[كيف نستطيع تعرُّف إعجاز القرآن الكريم؟].
إنَّ معنى المعجزة أن تكون الظاهرة التي تتمثّل فيها غير خاضعة للقوانين الطبيعيّة التي يسير عليها الناس في علاقة المسبّبات بأسبابها، كما يحدّثنا القرآن عن تحوُّل العصا إلى أفعى تلقف ما يأفكون، في يد موسى (ع)، وإحياء عيسى (ع) للموتى، وإبرائه للأكمه والأبرص بإذن الله، ممّا لا يستطيعه الأفراد الذين يملكون الاختصاص في السّحر والطبّ، لأنّه لا يخضع للأصول والأعراف المتّبعة عندهم.
وبهذا، كان القرآن معجزة بلاغيّة للإسلام، تحدّى بها العرب الذين كانت الفصاحة والبلاغة ميزتهم التي يتميَّزون بها، ومفخرتهم التي يفتخرون بها، وكان فيهم الفصحاء الّذين لا يتكلَّمون بكلمة إلاّ وتصبح مضرب الأمثال، وكان فيهم الخطباء الكبار والشّعراء الأفذاذ.
وجاء القرآن يمثّل القمّة في البلاغة العربيّة، بأسلوب جديد غير مألوف لديهم، وتحدَّاهم بأن يأتوا بسورة من مثله، ولم يستطيعوا أن يثبتوا أمام التحدّي رغم محاولاتهم المتكرّرة، ولم يتمكّنوا من مواجهته مواجهة عقلانيّة هادئة، بل انطلقوا يقولون إنّه سحر، وإنّه شعر، واكتشفوا بعد ذلك أنّ كلّ هذا القول هراء.
وقد حاول بعض علماء العربيّة أن يعتبروا عجز العرب عن محاكاته ومواجهته بمثله، خاضعاً لقانون الصُّرْفة الذي يعني أنَّ الله يعجزهم عن ذلك عندما يحاولونه، وإلاّ فهم قادرون بحسب طبيعتهم عليه.
ولكنَّ هذا القول لا ينسجم مع طبيعة المعجزة التي تتحدّى القدرة البشريّة بذاتها، دون حاجة إلى تدخّل غير طبيعيّ من قِبَل الله في ذلك، حيثُ يشعرون بالعجز أمامها بمجرّد مواجهتهم، لأنَّ العناصر التي تتمثّل فيها لا تخضع لقدرتهم المحدودة، كما أنّ ظاهر التحدّي القرآني يشير إلى ذلك:
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}[الإسراء: 88].
{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23].
أمّا كيف نكتشف الإعجاز، فنستطيع الوصول إلى ذلك بملاحظة دقيقة جداً، وهي أنْ نتعرَّف كيف انطلق الأسلوب القرآني ليجمع كلّ دقائق اللّغة العربيّة، مراعياً الانسجام بين الحروف والحركات والكلمات، ومنطلقاً في روعة التّصوير إلى أبعد حدّ، حتّى ليخيَّل إليك أنّك لا تواجه صوراً ذهنيّة أمامك، بل صوراً تتحرّك بخفّة وبراعة، حتّى لتجسّد أمامك المشهد في صورة حسيَّة تقتحم عليك مشاعرك وأحاسيسك، وحتّى لتشعر بأنّ القصّة تحيط بك من جميع جوانبك لتملك عليك وجدانك.
وبكلمة موجزة: إنَّ قيمة الأسلوب القرآني هو أنّه يلاحظ كلّ مقتضيات الحال في الكلمة والأسلوب والفكرة والصورة، حتّى تحسّ بأنّك لا تستطيع أن تتصرَّف في أيٍّ منها دون أن تسيء إلى الجوّ العام للآية والسورة، حتّى في الحركة البسيطة أو الكلمة الواحدة.
ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع تذوُّق هذا الإعجاز بالشّكل الذي تذوّقه العرب الذين نزل القرآن عليهم، لأنّهم كانوا يفهمون اللّغة ويعيشون معانيها بالفطرة، بينما ابتعدنا نحن عن جوّ اللّغة حتّى كدنا نصبح غرباء عنها.
ولذلك، فإنَّنا نحتاج إلى دراسة الأبحاث التي عرضت لإعجاز القرآن قديماً وحديثاً، لنستطيع الإحساس ولو من بعيد، بقيمة الأسلوب القرآنيّ، وعظمة الصورة القرآنيّة للحياة. ولعلَّ من أفضل الأبحاث التي عرضت لبعض جوانب الإعجاز، ما كتبه سيّد قطب في كتابيه "التصوير الفنّي في القرآن"، و"مشاهد القيامة في القرآن". ولا يفوتنا الإشارة إلى كتاب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في إعجاز القرآن، وغير ذلك من الكتب الكثيرة...
* من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة".