بسم الله الرّحمن الرّحيم
أمَّ سماحـة آيـة الله الـعـظمى السيِّد محمَّد حسين فضل الله المصلّين في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 4 ربيع الثّاني 1418هـ/ الموافق 8 آب 1997م .
وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة بحضور حشدٍ من الشَّخصيات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة وآلافٍ من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الخطبة الأولى
العُجُب مرض متفشٍّ
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}[1].
تتحدَّث هذه الآية عن مرضٍ يعيشه الكثيرون من النّاس الَّذين قد يملكون بعض الصِّفات أو بعض المواقع أو بعض الطّاقات الّتي قد تميِّزهم من غيرهم، فتدفعهم إلى أن يعُجبوا بأنفسهم، حتى إنهم يمتنعون عن محاسبتها ونقدها والتّفكير في نقاط الضَّـعف فيها. ويكثر المتزلّفون حول هذه الشَّخصـيَّات، ليبدأوا في إعطائهم نفخة كرمٍ هنا ونفخة موقعٍ هناك، ليزداد إعجابهم بأنفسهم، ويتحوَّل الإنسان إلى طاووسٍ يُعجَب بريشه وطاقته.
ومن خلال ذلك، فإنَّه يعتبر كلَّ ما يقوم به من عمل حسناً وجيّداً وواقعيّاً، فيقدِّس أخطاءه وانحرافاته، ويضخِّم نقاط ضعفه فيحسبها نقاط قوّة. وقد حدَّثنا الله بهذه الآية المختصرة عن هؤلاء، لأنَّ الإنسان عندما تُزيِّن له نفسه، فإنَّه يشعر بأنّه لا يمكن أن يخطئ ولا يمكن أن ينحرف، فكلّ كلامه صواب، وكلّ عمله جيّد، فالنَّاس الَّذين يحبّهم هم الطيّبون، والنّاس الّذين يبغضـهم هم الخبيثون. ولو أراد أحد أن يناقشه في أية قضيّة، فإنّه يعتبر أنّ الذي يناقشه ضدّ الحقّ، لأنّه يرى نفسه أنَّه الحقّ كلّه، وإذا أراد أحد أن ينبِّهه إلى بعض أخطائه، فإنَّه يشعر بالمهانة، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}[2]، فمن أنتم حتى تقولوا لي اتَّقِ الله؟ أنا المتَّقي في كلّ شيء، وأنا الذي أوزّع مواعظ التّقوى على الصّغير والكبير!
هذا الإنسان الَّذي يعيش انتفاخ الشَّخصيَّة، والَّذي تقتله شخصيَّته، تقتله روحيّاً وأخلاقيّاً، وفي نهاية المطاف، فإنها تقتله اجتماعيّاً، لأنَّ النـاس لا يتحمَّلون أن يتحوّل الإنسان بينهم إلى ما يشبه الوثن الّذي يدعوهم إلى أن يتعبَّدوا له.
العُجب آفة من الآفات الأخلاقيَّة الَّتي إذا حلَّت في إنسان أغلقت عليه كلّ آفاق النموّ، لأنّك إذا أعجبت بنفسك، ورأيت أنّك أنت المؤمن في أعلى درجة الإيمان، وأنت العالم في أعلى درجة العلم والعظمة ـ إذا كانت تفكِّر بهذه الطريقة ـ فإنَّك بعد ذلك لا يمكن أن تطلب زيادةً في إيمانك، لأنَّك تعتبر أنّك في أعلى درجات الإيمان، فلا درجة أعلى من درجتك، وإذا كنت تعتبر نفسك أعلم العلماء، فكيف يمكن لك أن تطلب علماً جديداً ولا تجد أنَّ هناك جديداً على ما تعلمه؟!
الحذر من العجب
تعالوا إلى كلمات رسول الله(ص) وأهل بيته(ع)، لنعرف كيف استوحوا كلام الله. وإنّنا نريد أن نؤكِّد ذلك حتى نستطيع أن نعالج أنفسنا من هذا المرض، لأنَّ عجب الإنسان بنفسـه ربما يقوده إلى أن يُعجَب بأخطائه وبانحرافاته وبنقاط ضعفه، فيقوده ذلك إلى جهنَّم وبئـس المصير. وهناك نقطة لا بدَّ من أن نفهمها في حكم عليّ(ع)، فكان لا يكتفي بأن يوجه عمَّاله الّذين يوليهم المسؤوليَّة في البلدان، بأن يبلّغهم تعليماته الإداريَّة أو السياسيّة أو الاجتماعيَّة فقط، بل كان يعمل على أن يعظهم وينصحهم، لأنَّ الإمام عليّاً(ع) كان يـريد لكلّ الَّذين يتعـاون معهم في خلافته، أن يكونوا المثل الحيَّ الأعلى في الأخلاق وفي التّقوى والاستقامة، حتى يحكموا النّاس من مـوقع العدل، والعدل لا يمكن أن يتحقَّق إلا من شخصــيَّةٍ تعيش العدل في التّقوى وفي الصِّدق وفي الاستقامة بين النّاس.
يقول عليّ(ع) موجِّهاً خطابه إلى مالك الأشتر ـ وهو موجَّه إلينا، لأنّه يتحـدَّث في المنهج الإسلاميّ للنّاس كلِّهم ـ : "إيّاك والإعجاب بنفسك والثِّقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء ـ أن يثني النّاس عليك أو يمدحوك ـ فإنَّ ذلك من أوثق فرص الشّيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين"[3]، لأنَّه من أفضل فرص الشّيطان أن ينفذ إليك، فيضخِّم لك إحسانك وصفاتك، حتى تتحوَّل إلى إنسانٍ لا يعمل على أن يركِّز الازدياد في نفسه. ثم يقول عليّ(ع): "لا جهل أضرّ من العُجب"[4]، لأنَّك عندما تعجب بنفسك وتراها في موقع الكمال، فإنَّ معنى ذلك أنَّك تجهل نقاط الضّعف فيها. ويقول: "ثمرة العجب البغضاء"[5]، لأنّك تبغض الناس من خلال عجـبك، لأنك ترى أنهم لا يعظّمونك، بل يكرهونك لأنّك تتعالى عليهم..
وقد جاء في كتاب "الكافي" عن الإمام الصَّادق(ع): "إنَّ عيسى بن مريم... خرج... ومعه رجل من أصحابه قصير... فلمّا انتهى عيسى(ع) إلى البحر، قال: بسم الله بصحة يقين منه، فمشى على ظهـر الماء، فقال الرّجل القصير حين نظر إلى عيسى(ع): جازه بسم الله بصحّة يقين منه، فمشـى على الماء ولحق بعيسى(ع)، فدخله العجب بنفسه... ـ يعني التفت إلى أنّه كما مشى عيسى على الماء وأعطاه الله هذه الكرامة، فإنّه أيضاً قد مشى على الماء وحصل على هذه الكرامة ـ فرمس في الماء، فاستغاث بعيسى فتناوله"[6]، لأنَّ الله سلبه الكرامة عندما سلب من نفسـه التّقوى، وعندما لم يتواضع لله ولعيسى، فإذا أعطاك الله كرامةً، فلا بدَّ من أن تبقى متواضعاً لله الّذي خلقك.
العجب فسادٌ للعقل
وفي الحديث عن عليّ(ع) أنّه قال: "عجب المرء بنفسه أحد حسَّاد عقله"[7]، لأنَّ الحسود يدمِّر نفسه، فإذا أُعجبتَ بنفسك، فإنَّ هذا الإعجاب سوف يدمِّرك ويدمِّر عقلك.. وفي حديثٍ آخر: "رضاك عن نفسك دليلٌ على فساد عقلك"، فإذا رضيت عن نفسك، ولم تتَّهمها، ولم تحاول أن تنقدها وأن تكتشف نقاط ضعفها، فإنّ معنى ذلك أنَّ عقلك ليس عقلاً صحيحاً، لأنه لم يوجِّهك إلى أن تكتشف نقاط ضعفك. وهكذا يقول(ع): "اتَّهموا عقولكم، فإنّه من الثّقة بها يكـون الخطاء"[8]، فلا تثق بعقلك مائةً في المائة، بأن تعتبر أنّك توزّع عقولاً على النّاس ـ كما يقول بعض النّاس ـ فإنَّ معنى ذلك أن يكثر خطؤك، وقيمة العقل أن يحاسب كلّ فكرة طارئة تتَّجه إليك.
ثم يقول عليّ(ع): "إزراء الرّجل على نفسه ـ يعني نقده لنفسه ـ برهان رزانة عقله وعنوان وفور فضله، وإعجاب الرّجل بنفسه، برهان نقصه وعنوان ضعف عقله"[9]. وفي الحديث أيضاً، يقول الصّادق(ع): "من أُعجب بنفسه هلك، ومن أُعجب برأيه هلك، وإنَّ عيـسى بن مريم(ع) قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه. فقيل: يا روح الله، وما الأحمق؟ قال ـ وانتبهوا إلى هذه التّعريفات من روح الله عيسى(ع) ـ : المعجب برأيه ونفسه، الّذي يرى الفضل كلَّه له لا عليه، ويوجب الحقّ كلّه لنفسه، ولا يوجب عليها حقّاً، فذاك الأحمق الّذي لا حيلة في مداواته"[10]، لأنَّ علَّته في تكوين شخصيَّته وفي ذاته.
ومن سلبيّات الإعجاب بالنّفس، أنّه ـ وكما يقول عليّ(ع) ـ "يمنع من الازدياد"[11]، و"صارف عن طلب العلم"[12]، كما يقول الصَّادق(ع)، والَّذي يقول أيضاً: "يدخل رجلان المسجد؛ أحدهما عابد والآخر فاسق، فيخرجان من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق، وذلك أنّه يدخل العابد المسجد وهو مدلّ بعبادته ـ وهو يقول: أنا العابد الذي لا يعبد أحد مثلي، أصـوم الــنّهـار وأقوم اللّيل وأحجّ ـ ويكون فكره في ذلك، ويكون فكرة الفاسق في التندّم على فسقه ـ فيجلس بين يدي الله، فيتذكَّر ذنوبه وما أسلفه من خطايا، ويتذكَّر نقاط ضعفه أمام الله ـ فيستغفر الله من ذنوبه"[13].. ويُنقل عن جابر بن عبد الله أنّه قال: أتيت النبيّ(ص) فدعوت، فقال لي النبيّ: من هذا؟، قلت: أنا. فخرج النبيّ(ص) وهو يقول: أنا.. أنا! كأنّ النّبيّ يريد أن يقول له: لا تؤكِّد ذاتك عند نفسك. وكم تعجبني بعض التّعابير عند بعض المؤمنين عندما يقول: "أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا"! لأنَّ كلمة "أنا" تؤكِّد إحساسك بذاتك وشخصيَّتك وأنانيّتك الّتي تحجزك عن الآخرين..
كيفيَّة مواجهة العجب
أيّها الأحبّة، هذا هو الخلق الَّذي لا يريدنا الله أن نتخلَّق به، لأنّه الخلق الذي يهدم للإنسان عقله، ويفسد له حياته، ويبعده عن إخلاصه لربّه، ويحوّله إلى إنسانٍ يعيش بعيداً عن النّاس، لأنّه يشعر في نفسه بأنَّ هناك مساحةً كبرى تفصله عن النّاس. بعض الناس يتصوَّرون أنهم يملكون الحقَّ كلَّه، ولذلك، فإنَّهم يعتبرون أنفسهم ميزاناً للحقّ وللدّين، فهم الدّين وهم الحقّ والمذهب والسياسة والاجتماع، فإذا خالفهم أحد في نظريّة سياسيّة، قالوا هذا إنسان متخلِّف سياسيّاً، وإذا خالفهم أحد في فهم معيَّن للدّين أو للمذهب، قالوا هذا إنسان مخالف للدّين وللمذهب، لأنّه مخالف لهم، وإذا خالفهم إنسان في رأيٍ اجتماعيّ، قالوا هذا ضدّ المجتمع وضدّ توازنه.
لنحذر من الإعجاب بأنفسنا، وذلك بأن ندرس نقاط ضعفنا، لأنَّ قضيَّة الإنسان أنّه يتحرّك مع النّاس في الحياة بأخلاقه وبنقاط قوّته، ويُحشر الإنسان بأخلاقه يوم القيامة، فأخلاقك تقودك إلى الجنّة أو إلى النّار. لذلك، فلنعمل على أن نعيش حياتنا من أجل أن نجلس مع أنفسنا لنحاسبها ولنحاكمها ولنكتشف نقاط ضعفها ولنجاهدها، أكثر مما نجلس مع النّاس، لأننا إذا عرفنا أنفسنا عرفنا ربّنا، وعرفنا خطّ الاستقامة في ذلك كلّه.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثانية
عباد الله، اتّقوا الله في أنفسكم، وحاولوا أن تحرِّروا أنفسكم من ضغط شهواتكم.. اتّقوا الله، وافهموا أنفسكم جيِّداً حتى لا يخدعكم النَّاس عن أنفسكم، ولا يُبعدكم الشَّيطان عن وعي ما أنتم فيه، فقد ورد عن أحد الأئمَّة(ع): "لا يغرّك النّاس عن نفسك، فإنَّ الأمر يصل إليك دونهم"[14]. وحاولوا أيضاً أن تفهموا ما حولكم مما يدور من أحداث، لأنَّ ذلك هو الَّذي يجعلكم تحدِّدون مسؤوليَّتكم في ما تفعلونه وتتركونه، وحاولوا أن تفهموا من حولكم من النـّاس هنا وهناك، حتى تعرفوا كيف تتعاملون مع العدوّ هنا والصَّديق هناك، وكيف تواجـهون التحدّيات هنا والتحدّيات هناك، فإنَّ الله يبغض الإنسان الّذي لا رأي له ولا موقف ولا موقع له، الَّذي لا يقف أمام المعروف ليأمر به، وأمام المنكر لينهى عنه.
لذلك، لا بدَّ لنا من أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا في كلِّ ما أرادنا الله أن نمارس به المسؤوليَّة، لأنَّ الله تعالى حمَّلنا مسـؤوليَّاتنا في كلِّ ما نعيشه من حياةٍ بقدر ما نملك من طاقة، فـ {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[15]. لذلك، تعـالوا لنعرف كيف نواجه مسـؤوليّاتنا أمام الأحداث التي تحيط بنا، فماذا هناك؟
وعي التّحدّيات الصّهيونيّة
لا يزال العدوّ يتابع عمليَّاته في الاعتداء على المدنيّين، وفي المناطق المحرَّرة، من أجل إعادة الهيبة إلى جنوده بالمزيد من القتل والتَّدمير، مستغلاًّ صمت الرّأي العام الدّوليّ، ولا سيّما الأميركيّ، بفعل التّنسيق الرّسميّ بين أميركا وإسرائيل، كلّ ذلك لإسقاط معنويّات اللّبنانيّين وإرباك السّاحة اللّبنانيّة الدّاخليّة، ما يفرض على الجميع الارتفاع إلى مستوى المرحلة السِّياسيّ والأمنيّ، والوقوف بقوَّة مع المجاهدين وأهلنا الصَّامدين في المنطقة المحتلَّة، كما يفرض على العرب الوقوف مع لبنان الَّذي لا يـزال يدافع ـ بأيدي مجاهديه ـ عن العالم العربي كلِّه، ويفرض على الدَّولة التّنسيق مع المقاومة، لأنَّ القضيّة هي قضيَّة لبنان كلِّه، لا قضيَّة المقاومة فقط.
أمّا على صعيد التّحرّك الأميركيّ، فقد اختارت أميركا أسلوب عودة الزّيارات المكوكيَّة، من خلال زيارة "روس" أوّلاً، ووزيرة خارجيَّتها "أولبرايت" ثانياً، من أجل إخراج إسرائيل من مأزقها السّياسيّ أمام العالم الَّذي جعلها في ما يشبه العزلة السياسيَّة، من خلال الوجه البشع في صورتها الوحشيَّة في العقوبات الجماعيَّة الّتي فرضتها على الشَّعب الفلسطينيّ كلّه، مما لا يتناسب مع أيّ طرحٍ لحقوق الإنسان. وهذا ما أعلنته الإدارة الأميركيَّة من أنَّ هدف زيارة "روس" هو إعادة التَّنسيق الأمني بين السّلطة الفلسطينيَّة وإسرائيل، من أجل المزيد من الضَّغط على الفلســطينيّين، لملاحقة مجاهدي الانتفاضة ونشر الفوضى الأمنيَّة في السَّاحة الفلسطينيّة، لأنَّ المسألة المطروحة أميركيّاً وإسرائيليّاً هي حفظ الأمن الإسرائيلي لا الفلسطيني.
إنَّنا نحذِّر السّلطة الفلسطينيَّة من هذه الخطّة الجديدة التي يُراد لها إسقاط الواقع الفلسطينيّ كلّه، حتى لا يبقى له أيّ أفقٍ للعزّة وللحركة السياسيَّة في المستقبل، ونريد للعرب أن يرتفعوا إلى مستـوى التّحدّي الَّذي لا يواجهه الفلسطينيّون بل الأمّة كلّها. وهنا يكمن السـؤال عما حقّقه الفلسطينيون من اتفاق "أوسلو"، وتتمثّل الحاجة في عودة مسار المواجهة مع العدو إلى عهده السابق من أجل انتفاضة جديدة لتحرير جديد.
ضرورة التَّكامل العربي الإسلاميّ
أمّا على صعيد العلاقات الإيرانيَّة ـ العربيَّة، فإنَّنا ننظر بإيجابيَّة إلى تصريح أمين عام مجلس التَّعاون الخليجي الَّذي قال: "إنَّ إيران لا تشكِّل خطراً على الخليج، وهي دولة تعي جيِّداً أهميّة مصالحها في المنطقة، وهي دولة جوار كبرى، ونحن حريصون على أن نقيم معها أفضل العلاقات المبنيَّة على النيّات الحسنة".. إنّ هذا الكلام يوحي بأنَّ دول الخليج قد بدأت ترفض الخطّة الأميركيَّة في اعتبار إيران خطراً على الخليج لتعقيد علاقاتها مع شعوبه ودوله، ويؤكِّد للعرب جميعاً أنَّ هذه الدَّولة الإسلاميَّة تنفتح على أفضل العلاقات الإيجابيّة معهم من أجل مواجهة الأخطار السياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة التي تخطِّط لها أميركا وإسرائيل ضدّ الأمّة كلّها، ما يفرض المزيد من التنسـيق والاستجابة للدّعوة السـّوريّة في التّكامل العربيّ ـ الإسلاميّ لحماية المنطقة كلِّها من الخطر الصّهيونيّ.
وليس بعيداً عن هذا الخطر، فقد صرَّح رئيس حكومة تركيا الجديد بأنَّ "التحالف التركيّ ـ الإسرائيلي موجَّه ضدّ سوريا وإيران"، وصرّح المدّعي العام التركي بأنَّ "الشَّريعة الإسلاميَّة تشكِّل الآن أكبر خطرٍ في تاريخ تركيا".. إنّنا نجد في هذين التّصريحين مدى الانحراف الَّذي بلغته القوى العسكريَّة والرسميَّة في معاداتها للعرب والمسلمين وللإسلام بالذّات، الأمر الَّذي يفرض على الجميـع الوقوف بوعيٍ وقوّةٍ أمام المخطّطات المستقبليّة التي يندفع إليها النّظام التركيّ في حلفه العدواني مع إسرائيل ضدّ العالمين العربيّ والإسلاميّ، بإشراف أميركا الّتي تعمل للضَّغط على سوريا وإيران لتتنازلا عن موقفهما الصّامد ضدّ الخطّة الأميركيّة ـ الصّهيونية الّتي تستهدف السّيطرة على المنطقة كلّها.
لبنان: معالجة انفعاليّة للقضايا
أمَّا على المستوى الدّاخليّ، فإنّنا نريد للدّولة أن تتصرَّف بمنتهى الحكمة في شعارها في تأكيد السـّلم الأهليّ والنّظام العام، وذلك بالتحرّك لتحقيق المطالب الشّعبيّة الحيويّة، والتّخطيط لسياسة اقتصاديّة يجد فيها المواطنون أساس الثِّقة بدولتهم بأنها جادَّة في حلّ المشكلات المعيشيَّة.
وإنّنا نلاحظ أنَّ الطَّريقة الَّتي تعالج الدّولة بها الأمور هي طريقة انفعاليَّة في التّصريحات التي تتحدَّث عن طائفةٍ معيّنةٍ بأنها الطّائفة المثيرة للمشاكل في كلِّ مواقعها، مما نأمل أن يكون "فلتة" لسان سريعة، لا خطّة جديدة ضد هذه الطائفة التي تبذل الدّماء في سبيل الوطن كلّه، والتي تعمل على رفع مستوى لبنان في الاغتراب وفي الدّاخل والخارج؛ هذه الطّائفة التي دفعت الكثير من أثمان الحرب، فهي الأكثر أيتاماً وشهداء، هذه الطّائفة التي لم تقدِّم أية طائفة في لبنان ـ مع احترامنا لكلِّ الطوائف ـ من جهدها وأيتامها وشهدائها مثل ما قدَّمت هذه الطّائفة.. إنّكم تقولون إنها مثيرة للمشاكل.. نعم، للمشاكل في وجه الاحتلال الصّهيونيّ والاستكبار العالميّ والظّلم الدّاخليّ، أمّا بالنّسبة إلى مواطنيها اللبنانيّين، فهي القلب المفتوح عليهم كلّهم، ويدها ممدودة ليعيش الجميع في وحدة وطنيَّة..
وإنَّنا نلاحظ الانفعاليَّة من خلال الحديث عن ملاحقاتٍ للّذين يسعون لإثارة الجوّ العام من أجل تحقيق الحاجات الشعبيَّة والمطلبيَّة الملحّة، أو في الإيحاء بتحريك الجيش في مناطق معيّنة، في وقتٍ لا نريد للجيش أن يُورَّط في التَّعقيدات الداخليَّة والحرتقات السياسيَّة، بل نريد الحفاظ عليه كقوّة أساسيّة في مواجهة الاحتلال وتحرير البلد.
إنَّ الحفاظ على السِّلم الأهليّ هو أمانة في عنق الجميع، ولا سيَّما في المرحلة الحاضرة، ونؤكِّد أن تكون للشَّعب دولة القانون، ولكنَّنا نعتقد أنَّ بعض الأساليب المتَّبعة لا تساعد على ذلك، مكرّرين الدَّعوة للدّولة بأن تتصرَّف بالحكمة لا بالانفعال، ولا سيَّما في هذه الظروف الصَّعبة التي يجتازها البلد والمنطقة كلّها، حيث نجد إسرائيل تأخذ كلَّ حريّتها في قتل المواطنين وتشريدهم بشكلٍ وحشيّ، الأمر الّذي يفرض على الدّولة والشّعب أن يقفا صفّاً واحداً أمام التحدّيات الكبرى.
[1] (فاطر: 8).
[2] (البقرة: 206).
[3] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 109.
[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 244.
[5] ميزان الحكمة، محمد الريهشري، ج 3، ص 1814.
[6] الكافي، ج 2، ص 306.
[7] نهج البلاغة، ج 4، ص 49.
[8] ميزان الحكمة، ج 2، ص 1024.
[9] المصدر نفسه، ج 3، ص 1815.
[10] بحار الأنوار، ج 69، ص 320.
[11] نهج البلاغة، ج 4، ص 41.
[12] بحار الأنوار، ج 69، ص 199.
[13] المصدر نفسه، ج 69، ص 316.
[14] المصدر نفسه، ج 75، ص 184.
[15] (البقرة: 286).