وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:
م ـ 701: يتحقق (الغبن) في البيع عند بيع العين بأقل من قيمتها المجعولة لأمثالها في السوق، أو عند شراء العين بأكثر من قيمتها المجعولة لأمثالها في السوق؛ وليس للقلة والكثرة حدّ محدود بمثل الثلث أو الربع أو الخمس منسوباً إلى كلي الثمن المدفوع، بل إن المقياس فيهما هو عدم تساهل غالب الناس بالمقدار الزائد أو الناقص، وهو أمر يختلف باختلاف نوع المعاملة التجارية وكميتها، فبعض المعاملات التجارية الكبرى يكفي في صدق الغبن فيها كون التفاوت بمقدار العشر أو نصف العشر، فيما لا يضر ذلك بمعاملات أخرى، فالمعيار في القلة والكثرة هو تساهل الغالبية من الناس وتسامحهم فيها أو عدم تسامحهم.
كذلك فإنه لا بد ـ عند لحاظ القلة أو الكثرة ـ من لحاظها مع الشروط التي أخذها أحد المتعاقدين أو كلاهما على الآخر، مما قد يكون له علاقة بزيادة الثمن أو نقصه في السوق.
م ـ702: إذا تحقق الغبن تخير المغبون ابتداءً بين الرضا بالمعاملة بالثمن الذي وقعت عليه دون مطالبة المغبون بمقدار التفاوت، وبين فسخ العقد وإلغاء المعاملة، نعم إذا جرى عرف البلد الذي تمت فيه المعاملة، في جميع المعاملات أو في بعضها، على قاعدة مفادها: (أن للمغبون المطالبة بمقدار التفاوت أولاً، فإن رضي الغابن بدفعه لم يكن للمغبون فسخ العقد، وإن لم يرض بدفعه كان له أن يفسخ العقد حينئذٍ)، كان الخيار للمغبون عندئذ بذلك النحو المتعارف.
م ـ703 : إذا ثبت الخيار للمغبون بين الفسخ والرضا بالعقد كما وقع لم يجب عليه قبول مقدار التفاوت إذا بذله الغابن، بل إن له الفسخ رغم ذلك إذا كان راغباً به؛ كما أن له أن يصالحه على الرضا بالعقد مقابل مبلغ يدفعه الغابن لإسقاط حقه في الفسخ؛ فإذا تصالحا كذلك سقط الخيار، ووجب على الغابن دفع عوض المصالحة.
م ـ704: إنما يثبت الخيار للمغبون بالنحو المتقدم في صورة ما لو كان جاهلاً بالغبن ومبالياً وحريصاً على التعامل بسعر السوق، فلو كان عالماً بالغبن وخبيراً بالأسعار، أو كان جاهلاً لكنه لم يكن مبالياً بالتعامل بسعر السوق وراغباً بالسلعة بأي سعر كان، لم يكن له الخيار في الحالتين.
م ـ705: إذا باع أو اشترى شيئين بثمنين صفقة واحدة، أي بشرط كونهما مجتمعين في مبيع واحد، وكان مغبوناً في أحدهما دون الآخر، لم يكن له التبعيض في الفسخ، بل إن عليه إما فسخ البيع فيهما أو الرضا به كذلك بثمنه الذي وقع البيع عليه.
م ـ706: الظاهر اعتبار الفورية العرفية في خيار الغبن، بمعنى لزوم مبادرة المغبون لاستخدام حقه في الفسخ إذا عزم عليه، وعدم تأخيره أزيد مما هو متعارف فيه بحسب موارده المختلفة في نوع وكيفية المبادرة، وذلك عند حصول العلم بثبوت الغبن وثبوت الخيار له بسببه، فلا يضر في ثبوته مرور مدة كان فيها جاهلاً بهما أو بأحدهما أو غافلاً عن ذلك أو ناسياً له إذا بادر لاستخدام حقه بالنحو المتعارف بعد العلم والالتفات. كذلك لا يضر التأخير الذي لا يعد توانياً ومماطلة في استخدام الخيار وإعماله، كما لو انتظر حضور الغابن، أو ليستشير نفسه ويتفكر في الفسخ وعدمه، أو نحو ذلك مما لا يتنافى عرفاً مع الفورية.
م ـ707: الظاهر كون خيار الغبن ثابتاً من حين العقد لا من حين ظهور الغبن، ويترتب على ذلك أن المغبون حال جهله بالغبن إذا فسخ المعاملة بسبب أو بدون سبب يصح فسخه إذا ثبت الغبن واقعاً، فلا يحتاج معه إلى فسخ جديد بعد ظهور الغبن.
م ـ708: يشكل ثبوت خيار الغبن في صورة ما لو كان مغبوناً حين العقد، ثم تغيرت الأسعار فزال الغبن قبل استخدام الخيار وفسخ العقد، وعليه حينئذ إما الرضا بالمعاملة أو الاحتياط الوجوبي بالتصالح مع الغابن على الفسخ وتحصيل رضاه به.
م ـ709: يجري الخيار المذكور في كل معاوضة لا تبتني على التسامح واغتفار الزيادة والنقص، كالإجارة ونحوها، وإلا لم يجر فيها الخيار، وذلك كما في الصلح الذي يُهدف منه إلى قطع النزاع وفضِّ الخصومة ولو كان فيها نقص عليهما أو على أحدهما.
م ـ710: يسقط خيار الغبن ـ إضافة لسقوطه بما سبق ذكره ـ بأمور:
الأول: إسقاطه بعد العقد، ولو قبل ظهور الغبن، نعم إذا أسقطه بانياً على التساهل بالغبن إلى حد معين فتبين كونه أفحش من ذلك وأكثر بطل الإسقاط وثبت له الخيار، إلا أن يكون حين الإسقاط غير مهتم بدرجة الغبن ـ لو انكشف ـ بقدر اهتمامه بإعفاء الغابن من مسؤولية الغبن وإسقاط حقه عنه. وكذا الحكم لو تصالحا على إسقاط خيار الغبن قبل ظهور الغبن إذا ظهر وتبين كونه أكثر مما كان يتوقع.
الثاني: اشتراط سقوطه في متن العقد؛ ولو فرض أنه بنى قبوله الضمني بالشرط على ما لو كان التفاوت معقولاً فتبين كونه أفحش مما توقع فإنه يجري فيه التفصيل المتقدم في الأمر الأول.
الثالث: أن يتصرف المغبون بالعين بعد علمه بالغبن تصرفاً يدل على التزامه بالعقد واختياره المضي فيه، وذلك بمثل تفصيل الثوب أو بيعه أو هبته أو نحو ذلك؛ وأما إذا تصرف بها قبل العلم بالغبن، ولم يظهر من تصرفه هذا ما يدل على رضاه بالعقد على كل حال، كما هو الغالب في التصرف بالعين في حال الجهل بالغبن، لم يسقط الخيار بذلك التصرف، حتى لو كان متلفاً للعين أو مخرجاً لها عن الملك بالبيع ونحوه، وإلا سقط الخيار إذا دل تصرفه على الرضا بالعقد على كل حال.
م ـ711: إذا ظهر الغبن للبائع المغبون، ففسخ البيع، فإن كان المبيع ما يزال موجوداً عند المشتري استرده منه؛ وإن وجده تالفاً بفعل المشتري أو بغير فعله ضمنه للبائع، فيرجع البائع عليه حتى لو كان المتلف آفة طبيعية أو شخصاً أجنبياً، نعم إذا كان متلف المبيع هو المغبون نفسه لم يرجع على المشتري حينئذ؛ وكما هي القاعدة في كل مورد من موارد الضمان، فإن على المشتري دفع مثل المبيع إن كان مثلياً أو دفع قيمته إن كان قيمياً، وذلك بحسب قيمته يوم تلفه.
ويثبت حكم الإتلاف هذا ـ أيضاً ـ فيما إذا نقل المشتري المبيع إلى غيره، سواءً بالعقد اللازم، كالبيع والهبة المعوّضة والصدقة ونحوها، أو بالعقد الجائز كالهبة غير المعوضة والبيع بالخيار، فليس للبائع المطالبة باسترجاع عين المبيع حتى مع إمكانه من قبل المشتري، ولو طلبه البائع لم يجب على المشتري إجابته؛ نعم إذا رجعت العين إلى المشتري بأي سبب كان، بما في ذلك ما لو كان قد اشتراها ممن انتقلت إليه، وذلك قبل فسخ المغبون للعقد أو بعده وقبل دفع المشتري البدل له، وجب عليه رد العين إليه حينئذٍ.
هذا، ولا يمنع من رد العين كونها مسلوبة المنفعة بإجارة أو عارية، بل له الاستمرار في عقده ولو كان جائزاً، ويخلي ما بين المالك وبين العين المباعة مسلوبة المنفعة، مع تعويض ما ينقص من قيمتها بسبب ذلك.
م ـ712: إذا فسخ البائع المغبون عقد البيع، وكان قد طرأ على المبيع تغير بفعل المشتري وتصرفه فيه، أو بغير فعله، كفعل أجنبي أو بحادث طبيعي، فإنَّ حكمه يختلف بين ما لو كان التغير بالزيادة تارة وبالنقص أخرى وبالامتزاج ثالثة، وذلك على النحو التالي:
أولاً: حكم التغير بالنقص:
فإذا حدث بسبب التصرف في المبيع نقص كان للبائع استرداده مع ضمان المشتري له مثل ما نقص أو قيمته؛ كذلك فإن عليه أن يدفع زيادة على ذلك أرش النقص الذي قد يحدث على القسم المسترد من العين إذا كان فقدانها لجزء منها موجباً لحدوث نقص في قيمتها لا يعوضه ما دُفع من قيمة الجزء الناقص أو من مثلٍ له.
ثانياً: حكم التغير بالزيادة:
إذا حدثت زيادة في المبيع عند المشتري، ففيه حالات ثلاث:
الأولى: أن تكون الزيادة صفة متحققة في العين دون أن تُحدث فيها زيادةً في نفس مادتها، كالطحن للقمح والصبغ للثوب، فإن لم توجب مثل هذه الزيادة زيادة في القيمة أخذها البائع منه دون أن يترتب عليه شيء للمشتري عوضاً لتلك الزيادة، وكذا إن أوجبت زيادة في القيمة على الأقرب، وذلك من دون فرق بين ما لو كانت بفعله، كصبغ الثوب، أو بغير فعله، كما إذا اشترى منه خلاً قليل الحموضة فزادت حموضته من نفسه.
الثانية: أن تكون الزيادة صفة موجبة لزيادة مادة العين نفسها، فإن لم تكن قابلة للانفصال عنها، كسمن الحيوان ونمو الشجرة، فإن حكمها هو نفس حكم الحالة الأولى.
وأما إذا كانت قابلة للانفصال، كالصوف واللبن والثمر والبناء والزرع ونحوها، فإن الزيادة كلها للمشتري، وحينئذ فإن لم يلزم من فصل الزيادة عند استرداد البائع للعين ضرر على المشتري كان له إلزامه بفصل الزيادة عن العين وأخذها، بل إن له إلزامه ولو كان فيه ضرر على المشتري، وإن كان الأحوط استحباباً التراضي بينهما على ذلك، أو ضمان البائع للمشتري ما يحدث عليه من ضرر الفصل. وفي مقابل ذلك، فإنه ليس للبائع منع المشتري من فصل تلك الزيادة، لكنَّ على المشتري تدارك ما يحدث من نقص على العين للبائع، فإذا أراد مثلاً قلع شجرته أو هدم بنائه، كان عليه أن يطمّ الحفرة ويسوي الأرض عند إرجاعها إلى البائع.
الثالثة: أن تكون الزيادة بامتزاج المبيع بغيره، كامتزاج ماء الورد بالماء، أو الخل بالسكر، أو الزيت بالزيت ونحو ذلك، وحكمه يختلف باختلاف الآثار الناتجة عن الامتزاج على النحو التالي:
أ ـ أن يكون ا لامتزاج بغير جنسه، فإن أوجب الامتزاج استهلاك المبيع وصيرورته بحكم التالف، كامتزاج ماء الورد بكمية كبيرة من الماء، ضمن المشتري المبيع للبائع بمثله أو قيمته؛ وإن أوجب الامتزاج تولد طبيعة ثالثة بسبب التفاعل بين الممتزجين، كالشراب المعروف في بعض البلاد بـ(السكنجبين) المصنوع من الخل والسكر، فحكمه اشتراك البائع والمشتري في العين بنسبة مقدار العنصر الذي يملكه كل منهما إلى المجموع لا بنسبة قيمة ذلك العنصر؛ وإن لم يوجب الاختلاط تولد طبيعة ثالثة؛ بل عد الموجود خليطاً من موجودات متعددة لا يمكن فرز بعضها عن بعض إلا بكلفة بالغة، كمزج مقدار من القمح بمثله من الشعير، فليس للبائع إلزام المشتري بفرز المبيع عن الزيادة الغريبة التي طرأت عليه، بل ولا إلزامه بدفع بدله، بل يتصالحان على حل مُرضٍ لهما بوجه لا يستلزم الربا، على ما سنذكره في (ربا المعاملة).
بـ ـ أن يكون الامتزاج بموجود من جنسه، فإن بقيا بالامتزاج متمايزين، كاختلاط القمح بالقمح، فحكمه هو نفس حكم الامتزاج بغير جنسه مما لا يمكن فرزه عنه، دون فرق في ذلك بين ما لو كانا متماثلين في الجودة والرداءة أو مختلفين؛ وإن صارا بالامتزاج موجوداً واحداً، كخلط الطحين بالطحين، أو السمن بالسمن، فإنهما يشتركان فيه بنسبة مقدار ما لكل منهما.
م ـ713: إن ما ذكرناه في المسألة السابقة والتي قبلها حول حكم تلف أو تغير المبيع عند المشترى إذا كان البائع هو المغبون يجري بنفسه في صورة ما لو كان المغبون هو المشتري، وكان حين فسخ البيع قد تلف المبيع عنده، أو تصرف به تصرفاً مغيراً له بالزيادة أو النقص أو الامتزاج؛ أو كان البائع الغابن قد تصرف بالثمن بما أوجب تلفه أو تغيره، أو كان البائع المغبون قد تصرف هو بالثمن بما يوجب تلفه أو تغيره، فإن حكم تلف العين ونقل المنفعة ونقص العين وزيادتها ومزجها بغيرها، وسائر الصور التي ذكرناها هناك، يجري بنفسه في جميع هذه الفروع.
م ـ714: إن ما ذكرناه في المسائل السابقة من أحكام تلف أحد العوضين، أو تغيره بالزيادة أو النقص، يرجع إلى ما لو كان المتلف هو غير مالكه الأول (أي: غير من ستؤول إليه العين بعد فسخ العقد)، فلو كان متلف المبيع الموجود عند المشتري هو مالكه الأول، أي البائع، أو كان متلف الثمن الموجود عند البائع هو مالكه الأول، أي المشتري، فإن حكم التلف والتغير سوف يختلف كما يلي:
أولاً: إذا أتلف البائع المغبون المبيع عند المشتري، أو أتلف المشتري المغبون الثمن عند البائع، ثم فسخ العقد لم يكن له شيء عند الآخر، فلا يطالبُ البائعُ المشتري بالمبيع لأنه هو الذي أتلفه، وعليه إرجاع الثمن للمشتري، وكذا لا يطالب المشتري المغبونُ البائع بالثمن لأنه هو الذي أتلفه، وعليه ردُ المبيع له؛ ونفس الحكم يثبت لو كان المتلفُ غابناً وأراد صاحبُه المغبونُ فسخَ العقد، فإنه ليس له شيء على المغبون إذا كان هو الذي أتلف العين التي كان ينبغي ردها إليه.
ثانياً: إذا حدث تغيّر في أحد العوضين بالزيادة أو النقص من قِبَل من سيؤول إليه بعد فسخ المغبون العقد، كأن يُحدثَ البائعُ المغبونُ في المبيع الذي هو تحت يد المشتري ما يوجب الزيادة فيه أو النقص، أو يُحدثَ المشتري المغبونُ في الثمن الذي هو تحت يد البائع حدثاً كذلك، فإن كان زيادة فلا إشكال، لأن مآل العين إليه بعد الفسخ والزيادة منه، فهي ـ إذاً ـ منه إليه، وإنْ كان نقصاً مضموناً، فإنه هو الفاعل في ملكه فلا إشكال أيضاً؛ وفي كل الأحوال ليس على الطرف الآخر سوى تسليم العين التي عنده ثمناً أو مثمناً لمالكها الأول على حالتها التي هي عليه من زيادة أو نقص ما دامت بفعله، كما أنّ على هذا المالك الأول أن يرجع ما عنده من ثمن أو مثمن لذلك الطرف الآخر.