوة على العالم كله.

لبنان يتجه نحو الهاوية

أما في لبنان، فإنّ أكثر من موقع لا يزال مستغرقاً في توسيع الهوّة بين المواطنين، بالتأكيد على إحباط طائفة هنا وحرمان طائفة هناك، وثأرٍ لشخص طائفي في هذا الموقع ولآخر في موقع آخر، وفي تشهير بالدولة في مركز كبير أو صغير، وفي السعي لتسييس القضاء تارة واتهامه بتحريك أجهزته ضد المقامات الكبرى، أو في مواجهة الحريات لحساب خلفيات داخلية أو خارجية، وفي اتهام الأمن الداخلي بالخضوع لحسابات سياسية ضد فريق معارض هنا وهناك، وفي العمل لإسقاط موقع المجلس النيابي ليصل إلى حضيض الاتهامات الاستهلاكية في فقدانه التمثيل الشعبي الصحيح بفعل "الوحي السري الذي يوسوس لنوابه"، وإبعاد المواقع التنفيذية في الحكم والحكومة عن مركز الثقة بالإخلاص للشعب، وفي إرباك الذهنية في الصراع البعيد عن كل أرضية قوية منتجة...

ويبقى الشعب حائراً في سؤال طويل: مَن يصدّق مَن؟ ومَن ينقذ مَن؟ ومَن يحاور مَن؟ فيما الجوع يفترس الطبقات الفقيرة، والأزمة الاقتصادية تكاد تهدد الثروة النقدية، والخدمات الحياتية في غيبوبة شاملة، والتحديات الكبرى تصنع العواصف في الأفق والزلازل في الأرض... واللعبة السياسية التاريخية تبحث عن ملهاة تبعد الشعب عن المشاكل الحقيقية في الخلافات السياسية، والحساسيات والعصبيات الطائفية، والمشاريع الشخصانية...

ويبقى السؤال الكبير يفرض نفسه: إلى أين نحن سائرون؟! إن الوديان السحيقة تنتظر كل الذين لا يريدون البقاء في القمة، وفي مرتفعات المسؤولية، فتنزلق أقدامهم لتسقط في الهاوية.

في رحـاب المبعـث النبـوي وذكرى الإسراء والمعـراج
في حماية المسجد الحرام والأقصى حماية للرسالة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
 

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

هذا اليوم السابع والعشرون من شهر رجب يمثل في الجو الإسلامي مناسبتين: المناسبة الأولى هي أنه يصادف ذكرى المبعث النبوي الشريف، يوم ولادة الإسلام، وهو اليوم الذي اصطفى الله فيه رسوله لتلقي الرسالة ولحملها ولإلقاء هذا العبء الثقيل على ظهره {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}.

والمناسبة الثانية التي يحتفل بها المسلمون هي مناسبة الإسراء والمعراج، فقد ذكرت السيرة النبوية الشريفة أن الله أسرى بعبده في مثل هذه الليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه إلى ما يعلمه الله من آفاق السماء.

حمل الرسالة مسؤولية دائمة

ولا بد لنا، أيها الأحبة، من أن نقف أمام هاتين المناسبتين الإسلاميتين، لأنهما، ولا سيما المناسبة الأولى، ترتبطان بانتمائنا إلى الإسلام، لأن الله عندما حمّل رسوله الرسالة أراد له أن يحملها في حياته، وأن يحمّل مسؤوليتها للأوصياء من بعده، ليحمّلها الأوصياء إلى الذين يملكون علم هذه الرسالة، لتمتد في وعي كل مسلم ومسلمة، ليشعر المسلمون كلهم بأن الرسول(ص) عندما يموت، فإن الرسالة لا تموت بموته {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً}. ولذلك يموت الرسول وتبقى الرسالة، ويموت الإمام وتبقى الرسالة، ويغيب الإمام وتبقى الرسالة، لأن الرسالة انطلقت من خلال رسول الله(ص) بوحي من الله لتمتد إلى الحياة كلها: "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة".وقد قال رسول الله(ص) لعلي(ع): "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".

لذلك، فالرسالة تبقى ليتحملها كل مسلم ومسلمة، كلٌ على قدر طاقته؛ طاقته العقلية وطاقته الحركية، لأنها ليست مسؤولية العلماء فحسب، بل هي مسؤولية المسلمين كلهم في الدعوة إليها وفي الالتزام بها، وفي تقوية مواقعها ومواقفها، وفي الامتداد بها إلى العالم كله، ليكون العالم كلّه، بجهدنا، وبما نملك من طاقة، إسلامياً، تلك هي مهمتنا، لأن الله أرسل الرسالة للعالم كله، {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

وفي ضوء هذا، أيها الأحبة، نحاول أن نلتقي مع وحي الله في حديثه عن هذا المبعث، والله يمتنّ على عباده بهذه الرسالة، ويمنّ على عباده باختيار محمد(ص) للرسالة، ما يعني أن الرسالة في عظمتها وفي كل عناصرها الروحية والتشريعية والحركية، تكبر بالرسول الذي تتجسد الرسالة في ذاته، ويكبر الرسول بها.

لذلك فالله يمنّ علينا بشخصية الرسول، كما يمنّ علينا بالرسالة التي حمّله إياها، وهذا قوله تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}، وذلك ليتحسّسوا معنى النعمة في إرسال الرسول، لأنها هي التي تعطي كل النعم التي أنعم الله بها علينا، معناها وحيويتها، وكل ما يرتبط ويتصل بها، حيث لا قيمة للحياة بكل ما فيها من فهم ومن طاقات إلا من خلال الرسالة، التي تجعلك داعياً إلى لله في معنى وحدانيته وربوبيته، وللرسول في معنى رسوليته وإنسانيته، وللشريعة في معنى ما تؤكده مما يصلح به أمر الإنسان في ما تأمر به أو في إبعاده عما يفسد حياته.

{لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته} التي ينزلها الله عليهم. {ويزكيهم} وكان النبي(ص) إذا نزل عليه القرآن تلاه على الناس، ورباهم عليه، في عملية تزكية لعقولهم أن لا تنفتح إلا على الحق، وقلوبهم أن لا تنبض إلا بالمحبة، وحياتهم أن لا تتحرك إلا بالعدل والخير في خط الحق، {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وكان لا يكتفي بتلاوة القرآن عليهم، بل كان يعلمهم كيف يتثقفون به، ويتعرفون إلى أسراره، وينطلقون في السير على مناهجه في المسائل الفكرية والحركية وفي كل القضايا التي تنطلق في ساحات الصراع والمواجهة.

ونستوحي من ذلك، أن مسألة تعلم المسلمين الكتاب في كل امتداداته في الحياة هي مسؤولية لا بد للمسلمين أن يتحملوها في كل زمان ومكان، ولا بد للعلماء أن يحملوها إلى الناس ليثقفوهم بها كرسالة، فلا يتاجرون بها، أو يستعلون بها على الناس بعيداً عن ذاتياتهم، لأن الرسالي لا بد أن يجعل ذاته في خدمة رسالته، ولا يجعل رسالته في خدمة ذاته. لهذا، نشعر بأن على علماء المسلمين ومثقفيهم ومفكريهم أن يعيشوا حالة طوارىء تبليغية ليبلّغوا الناس، ولا سيما إذا انتشرت البدع والأضاليل وكثرت التحديات للإسلام كله، وهذا قول النبي(ص): "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله".

{ويعلمهم الكتاب والحكمة}، والحكمة هي حركة التطبيق للكتاب في الحياة الخاصة والعامة، وهي وضع الشيء في موضعه، لأن الله يريد للمؤمنين أن يعيشوا عقلانية الفكرة التي يؤمنون بها، بأن يقولوا الكلمة في المقام المناسب، ويضعوا الشخص في المكان المناسب، ويحركوا الخطة في الأجواء المناسبة، وهذا يتطلب منهم أن يدرسوا الواقع كله في كل أبعاده، وفي كل ما يحيط به من أوضاع تتصل بالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} فلقد جاء الرسول(ص) من أجل أن ينقذهم من كل هذا الضلال.

استمرار الدعوة من خلال الدعاة

وهكذا يقول سبحانه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}، وهذه الآية التي كررها الله في موقع آخر توحي إلينا بأن الإسلام لا بد أن يتحرك من خلال دعاته ليشمل العالم كله، حتى يعلو على كل الاتجاهات والتيارات الفكرية.

يقول الله مخاطباً الرسول(ص) ليحدد له مهمته: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، ليعيش الناس في نور الرسالة ونور الرسول، لأن الرسول(ص) جاء من أجل أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فهو النور في عقله، وفي قلبه، وفي مشاعره وأحاسيسه وكلامه، وفي عمله. لذلك عندما يتحرك في الأمة، فإنّ النور يفيض من كل ذاته القرآنية على الناس كلهم، ليعطيهم من نوره نور الحق ونور العدل ونور الخير {وبشر المؤمنين ـ يا محمد ـ بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ـ جزاء إيمانهم وجزاء تقواهم ـ ولا تطع الكافرين والمنافقين}، فهم يريدون منك أن تأخذ بما يحاولون أن يضلوك به {ودع أذاهم وتوكل على الله} في كل مسيرتك، ولا تلتفت إلى الذين يقفون حاجزاً عن انطلاقة المسيرة {وكفى بالله وكيلاً}.

وهكذا يحملنا الله سبحانه وتعالى المسؤولية {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.

ويحدثنا الله عن هؤلاء {الذين يبلِّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}، ويحدثنا عن هؤلاء الذين اهتدوا بهدى الإسلام، وعن خصائص الرسالات الإسلامية {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث}. فالإسلام هو دعوة للمعروف أن ينتشر في حياة الناس، ليرتفع مستواهم إلى الدرجات العليا، في الفكر والروح والعدل والحياة كلها، وهو دعوة لرفض المنكر في حياة الناس، لكي لا يعيش الناس المنكر بكل أبعاده في الحياة.

ويحدثنا الله سبحانه وتعالى عن شخصية هذا الرسول، وهي شخصية الإنسان الذي يعيش إنسانيته في حركته مع الناس كلهم، في قلبه وحركته وأسلوبه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

وهكذا يحدثنا الله عن الرسول(ص) وعن صحابته معه، كيف كانوا في مجتمعهم الإسلامي، وكيف كانوا في مقاومتهم لتحديات الأعداء {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}.

وهكذا أيها الأحبة، يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعيش كما عاش الرسول(ص)، أن نقوم بإنذار الأقربين {وأنذر عشيرتك الأقربين} {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} والله يخاطب الأمة من خلال خطابه للرسول(ص).

والله سبحانه يحملنا المسؤولية{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.

المبعث: ولادة الإسلام

وهكذا نشعر عندما نستقبل المبعث النبوي الشريف، بأن هذا اليوم هو يوم ولادة الإسلام، وقد كبر الإسلام وامتد ونما وقوي، حتى أصبح المسلمون يزيدون على المليار ومئة مليون أو أكثر في العالم كله. وكل هذا بفضل جهود النبي(ص) والأئمة والصحابة والعلماء والمسلمين الدعاة إلى الله، ويبقى من مسؤولياتنا أن نعمل ليتسع الإسلام بنا، لا أن يضيق الإسلام في حياة المسلمين، لأن هناك الكثير من التيارات غير الإسلامية التي تحاول أن تبعد شبابنا ونساءنا عن إسلامهم، ونشر أجواء غير إسلامية، ولذلك فإن الله حملنا مسؤولية الإسلام، لينطلق به كل جيل إلى الجيل الذي بعده، حتى نسلّم هذه الرسالة كاملة غير منقوصة إلى الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لنقف أمامه ولنقول له كنا الدعاة إلى طاعة الله في خطك، وكنا القادة إلى سبيل الله في خطك. أن لا يظهر ويرانا نظلم أو نقتل بعضنا بعضاً، أو يحقد بعضنا على بعض، أو نثير الفتنة في كل موقع من مواقعنا، لأنه إذا رآنا على هذه الحالة، سنكون نحن من الظالمين الذين سيطهّر الأرض منهم، لأنه يأتي من أجل أن ينشر العدل العالمي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، على خط رسول الله(ص).

علينا في مثل هذه الحالة أن ننفر خفافاً وثقالاً، ونعمل بكل ما عندنا من طاقة في سبيل حماية الإسلام وتحصينه ، وهذا ما جعله الإمام علي بن الحسين زين العابدين من المسؤوليات اليومية لكل مسلم ومسلمة، عندما دعا الله في يومه، وفي ليلته، إلى أن يوفقه لأشياء كثيرة منها: "حياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف".

إن علينا أن نحصِّن إسلامنا داخل البلاد الإسلامية، وأن نحمي إسلامنا في مواجهة التحديات الكافرة المستكبرة التي تريد أن تسقط الإسلام في مواقعه.

أيها الأحبة، في مرحلتنا هذه التي برز فيها الكفر كله، والاستكبار كله، إلى الإسلام كله، لا مجال للراحة والاسترخاء، والسلبية والانهزامية: "كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته". وفي الإسراء، أراد الله أن يثقف رسوله وأن يدفع به إلى مهد الرسالات، إلى القدس، ليصلي هناك وليجتمع بهم، فتتمثل عنده كل الرسالات في مواقع الرسل، ويتمثل عنده الرسل في كل حركتهم الرسالية، ليتداول معهم في مستقبل الرسالة التي حملوها وجاء من أجل أن يكملها، عندما قال:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وارتفع به الله سبحانه وتعالى إلى عليائه {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى} وحتى يعرفه الله سبحانه وتعالى آفاق الأرض وآفاق السماء: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} والمسجد الأقصى الذي باركه الله وبارك حوله هو أسير عند أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء الإنسانية، ولذلك يقع علينا كأمة إسلامية مسؤولية حماية المسجد الحرام والمسجد الأقصى، لأنهما يختصران مواقع الرسالات كلها، وفي حمايتهما هذه حماية للرسالة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وواجهوا المرحلة التي تعيشون فيها بكل مسؤولية، وبكل قوة، وبكل تخطيط، وبكل موقع للوحدة التي تشمل المسلمين جميعاً، حتى مع اختلاف مذاهبهم وقومياتهم وألوانهم، لأن الاستكبار العالمي لا يفرق بين مذهب إسلامي ومذهب إسلامي آخر، فالكل مستهدفون، ولا يفرق بين قومية في موقع إسلامي ما وبين قومية في موقع إسلامي آخر، فالكل محاربون.

إن المرحلة التي نمر بها هي من أخطر المراحل التي لم يمر على تاريخنا الإسلامي مثلها، لأن العالم المستكبر الذي تقوده أمريكا عمل على إثارة الحرب ضد الإسلام والمسلمين باسم الحرب على الإرهاب أو باسم الحرب على أسلحة الدمار الشامل، وهو الذي يملك كل أسلحة الدمار الشامل، وهو الذي يحرك إرهاب الدولة، بل إرهاب الحلف الأطلسي، وإرهاب التحالف الدولي، وهو الذي يتحرك من أجل إعطاء الضوء الأخضر لكل الذين يتابعون سياسته ليضطهدوا شعوبهم والشعوب الأخرى، وهذا ما لاحظناه عندما أعطى الضوء الأخضر إلى إسرائيل لتقتل الفلسطينيين أطفالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، وأن تحرق مزارعهم، وأن تدمر بيوتهم، وأن تخنق اقتصادهم، وأن تحاصرهم، لتحوّل بلادهم إلى سجن كبير لهم، وأمريكا لا تحرك ساكناً، بل تعتبر أن ما يقوم به الصهاينة هو دفاع عن النفس، وتعتبر مواجهة الفلسطينيين لهذا الظلم إرهاباً، ولذلك على المسلمين أن يتحملوا المسؤولية في ذلك، ولننطلق لمعرفة ما استجد في هذه المرحلة.

ممانعة مشروع الهيمنة الأميركي

أمريكا تتحدى العالم، وتضغط على مجلس الأمن، وتهدد أكثر من دولة بإرباك مصالحها إن لم تستجب لمشاريعها العسكرية والسياسية، وتعلن أنها ستتحرك في شكل يعرقل عودة المفتشين عن الأسلحة في العراق، إذا لم يصدر مجلس الأمن قراره في الصيغة التي تطالب بها... وهي في الوقت نفسه تبيع العرب كلاماً، وتعطي إسرائيل في كل قرار جديد شرعية جديدة، وهذا ما فعله الرئيس الأمريكي من خلال التوقيع على قرار الكونغرس الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ومن ثم الحديث عن أنه قرار غير ملزم، للتخفيف من وقعه على العرب الذين سارعوا إلى الترحيب بذلك، والتأكيد أن الرئيس "بوش" لم يتبنَ هذا القرار في شكل رسمي... والجميع يعرف أن هذا الرئيس كان قد وعد في حملته الانتخابية بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في الوقت المناسب، كتأكيد على الاعتراف بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني.

إننا نعرف ـ جيداً ـ أن أمريكا تخطط في لتقوية السيطرة الإسرائيلية بشكل تدريجي على الأرض الفلسطينية، وذلك باستخدام الأساليب السياسية الملتوية المنافقة المخادعة، ملوّحة بالدولة الفلسطينية بين وقت وآخر، ولكن ضمن شروط لا يمكن تحقيقها بفعل الاحتلال الإسرائيلي، وتدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، من دون أن تتقدّم خطوة واحدة للضغط على العدو في الانسحاب من الأراضي المحتلة، وفي الامتناع عن جرائمه الوحشية ضد المدنيين الفلسطينيين...

وإذا كانت أمريكا ضغطت على شارون لرفع الحصار عن مقر عرفات، فإنها فعلت ذلك من أجل مشروعها في الحرب على العراق، حتى لا يتأثّر بالضجة الدولية الإعلامية... ولكنها (أمريكا) ـ في الوقت نفسه ـ لم تضغط على إسرائيل لتنفيذ القرار، في الوقت الذي تتحدث عن ضرورة احترام قرارات الأمم المتحدة بقدر ما يتصل الأمر بالعراق، مع أن إسرائيل أعلنت أنها لا تنفذ كل القرارات الدولية ـ بما في ذلك القرار الأخير ـ لأنه يتعارض مع مصالحها، ولم يحرّك أحد ساكناً ضدها.

ومن المؤسف أن أكثر من دولة من الدول الكبرى المالكة لحق النقض في مجلس الأمن لم تدرس الظروف القاسية الوحشية التي يعانيها الشعب الفلسطيني، الذي انطلق في انتفاضته للخروج من هذا النفق الاحتلالي، ولحماية أمنه المسحوق تحت ضغط السلاح الأمريكي ـ اليهودي، وأصبحنا نسمع الحديث الدولي عما يسمّونه "الإرهاب" الفلسطيني، من دون أيّ كلمة عن إرهاب الدولة الذي يقوم به الكيان الصهيوني..

والسؤال: أيّ عالم هو هذا العالم الذي يصادر فيه المستكبرون المتحدثون عن الحرية والحضارة والمدنية والتقدّم كل قضايا المستضعفين، من خلال تداخل المصالح الاستكبارية ضد مصالح الشعوب، والمطلوب هو أن يرتفع الصوت عالياً من الشعوب في العالم الثالث كله ـ بما في ذلك عالم العرب والمسلمين ـ من أجل موقف سياسي ضاغط على هذه العولمة الوحشية التي تزيد العالم فقراً وتخلّفاً، وتنتج في كل يوم إرهاباً وعنفاً جديدين، ذلك أن عنف الدولة الكبرى لا بدّ أن ينتج أكثر من عنف لدى الأفراد والجماعات للخروج من الزنزانة السياسية والاقتصادية...

إن الإرهاب الفردي والجماعي لا يمكن معالجته بالطريقة التي تدعو فيها أمريكا العالم إلى التحالف معها ضده، بل بالابتعاد عن الإرهاب الدولي الذي يلغي مستقبل الشعوب، ويصادر ثرواتها، ويحرّك فيها الفتن والحروب لحساب مصالح شركات الأسلحة أو النفط... ونحن نعلم أن أمريكا لم تستطع حتى الآن معالجة حالات الإرهاب الفردي في أوضاعها الداخلية، لأنها لم تعالج المسألة على أساس احترام إنسانية الإنسان الأمريكي وإنقاذه من سيطرة الشركات الاحتكارية المسيطِرة على مواقع القرار السياسي في الإدارة وفي مجلسي النواب والشيوخ، التي تتحرك في قراراتها في السياسة الخارجية لحساب الأوضاع الداخلية، ما يؤدي إلى فرض الإرادة الأمريكية بالقوة على العالم كله.

لبنان يتجه نحو الهاوية

أما في لبنان، فإنّ أكثر من موقع لا يزال مستغرقاً في توسيع الهوّة بين المواطنين، بالتأكيد على إحباط طائفة هنا وحرمان طائفة هناك، وثأرٍ لشخص طائفي في هذا الموقع ولآخر في موقع آخر، وفي تشهير بالدولة في مركز كبير أو صغير، وفي السعي لتسييس القضاء تارة واتهامه بتحريك أجهزته ضد المقامات الكبرى، أو في مواجهة الحريات لحساب خلفيات داخلية أو خارجية، وفي اتهام الأمن الداخلي بالخضوع لحسابات سياسية ضد فريق معارض هنا وهناك، وفي العمل لإسقاط موقع المجلس النيابي ليصل إلى حضيض الاتهامات الاستهلاكية في فقدانه التمثيل الشعبي الصحيح بفعل "الوحي السري الذي يوسوس لنوابه"، وإبعاد المواقع التنفيذية في الحكم والحكومة عن مركز الثقة بالإخلاص للشعب، وفي إرباك الذهنية في الصراع البعيد عن كل أرضية قوية منتجة...

ويبقى الشعب حائراً في سؤال طويل: مَن يصدّق مَن؟ ومَن ينقذ مَن؟ ومَن يحاور مَن؟ فيما الجوع يفترس الطبقات الفقيرة، والأزمة الاقتصادية تكاد تهدد الثروة النقدية، والخدمات الحياتية في غيبوبة شاملة، والتحديات الكبرى تصنع العواصف في الأفق والزلازل في الأرض... واللعبة السياسية التاريخية تبحث عن ملهاة تبعد الشعب عن المشاكل الحقيقية في الخلافات السياسية، والحساسيات والعصبيات الطائفية، والمشاريع الشخصانية...

ويبقى السؤال الكبير يفرض نفسه: إلى أين نحن سائرون؟! إن الوديان السحيقة تنتظر كل الذين لا يريدون البقاء في القمة، وفي مرتفعات المسؤولية، فتنزلق أقدامهم لتسقط في الهاوية.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية