العُجْبُ سلوكٌ ينافي الإيمانَ ويُحبِطُ الأعمال

العُجْبُ سلوكٌ ينافي الإيمانَ ويُحبِطُ الأعمال

يقول الله تعالى في كتابه المجيد : {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}[فاطر: 8].
ويقول سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف: 103 - 104].
وهكذا يقول الله سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ}
[النجم: 32]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}[النّساء: 49].
نظرةُ القرآن إلى العُجْب
في هذه الآيات وفي غيرها، حديث عن مسألة تتَّصل بنفس الإنسان من الداخل، فالله يريد من الإنسان دائماً أن يزكّي نفسه، أن يربّيها فيما يفكّر فيه، وفيما يتحسَّسه، أن ينظر إلى نفسه نظرة واقعيّة، فلا تتضخَّم نفسه عنده من دون ضخامة حقيقيّة. وهذا ما يعبَّر عنه في الأخلاق بالعُجب؛ إعجاب الإنسان بنفسه، بحيث يستغرق فيما لديه من عناصر ومن فضائل، ويحاول أن يضخِّمها، بحيث تكبر نفسه عنده، ويصغر غيره أمامه.
وهذا الّذي يعبَّر عنه بالأنانيَّة، فكلمة "أنا" هي الَّتي تعبِّر عن الإنسان الّذي يختصر العالم في ذاته، ويختصر الإسلام في ذاته، ويختصر الحقيقة في ذاته، يقول: أنا الحقيقة، أنا الإسلام، أنا الأمَّة، أنا الّذي أعطي النَّاس عقولاً، أنا الّذي أعطي الناس علماً، أنا الّذي أعطي الناس الحقيقة، الحقيقة عندي وليست عند غيري... فالأنانيّون هم هؤلاء الّذين يفكّرون بهذه الطّريقة.
يروى أنَّ شخصاً من صحابة النَّبيّ (ص) جاء إلى النَّبيّ، وهو جابر بن عبد الله (رض)، يقول: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ (ص)، فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقال: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَنَا، قال: أَنَا أَنَا – مستنكراً هذه الكلمة - كَأَنَّهُ كَرِهَهُ"، يعني أن تتحدَّث عن نفسك في استغراقك في ذاتك.
هذا النَّوع من الإعجاب؛ إعجاب الإنسان بنفسه، عالجه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، وهو الإنسان الّذي يرى أنَّ كلَّ ما يصدر عنه هو من الخير والفضائل، حتى إنّ السوء إذا صدر عنه اعتبره حسناً. ولذلك، فإنَّ بعض الناس ليسوا مستعدّين أن يعترفوا بما يتمثَّل فيهم من الصفات السيّئة، أو بما يصدر عنهم من الأعمال السيّئة.
وهكذا نلتقي بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، يعني هؤلاء الّذي كانت خطواتهم في أجواء الضَّلال، وكانت أفكارهم في أفكار الضَّلال، ولكنَّهم يتصوَّرون الضَّلال هدى، ويتصوّرون الباطل حقّاً. وهكذا أخضعوا حياتهم لتصوّراتهم الباطلة الَّتي يخيَّل إليهم أنَّها الحقّ، ولخطّهم الضّالّ الّذي يخيَّل إليهم أنَّه الهدى، فاكتشفوا في نهاية المطاف، وقد وقفوا بين يدي الله، أنَّ الخطَّ الّذي تخيَّلوه مستقيماً كان منحرفاً، وأنَّ الباطل الّذي كانوا يعتقدون أنّه الحقّ هو باطل {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
ولذلك أراد الله من الإنسان أن يتّهم نفسه، وأن يدرس نفسه، وأن يعرف نفسه، ليميّز بين الصفات السلبيَّة والإيجابيَّة فيها، فلا يزكّي نفسه بالمطلق {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}.
أحاديثُ عن العُجْبِ
وهكذا نلتقي في هذا الاتجاه بأكثر من حديث من الأحاديث المرويَّة عن الأئمَّة (ع)، فنقرأ في "نهج البلاغة"، في عهد الإمام عليّ (ع) إلى عامله على مصر، مالك الأشتر، وهي أوَّل وثيقة إدارية في الإسلام ينظِّم فيها الإمام (ع) للحاكمين كيف يديرون شؤون الأمَّة. يقول (ع): "وَإِيَّاك وَالإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الإِطْرَاءِ - يعني إذا أعجبت بنفسك، ووثقت بكلّ ما فيها، ولم تتّهمها في شيء، ولم تحاسبها على شيء - فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لَيمْحَقَ مَا يَكوُنُ مِنْ إِحْسَانِ الُمحْسِنِينَ"، فإنَّ الشَّيطان يدخل إلى نفسك من خلال اغترارك بنفسك وإعجابك بها وعدم محاسبتك لها ودراستها.
في "نهج البلاغة"، يمثِّل الإمام عليّ (ع) المعجَب بنفسِه كالإنسان الّذي يعيش وحيداً ليس معه أحد. يقول (ع): "وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ - لأنَّ الإنسان المعجب بنفسه لا يرى أحداً معه ولا أفضل منه، فهذا لا قيمة له عنده، وهذا لا يمكن أن يصل إلى مستواه، وذاك لا مكانة له... فيرى كلّ النّاس أصفاراً عنده وهو الرَّقم واحد. إنَّ الإنسان الّذي يستأنس بالحياة هو الّذي يعيش هو وغيره؛ فهو عنده فضائل معيَّنة، وصاحبه عنده فضائل معيَّنة، وجاره عنده فضائل، الّذي يعيش مع النَّاس على أساس أن يأخذ منهم ويعطيهم، أمَّا الإنسان المعجب بنفسه، فلا يأخذ من أحد ولا يعطي أحداً، لذلك يعيش وحيداً - ولَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، ولَا كَرَمَ كَالتَّقْوَى، ولَا قَرِينَ كَحُسْنَ الْخُلْقِ، ولَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ، ولَا قَائِدَ كَالتَّوْفِيقِ، ولَا تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ولَا رِبْحَ كَالثَّوَابِ، ولَا وَرَعَ كالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ، ولَا زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي الْحَرَامِ، ولَا عِلْمَ كَالتَّفَكُّرِ، ولَا عِبَادَةَ كَأَدَاءِ الْفَرائِضِ".
وينقل في "الكافي" في أحاديث الإمام الصَّادق (ع) عن نبيّ الله عيسى (ع): "إِنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ كَانَ مِنْ شَرَائِعِه السَّيْحُ فِي الْبِلَادِ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ سَيْحِه ومَعَه رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِه قَصِيرٌ، وكَانَ كَثِيرَ اللُّزُومِ لِعِيسَى (ع)، فَلَمَّا انْتَهَى عِيسَى إِلَى الْبَحْرِ قال: بِسْمِ اللَّه، بِصِحَّةِ يَقِينٍ مِنْه، فَمَشَى عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، فَقَالَ الرَّجُلُ الْقَصِيرُ حِينَ نَظَرَ إِلَى عِيسَى (ع) جَازَه: بِسْمِ اللَّه، بِصِحَّةِ يَقِينٍ مِنْه، فَمَشَى عَلَى الْمَاءِ، ولَحِقَ بِعِيسَى (ع)، فَدَخَلَه الْعُجْبُ بِنَفْسِه، فَقَالَ: هَذَا عِيسَى رُوحُ اللَّه يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وأَنَا أَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَمَا فَضْلُه عَلَيَّ؟! قال: فَرُمِسَ فِي الْمَاءِ - لمجرَّد أن خطرت الفكرة في ذهنه غرق في الماء - فَاسْتَغَاثَ بِعِيسَى، فَتَنَاوَلَه مِنَ الْمَاءِ، فَأَخْرَجَه ثُمَّ قَالَ لَه: مَا قُلْتَ يَا قَصِيرُ؟ قال: قُلْتُ هَذَا رُوحُ اللَّه يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وأَنَا أَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ عُجْبٌ، فَقَالَ لَه عِيسَى: لَقَدْ وَضَعْتَ نَفْسَكَ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الّذي وَضَعَكَ اللَّه فِيه، فَمَقَتَكَ اللَّه عَلَى مَا قُلْتَ، فَتُبْ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ مِمَّا قُلْتَ. قَالَ فَتَابَ الرَّجُلُ، وعَادَ إِلَى مَرْتَبَتِه الَّتِي وَضَعَه اللَّه فِيهَا، فَاتَّقُوا اللَّه، ولَا يَحْسُدَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً".
وهكذا جاء عن الإمام الصَّادق (ع): "آفَةُ الدِّينِ: الحَسَدُ، والعُجْبُ، والفَخْرُ".
ويقول الإمام الصّادق (ع): "مَن أُعْجِبَ بِنَفسِهِ هَلَكَ، ومَن أُعْجِبَ بِرَأيِهِ هَلَكَ، وإنَّ عيسَى بنَ مَريَمَ (ع) قالَ: داوَيْتُ المَرضى فَشَفَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ، وأبرَأْتُ الأَكْمَهَ وَالأَبرَصَ بِإِذنِ اللّهِ، وعالَجْتُ المَوتى فَأَحيَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ، وعالَجْتُ الأَحمَقَ فَلَم أقدِر على إصلاحِهِ. فَقيلَ: يا روحَ اللّهِ، ومَا الأَحمَقُ؟ قالَ: المُعجَبُ بِرَأيِهِ ونَفسِهِ – يعني من يرى رأيه هو الرّأي ولا يقبل لأحد أن يناقشه فيه. وهذا يحصل في البيت بين الزَّوج والزوجة مثلاً، فقد تكون الزّوجة مثقّفة وذكيّة، وعندها رأي فيما يتعلّق بالبيت أو ببعض القضايا، فتبدي ملاحظات على رأي ما، ولكنّ الزّوج يرفض ويقول من أنت ليكون عندك رأي؟ وهل تتكلَّم المرأة مع الرَّجل هكذا؟ وقد يكون ابنه مثقّفاً ومتعلّماً، فيقول له ومن أنت، أنت ابن البارحة وتريد أن تناقشني، أنا رأيي هو الرأي، أنا الّذي أوزع عقلاً على الناس كلّها... أليس هناك من يتكلّم بهذه الطّريقة؟ - الّذي يَرَى الفَضلَ كُلَّهُ لَهُ لا عَلَيهِ، ويوجِبُ الحَقَّ كُلَّهُ لِنَفسِهِ ولا يوجِبُ عَلَيها حَقًّا، فَذاكَ الأَحمَقُ الّذي لا حيلَةَ في مُداواتِهِ"، لا يستطيع أحد أن يشفيه أبداً.
وهكذا نجد في أحاديث النّبيّ (ص): "ثلاثٌ مُهْلِكَاتٌ؛ شُحٌّ مُطَاعٌ – والشّحّ هو البخل، بمعنى إذا أطاع الإنسان غريزة البخل في نفسه - وهَوًى مُتَّبَعٌ – أن يتّبع الإنسان هواه - وإِعْجَابُ المَرْءِ بِنفسِهِ".
وورد عن عليّ (ع): "إزراءُ الرَّجُلِ عَلى نَفسِهِ – محاسبته لنفسه واتّهامه لها - بُرهانُ رَزانَةِ عَقلِهِ، وعُنوانُ وُفورِ فَضلِهِ، إعجابُ المَرءِ بِنَفسِهِ، بُرهانُ نَقصِهِ، وعُنوانُ ضَعفِ عَقلِهِ".
وهكذا يقول الإمام عليّ (ع): "عُجْبُ المرْءِ بِنفْسِهِ، أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ". ماذا يفعل الحاسد؟ يحاول أن يبغي عليك، وأن ينتقص منك. فالإمام (ع) يقول إنَّ الإنسان الّذي يعجب بنفسه يحسد عقله، لأنّه عندما يعجب بنفسه يجمِّد عقله، لأنّه لا يفكّر، ولا يحاول أن يدرس الأمور دراسة عميقة، ولا يحاول أن يقارن بين رأيه وآراء الآخرين، ولا أن يقول لنفسه كما أنَّ عندي عقلاً فعند الآخرين عقل أيضاً، وكما تعلَّمت فغيري تعلّم أيضاً، لست أنا وحدي من يملك الحقيقة، بل يقول أنا الّذي أعطي الحقّ وكلّ الناس باطل، لا أحد يصل إليّ، أنا الّذي أعرف العلم كلَّه، وهكذا... هذا إنسانٌ يجمِّد عقله، لأنَّ العقل إنما يتحرَّك عندما تضع الرأي الآخر أمام رأيك وتقارن، وعندما تستمع إلى الآخرين وإلى نفسك، وأن تميّز نتيجة حوار ونتيجة تأمّل وتفكير بين ما أنت فيه والآخر فيه، ليس هناك إنسان في الدّنيا يحمل كلّ العلم وكلّ العقل، كلّ واحد عنده جانب من العقل وجانب من العلم، وقد يكون ما عند غيرك ليس عندك، وما عندك قد لا يكون عند غيرك. لذلك، على الإنسان أن يحترم عقول الناس ومواقعهم كما يحترم نفسه، فيحاول أن لا يستغرق في نفسه ليرى العالم كلّه في داخلها.
ويقول عليّ (ع): "مَن لا يَعرِفُ لِأحَدٍ الفَضلَ، فهُوَ المُعجَبُ بِرَأيِهِ".
ويقول عليّ (ع): "الإِعْجاب يمنع من الازْدِياد"، فإذا كنت راضياً عن نفسك ومعجباً بها، فلن تجد أنَّك تحتاج إلى أن تتعلَّم.. يقال لك تعلّم، تقول أنا أعلّم النّاس، نمِّ عقلك، تقول لا أحتاج أن أنمّي عقلي. لذلك الإنسان المعجب بنفسه ليس مستعداً أن يسمع من غيره أو أن يتعلّم أو أن يفكّر، لأنَّ المسألة عنده هي أنّه وصل إلى حدّ الكمال كلّه في هذ المجال.
كيفيّةُ معالجةِ العُجْب
وقد ورد في في كيفيّة معالجة الإنسان لهذا العجب، يقول عليّ (ع) فيما يروى عنه: "إذا زادَ عُجْبُكَ بِما أنْتَ فيهِ مِنْ سُلْطانِكَ، فَحَدَثَتْ لَكَ أُبَّهَةٌ أو مَخيلَةٌ – عندما ترى نفسك صارت عظيمة وتعجب بنفسك، كيف تعالجها؟ - فَانْظُرْ إلى عِظَمِ مُلْكِ اللّهِ وَقُدْرَتِهِ، مِمّا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإنَّ ذلِكَ يُلَيِّنُ مِنْ جَماحِكَ، ويَكُفُّ عَنْ غَرْبِكَ، ويَفيءُ إلَيْكَ بِما عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ".
وهكذا يقول الإمام الباقر (ع): "سُدَّ سَبيلَ العُجْبِ بِمَعرِفةِ النَّفسِ"، إذا أردت أن تسدّ طريق العجب إلى نفسك، فعليك أن تعمل على أن تعرف نفسك بما فيها من سلبيّات وإيجابيّات.
وقد ورد أيضاً عن الإمام عليّ (ع) للّذين يعجبون بأنفسهم ويعيشون الخيلاء: "ما لابنِ آدمَ والعُجبَ؟! وأوَّلُهُ نُطفَةٌ مَذِرَةٌ، وآخِرُهُ جيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ بَينَ ذلكَ يَحمِلُ العَذِرَةَ؟!"، ألا يوجد في داخل أجسادنا مستودع للعذرة ونحاول أن نتخلّص منها ونخرجها من أجسادنا يوميّاً؟ فالإمام (ع) يقول أيّ فخر للإنسان إذا كانت هذه بدايته وهذه نهايته؟! أمّا الّذي يجعلك فخوراً، فهو تقوى الله سبحانه وتعالى.
وننطلق مع أحاديث أهل البيت (ع). يقول عن أبي الحسن الكاظم (ع): "قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْعُجْبِ الّذي يُفْسِدُ الْعَمَلَ - هذا الّذي إذا قام بعمل أعجب به، فهو يعجب بصلاته وحجّه وعبادته - فَقَالَ الْعُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْهَا أَنْ يُزَيَّنَ لِلْعَبْدِ سُوءُ عَمَلِه فَيَرَاه حَسَناً، فَيُعْجِبَه، ويَحْسَبَ أَنَّه يُحْسِنُ صُنْعاً، ومِنْهَا أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ، فَيَمُنَّ عَلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ ولِلَّه عَلَيْه فِيه الْمَنُّ"، يقول المعجب بنفسه ماذا يريد الله منّي، فأنا أصلّي له وأصوم وأحجّ، فلماذا لا يعطيني المال والصّحة وأنا أعبده؟ لماذا كذا؟ أليس هناك من يفعل ذلك؟ الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله (ص): {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلَٰمَكُم ۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}[الحجرات: 17].
وفي جانب آخر، ورد عن الإمام الصَّادق (ع): "إنَّ الرَّجُلَ لَيُذنِبُ الذَّنبَ فيَندَمُ عَلَيهِ، ويَعمَلُ العَمَلَ فَيَسُرُّهُ ذلِكَ، فَيتَراخى عَن حالِه تِلكَ، فَلأنْ يَكونَ عَلى حالِهِ تِلكَ خَيرٌ لَهُ مِمّا دَخَلَ فيهِ".
فالإمام (ع) يقول إنَّ هذا النَّدم، وهذا الاتّهام للنَّفس، وهذه المواجهة لها على الذَّنب، هي أكثر فضلاً في داخل الإنسان مما لو عمل عملاً وأعجب بعمله ذاك.
عن أبي عبد الله الصّادق (ع) قال: "قَالَ أَتَى عَالِمٌ عَابِداً، فَقَالَ لَه: كَيْفَ صَلَاتُكَ؟ فَقال: مِثْلِي يُسْأَلُ عَنْ صَلَاتِه، وأَنَا أَعْبُدُ اللَّه مُنْذُ كَذَا وكَذَا؟! قال: فَكَيْفَ بُكَاؤُكَ؟!- من خشية الله - قال: أَبْكِي حَتَّى تَجْرِيَ دُمُوعِي، فَقَالَ لَه الْعَالِمُ: فَإِنَّ ضَحِكَكَ وأَنْتَ خَائِفٌ، أَفْضَلُ مِنْ بُكَائِكَ وأَنْتَ مُدِلٌّ - معجب بنفسك - إِنَّ الْمُدِلَّ لَا يَصْعَدُ مِنْ عَمَلِه شَيْءٌ"، يبقى عمله عنده.
لذلك، قد يتعب الإنسان نفسه بالعمل، ولكن يبقى عنده ولا يصعد إلى الله. فلا بدَّ للإنسان أن ينفتح على الله بالإحساس بالتَّقصير أمامه سبحانه.
وورد عن الإمام الصَّادق (ع): "يَدخُلُ رَجُلانِ المَسجِدَ؛ أحَدُهُما عابِدٌ، والآخَرُ فاسِقٌ، فيَخرُجانِ مِنَ المَسجِدِ والفاسِقُ صِدِّيقٌ، والعابِدُ فاسِقٌ؛ وذلِكَ أنَّهُ يَدخُلُ العابِدُ المَسجِدَ وهُوَ مُدِلٌّ بِعِبادتِهِ وفِكرَتُهُ في ذلِكَ، ويَكونُ فِكرَةُ الفاسِقِ في التَّنَدُّمِ عَلى فِسقِهِ، فيَستَغفِرُ اللَّهَ مِن ذُنوبِهِ".
فندم الفاسق على ذنبه، واستغفاره، ورؤيته لنفسه في حجمها في عصيان الله، جعلته صدّيقاً، فتقبَّله الله بقبول حسن، وإعجاب العابد بنفسه أسقطه.
وهكذا ورد عندنا في الحديث عن أبي عبدالله الصَّادق (ع)، قال: "بَيْنَمَا مُوسَى جَالِسٌ فِي بَعْضِ مَجَالِسِهِ، إِذْ أَقْبَلَ إِبْلِيسُ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ يَتَلَوَّنُ فِيهِ أَلْوَانًا – والبرنس هو كلّ ثوب رأسه منه ملتصق به، كالجبّة أو القلنسوة الطّويلة - فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ، خَلَعَ الْبُرْنُسَ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُوسَى. قَالَ لَهُ مُوسَى: مَنْ أَنْتَ؟ قالَ: إِبْلِيسُ. قال: فَلا حَيَّاكَ اللَّهُ، مَا جَاءَ بِكَ؟ قال: جِئْتُ لأُسَلِّمَ عَلَيْكَ لِمَنْزِلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَمَكَانَتِكَ مِنْهُ. قال: مَاذَا الَّذي رَأَيْتُ عَلَيْكَ؟ قال: بِهِ أَخْتَطِفُ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ. قالَ: فماذا إذا صَنَعَهُ الإِنْسَانُ اسْتَحْوَذْتَ عَلَيْهِ؟ – ما نقطة الضّعف القويّة عند ابن آدم، بحيث عندما يذنب، تستطيع أن تمسكه بها، وأن تأخذه من أمامه وخلفه ويمينه وشماله؟ - قَالَ: إِذَا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ".
قَالَ رسول الله (ص): "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِدَاوُدَ (ع): يَا دَاوُدُ، بَشِّرِ الْمُذْنِبِينَ، وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ. قَالَ: كيفَ أُبَشِّرُ المذنبين وَأُنْذِرُ الصّدِّيقينَ؟ قَالَ: يَا دَاودُ، بشِّرِ المذنبينَ أَنِّي أَقْبَلُ التَّوبةَ وَأَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ، وَأَنْذِرِ الصّدّيقينَ أَلَّا يُعْجَبُوا بِأَعْمَالِهم، فَإنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصبُهُ لِلْحِسَابِ إلَّا هَلكَ"، فالله سبحانه يقول إنَّ حساباتي دقيقة مع النّاس، وكلّ من أحاسبه، من الصّعب أن ينجو، لولا رحمتي في هذا المجال.
محاسبةُ النَّفسِ وتزكيتُها
أيُّها الأحبَّة، هذه هي الخصلة الشّرّيرة الَّتي تنزل عقل الإنسان، وتفسد قلبه، وتنحرف به عن الحطّ، وتعزله عن النّاس، وتبعده عن الحقّ. وهذه من الأخلاق الّتي نبتلى بها كثيراً، وهي الّتي تقود الإنسان إلى التكبّر والحسد والفخر وما إلى ذلك.
إنَّ الله يريدنا أن نعمل على أن نزكّي أنفسنا، وأن نبتعد عن العجب بها، حتَّى نستطيع أن نحصل على خير الدنيا والآخرة، أن نبقى نحاسب أنفسنا، وأن نعتبر أنَّ النَّفس أمَّارة بالسوء، إلَّا ما رحم ربّنا.
                                                    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                        الخطبة الثّانية

عباد الله، اتَّقوا الله في أنفسكم، وحاولوا أن تربّوها على الإيمان والتقوى والعمل الصَّالح، وأن يفكّر كلّ واحد منّا في نفسه، بأن يبعدها عن كلّ الأمراض الداخليَّة، كما يبعدها عن الأمراض الخارجيَّة، لأنَّ الإنسان قد يهلك جسدياً من خلال مرض مستعص، ولكنَّه قد يهلك روحياً من خلال بعض الأمراض التي تصيب أخلاقه وإيمانه وسلوكه النفسي في الحياة. لذلك، على كلّ واحد منَّا أن يشغل بنفسه، ليرصد نفسه في كلِّ ما تتطوَّر فيه، ليعرف هذا التطوّر في داخل نفسه هل هو تطوّر إلى الأعلى أو أنّه انحدارٌ إلى الأسفل.. أن يعمل دائماً على أن يدرس كلَّ ما يدخل في نفسه مما يقرأ ومما يسمع ومما يشاهد ومما يعاشر ومما يتحسَّس، لأنَّ الكثير مما يدخل إلى أنفسنا في حركة حياتنا، قد يكون تماماً كالميكروب الّذي لا يُرَى ولا يَحسّ الإنسان به إلَّا بعد أن يتَّخذ له في داخل نفسه أو جسده المنطقة الَّتي تساعده على النموّ، لأنَّ نفوسنا، أيُّها الأحبَّة، هي الَّتي نقف فيها بين يدي الله تعالى، فإذا أصلحناها في الدنيا صلح موقفنا في الآخرة، وإذا لم نصلحها في الدنيا، فإننا سوف نهلك في الآخرة، سواء بالنّسبة إلى أنفسنا أو أهلينا {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الّذينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزّمر: 15].
وهكذا يريدنا الله سبحانه وتعالى أن ننطلق في داخل أنفسنا، لنجعلها قائمة على الحقّ في كلّ شيء نفكّر فيه ونتعاطف فيه، ونقف فيه تأييداً أو رفضاً، وأن نبتعد عن الباطل، أن نربّي أنفسنا على العدل؛ أن نعدل مع ربنا ومع أنفسنا، فلا نظلم أنفسنا، وأن نعدل مع النَّاس كافّة، وأن نكون مع العادلين ولا نكون مع الظَّالمين، سواء كان العادلون من الأفراد أو الجماعات أو المحاور الدوليَّة وما إلى ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان واعياً لكلّ الأوضاع التي تحيط به، والّتي تهجم عليه وتتحدَّاه في نفسه وأمَّته، ليكون واعياً لنفسه وواقعه وأمّته. وفي ضوء هذا، نريد أن ندخل في كلِّ ما يهمّنا من أمور المسلمين في هذا الموقف.
أمريكا تجمّد مبادرتها
لا جديد في فلسطين، فأمريكا تجمِّد مبادرتها ولا تعلن فشلها بسبب إسرائيل، حتَّى لا تحرجها وتدينها سياسياً، ونعرف أنَّ مبادرتها الَّتي لم تستجب لها إسرائيل، هي دون ما كان الفلسطينيّون يريدون، أو ما كانوا يطمحون إليه في اتّفاق أوسلو، ومع ذلك، لم تقبل إسرائيل بذلك، وخضعت أمريكا لإسرائيل، ولذلك قالت للفلسطينيّين: فاوضوا الإسرائيليّين، ونحن لسنا مستعدّين لأن نعلن فشل مبادرتنا، أو أنّ إسرائيل هي سبب الفشل، لأنّنا لا نريد أن نسيء إلى إسرائيل بأيّ سوء، والفلسطينيون في مفاوضاتهم مع العدوّ يعيشون في المتاهات السياسية والأمنية تحت تأثير الضغط الأمريكيّ، وهم يتحركون دائماً مع دولة عربية أو غير عربية، ويطلبون منهم أن يقنعوا أمريكا بأن تعلن مبادرتها، أقنعوا لنا إسرائيل لتقبل بكذا وكذا، وليس هناك جواب، والعرب ولجنة القدس لا يحركون ساكناً في الواقع، ويكتفون بالتَّصريحات والاحتجاجات، وإسرائيل توسِّع مستوطناتها وتمتدُّ في مصادرة الأرض. والسّؤال: ماذا بعد ذلك؟ هل نردِّد مع الواقع العربي والإسلامي بالنّسبة إلى فلسطين قول الشَّاعر:
                           مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه                 ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
تهديدٌ أمريكيٌّ لإيران
وفي موازاة ذلك، لا تزال إسرائيل تهدِّد إيران، وتقول إنَّها تملك الرّدود المناسبة على التهديدات، والدول الشرق أوسطية تعرف ذلك - هكذا يقول نتنياهو - وأنَّها - إسرائيل - تتابع عن كثب تطوير الأسلحة الإيرانيَّة، وتتحدَّث بعض الصحف عن اجتماع طارئ لوزراء الحلف الأطلسي لبحث خطورة التسلّح الإيراني، وتشير إلى تعاون استخباراتي بين بريطانيا وإسرائيل، لمواجهة تحقّق ما يسمّونه الحلم الإيراني المزعج.
إنَّ هذه الأجواء توحي بأنَّ هذا التطوّر الدفاعي في إيران بدأ يثير القلق الكبير لدى العدوّ والدول المؤيّدة لتفوّقه النَّوعي في المنطقة، حتى تتوازن القوَّة العسكريَّة لدى العدوّ مع القوَّة العدديّة لدى العرب والمسلمين، من أجل أن يبقى في المركز العسكريّ الأوَّل في الشَّرق الأوسط.
ومن اللافت أنَّه في الوقت الّذي يتمّ تسليط الضَّوء الإعلامي على الصّاروخ الإيرانيّ الدفاعيّ، نلاحظ أنَّ هناك صمتاً عالمياً مطبقاً على الصَّاروخ الإسرائيلي الجديد كروز الّذي يجرّبه العدوّ باللَّحم اللّبناني الحيّ، حيث إنَّهم يقولون إنَّهم يجرّبونه في جنوب لبنان عندما يقصفون المدنيّين والنَّاس، وإنَّ هذا القصف يمثّل تجربة للسِّلاح، ليدرس العدوّ من خلال أهل الخبرة العسكريّين، تأثير هذا السّلاح كم يقتل ويدمّر، وما إلى ذلك، وليس هناك من يتحدَّث عن هذا، حيث سقط أكثر من شهيد في تجربة الموت هذه، وأمام أعين القوات الدوليَّة ولجنة المراقبة. وهكذا يتابع العدوّ في كلّ يوم عدوانه على المدنيّين، على السيَّارات المدنيّة، وعلى البيوت، وعلى النَّاس عندما يتحركون هنا وهناك، وأمريكا ليس عندها خبر، وأوروبَّا ليس عندها خبر، ولا أحد عنده خبر أنَّ هذه الصَّواريخ تقتل أطفالاً ونساءً وشيوخاً في بلد آمن، أمَّا أن تمتلك إيران صاروخاً تدافع به عن نفسها، فهذا غير مسموح به وغير مقبول.
إنَّ على المؤتمر الإسلامي الوقوف مع إيران في هذا التحدّي الاستكباري، لأنها ليست وحدها المستهدفة في الضغوط السياسيَّة ردّاً على إنتاجها للصَّاروخ الدّفاعي، بل إنَّ الدول العربية والإسلامية هي المستهدفة من قبل إسرائيل والاستكبار الغربي، حتى لا تكون لها فرصة الدّفاع عن نفسها في أيّ تحرك إسرائيلي عدواني ضدَّها في المستقبل، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بإيران وسوريا، وبما يتَّصل بالعدوان المستمرّ على الشَّعب اللّبناني.
إنّنا نعتقد أنَّ هذا التحدّي الكبير للجمهوريَّة الإسلاميّة في إيران، يفرض على الشعب الإيراني المزيد من الوحدة الداخليَّة في هذه المرحلة، لأنَّ الأعداء يحاولون الدخول إلى الواقع الدَّاخلي من أيّ ثغرة جديدة، من خلال طريقة إدارة الصّراع بين التيَّارات المختلفة.
الرّئاسة.. والانتخاب من الشّعب
أمَّا على المستوى اللّبناني، فإنّنا نخشى أن يكون السّجال الداخلي المستمرّ بين أقطاب الحكم فيما يتنازعون فيه وفيما يختلفون عليه، أن يكون وسيلة من وسائل إشغال النَّاس عن قضاياهم المعيشيَّة، وتمييع المطالب الحيويَّة في الجانب الاقتصادي والسياسي، وربما كانت المسألة هي تأجيل حسم الأمور إلى العهد المقبل الّذي لن يكون في رأينا بأفضل من هذا العهد، في سيطرة الخلافات الصَّغيرة على القضايا الكبيرة، واستغراق الواقع في الدوَّامة السياسيَّة والمشاكل الاقتصاديَّة والتحديات الأمنيَّة في نطاق الاحتلال.. يذهب رئيس، ويأتي رئيس، ويبقى البرنامج نفسه، والذهنيَّة ذاتها.
إنَّ الوضع الاقتصادي يتحرَّك في ضباب كثيف يحجب وضوح الرؤية عن المواطنين، وإنَّ الاستحقاق الرئاسي لا ينطلق من الصَّراحة في البرامج الواضحة للمسترئسين، الأمر الّذي يشير إلى أنَّ القضيَّة عند هؤلاء ليست قضيَّة الشّعب اللبناني في اختيار الرَّئيس، بل قضيَّة الوحي الخارجي من هنا وهناك، من دون أن يكون للشَّعب أيّ دور في الموضوع، فلا ضرورة لأن يتحدَّث المسترئسون معه في برنامجهم السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي والأمني، لأنَّ المطلوب، كما يقولون، هو أن يقدِّموا حساباتهم إلى الآخرين لا إلى الشَّعب اللبنانيّ.
إنَّنا نسأل: هل حان الدَّور لأن يطالب اللّبنانيّون بالاستفتاء الشعبي الشامل في مسألة انتخاب الرَّئيس، لأنَّ ذلك قد يكون الفرصة الوحيدة لمجيء رئيسٍ من داخل الشَّعب، يتحسَّس آلام الشَّعب، ويثق به الشَّعب، لأنَّ طريقة النوَّاب في كثيرٍ من القرارات، لا تشجِّع على الاطمئنان للمستقبل في الأصوات الَّتي تعارض بشدَّة أوَّلاً ثمَّ تمنح الثقة، أو تصدر قراراً مضادّاً في نهاية المطاف.. يتكلَّمون كثيراً، حتى لتشعر بأنهم يريدون أن يسقطوا كلَّ هؤلاء، ولكنَّهم بعد الكلام الطَّويل العريض، يعطون الثّقة من دون أيّ كلام أو معنى.
إنَّ لبنان بحاجة إلى التَّغيير الجذريّ، من خلال الدّخول في عصر المؤسَّسات لا الأشخاص، وفي عهد التَّخطيط لا التَّسويات، وفي عهد مرحلة الإدارة الأمينة الكفوءة لا المحسوبيات والخيانات والهدر، لأنَّ البلد في غياب التغيير المطلوب، سوف يبقى في قبضة الفوضى التي تقود إلى الانهيار {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11].
إساءةٌ إلى الذَّات الإلهيَّة؟!
وأخيراً، بلغنا أنَّ بعض محطّات التّلفزيون في لبنان عرضت إعلاناً عن مسرحيَّة تشتمل على إساءة إلى الذَّات الإلهيَّة بطريقة مهينة، كما جرت في بعض التّلفزيونات مقابلة مع إحدى الشخصيَّات الفنيَّة شتم فيها المولى عزّ وجلّ واستهزأ به. إنَّنا نستنكر ذلك أشدّ الاستنكار، ونتساءل عن جدّيَّة رقابة الدولة على أجهزة الإعلام في هذه الأمور التي تسيء إلى جميع المؤمنين، في الوقت الّذي نرى الدولة تحاسب على الإساءة إلى رئيس هنا ورئيس هناك، إضافةً إلى البرامج غير الأخلاقيَّة.
وفي هذه المناسبة، نؤكّد ضرورة إعادة إلزاميَّة التعليم الديني إلى المدارس، لأنَّ إهماله يؤدِّي إلى مثل هذا السّلوك الّذي يتحدَّى كلَّ القيم والمقدَّسات، ما ينعكس سلباً على كلِّ الواقع العامّ للإنسان في البلد.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 07/08/1998م.

يقول الله تعالى في كتابه المجيد : {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}[فاطر: 8].
ويقول سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف: 103 - 104].
وهكذا يقول الله سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ}
[النجم: 32]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}[النّساء: 49].
نظرةُ القرآن إلى العُجْب
في هذه الآيات وفي غيرها، حديث عن مسألة تتَّصل بنفس الإنسان من الداخل، فالله يريد من الإنسان دائماً أن يزكّي نفسه، أن يربّيها فيما يفكّر فيه، وفيما يتحسَّسه، أن ينظر إلى نفسه نظرة واقعيّة، فلا تتضخَّم نفسه عنده من دون ضخامة حقيقيّة. وهذا ما يعبَّر عنه في الأخلاق بالعُجب؛ إعجاب الإنسان بنفسه، بحيث يستغرق فيما لديه من عناصر ومن فضائل، ويحاول أن يضخِّمها، بحيث تكبر نفسه عنده، ويصغر غيره أمامه.
وهذا الّذي يعبَّر عنه بالأنانيَّة، فكلمة "أنا" هي الَّتي تعبِّر عن الإنسان الّذي يختصر العالم في ذاته، ويختصر الإسلام في ذاته، ويختصر الحقيقة في ذاته، يقول: أنا الحقيقة، أنا الإسلام، أنا الأمَّة، أنا الّذي أعطي النَّاس عقولاً، أنا الّذي أعطي الناس علماً، أنا الّذي أعطي الناس الحقيقة، الحقيقة عندي وليست عند غيري... فالأنانيّون هم هؤلاء الّذين يفكّرون بهذه الطّريقة.
يروى أنَّ شخصاً من صحابة النَّبيّ (ص) جاء إلى النَّبيّ، وهو جابر بن عبد الله (رض)، يقول: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ (ص)، فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقال: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَنَا، قال: أَنَا أَنَا – مستنكراً هذه الكلمة - كَأَنَّهُ كَرِهَهُ"، يعني أن تتحدَّث عن نفسك في استغراقك في ذاتك.
هذا النَّوع من الإعجاب؛ إعجاب الإنسان بنفسه، عالجه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، وهو الإنسان الّذي يرى أنَّ كلَّ ما يصدر عنه هو من الخير والفضائل، حتى إنّ السوء إذا صدر عنه اعتبره حسناً. ولذلك، فإنَّ بعض الناس ليسوا مستعدّين أن يعترفوا بما يتمثَّل فيهم من الصفات السيّئة، أو بما يصدر عنهم من الأعمال السيّئة.
وهكذا نلتقي بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، يعني هؤلاء الّذي كانت خطواتهم في أجواء الضَّلال، وكانت أفكارهم في أفكار الضَّلال، ولكنَّهم يتصوَّرون الضَّلال هدى، ويتصوّرون الباطل حقّاً. وهكذا أخضعوا حياتهم لتصوّراتهم الباطلة الَّتي يخيَّل إليهم أنَّها الحقّ، ولخطّهم الضّالّ الّذي يخيَّل إليهم أنَّه الهدى، فاكتشفوا في نهاية المطاف، وقد وقفوا بين يدي الله، أنَّ الخطَّ الّذي تخيَّلوه مستقيماً كان منحرفاً، وأنَّ الباطل الّذي كانوا يعتقدون أنّه الحقّ هو باطل {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
ولذلك أراد الله من الإنسان أن يتّهم نفسه، وأن يدرس نفسه، وأن يعرف نفسه، ليميّز بين الصفات السلبيَّة والإيجابيَّة فيها، فلا يزكّي نفسه بالمطلق {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}.
أحاديثُ عن العُجْبِ
وهكذا نلتقي في هذا الاتجاه بأكثر من حديث من الأحاديث المرويَّة عن الأئمَّة (ع)، فنقرأ في "نهج البلاغة"، في عهد الإمام عليّ (ع) إلى عامله على مصر، مالك الأشتر، وهي أوَّل وثيقة إدارية في الإسلام ينظِّم فيها الإمام (ع) للحاكمين كيف يديرون شؤون الأمَّة. يقول (ع): "وَإِيَّاك وَالإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الإِطْرَاءِ - يعني إذا أعجبت بنفسك، ووثقت بكلّ ما فيها، ولم تتّهمها في شيء، ولم تحاسبها على شيء - فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لَيمْحَقَ مَا يَكوُنُ مِنْ إِحْسَانِ الُمحْسِنِينَ"، فإنَّ الشَّيطان يدخل إلى نفسك من خلال اغترارك بنفسك وإعجابك بها وعدم محاسبتك لها ودراستها.
في "نهج البلاغة"، يمثِّل الإمام عليّ (ع) المعجَب بنفسِه كالإنسان الّذي يعيش وحيداً ليس معه أحد. يقول (ع): "وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ - لأنَّ الإنسان المعجب بنفسه لا يرى أحداً معه ولا أفضل منه، فهذا لا قيمة له عنده، وهذا لا يمكن أن يصل إلى مستواه، وذاك لا مكانة له... فيرى كلّ النّاس أصفاراً عنده وهو الرَّقم واحد. إنَّ الإنسان الّذي يستأنس بالحياة هو الّذي يعيش هو وغيره؛ فهو عنده فضائل معيَّنة، وصاحبه عنده فضائل معيَّنة، وجاره عنده فضائل، الّذي يعيش مع النَّاس على أساس أن يأخذ منهم ويعطيهم، أمَّا الإنسان المعجب بنفسه، فلا يأخذ من أحد ولا يعطي أحداً، لذلك يعيش وحيداً - ولَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، ولَا كَرَمَ كَالتَّقْوَى، ولَا قَرِينَ كَحُسْنَ الْخُلْقِ، ولَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ، ولَا قَائِدَ كَالتَّوْفِيقِ، ولَا تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ولَا رِبْحَ كَالثَّوَابِ، ولَا وَرَعَ كالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ، ولَا زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي الْحَرَامِ، ولَا عِلْمَ كَالتَّفَكُّرِ، ولَا عِبَادَةَ كَأَدَاءِ الْفَرائِضِ".
وينقل في "الكافي" في أحاديث الإمام الصَّادق (ع) عن نبيّ الله عيسى (ع): "إِنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ كَانَ مِنْ شَرَائِعِه السَّيْحُ فِي الْبِلَادِ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ سَيْحِه ومَعَه رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِه قَصِيرٌ، وكَانَ كَثِيرَ اللُّزُومِ لِعِيسَى (ع)، فَلَمَّا انْتَهَى عِيسَى إِلَى الْبَحْرِ قال: بِسْمِ اللَّه، بِصِحَّةِ يَقِينٍ مِنْه، فَمَشَى عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، فَقَالَ الرَّجُلُ الْقَصِيرُ حِينَ نَظَرَ إِلَى عِيسَى (ع) جَازَه: بِسْمِ اللَّه، بِصِحَّةِ يَقِينٍ مِنْه، فَمَشَى عَلَى الْمَاءِ، ولَحِقَ بِعِيسَى (ع)، فَدَخَلَه الْعُجْبُ بِنَفْسِه، فَقَالَ: هَذَا عِيسَى رُوحُ اللَّه يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وأَنَا أَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَمَا فَضْلُه عَلَيَّ؟! قال: فَرُمِسَ فِي الْمَاءِ - لمجرَّد أن خطرت الفكرة في ذهنه غرق في الماء - فَاسْتَغَاثَ بِعِيسَى، فَتَنَاوَلَه مِنَ الْمَاءِ، فَأَخْرَجَه ثُمَّ قَالَ لَه: مَا قُلْتَ يَا قَصِيرُ؟ قال: قُلْتُ هَذَا رُوحُ اللَّه يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وأَنَا أَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ عُجْبٌ، فَقَالَ لَه عِيسَى: لَقَدْ وَضَعْتَ نَفْسَكَ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الّذي وَضَعَكَ اللَّه فِيه، فَمَقَتَكَ اللَّه عَلَى مَا قُلْتَ، فَتُبْ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ مِمَّا قُلْتَ. قَالَ فَتَابَ الرَّجُلُ، وعَادَ إِلَى مَرْتَبَتِه الَّتِي وَضَعَه اللَّه فِيهَا، فَاتَّقُوا اللَّه، ولَا يَحْسُدَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً".
وهكذا جاء عن الإمام الصَّادق (ع): "آفَةُ الدِّينِ: الحَسَدُ، والعُجْبُ، والفَخْرُ".
ويقول الإمام الصّادق (ع): "مَن أُعْجِبَ بِنَفسِهِ هَلَكَ، ومَن أُعْجِبَ بِرَأيِهِ هَلَكَ، وإنَّ عيسَى بنَ مَريَمَ (ع) قالَ: داوَيْتُ المَرضى فَشَفَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ، وأبرَأْتُ الأَكْمَهَ وَالأَبرَصَ بِإِذنِ اللّهِ، وعالَجْتُ المَوتى فَأَحيَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ، وعالَجْتُ الأَحمَقَ فَلَم أقدِر على إصلاحِهِ. فَقيلَ: يا روحَ اللّهِ، ومَا الأَحمَقُ؟ قالَ: المُعجَبُ بِرَأيِهِ ونَفسِهِ – يعني من يرى رأيه هو الرّأي ولا يقبل لأحد أن يناقشه فيه. وهذا يحصل في البيت بين الزَّوج والزوجة مثلاً، فقد تكون الزّوجة مثقّفة وذكيّة، وعندها رأي فيما يتعلّق بالبيت أو ببعض القضايا، فتبدي ملاحظات على رأي ما، ولكنّ الزّوج يرفض ويقول من أنت ليكون عندك رأي؟ وهل تتكلَّم المرأة مع الرَّجل هكذا؟ وقد يكون ابنه مثقّفاً ومتعلّماً، فيقول له ومن أنت، أنت ابن البارحة وتريد أن تناقشني، أنا رأيي هو الرأي، أنا الّذي أوزع عقلاً على الناس كلّها... أليس هناك من يتكلّم بهذه الطّريقة؟ - الّذي يَرَى الفَضلَ كُلَّهُ لَهُ لا عَلَيهِ، ويوجِبُ الحَقَّ كُلَّهُ لِنَفسِهِ ولا يوجِبُ عَلَيها حَقًّا، فَذاكَ الأَحمَقُ الّذي لا حيلَةَ في مُداواتِهِ"، لا يستطيع أحد أن يشفيه أبداً.
وهكذا نجد في أحاديث النّبيّ (ص): "ثلاثٌ مُهْلِكَاتٌ؛ شُحٌّ مُطَاعٌ – والشّحّ هو البخل، بمعنى إذا أطاع الإنسان غريزة البخل في نفسه - وهَوًى مُتَّبَعٌ – أن يتّبع الإنسان هواه - وإِعْجَابُ المَرْءِ بِنفسِهِ".
وورد عن عليّ (ع): "إزراءُ الرَّجُلِ عَلى نَفسِهِ – محاسبته لنفسه واتّهامه لها - بُرهانُ رَزانَةِ عَقلِهِ، وعُنوانُ وُفورِ فَضلِهِ، إعجابُ المَرءِ بِنَفسِهِ، بُرهانُ نَقصِهِ، وعُنوانُ ضَعفِ عَقلِهِ".
وهكذا يقول الإمام عليّ (ع): "عُجْبُ المرْءِ بِنفْسِهِ، أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ". ماذا يفعل الحاسد؟ يحاول أن يبغي عليك، وأن ينتقص منك. فالإمام (ع) يقول إنَّ الإنسان الّذي يعجب بنفسه يحسد عقله، لأنّه عندما يعجب بنفسه يجمِّد عقله، لأنّه لا يفكّر، ولا يحاول أن يدرس الأمور دراسة عميقة، ولا يحاول أن يقارن بين رأيه وآراء الآخرين، ولا أن يقول لنفسه كما أنَّ عندي عقلاً فعند الآخرين عقل أيضاً، وكما تعلَّمت فغيري تعلّم أيضاً، لست أنا وحدي من يملك الحقيقة، بل يقول أنا الّذي أعطي الحقّ وكلّ الناس باطل، لا أحد يصل إليّ، أنا الّذي أعرف العلم كلَّه، وهكذا... هذا إنسانٌ يجمِّد عقله، لأنَّ العقل إنما يتحرَّك عندما تضع الرأي الآخر أمام رأيك وتقارن، وعندما تستمع إلى الآخرين وإلى نفسك، وأن تميّز نتيجة حوار ونتيجة تأمّل وتفكير بين ما أنت فيه والآخر فيه، ليس هناك إنسان في الدّنيا يحمل كلّ العلم وكلّ العقل، كلّ واحد عنده جانب من العقل وجانب من العلم، وقد يكون ما عند غيرك ليس عندك، وما عندك قد لا يكون عند غيرك. لذلك، على الإنسان أن يحترم عقول الناس ومواقعهم كما يحترم نفسه، فيحاول أن لا يستغرق في نفسه ليرى العالم كلّه في داخلها.
ويقول عليّ (ع): "مَن لا يَعرِفُ لِأحَدٍ الفَضلَ، فهُوَ المُعجَبُ بِرَأيِهِ".
ويقول عليّ (ع): "الإِعْجاب يمنع من الازْدِياد"، فإذا كنت راضياً عن نفسك ومعجباً بها، فلن تجد أنَّك تحتاج إلى أن تتعلَّم.. يقال لك تعلّم، تقول أنا أعلّم النّاس، نمِّ عقلك، تقول لا أحتاج أن أنمّي عقلي. لذلك الإنسان المعجب بنفسه ليس مستعداً أن يسمع من غيره أو أن يتعلّم أو أن يفكّر، لأنَّ المسألة عنده هي أنّه وصل إلى حدّ الكمال كلّه في هذ المجال.
كيفيّةُ معالجةِ العُجْب
وقد ورد في في كيفيّة معالجة الإنسان لهذا العجب، يقول عليّ (ع) فيما يروى عنه: "إذا زادَ عُجْبُكَ بِما أنْتَ فيهِ مِنْ سُلْطانِكَ، فَحَدَثَتْ لَكَ أُبَّهَةٌ أو مَخيلَةٌ – عندما ترى نفسك صارت عظيمة وتعجب بنفسك، كيف تعالجها؟ - فَانْظُرْ إلى عِظَمِ مُلْكِ اللّهِ وَقُدْرَتِهِ، مِمّا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإنَّ ذلِكَ يُلَيِّنُ مِنْ جَماحِكَ، ويَكُفُّ عَنْ غَرْبِكَ، ويَفيءُ إلَيْكَ بِما عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ".
وهكذا يقول الإمام الباقر (ع): "سُدَّ سَبيلَ العُجْبِ بِمَعرِفةِ النَّفسِ"، إذا أردت أن تسدّ طريق العجب إلى نفسك، فعليك أن تعمل على أن تعرف نفسك بما فيها من سلبيّات وإيجابيّات.
وقد ورد أيضاً عن الإمام عليّ (ع) للّذين يعجبون بأنفسهم ويعيشون الخيلاء: "ما لابنِ آدمَ والعُجبَ؟! وأوَّلُهُ نُطفَةٌ مَذِرَةٌ، وآخِرُهُ جيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ بَينَ ذلكَ يَحمِلُ العَذِرَةَ؟!"، ألا يوجد في داخل أجسادنا مستودع للعذرة ونحاول أن نتخلّص منها ونخرجها من أجسادنا يوميّاً؟ فالإمام (ع) يقول أيّ فخر للإنسان إذا كانت هذه بدايته وهذه نهايته؟! أمّا الّذي يجعلك فخوراً، فهو تقوى الله سبحانه وتعالى.
وننطلق مع أحاديث أهل البيت (ع). يقول عن أبي الحسن الكاظم (ع): "قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْعُجْبِ الّذي يُفْسِدُ الْعَمَلَ - هذا الّذي إذا قام بعمل أعجب به، فهو يعجب بصلاته وحجّه وعبادته - فَقَالَ الْعُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْهَا أَنْ يُزَيَّنَ لِلْعَبْدِ سُوءُ عَمَلِه فَيَرَاه حَسَناً، فَيُعْجِبَه، ويَحْسَبَ أَنَّه يُحْسِنُ صُنْعاً، ومِنْهَا أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ، فَيَمُنَّ عَلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ ولِلَّه عَلَيْه فِيه الْمَنُّ"، يقول المعجب بنفسه ماذا يريد الله منّي، فأنا أصلّي له وأصوم وأحجّ، فلماذا لا يعطيني المال والصّحة وأنا أعبده؟ لماذا كذا؟ أليس هناك من يفعل ذلك؟ الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله (ص): {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلَٰمَكُم ۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}[الحجرات: 17].
وفي جانب آخر، ورد عن الإمام الصَّادق (ع): "إنَّ الرَّجُلَ لَيُذنِبُ الذَّنبَ فيَندَمُ عَلَيهِ، ويَعمَلُ العَمَلَ فَيَسُرُّهُ ذلِكَ، فَيتَراخى عَن حالِه تِلكَ، فَلأنْ يَكونَ عَلى حالِهِ تِلكَ خَيرٌ لَهُ مِمّا دَخَلَ فيهِ".
فالإمام (ع) يقول إنَّ هذا النَّدم، وهذا الاتّهام للنَّفس، وهذه المواجهة لها على الذَّنب، هي أكثر فضلاً في داخل الإنسان مما لو عمل عملاً وأعجب بعمله ذاك.
عن أبي عبد الله الصّادق (ع) قال: "قَالَ أَتَى عَالِمٌ عَابِداً، فَقَالَ لَه: كَيْفَ صَلَاتُكَ؟ فَقال: مِثْلِي يُسْأَلُ عَنْ صَلَاتِه، وأَنَا أَعْبُدُ اللَّه مُنْذُ كَذَا وكَذَا؟! قال: فَكَيْفَ بُكَاؤُكَ؟!- من خشية الله - قال: أَبْكِي حَتَّى تَجْرِيَ دُمُوعِي، فَقَالَ لَه الْعَالِمُ: فَإِنَّ ضَحِكَكَ وأَنْتَ خَائِفٌ، أَفْضَلُ مِنْ بُكَائِكَ وأَنْتَ مُدِلٌّ - معجب بنفسك - إِنَّ الْمُدِلَّ لَا يَصْعَدُ مِنْ عَمَلِه شَيْءٌ"، يبقى عمله عنده.
لذلك، قد يتعب الإنسان نفسه بالعمل، ولكن يبقى عنده ولا يصعد إلى الله. فلا بدَّ للإنسان أن ينفتح على الله بالإحساس بالتَّقصير أمامه سبحانه.
وورد عن الإمام الصَّادق (ع): "يَدخُلُ رَجُلانِ المَسجِدَ؛ أحَدُهُما عابِدٌ، والآخَرُ فاسِقٌ، فيَخرُجانِ مِنَ المَسجِدِ والفاسِقُ صِدِّيقٌ، والعابِدُ فاسِقٌ؛ وذلِكَ أنَّهُ يَدخُلُ العابِدُ المَسجِدَ وهُوَ مُدِلٌّ بِعِبادتِهِ وفِكرَتُهُ في ذلِكَ، ويَكونُ فِكرَةُ الفاسِقِ في التَّنَدُّمِ عَلى فِسقِهِ، فيَستَغفِرُ اللَّهَ مِن ذُنوبِهِ".
فندم الفاسق على ذنبه، واستغفاره، ورؤيته لنفسه في حجمها في عصيان الله، جعلته صدّيقاً، فتقبَّله الله بقبول حسن، وإعجاب العابد بنفسه أسقطه.
وهكذا ورد عندنا في الحديث عن أبي عبدالله الصَّادق (ع)، قال: "بَيْنَمَا مُوسَى جَالِسٌ فِي بَعْضِ مَجَالِسِهِ، إِذْ أَقْبَلَ إِبْلِيسُ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ يَتَلَوَّنُ فِيهِ أَلْوَانًا – والبرنس هو كلّ ثوب رأسه منه ملتصق به، كالجبّة أو القلنسوة الطّويلة - فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ، خَلَعَ الْبُرْنُسَ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُوسَى. قَالَ لَهُ مُوسَى: مَنْ أَنْتَ؟ قالَ: إِبْلِيسُ. قال: فَلا حَيَّاكَ اللَّهُ، مَا جَاءَ بِكَ؟ قال: جِئْتُ لأُسَلِّمَ عَلَيْكَ لِمَنْزِلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَمَكَانَتِكَ مِنْهُ. قال: مَاذَا الَّذي رَأَيْتُ عَلَيْكَ؟ قال: بِهِ أَخْتَطِفُ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ. قالَ: فماذا إذا صَنَعَهُ الإِنْسَانُ اسْتَحْوَذْتَ عَلَيْهِ؟ – ما نقطة الضّعف القويّة عند ابن آدم، بحيث عندما يذنب، تستطيع أن تمسكه بها، وأن تأخذه من أمامه وخلفه ويمينه وشماله؟ - قَالَ: إِذَا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ".
قَالَ رسول الله (ص): "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِدَاوُدَ (ع): يَا دَاوُدُ، بَشِّرِ الْمُذْنِبِينَ، وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ. قَالَ: كيفَ أُبَشِّرُ المذنبين وَأُنْذِرُ الصّدِّيقينَ؟ قَالَ: يَا دَاودُ، بشِّرِ المذنبينَ أَنِّي أَقْبَلُ التَّوبةَ وَأَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ، وَأَنْذِرِ الصّدّيقينَ أَلَّا يُعْجَبُوا بِأَعْمَالِهم، فَإنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصبُهُ لِلْحِسَابِ إلَّا هَلكَ"، فالله سبحانه يقول إنَّ حساباتي دقيقة مع النّاس، وكلّ من أحاسبه، من الصّعب أن ينجو، لولا رحمتي في هذا المجال.
محاسبةُ النَّفسِ وتزكيتُها
أيُّها الأحبَّة، هذه هي الخصلة الشّرّيرة الَّتي تنزل عقل الإنسان، وتفسد قلبه، وتنحرف به عن الحطّ، وتعزله عن النّاس، وتبعده عن الحقّ. وهذه من الأخلاق الّتي نبتلى بها كثيراً، وهي الّتي تقود الإنسان إلى التكبّر والحسد والفخر وما إلى ذلك.
إنَّ الله يريدنا أن نعمل على أن نزكّي أنفسنا، وأن نبتعد عن العجب بها، حتَّى نستطيع أن نحصل على خير الدنيا والآخرة، أن نبقى نحاسب أنفسنا، وأن نعتبر أنَّ النَّفس أمَّارة بالسوء، إلَّا ما رحم ربّنا.
                                                    بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                        الخطبة الثّانية

عباد الله، اتَّقوا الله في أنفسكم، وحاولوا أن تربّوها على الإيمان والتقوى والعمل الصَّالح، وأن يفكّر كلّ واحد منّا في نفسه، بأن يبعدها عن كلّ الأمراض الداخليَّة، كما يبعدها عن الأمراض الخارجيَّة، لأنَّ الإنسان قد يهلك جسدياً من خلال مرض مستعص، ولكنَّه قد يهلك روحياً من خلال بعض الأمراض التي تصيب أخلاقه وإيمانه وسلوكه النفسي في الحياة. لذلك، على كلّ واحد منَّا أن يشغل بنفسه، ليرصد نفسه في كلِّ ما تتطوَّر فيه، ليعرف هذا التطوّر في داخل نفسه هل هو تطوّر إلى الأعلى أو أنّه انحدارٌ إلى الأسفل.. أن يعمل دائماً على أن يدرس كلَّ ما يدخل في نفسه مما يقرأ ومما يسمع ومما يشاهد ومما يعاشر ومما يتحسَّس، لأنَّ الكثير مما يدخل إلى أنفسنا في حركة حياتنا، قد يكون تماماً كالميكروب الّذي لا يُرَى ولا يَحسّ الإنسان به إلَّا بعد أن يتَّخذ له في داخل نفسه أو جسده المنطقة الَّتي تساعده على النموّ، لأنَّ نفوسنا، أيُّها الأحبَّة، هي الَّتي نقف فيها بين يدي الله تعالى، فإذا أصلحناها في الدنيا صلح موقفنا في الآخرة، وإذا لم نصلحها في الدنيا، فإننا سوف نهلك في الآخرة، سواء بالنّسبة إلى أنفسنا أو أهلينا {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الّذينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزّمر: 15].
وهكذا يريدنا الله سبحانه وتعالى أن ننطلق في داخل أنفسنا، لنجعلها قائمة على الحقّ في كلّ شيء نفكّر فيه ونتعاطف فيه، ونقف فيه تأييداً أو رفضاً، وأن نبتعد عن الباطل، أن نربّي أنفسنا على العدل؛ أن نعدل مع ربنا ومع أنفسنا، فلا نظلم أنفسنا، وأن نعدل مع النَّاس كافّة، وأن نكون مع العادلين ولا نكون مع الظَّالمين، سواء كان العادلون من الأفراد أو الجماعات أو المحاور الدوليَّة وما إلى ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان واعياً لكلّ الأوضاع التي تحيط به، والّتي تهجم عليه وتتحدَّاه في نفسه وأمَّته، ليكون واعياً لنفسه وواقعه وأمّته. وفي ضوء هذا، نريد أن ندخل في كلِّ ما يهمّنا من أمور المسلمين في هذا الموقف.
أمريكا تجمّد مبادرتها
لا جديد في فلسطين، فأمريكا تجمِّد مبادرتها ولا تعلن فشلها بسبب إسرائيل، حتَّى لا تحرجها وتدينها سياسياً، ونعرف أنَّ مبادرتها الَّتي لم تستجب لها إسرائيل، هي دون ما كان الفلسطينيّون يريدون، أو ما كانوا يطمحون إليه في اتّفاق أوسلو، ومع ذلك، لم تقبل إسرائيل بذلك، وخضعت أمريكا لإسرائيل، ولذلك قالت للفلسطينيّين: فاوضوا الإسرائيليّين، ونحن لسنا مستعدّين لأن نعلن فشل مبادرتنا، أو أنّ إسرائيل هي سبب الفشل، لأنّنا لا نريد أن نسيء إلى إسرائيل بأيّ سوء، والفلسطينيون في مفاوضاتهم مع العدوّ يعيشون في المتاهات السياسية والأمنية تحت تأثير الضغط الأمريكيّ، وهم يتحركون دائماً مع دولة عربية أو غير عربية، ويطلبون منهم أن يقنعوا أمريكا بأن تعلن مبادرتها، أقنعوا لنا إسرائيل لتقبل بكذا وكذا، وليس هناك جواب، والعرب ولجنة القدس لا يحركون ساكناً في الواقع، ويكتفون بالتَّصريحات والاحتجاجات، وإسرائيل توسِّع مستوطناتها وتمتدُّ في مصادرة الأرض. والسّؤال: ماذا بعد ذلك؟ هل نردِّد مع الواقع العربي والإسلامي بالنّسبة إلى فلسطين قول الشَّاعر:
                           مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه                 ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
تهديدٌ أمريكيٌّ لإيران
وفي موازاة ذلك، لا تزال إسرائيل تهدِّد إيران، وتقول إنَّها تملك الرّدود المناسبة على التهديدات، والدول الشرق أوسطية تعرف ذلك - هكذا يقول نتنياهو - وأنَّها - إسرائيل - تتابع عن كثب تطوير الأسلحة الإيرانيَّة، وتتحدَّث بعض الصحف عن اجتماع طارئ لوزراء الحلف الأطلسي لبحث خطورة التسلّح الإيراني، وتشير إلى تعاون استخباراتي بين بريطانيا وإسرائيل، لمواجهة تحقّق ما يسمّونه الحلم الإيراني المزعج.
إنَّ هذه الأجواء توحي بأنَّ هذا التطوّر الدفاعي في إيران بدأ يثير القلق الكبير لدى العدوّ والدول المؤيّدة لتفوّقه النَّوعي في المنطقة، حتى تتوازن القوَّة العسكريَّة لدى العدوّ مع القوَّة العدديّة لدى العرب والمسلمين، من أجل أن يبقى في المركز العسكريّ الأوَّل في الشَّرق الأوسط.
ومن اللافت أنَّه في الوقت الّذي يتمّ تسليط الضَّوء الإعلامي على الصّاروخ الإيرانيّ الدفاعيّ، نلاحظ أنَّ هناك صمتاً عالمياً مطبقاً على الصَّاروخ الإسرائيلي الجديد كروز الّذي يجرّبه العدوّ باللَّحم اللّبناني الحيّ، حيث إنَّهم يقولون إنَّهم يجرّبونه في جنوب لبنان عندما يقصفون المدنيّين والنَّاس، وإنَّ هذا القصف يمثّل تجربة للسِّلاح، ليدرس العدوّ من خلال أهل الخبرة العسكريّين، تأثير هذا السّلاح كم يقتل ويدمّر، وما إلى ذلك، وليس هناك من يتحدَّث عن هذا، حيث سقط أكثر من شهيد في تجربة الموت هذه، وأمام أعين القوات الدوليَّة ولجنة المراقبة. وهكذا يتابع العدوّ في كلّ يوم عدوانه على المدنيّين، على السيَّارات المدنيّة، وعلى البيوت، وعلى النَّاس عندما يتحركون هنا وهناك، وأمريكا ليس عندها خبر، وأوروبَّا ليس عندها خبر، ولا أحد عنده خبر أنَّ هذه الصَّواريخ تقتل أطفالاً ونساءً وشيوخاً في بلد آمن، أمَّا أن تمتلك إيران صاروخاً تدافع به عن نفسها، فهذا غير مسموح به وغير مقبول.
إنَّ على المؤتمر الإسلامي الوقوف مع إيران في هذا التحدّي الاستكباري، لأنها ليست وحدها المستهدفة في الضغوط السياسيَّة ردّاً على إنتاجها للصَّاروخ الدّفاعي، بل إنَّ الدول العربية والإسلامية هي المستهدفة من قبل إسرائيل والاستكبار الغربي، حتى لا تكون لها فرصة الدّفاع عن نفسها في أيّ تحرك إسرائيلي عدواني ضدَّها في المستقبل، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بإيران وسوريا، وبما يتَّصل بالعدوان المستمرّ على الشَّعب اللّبناني.
إنّنا نعتقد أنَّ هذا التحدّي الكبير للجمهوريَّة الإسلاميّة في إيران، يفرض على الشعب الإيراني المزيد من الوحدة الداخليَّة في هذه المرحلة، لأنَّ الأعداء يحاولون الدخول إلى الواقع الدَّاخلي من أيّ ثغرة جديدة، من خلال طريقة إدارة الصّراع بين التيَّارات المختلفة.
الرّئاسة.. والانتخاب من الشّعب
أمَّا على المستوى اللّبناني، فإنّنا نخشى أن يكون السّجال الداخلي المستمرّ بين أقطاب الحكم فيما يتنازعون فيه وفيما يختلفون عليه، أن يكون وسيلة من وسائل إشغال النَّاس عن قضاياهم المعيشيَّة، وتمييع المطالب الحيويَّة في الجانب الاقتصادي والسياسي، وربما كانت المسألة هي تأجيل حسم الأمور إلى العهد المقبل الّذي لن يكون في رأينا بأفضل من هذا العهد، في سيطرة الخلافات الصَّغيرة على القضايا الكبيرة، واستغراق الواقع في الدوَّامة السياسيَّة والمشاكل الاقتصاديَّة والتحديات الأمنيَّة في نطاق الاحتلال.. يذهب رئيس، ويأتي رئيس، ويبقى البرنامج نفسه، والذهنيَّة ذاتها.
إنَّ الوضع الاقتصادي يتحرَّك في ضباب كثيف يحجب وضوح الرؤية عن المواطنين، وإنَّ الاستحقاق الرئاسي لا ينطلق من الصَّراحة في البرامج الواضحة للمسترئسين، الأمر الّذي يشير إلى أنَّ القضيَّة عند هؤلاء ليست قضيَّة الشّعب اللبناني في اختيار الرَّئيس، بل قضيَّة الوحي الخارجي من هنا وهناك، من دون أن يكون للشَّعب أيّ دور في الموضوع، فلا ضرورة لأن يتحدَّث المسترئسون معه في برنامجهم السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي والأمني، لأنَّ المطلوب، كما يقولون، هو أن يقدِّموا حساباتهم إلى الآخرين لا إلى الشَّعب اللبنانيّ.
إنَّنا نسأل: هل حان الدَّور لأن يطالب اللّبنانيّون بالاستفتاء الشعبي الشامل في مسألة انتخاب الرَّئيس، لأنَّ ذلك قد يكون الفرصة الوحيدة لمجيء رئيسٍ من داخل الشَّعب، يتحسَّس آلام الشَّعب، ويثق به الشَّعب، لأنَّ طريقة النوَّاب في كثيرٍ من القرارات، لا تشجِّع على الاطمئنان للمستقبل في الأصوات الَّتي تعارض بشدَّة أوَّلاً ثمَّ تمنح الثقة، أو تصدر قراراً مضادّاً في نهاية المطاف.. يتكلَّمون كثيراً، حتى لتشعر بأنهم يريدون أن يسقطوا كلَّ هؤلاء، ولكنَّهم بعد الكلام الطَّويل العريض، يعطون الثّقة من دون أيّ كلام أو معنى.
إنَّ لبنان بحاجة إلى التَّغيير الجذريّ، من خلال الدّخول في عصر المؤسَّسات لا الأشخاص، وفي عهد التَّخطيط لا التَّسويات، وفي عهد مرحلة الإدارة الأمينة الكفوءة لا المحسوبيات والخيانات والهدر، لأنَّ البلد في غياب التغيير المطلوب، سوف يبقى في قبضة الفوضى التي تقود إلى الانهيار {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11].
إساءةٌ إلى الذَّات الإلهيَّة؟!
وأخيراً، بلغنا أنَّ بعض محطّات التّلفزيون في لبنان عرضت إعلاناً عن مسرحيَّة تشتمل على إساءة إلى الذَّات الإلهيَّة بطريقة مهينة، كما جرت في بعض التّلفزيونات مقابلة مع إحدى الشخصيَّات الفنيَّة شتم فيها المولى عزّ وجلّ واستهزأ به. إنَّنا نستنكر ذلك أشدّ الاستنكار، ونتساءل عن جدّيَّة رقابة الدولة على أجهزة الإعلام في هذه الأمور التي تسيء إلى جميع المؤمنين، في الوقت الّذي نرى الدولة تحاسب على الإساءة إلى رئيس هنا ورئيس هناك، إضافةً إلى البرامج غير الأخلاقيَّة.
وفي هذه المناسبة، نؤكّد ضرورة إعادة إلزاميَّة التعليم الديني إلى المدارس، لأنَّ إهماله يؤدِّي إلى مثل هذا السّلوك الّذي يتحدَّى كلَّ القيم والمقدَّسات، ما ينعكس سلباً على كلِّ الواقع العامّ للإنسان في البلد.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 07/08/1998م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية