إذا وقع عقد الإجارة مستكملاً لشروطه لزم الوفاء به من الطرفين، ولم يكن لأحدهما فسخه والتراجع عنه، إلا أن يكون لأحدهما حق الفسخ بأحد أسبابه الداعية إليه مما اصطلح عليه بـ(الخيار)، وهي تلك الخيارات التي لا يقتصر ثبوتها على البيع كما أسلفنا القول في إجارة النفس؛ أما ثبوتها هنا فهو بنفس النحو الذي تثبت فيه في جميع موارد إجارة النفس عدا اختلافٍ بسيط في بعض التفاصيل؛كما وأنه لا فرق في لزوم عقد الإجارة بين ما كان بالعقد اللفظي أو الكتبي أو المعاطاة.
م -338: يجري في إجارة العين الخيارات التالية:
1 ـ خيار الغبن، فإذا كانت الأجرة المدفوعة مقابل منفعة العين أقل من الأجرة المتعارفة بما لايتساهل فيه العرف عادةً، كان المالك مغبوناً وثبت له على المستأجر خيار الغبن، وإذا كانت الأجرة أكثر من المتعارف كان المستأجر مغبوناً وثبت له على المالك حق الخيار، وحينئذٍ إما أن يرضى المغبون بالإجارة كما وقعت أو يفسخ المعاملة.
2 ـ خيار العيب، وهو إنما يثبت مع الجهالة بالعيب، فإن كان المستأجر عالماً بالعيب قبل العقد لم يثبت له الخيار ما دام قد أقدم برضاه على استئجار العين بما هي عليه من العيب، وإن كان المستأجر جاهلاً بالعيب، وكانت العين المستأجرة غير مشخصة، بل كانت فرداً كلياً ثابتاً في ذمة المالك، كأن يؤجره غرفة من غرف عديدة متشابهة، أو سيارة من سيارات كذلك، فإنه إذا وجد عيباً في الفرد المدفوع لم يكن له إلا المطالبة بالفرد
الصحيح، فإن لم يمكن دفعه إليه كان مخيراً بين القبول بالموجود مع المطالبة بالتفاوت أو فسخ العقد؛ وأما إذا كانت العين المستأجرة مشخصة ومحددة بهذه السيارة أو بهذا الدار، فإن حكمها يتصور على نحوين:
أ - أن يكون العيب موجباً لنقصٍ في مقدار الانتفاع بالعين، كالدار التي فيها بعض الغرف الخربة التي لا تصلح للانتفاع بها في السكن ولا في غيره، فهنا يثبت للمستأجر حق الفسخ أو الرضا بالأمر الواقع مع المطالبة بمقدار ما يفوته من المنفعة من الأجرة المسماة، وكذا لو كانت الغرفة الخربة مما يمكن استعمالها في غير السكن، فإنها رغم هذه الفائدة الجزئية، يتخير المستأجر بين الفسخ وبين الرضى بالعقد مع المطالبة بمقدار ما يفوت من منفعة السكن.
ب - أن يكون العيب الموجود موجباً لفوات وصفٍ في الدار، كأن وجدها قديمة الدهان أو قليلة التهوية أو نحو ذلك من العيوب التي لا ترجع إلى نقص في نفس مساحة العين، فإن كان ذلك الوصف مما لا يهتم به ولا تختلف به الرغبات، بنحو يكون وجوده كعدمه، لم يثبت به الخيار، وإن كان مما تختلف به الرغبات، كشدة الضوء والتعرض للشمس ونحو ذلك، فإن عدم وجودها موجب لثبوت الخيار بالنحو الذي سلف من الفسخ أو الرضا بالعقد مع تعويض مقدار التفاوت بين العين المتصفة بهذا الوصف وبين العين الفاقدة له.
ثم إنه كما يثبت هذا الحكم بتلك التفاصيل في صورة ما إذا كان العيب موجوداً قبل استئجار العين، فإنه يثبت كذلك في صورة ما إذا وجد العيب بعد العقد وقبل القبض، أو بعد القبض وقبل استيفاء شيء من المنفعة؛ وأما إذا كان العيب قد حدث بعد استيفاء شيء من المنفعة فلا يثبت به الخيار للمستأجر.
3 ـ خيار الشرط، وهو ما لو اشترط أحدهما أو كلاهما أن يفسخ عقد الإجارة ساعة يشاء أو في ظرف خاص؛ وفي إطار هذا الخيار يصح أن يشترط المستأجر على المالك رد الأجرة له في مقابل أن يكون للمالك حق الفسخ في وقت معين، ويمكن إجراؤه بكيفية يقول فيها المالك: "آجرتك هذه الدار لمدة خمس سنين مدفوعة سلفاً كل شهر بمائتين، على أن يكون لي خيار الفسخ على رأس السنتين"، فيقول المستأجر: "قبلت هذه الإجارة بشرط أن ترجع لي في كل شهر مقدار أجرته"، فيقبل المالك شرطه؛ ثم على رأس السنتين يفسخ المالك إن أراد، ويرجع أجرة الثلاث سنين إلى المستأجر، بعدما يكون قد أرجع له أجرة السنتين مقسّطة؛ كما أنه يمكن إجراؤه بغير هذه الكيفية، وبالنحو الذي يرغبان فيه لجهة كيفية استرجاع المال المدفوع سلفا؛ وفائدة ذلك أن المالك يكون قد قبض مبلغاً كبيراً دفعةً واحدة، واستثمره على مدى سنتين، ويكون المستأجر قد سكن في بيت سنتين دون أجرة، ورجع له ماله كله على رأس السنتين؛ وهذا النحو من خيار الشرط قد سبق منا القول أنه قد ورد أساسا في البيع، وسمّي فيه بـ(بيع الخيار)، وأنه يجري في البيع وفي الإجارة، سواء إجارة النفس كما سبق ذكره في محله، أو إجارة العين بالنحو الذي ذكرناه الآن.
4 ـ أما سائر الخيارات فهي:
ـ خيار تخلف الشرط، ويراد به ثبوت الخيار للمشروط له عند تخلف شرطه الذي شرطه على الآخر، سواء في ما يتعلق بأوصاف العين المستأجرة ومدتها أو في ما يتعلق بالأجرة وأوصافها وأحوالها مما يتشارطان عليه.
ـ خيار تبعض الصفقة، وهو يثبت فيما لو استأجر ثلاث سيارات نقل مثلاً لنقل بضاعته، فلم يسلّمه المالك إلا سيارتين، فإنه يحق له إمضاء العقد بالموجود أو فسخ العقد.
ـ خيار التدليس، وهو يثبت فيما لو موّه المالك عيوب العين المستأجرة، أو موّه المستأجر عيوب العين المدفوعة أجرة؛ وحيث ينكشف التدليس يثبت للمدلّس عليه خيار الفسخ إذا لم يقنع بالموجود.
ـ خيار تعذر التسليم، وهو الذي يثبت عند عدم تمكن المالك من تسليم العين المستأجرة، أو عند عدم تمكن المستأجر من تسليم الأجرة، بالنحو الذي اتفق عليه الطرفان، فيحق لصاحب الخيار أن يفسخ العقد.
ـ خيار التفليس، ويثبت عند إفلاس المستأجر وعجزه عن دفع أجرة العين، فيتخير المالك بين الفسخ واسترداد العين، وبين إبقاء العقد والانضمام إلى الغرماء في المطالبة بدينه.
م -339: لا تبطل الإجارة ببيع العين المستأجرة قبل انتهاء المدة، فتنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة بسبب ملكية المستأجر لها بالإجارة؛ أما المشتري فإنه إذا كان عالماً حين الشراء بأن العين مسلوبة المنفعة فلا إشكال، وإن كان جاهلاً بذلك ثبت له خيار العيب، فيتخير- حينئذ - بين فسخ البيع أو الرضا به مع المطالبة بمقدار التفاوت ما بين قيمة العين مع المنفعة وقيمتها بدونها؛ وكذلك الحكم فيما لو كان عالماً بالإجارة ولكنه كان يظن قلة المدة، فإنه يثبت له الخيار في المقدار الزائد، فمن ظن أن الإجارة لسنة ورضي به ثم تبين أنها لسنتين، فإنه ملزم بالبيع إلى سنة ثم يتخير في بداية السنة الثانية بين الفسخ أو الإمضاء مع الأرش.
م -340: إذا بيعت العين المستأجرة وانتقلت إلى المشتري مسلوبة المنفعة، وفسخ المستأجر العقد لسبب ما، فإن المنفعة خلال المدة المتبقية من عقد الإجارة ترجع إلى البائع بصفته المالك الأول الذي أجَّر المنفعة، لأنه لما باع العين مسلوبة المنفعة إلى المشتري ظلّت المنفعة على ملكه فترجع إليه عند فسخ الإجارة؛ وذلك حتى لو كان المشتري هو المستأجر نفسه، فإن المشتري - في هذه الحالة - يبقى مالكاً للمنفعة بمقتضى عقد الإجارة بعدما انتقلت العين إليه بالشراء مسلوبة المنفعة، ويترتب على ذلك أن على المشتري أن يستمر في دفع الأجرة إلى البائع، كما يترتب عليه عودة المنفعة خلال مدة الإجارة إلى البائع - أيضا - إذا فُسِخ عقد الإجارة من قبل المشتري أو البائع، كائنا ما كان السبب.
م -341: إذا تضارب تصرف الأصيل مع تصرف الوكيل، بأن باع المالك داره لشخص مثلاً في نفس الوقت الذي كان وكيله قد آجرها لشخص آخر، صح البيع للعين بدون المنفعة، وصحّت الإجارة للمنفعة التي لا تزال على ملك البائع، ويترتب على ذلك احتياج المنفعة بعد انتهاء مدّة الإجارة أو خلالها إلى عقد بيعٍ جديد مع المشتري لنقلها إليه؛ كذلك فإن انتقال العين مسلوبة المنفعة إلى المشتري الجاهل بالإجارة موجب لثبوت خيار الفسخ له.
م -342: لا ينفسخ عقد الإجارة بموت المالك، بل يجب على الورثة الوفاء للمستأجر وتمكينه من الانتفاع بالعين المستأجرة رغم انتقالها إليهم بالميراث. وكذلك لا تنفسخ الإجارة بموت المستأجر إذا لم يكن المالك قد اشترط عليه الانتفاع بالعين بنفسه؛ أما إذا كان قد اشترط عليه ذلك، فتارةً تكون رغبة المالك قد تعلقت بكلٍّ من إيجار الدار وانتفاع المستأجر منها بنفسه على نحو المطلوب الواحد والكل الذي لا يتجزأ، فتبطل الإجارة - حينئذ - بموت المستأجر، لفقدان الإجارة لشرط المباشرة؛ وتارةً تتعلق رغبة المالك بإيجار الدار أساساً، مع رغبةٍ إضافية هي سكن المستأجر بنفسه، وذلك على نحو المطلوب المتعدد، وفي هذه الحالة لا تبطل الإجارة، بل يثبت للمالك الخيار، فإن شاء أمضى العقد مع ورثة المستأجر، وإن شاء فسخه واسترد العين.
م -343: إذا آجر الولي مال الطفل إلى مدة تتجاوز بلوغه، فإنه يصح للبالغ فسخ عقد الإجارة في المدة الزائدة عن سن بلوغه إذا لم يكن إيجار ماله في فترة ما قبل البلوغ متوقفاً على إيجاره إلى مدة تزيد عن سن بلوغه، ولو مع وجود مصلحة للولد في هذه الزيادة، أما إذا كان الولي مضطراً لذلك فإنه لا يحق للبالغ أن يفسخ عقد الإجارة بعد بلوغه.
م -344: إذا بطل عقد الإجارة أو حصل الفسخ قبل استيفاء شيء من المنفعة فلا مشكلة فيه،وأما إذا وقع ذلك بعد مضي مدة على العقد فإنه لا بد من التمييز بين الحكم ببطلان العقد وبين الحكم بالانفساخ وبين ثبوت خيار الفسخ؛ أما البطلان فهو الذي يحدث في صورة اختلال أركان العقد فيما يرجع إلى المتعاقدين وشروط العين والمنفعة والأجرة، فإذا حكم ببطلان العقد، بمعنى انكشاف بطلانه من الأول، فإن على المالك إعادة الأجرة المسمّاة للمستأجر وأخذ أجرة المثل عن المدة التي انتفع فيها بالعين؛ وإذا حكم بالبطلان في الأثناء، بمعنى عروض ما أوجب البطلان خلال المدة بعد ما كان العقد صحيحاً فيما مضى من المدة، وهو الذي يعبر عنه - أيضا - بالانفساخ، فإن الذي يثبت للمالك هو أجرة مقدار ما استهلك من المنفعة بنسبته من الأجرة المسماة، لا من أجرة المثل; وأما إذا بقي العقد صحيحا ، لكن عرض ما أوجب ثبوت خيار الفسخ لأحدهما، أو تراضيا على الفسخ، وكان ذلك في الأثناء، فإنه - أيضا - يثبت للمالك أجرة ما استهلك من المنفعة بنسبته إلى الأجرة المسماة، لا إلى أجرة المثل.