هو الإمام موسى بن جعفر الذي عاش حياته ـ كما عاش آباؤه وأبناؤه ـ من أجل الإسلام والمسلمين، فاستطاع أن يملأ عصره تقًى وحركةً في سبيل وعي الأُمّة لمواقفها ولمواقعها، وفي سبيل مواجهة الأُمَّة لحكّامها الّذين يضغطون على حرّيّتها، والذين يعملون على أساس الانحراف عن خطّ الرّسالة.
كاظم الغيظ
من ألقابه "كاظم الغيظ". وهذه الكلمة تعني الإنسان الّذي يحبس غيظه إذا أغاظه أحد، ويفكّر كيف يحلّ هذه المشكلة التي تواجهه من الذين يكيدون له أو يسعون لأذيّته أو يحقدون عليه.
كان لا ينفعل، ولا يمارس ردود الفعل السّريعة إزاء الذين يخاصمونه أو يتكلّمون عليه بشكلٍ غير لائق، في الوقت الّذي كان يستطيع أن يقمعهم بالقوّة، لأنّه كان يفكّر من خلال خطّ الإسلام.
إنَّ الإنسان إذا وقف أمام أسلوبين؛ أسلوب يستطيع أن يحوِّل من خلاله العدوَّ إلى صديق، وأسلوب يقتل من خلاله عدوّه أو يزيد عداوته، فإنّ الإسلام يقول للإنسان: إنَّ عليك أن تتصرّف بالأسلوب الذي يتحوّل فيه عدوّك إلى صديق، لأنَّ مشكلتك في عدوّك ليست في شخصه، وإنّما في عداوته. ولذا، فإن استطعت أن تقتل عداوته وانحرافه وتبقي على شخصه، فإنّك الرابح في ذلك.
تنقل سيرة الإمام (ع) أنّه كان هناك شخص في المدينة يسبّه بمختلف الكلمات السيّئة، حتى إِنّ طريقته في السبّ وفي التكلُّم، أثارت أصحاب الإمام وأثارت أقرباءه، حتى قالوا للإمام: ائذن لنا أن نقتله، فمنعهم من ذلك.
ثمّ في يوم من الأيّام، ذهب الإمام إلى هذا الرَّجل ـ بعد أن سأل عنه وقيل له إنَّه في بستانه ـ فذهب إليه في البستان ودخل عليه وهو جالس، فقال الرَّجل: إنّك تفسد عليَّ زرعي، فتابع الإمام سيره حتّى وصل إليه، فقال له: كم تؤمّل في زرعك؟ قال له: لا أعلم الغيب. قال له: لم أقل لك كم تخرج وكم تحصّل في زرعك، بل كم تؤمّل؟ قال: أؤمّل أن يخرج بمئتي دينار. قال هذه ثلاثمائة دينار وزرعك على حاله.
ثم بدأ يتحدّث معه بكلّ الكلام الذي يفتح قلبه وعقله وعاطفته، حتّى ودّعه بكلّ ما يملك من الاحترام، ثمّ سبقه الإمام إلى المسجد، وعندما دخل والناس جالسون ـ هؤلاء الناس الذين اعتادوا أن يسمعوا السبّ من هذا الشّخص ـ بادر هذا الرّجل إلى الإمام وهو يقول للنّاس: الله أعلم حيث يجعل رسالته. والتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً لهم: انظروا أيّ أسلوب أفضل؛ أن تذهبوا لقتله فتخلقوا ألف مشكلة من خلال قتله، أم أن نحتوي عداوته من خلال الأساليب التي يمكن أن تسقط عداوته؟ وهذا ما حصل {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 34 ـ 35].
العقل أوّلاً
والله قال ـ وأئمَّة أهل البيت يجسِّدون لنا ما قاله الله، لأنَّ أئمَّة أهل البيت (ع) هم الّذين عاشوا القرآن في حياتهم، كما عاشوه في فكرهم، والتزامنا بأهل البيت هو التزامنا بالإسلام وقِيَمه، لأنّنا لا نرتبط بهم إلا من خلال الإسلام، باعتبار أنّهم الأُمناء عليه وعلى حلال الله وحرامه، كما قال الإمام زين العابدين (ع): "أحِبُّونا حبّ الإسلام" ـ قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]. اكظم غيظك، ولا تندفع إذا أغاظك أحد إلى ردّ الفعل، بل حاول أن تدرس مسألة الغيظ؛ من أين انطلق هذا الشّخص؟ وفي أيّ ظرف؟ وما هي المناسبة؟ وما هي الخلفيّات؟ وما هي الأفكار التي يمكن أن تواجه بها هذه المشكلة؟
وهذا ما أرادنا الإسلام أن نعيشه في حياتنا؛ أن نعيش على أساس أن نجعل عقلنا أمام كلامنا، أن لا نتكلَّم قبل أن يقول لك عقلك ماذا تتكلَّم، وأنْ لا تتحرَّك قبل أن يقول لك عقلك كيف تتحرّك، وأنْ لا تحرِّك سلاحك قبل أن يقول لك عقلك المنفتح على إيمانك كيف تتحرّك بدون غضب. الغضب من عمل إبليس.
هكذا جاءت الأحاديث: "الغضب جمرة من الشّيطان توقد في قلب ابن آدم"(1). أيّ شيء أشدّ من الغضب؟ "إنَّ الرّجل ليغضب فيقتل النّفس التي حرَّم الله"(2).
هذا هو الجوّ؛ أن تكظم غيظك لتفكّر وتفكّر لتعرف كيف تتحرّك. وقد يقودك الفكر إلى أن تواجه الموقف بقوّة، أو بلين، المهمّ أن تتحرَّك من خلال إيمانك، لا من خلال عصبيّتك؛ وأن تتحرَّك من خلال عقلك، لا من خلال غضبك وعاطفتك.
هذا ما علَّمنا إيَّاه الله وعلَّمنا إيّاه رسول الله (ص)، وعلَّمنا إيّاه أئمَّة أهل البيت (ع) في كلّ مجالات حياتهم...
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".
(1)بحار الأنوار، ج:63، ص:265، رواية:149، باب:3 (رواية).
(2) بحار الأنوار، ج:73، ص:274، رواية:25، باب:132 (رواية).