كان تأريخ قبيلة أبي ذرّ الغفاري سلبياً، فقد كان من عشيرة بني غفّار، وكانوا يقطعون الطريق ويسلبون المارّة، ولكنَّ هذا الرجل كان يعيش منذ بداياته موحِّداً لله، حتى إنّه كان يصلّي على طريقته، كما يحدّث عن نفسه في العشاء، مبتهلاً إلى الله سبحانه وتعالى.
وكان يعيش قلق البحث عن الحقيقة، ويحدّث عن نفسه أيضاً أنَّ أخاه ذهب إلى مكّة في بداية عهد الرسالة، وسمع عن رسول الله (ص) ما كانت تحدّث به قريش، وكان أخوه شاعراً، وسمع رسول الله (ص)، وحدّث أبا ذر بما سمعه من رسول الله (ص)، وقال له إنّ حديثه ليس حديث شعر، فأنا أعرف الناس بالشعر، وليس حديث كهانة، ولكنّه حديث جديد يأخذ بمجامع القلب.
وجاء أبو ذر إلى مكّة باحثاً عن الحقيقة، والتقاه عليّ (ع) واستضافه، والتقى برسول الله (ص)، وعندما سمعه، أسلم وتشهّد الشهادتين، وسأل رسول الله (ص): ماذا أفعل؟ بعد أن لاقى من قريش العنت والاضطهاد، وعندما أسلم، قال لرسول الله (ص): يا رسول الله، إنّي أريد أن أعلن إسلامي، فقال له رسول الله (ص): إنّهم سوف يؤذونك. لكنّه أعلن إسلامه، وضربوه حتى نالوا منه، ولكنّ العباس عم النبيّ (ص) أنقذه منهم، وقال لقريش إنّكم أهل تجارة، وإنّكم تمرّون على بني غفّار، فقد يعرضون لتجارتكم، فكفّوا عنه. وقال له رسول الله (ص): اذهب إلى عشيرتك وانتظرني إلى أن أذهب إلى المدينة، وذهب، ودعا عشيرته إلى الإسلام وأسلم نصفهم، كما تقول الرواية، وقال النصف الآخر عندما يأتي رسول الله (ص) إلى يثرب، فإننا نلتقيه ونسلم على يديه. والتقوا رسول الله (ص)، وأسلم كلّ بني غفار، وأسلمت معهم عشيرة أخرى، وهي عشيرة (أسلم)، وقد دعا لهم رسول الله (ص).
وعاش هذا الصحابي مع رسول الله (ص) يسمع منه ويروي عنه، ونقرأ مما رواه عن رسول الله(ص) قوله: "أمرني خليلي رسول الله بسبع"، وانظروا إلى كلمة خليلي، أي صديقي، فلقد بلغت العلاقة مبلغاً كانت بمثابة الصَّداقة بينه وبين رسول الله (ص)، وهذا التعبير لا ينطلق إلَّا بعد أن تكون العلاقة قد وصلت إلى نوع من الحميميَّة والصميميَّة، بحيث إن الرجل أصبح في علاقته برسول الله (ص) في مستوى الصَّداقة من خلال هذا الحبّ الذي عاشه أبو ذرّ لرسول الله (ص). ثم انظروا إلى هذه الوصايا الغضّة الحيّة، بحيث ما زالت تتحرَّك في المجتمعات الإسلاميَّة لتؤصّل القيمة الروحيَّة الأخلاقيَّة لشخصيَّة الإنسان المسلم.
"أمرني بحبّ المساكين والدنوّ منهم"، أن أعيش مع الفئة التي ترتبط بالأرض، والتي تعيش عفوية القيمة الإنسانيَّة وبساطة الروح، هؤلاء الذين عاشوا المسكنة فقراً وجوعاً، ولكنّهم عاشوا العزّة في أنفسهم، فلقد أمره رسول الله (ص) أن يعيش مع هؤلاء، حتى يتعلّم كيف يعيش الارتباط بالمعنى الإنسانيّ للإنسان، وهذا ما نقرأه في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): "اللّهمَّ حبِّب إليَّ صحبة الفقراء، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصَّبر"، لأنّ من الطبيعي أن تكون هناك بعض التعقيدات في حياتهم، مما قد يتضايق الإنسان من العيش معهم، ولذلك فلا بدَّ من أن يصبر على تلك التعقيدات.
"وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي"، لأنّ الإنسان إذا نظر إلى من هو دونه، عرف نعمة الله عليه فيما أعطاه مما يميّزه عن هؤلاء، بينما إذا نظر إلى من هو فوقه، لم يشعر بنعمة الله عليه، بل ربّما يدفعه الحسد وعدم الرّضا بقضاء الله لأن يتصوّر أن الله لم يعطه كما أعطى فلاناً.
"وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً"، فكلّ ما أستطيع أن آتيه، أحاول أن أقوم به بنفسي ولا أكلّف غيري مشقَّته، وما لا أستطيع أن آتيه، أصبّر نفسي عليه، وأحاول أن أطوّر قدراتي حتى أتمكّن منه...
"وأمرني أن أصل الرِّحم وإن أدبرت"، أن أصل الرحم حتى ولو كانت قاطعةً.
"وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مرّاً"، بحيث أواجه كلّ مواقع الباطل، فلو جاء الباطل بكلّ إغراءاته ليقدّم إليَّ كلّ حلاوة المطامع والشَّهوات، فإنّي أقول الحقّ، لأنّ الناس إذا قالوا الحقّ وتحمّلوا مرارته، ركّز الحقّ وجوده في الواقع، ولكنَّنا إذا كنّا لا نقول الحقّ، بل نتحرَّك مع الباطل، لأنّ شهواتنا تتفق مع الباطل، فسوف يموت الحقّ وتموت الإيجابيات التي نحصل عليها من خلال الحقّ.
"وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم"، بحيث إنّ الله إذا أمرني في شيء، ورأيت رضاه في شيء، وكان كلّ الناس يلومونني ويشتمونني ويضطهدونني، فإنني لا أخاف منهم، بل أراقب الله في ذلك كلّه.
"وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله"(1) التي تعني أنّ الإنسان عندما يضعف، فإنّه يستمدُّ الحول والقوَّة من الله، وعندما يقوى، لا يشعر بذاتيَّة القوّة ولا بطغيانها، بل يشعر بأنها من الله سبحانه وتعالى، وأنَّ الله الذي أعطاه القوّة، يمكن أن يسلبه إيّاها، فلا يستعمل قوّته فيما لا يرضي الله.
وقد قام أبو ذرّ بتنفيذ كلّ هذه الوصايا في حياته.
---------
(1) راجع صحيح ابن حبان، ج2، ص 449.
المصدر من كتاب "النَّدوة"، ج9.
كان تأريخ قبيلة أبي ذرّ الغفاري سلبياً، فقد كان من عشيرة بني غفّار، وكانوا يقطعون الطريق ويسلبون المارّة، ولكنَّ هذا الرجل كان يعيش منذ بداياته موحِّداً لله، حتى إنّه كان يصلّي على طريقته، كما يحدّث عن نفسه في العشاء، مبتهلاً إلى الله سبحانه وتعالى.
وكان يعيش قلق البحث عن الحقيقة، ويحدّث عن نفسه أيضاً أنَّ أخاه ذهب إلى مكّة في بداية عهد الرسالة، وسمع عن رسول الله (ص) ما كانت تحدّث به قريش، وكان أخوه شاعراً، وسمع رسول الله (ص)، وحدّث أبا ذر بما سمعه من رسول الله (ص)، وقال له إنّ حديثه ليس حديث شعر، فأنا أعرف الناس بالشعر، وليس حديث كهانة، ولكنّه حديث جديد يأخذ بمجامع القلب.
وجاء أبو ذر إلى مكّة باحثاً عن الحقيقة، والتقاه عليّ (ع) واستضافه، والتقى برسول الله (ص)، وعندما سمعه، أسلم وتشهّد الشهادتين، وسأل رسول الله (ص): ماذا أفعل؟ بعد أن لاقى من قريش العنت والاضطهاد، وعندما أسلم، قال لرسول الله (ص): يا رسول الله، إنّي أريد أن أعلن إسلامي، فقال له رسول الله (ص): إنّهم سوف يؤذونك. لكنّه أعلن إسلامه، وضربوه حتى نالوا منه، ولكنّ العباس عم النبيّ (ص) أنقذه منهم، وقال لقريش إنّكم أهل تجارة، وإنّكم تمرّون على بني غفّار، فقد يعرضون لتجارتكم، فكفّوا عنه. وقال له رسول الله (ص): اذهب إلى عشيرتك وانتظرني إلى أن أذهب إلى المدينة، وذهب، ودعا عشيرته إلى الإسلام وأسلم نصفهم، كما تقول الرواية، وقال النصف الآخر عندما يأتي رسول الله (ص) إلى يثرب، فإننا نلتقيه ونسلم على يديه. والتقوا رسول الله (ص)، وأسلم كلّ بني غفار، وأسلمت معهم عشيرة أخرى، وهي عشيرة (أسلم)، وقد دعا لهم رسول الله (ص).
وعاش هذا الصحابي مع رسول الله (ص) يسمع منه ويروي عنه، ونقرأ مما رواه عن رسول الله(ص) قوله: "أمرني خليلي رسول الله بسبع"، وانظروا إلى كلمة خليلي، أي صديقي، فلقد بلغت العلاقة مبلغاً كانت بمثابة الصَّداقة بينه وبين رسول الله (ص)، وهذا التعبير لا ينطلق إلَّا بعد أن تكون العلاقة قد وصلت إلى نوع من الحميميَّة والصميميَّة، بحيث إن الرجل أصبح في علاقته برسول الله (ص) في مستوى الصَّداقة من خلال هذا الحبّ الذي عاشه أبو ذرّ لرسول الله (ص). ثم انظروا إلى هذه الوصايا الغضّة الحيّة، بحيث ما زالت تتحرَّك في المجتمعات الإسلاميَّة لتؤصّل القيمة الروحيَّة الأخلاقيَّة لشخصيَّة الإنسان المسلم.
"أمرني بحبّ المساكين والدنوّ منهم"، أن أعيش مع الفئة التي ترتبط بالأرض، والتي تعيش عفوية القيمة الإنسانيَّة وبساطة الروح، هؤلاء الذين عاشوا المسكنة فقراً وجوعاً، ولكنّهم عاشوا العزّة في أنفسهم، فلقد أمره رسول الله (ص) أن يعيش مع هؤلاء، حتى يتعلّم كيف يعيش الارتباط بالمعنى الإنسانيّ للإنسان، وهذا ما نقرأه في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): "اللّهمَّ حبِّب إليَّ صحبة الفقراء، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصَّبر"، لأنّ من الطبيعي أن تكون هناك بعض التعقيدات في حياتهم، مما قد يتضايق الإنسان من العيش معهم، ولذلك فلا بدَّ من أن يصبر على تلك التعقيدات.
"وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي"، لأنّ الإنسان إذا نظر إلى من هو دونه، عرف نعمة الله عليه فيما أعطاه مما يميّزه عن هؤلاء، بينما إذا نظر إلى من هو فوقه، لم يشعر بنعمة الله عليه، بل ربّما يدفعه الحسد وعدم الرّضا بقضاء الله لأن يتصوّر أن الله لم يعطه كما أعطى فلاناً.
"وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً"، فكلّ ما أستطيع أن آتيه، أحاول أن أقوم به بنفسي ولا أكلّف غيري مشقَّته، وما لا أستطيع أن آتيه، أصبّر نفسي عليه، وأحاول أن أطوّر قدراتي حتى أتمكّن منه...
"وأمرني أن أصل الرِّحم وإن أدبرت"، أن أصل الرحم حتى ولو كانت قاطعةً.
"وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مرّاً"، بحيث أواجه كلّ مواقع الباطل، فلو جاء الباطل بكلّ إغراءاته ليقدّم إليَّ كلّ حلاوة المطامع والشَّهوات، فإنّي أقول الحقّ، لأنّ الناس إذا قالوا الحقّ وتحمّلوا مرارته، ركّز الحقّ وجوده في الواقع، ولكنَّنا إذا كنّا لا نقول الحقّ، بل نتحرَّك مع الباطل، لأنّ شهواتنا تتفق مع الباطل، فسوف يموت الحقّ وتموت الإيجابيات التي نحصل عليها من خلال الحقّ.
"وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم"، بحيث إنّ الله إذا أمرني في شيء، ورأيت رضاه في شيء، وكان كلّ الناس يلومونني ويشتمونني ويضطهدونني، فإنني لا أخاف منهم، بل أراقب الله في ذلك كلّه.
"وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله"(1) التي تعني أنّ الإنسان عندما يضعف، فإنّه يستمدُّ الحول والقوَّة من الله، وعندما يقوى، لا يشعر بذاتيَّة القوّة ولا بطغيانها، بل يشعر بأنها من الله سبحانه وتعالى، وأنَّ الله الذي أعطاه القوّة، يمكن أن يسلبه إيّاها، فلا يستعمل قوّته فيما لا يرضي الله.
وقد قام أبو ذرّ بتنفيذ كلّ هذه الوصايا في حياته.
---------
(1) راجع صحيح ابن حبان، ج2، ص 449.
المصدر من كتاب "النَّدوة"، ج9.