هل القرآن من كلام الله الَّذي أوحاه إلى محمَّد (ص)، ليكون دليلاً لنبوَّته وحُجّةً على النَّاس، أم أنّه من كلام محمَّد الَّذي أنشأه من نفسه، أو أخذه من أحاديث الأوَّلين، وتعلّمه من بعض أهل الكتاب؟
كان هذا السؤال يتداول في أوساط المجتمع العربيّ الَّذي انطلق الإسلام فيه، كموضوع يحتاج إلى إجابة تحسم أمر اقتناعهم به، أو كاتهام يفتعلونه كتحدّ كبير للنبيّ في دعوته، باعتبار أنّ القرآن يجسِّد قوّة الدعوة في مجال إثبات الرسالة وامتدادها الحيويّ في واقع الأمَّة وحركتها.
وكانت المواجهة في مستوى الرسالة التي تريد أن تجابه التحدّي بالحوار الهادئ العميق الذي لا يريد أن يُفحم خصومه أو يُسكتهم، بل يحاول أن يقنعهم بصدقه وبما يؤمن به، أو يحطِّم عنادهم بالصَّدمات الفكرية القويَّة، ليبدؤوا التفكير من نقطة الحياد، لا من قاعدة المشاعر العدائيَّة للعقيدة.
وقد تمثّلت هذه المواجهة في حوار العقيدة بأسلوبين:
الأسلوب الأوَّل: التحدّي المضادّ الذي يطلب من الآخرين أن يجرّبوا مجاراته والإتيان بما يستطيعونه من حيث الكميَّة، ولو بسورة من مثله. ولم يقتصر هذا الطَّلب على فئة معيَّنة من الناس، بل امتدَّ إلى الجنّ والإنس جميعاً، من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى ثقافي، منفردين أو متعاونين، ثم ينطلق في أسلوب الواثق المطمئنّ، ليدلّل على أنّهم لا يملكون القدرة على ذلك، ولو اجتمعوا له بكلّ ما عندهم من طاقات وإمكانات.
ولم ينقل التاريخ لنا أيَّ تجربة جادّة أو ناجحة في هذا المجال، بالرّغم من أنَّ خصوم الإسلام كانوا يلجأون إلى أيّ وسيلة يستطيعون من خلالها تسجيل موقف ناجح ضدّ النبيّ ودعوته، في كلّ حالة من حالات الصّراع المرير الذي كانوا يخوضونه معه. أمَّا الفكرة التي انطلقت، في هذا التحدّي المضادّ، لاتهاماتهم وشبهاتهم التي أثاروها ضدّ القرآن، فقد ارتكزت على الأساس التالي:
أنَّ القرآن لو كان كلاماً بشريّاً، في أيّ درجة من الدَّرجات، فلا بدَّ من أن يلتقي ببعض المستويات الفكرية والثقافية في الحياة، ما يجعل أمر الإتيان بمثله أو بنموذج مشابهٍ له ـــ سواء أكان مساوياً له أم كان أعلى منه ـــ شيئاً ممكناً. فإذا لم يتحقَّق ذلك، ولم يستطع أحد مجابهته في ذلك كلّه، فستكون النَّتيجة مع الفكرة التي تثبت أنَّه كلام الله الذي لا كلام مثله أو فوقه. وبهذا نعرف أنَّ الأسلوب هنا لم يتَّجه إلى إسكات الخصم، بل اتجه إلى جعل التحدّي طريقاً إلى الإيمان بالفكرة الإسلاميَّة المطروحة أمامهم. وهذا ما نستطيع أن نقرأه في الآيات التَّالية:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود: ١٣].
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: ٢٣].
ويبلغ ذروة التحدِّي في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}[الإسراء: ٨٨].
الأسلوب الثَّاني: الطريقة العقليَّة التحليليَّة التي تحاكم الفكرة المضادّة على أساس التفكير الَّذي يطرح القضيّة أمامه في مناقشة تحليليَّة هادئة. وقد أثار القرآن الكريم هذا الأسلوب في نقاط ثلاث:
الأولى: الكشف عن تاريخ النبيّ الثقافي من عدّة جوانب:
1 ـــ شخصيَّته الثقافيَّة، فلم يسبق له أن قرأ كتاباً أو خطّه بيمينه أو انتمى إلى مدرسة، كما أشار القرآن إلى ذلك في خطابه إلى النبيّ، وهو يوحي إليه بنوعيَّة الأسلوب الذي يديره معهم في هذا الموضوع ـــ قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت: ٤٨].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشورى: ٥٢].
ولم يحدِّثنا تاريخ النبيّ أنَّ أحداً من خصومه واجه هذه الآيات بالتكذيب، أو بالإشارة إلى جانبٍ يؤكِّد فكرة القراءة والكتابة، إلَّا من بعض الافتراضات التي حدّثنا القرآن عنها دون أن تستند إلى شيء، كما سنشير إليه فيما بعد.
2 ـــ ملاحظة تاريخ النبيّ في حياته مع قومه قبل نزول القرآن، وذلك في ما يحدِّثنا به قوله تعالى: {قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يونس: ١٦].
فقد عاش النبيُّ معهم مدَّة أربعين سنة ـــ قبل تكليفه بالرّسالة ـــ دون أن تبدر منه أيّ إشارة، ولو إلى أيّ واحدة أو فكرة معيَّنة من أفكاره، بل كانت حياته وأحاديثه جاريةً بطريقة عاديّة، ليس فيها أيُّ شيء يلفت النظر إلى مستقبل أمره من قريب أو من بعيد. وفي هذا دلالةٌ كبيرة على أنَّ الرسالة لم تتحرّك في أفكارها ولا في قرآنها من موقع إمكانات النبيّ الذّاتيَّة التي تحكم طبيعة الأمور، فإنَّ من الصَّعب، بل من المستحيل عادةً، على أيّ إنسان ينتج فكرةً تنبع منه، أن يعيش الصَّمت المطلق في حياته تجاهها، في أدوار تكاملها ونموّها في نفسه؛ فإنَّ سلوك الإنسان وأقواله يعتبر انعكاساً عفوياً لأفكاره وآرائه في الحياة، بحيث تصدر عنها كما يصدر النّور عن الشمس، والماء مع الينبوع، دون إرادة أو اختيار.
3 ـــ تاريخ البيئة الَّتي نشأ النبيّ وعاش فيها، فإنَّ المجتمع العربي الذي شكّل بيئة النبيّ محمَّد (ص)، لا يساعد على ولادة فكر في مستوى الفكر القرآني الَّذي يجسِّد عدّة ألوان من الثقافة تشمل كثيراً من شؤون المعرفة، كالتشريع والأخلاق والحديث عن أسرار الكون، والجوانب النفسيَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة بشكلٍ عام، ممّا لم يكن وارداً مع المستوى الثقافي المحدود لذاك المجتمع، كما نعرفه في تاريخ الجزيرة العربيَّة التي كانت ثقافتها لا تتعدَّى الجانب الأدبي.
* من كتاب "الحوار في القرآن".