من المتّفق عليه عند كلّ العلماء من جميع المذاهب الإسلاميّة، أنّ المبعث النبوي الشريف يختلف عن الإسراء والمعراج، فالمبعث هو بداية النبوَّة وإخبار الوحي لمحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، باصطفائه من قبل الله عزّ وجلّ ليكون نبيًّا للناس كافّة. وأما الإسراء، فهو مسرى النبيّ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (بيت المقدس)، والمعراج هو العروج بالنبي من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى. [وهذا باختصار شديد].
أين نقطة الخلاف؟!
تكمن نقطة الخلاف في أنّ يوم السابع والعشرين من شهر رجب؛ هل أسري بالنبي وعرج به، إضافةً إلى المبعث النبوي الشريف؟ وإذا لم يكن كذلك، فمتى حدث الإسراء والمعراج؟!
وهنا دعوني أطرح سؤالاً آخر أيضًا: هل كان الخلاف بين تاريخيْن أم أكثر بالنّسبة إلى ذكرى الإسراء والمعراج؟!
إن المتتبّع للكتب التاريخية والروائية، يجد أن الخلاف لم يكن بين تاريخين فقط كما يعتقد البعض، فقد ذكر أكثر من تاريخ للإسراء والمعراج، إضافةً إلى أن الإسراء لم يكن إسراءً واحدًا، كما يستفاد من بعض الروايات وأقوال المؤرّخين، فهناك أكثر من إسراء ومعراج للنبيّ (ص)، وهذا يعني أن لدينا أكثر من تاريخ، أي أنّ هناك تعددًا ضمن فترات مختلفة لهذا الأمر.
والجدير بالذّكر أنّ الإسراء والمعراج، كما جزم كثير من المؤرّخين، قد حصل للنبيّ (ص) بعد البعثة المباركة، ولا يوجد تلازم بين البعثة والإسراء، وإن اتّحدا في تاريخ معيّن لو افترضنا ذلك، فإن قيل بأنّ السابع والعشرين من شهر رجب هو يوم المبعث؛ فربما قد حصل الإسراء بعد سنة أو سنتين أو ثلاث أو أكثر في هذا اليوم نفسه أو قريبًا منه، وهذا أمر وارد.
وكلّ التواريخ التي ذكرت الإسراء والمعراج كانت قبل الهجرة الثانية، بمعنى أنّ هذا الحدث العظيم كان في فترة الرّسالة والدعوة إلى الإسلام في مكّة المكرّمة، أي أوّل ثلاث عشرة سنة من الإسلام المحمدي، فلم أجد رأيًا أو احتمالاً يوحي بأنّ الإسراء قد حصل بعد الهجرة الثانية، وهنا نصل إلى نتيجة، ألا وهي: أنَّ الإسراءات قد حصلت في الفترة ما بين البعثة والهجرة الثّانية.
يقول العلامة الطباطبائي: "ثم اختلفوا في السنة التي أسري به (ص) فيها، فقيل: في السنة الثانية من البعثة، كما عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها، كما في الخرائج وعن علي (ع)، وقيل في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وقيل في السنة الثانية عشرة منها، وقيل قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل قبلها بسنة وثلاثة أشهر، وقيل قبلها بستة أشهر"[1].
والعلامة لم يهتمّ بتحديد اليوم والسنة، واعتبر ذلك ليس من الضرورة في شيء، كونه لا يرى أيّ مستند من الممكن التعويل عليه، ولكنّه نبّه إلى أنّ ما يستفاد من روايات أهل البيت (ع) أنها تصرّح بوقوع الإسراء والمعراج مرّتين.
فرض الصلاة وتحديد الإسراء
من المتّفق عليه أنّ فرض الصلاة على المسلمين لم يكن مع بداية الدعوة، بل كُلِّف بها المسلمون بعد ذلك بسنين، وبدأ فرضها مع النبيّ (ص) في إسرائه ومعراجه، وهذا يعني أنّ الإسراء والمعراج الذي فرضت فيه الصّلاة، كان في سنوات متأخّرة من البعثة، نسبةً إلى الحصر الذي قمنا به - من البعثة إلى الهجرة الثانية -، وهذا حسب النظرية التي تقول بتعدّد المعراجات.
ولو أضفنا الظروف التي مرّت على المسلمين من حصار في شعب أبي طالب في الثامنة من الهجرة، ولمدة ثلاث سنين، فهل كان المسلمون مستعدّين لوضع تكاليف عليهم كفرض الصّلاة؟! علاوةً على ما قبل ذلك من تعذيب وتشريد ومطاردة من قبل قريش للمسلمين، فالظروف لم تكن مهيّأة، ولم يكن المسلمون قد وصلوا إلى مرحلة إيمانية رسِّخ فيها الإسلام في نفوسهم، ليكونوا مستعدّين لمثل هذا الفرض.
ولذلك، فالإسراء والمعراج، ولو كان واحدًا، والذي فرض فيه الصلاة، كان في السنوات الأخيرة من الدعوة المكيّة، ولم يكن في بداية البعثة النبوية الشريفة.
مولد الزهراء وتحديد الإسراء
هناك من يرى أنّ الإسراء والمعراج قد حصل في السنة الخامسة من البعثة، ويستندون في ذلك إلى ما ورد في ميلاد السيّدة فاطمة الزهراء (ع)، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) وابن عباس وسعد بن مالك وسعد بن أبي وقّاص وعائشة: أنها إذ عاتبته على كثرة تقبيله لابنته الزّهراء، قال لها: يا عائشة! لمّا أسري بي إلى السّماء، أدخلني جبرائيل الجنّة، فناولني منها تفاحة، فأكلتها، فصارت نطفة في صلبي، ففاطمة من تلك النطفة، ففاطمة حوراء إنسيّة، وكلّما اشتقت إلى الجنة قبّلتها[2].
ومولد الزهراء كان في السنة الخامسة للبعثة، كما أفاد الشيخ المفيد، وعليه، فإن ربطنا الإسراء بما أفادته هذه الرّواية؛ فستكون قد أشارت إلى إسراء ومعراج قبل الإسراء والمعراج الذي فرضت فيه الصلاة، وهنا نحن أمام تاريخين مختلفين، ولكنّنا لا نعلم في أيّ شهر وفي أيّ يوم تحديدًا.
متى نزلت سورتا الإسراء والنّجم؟
ذكر السيوطي في "الدر المنثور" بإسناده عن عبدالله بن مسعود، أنه قال عن سورة الإسراء ومريم والكهف: "إنهنّ من العتاق الأول"[3]. وهو من المهاجرين إلى الحبشة، والهجرة الأولى حدثت في السنة الخامسة للبعثة، أي أنّ نزول الآيات التي تحدّثت عن الرحلة الملكوتية للنبي (ص) كان قبل السنة الخامسة للبعثة.
فإن قلنا بأنّ ذلك حدث ما بين بداية البعثة وخمس سنين منه تلت، فهذا مؤيّد كبير على أننا أمام أمرين:
الأوّل: يوجد إسراء ومعراج بداية البعثة النبوية الشريفة.
الثاني: يوجد إسراء ومعراج نهاية البعثة النبويّة الشريفة، أي ما قبل الهجرة بقليل، وفيه فرضت الصلاة.
أقوال مختلفة
هذه الاختلافات من الممكن أن نحصرها على النحو التّالي: يقول البعض إنّه [الإسراء والمعراج] حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب. والبعض يقول: إنَّه عرج به (ص) في رمضان من السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال: إنَّ المعراج وقع في أوائل البعثة[4].
ونجد في أحد المصادر، وهو "للعيني"، يقول: "وكان في السنة الثانية عشرة من النبوّة؛ وفي رواية البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزّهري، أنّه أسري به قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وعن السدي، قبل مهاجرته بستة عشر شهراً. فعلى قوله، يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري: يكون في ربيع الأوّل. وقيل: كان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب، وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرو المقدسي في سيرته"[5].
وروى قطب الدين الراوندي عن عليّ (ع) أنه قال: "لما كان بعد ثلاث سنين من مبعثه (ص)، أسري به إلى بيت المقدس، وعرج به منه إلى السّماء ليلة المعراج"[6].
وعن أنس قال مقاتل: كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة. ويقال: كان في رجب. وقيل: كان في [شهر] رمضان[7].
ويقول الشيخ مغنيّة: "أمّا زمن الإسراء فقيل: إنه ليلة 27 من رجب، وقيل: ليلة سبعة عشر من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة"[8].
ويذكر صاحب "العدد القويَّة" كلّ هذه الأقوال، حيث يقول: "وفي ليلة إحدى وعشرين من رمضان قبل الهجرة بستّة أشهر، كان الإسراء برسول الله (ص). وقيل: في السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت. وقيل: ليلة الإثنين من شهر ربيع الأوّل بعد النبوّة بسنتين.. وفي ليلة السابع والعشرين من رجب السنة الثانية من الهجرة كان الإسراء"[9].
وقد وجدت بعض العلماء ممن يحيي هذه الذّكرى ويمزج بين المناسبتين "المبعث" و"الإسراء والمعراج"، ومن ضمن هؤلاء، السيّد موسى الصّدر والسيّد فضل الله والشيخ نعيم قاسم، وغيرهم من العلماء، ولا سيّما في لبنان.
وقد يكون سبب ذلك، أن الإسراء والمعراج ليس له مستند دقيق في تاريخ حدوثه، فبعض جعله مع مولد النبيّ (ص)، وهو السابع عشر من شهر ربيع الأوّل، وبعضٌ جعله مع المبعث النبوي الشريف، في السابع والعشرين من شهر رجب، وبعض جعله في الواحد والعشرين من شهر رمضان، وكلّ الأقوال هي ظنية، فلا يوجد ما يثبت رجحان أحدها على الباقي وردّ آخر، ولذلك قال البعض بأنّ الإسراءات تعدّدت، وهذا هو سبب تعدّد الأقوال واختلاف الأوقات.
والجدير بالذكر أنّ كلّ هذه الأقوال هي مزيج بين العلماء من السنّة والشيعة في تحديد الإسراء والمعراج، فلو قام بإحيائها البعض مع المبعث النبويّ الشريف مثلاً، فهذا لا يعني أنه قد أخذ هذا القول من مذهب آخر، لأنّ تعدّد الأقوال موجود عند السنّة والشيعة، فليس هنالك مذهب قد اتفق علماؤه بتحديد الإسراء والمعراج على نحو الدقّة.
وما يهمّنا في هذا المقام، هو أن نستفيد من هذه الرحلة المباركة التي تعتبر من غيب الله وعظمته، وأن نعيش مع رسول الله (ص) في إسرائه ومعراجه، على أن نكون الحاضرين في عمق الذات الرساليّة التي أراد الله لها أن تعيش تجربة فريدة من نوعها؛ أن تسير نحو بيت المقدس حيث روح دعوة الأنبياء والمرسلين، وتعرج نحو سدرة المنتهى حيث علم الغيب.
[1] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان، ج13، ص23.
[2] ينابيع المودة، ص97. وكنز العمال، ج30، ص94. وتاريخ بغداد، ج5، ص87. ومصادر كثيرة أخرى.
[3] الدر المنثور، ج4، ص136.
[4] نقلا عن الشيخ مكارم الشيرازي من موقع هدى القرآن: https://www.hodaalquran.com/details.php?id=9305 بتاريخ23/3/2020م.
[5] العيني، عمدة القاري، ج4، ص39.
[6] الخرائج والجرائح، ج1، ص141.
[7] معالم التنزيل، ج3، ص105.
[8] مغنية، محمد جواد، الكاشف، ج5، ص8.
[9] الحلي، علي بن يوسف، العدد القوية، 234 و244.