عندما نريد أن نتحدّث عن المنهج العلمي العقلي في القرآن، فإنَّ علينا قبل ذلك ــ لنبرّر هذه الحديث ــ أن ننفتح على كلِّ هذا الجدل القائم الذي يستهلكه كثيرون من النَّاس استهلاكاً يحمل في داخله الكثير من الانفعال، بدلاً من أن يحمل الكثير من التَّفكير حول ما هي قصّة الدّين، ما هي قصَّة الإيمان في الإنسان؛ هل هي شيء فوق العقل لينحني العقل أمامها فلا يقترب من مفرداتها؟ هل التطوّر الإنساني فتح المجال للصّراع بين العلم والدّين؟...
ولا نزال نتناقش ونتناظر حتى في المسألة السياسيّة بين العلمانية والدينيّة، فالدّين هو شيء من الغيب، ولذلك، عليه أن لا يُقحم نفسه في عالم الشّهود والحضور! وهذا ما تنطلق به الكلمة المعروفة التي نستهلكها جميعاً: "الدين لله، والوطن للجميع"!
هناك اتجاه يقول إنَّ الإيمان فوق العقل لأنّه يرتبط بالغيب، والغيب لا يمكن للعقل أن ينفذ إليه، ولا تملك التّجربة أيّ مقوّمات للانفتاح عليه. إذاً، لا بدَّ للإنسان من أن يعيش الإيمان بروحه..
هل المسألة كذلك في الإسلام؟
كيف هي صورة الإنسان في الإسلام؛ هل هي صورة الإنسان العقلانيّ الذي لا يؤمن بشيء إلا بعد أن يتعقّله، ولا يتحرّك في شيء إلا بعد أن يُعقلنه، أم هي صورة أخرى؟
ربما استهلكنا زمناً طويلاً من التخلّف، كان يخيّل للإنسان فيه، أنّه بمقدار ما ينفتح على العقلانيّة أكثر، يبتعد عن الدّين أكثر، وهذا هو الّذي فتح مسألة الصّراع بين العلم والدّين، وجعل الكثير من المتدينين يتنكّرون للعلم.
هذه أفكار قد نحتاج أن نثيرها قبل أن ننفذ إلى الفكرة الأساس.
الحُجَّة هي الأساس
إنّنا نريد أن نركِّز في البداية، الأساس الذي ينطلق منه الإيمان في مفهوم القرآن، فنلاحظ أنَّ القرآن الكريم يؤكِّد أنَّ علاقة الله بالنَّاس في حركة المسؤوليَّة، هي حركة حجّةٍ من الله على خلقه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. فنحن في كلِّ وجودنا المسؤول، عندما نواجه مسؤوليّتنا أمام الله، فإنَّ الله لا يحمّلنا المسؤولية في واقعنا، إلا بعد أن يُقيم الحجّة علينا. وإقامة الحجّة إنّما تكون من خلال العقل ومن خلال الرّسل.. فإذا استطاع العقل أن يحتضن فكر الرّسالات، واستطاع أن يحتوي كلّ علامات الاستفهام، فإنّ الحجّة تقوم على الإنسان. ومن هنا، يقول المتكلّمون إنَّ الله تعالى لا يعاقب إنساناً لا يملك الوسيلة إلى المعرفة، ولا يعاقب إنساناً لا يملك أيّ إمكانات للاطّلاع على الحقيقة، لأنَّ الله لم يقم عليه الحجّة.
إذاً، في المسألة الإيمانيَّة، لا مسؤوليَّة إلا من خلال الحجَّة، والحجَّة عقلٌ ورسول؛ عقل يتحدَّث من خلال الحواسّ، ورسولٌ يتحرَّك من خلال الرِّسالة. وقد ورد: "إنَّ الرَّسول عقلٌ من خارج، والعقل رسولٌ من داخل". ومن خلال ذلك، فليس هناك أيّ مشاكل وتنافر بين العقل والرِّسالة، فيما يدركه العقل من الرِّسالة.
الإسلام يرفض التَّقليد
وهناك نقطة ثانية، وهي أنَّ الإسلام يرفض التَّقليد، فأنت عندما تريد أن تكوِّن قناعتك، فلا بدَّ من أن يكون الأساس في قناعاتك فكرك، لتكون القناعة منطلقةً من ذاتك، وليست منطلقةً من محاكاة الإنسان الآخر واتّباع الإنسان الآخر.
إنّنا نجد أنَّ القرآن الكريم يتحدَّث بأكثر من آية عن هؤلاء الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، ويحاكمهم: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ}. إنّ قصَّة تقليد الآباء تمثّل نموذجاً من التقليد العاطفيّ. كثير من الناس يقلّدون الأقوياء، من خلال ضغط الواقع على الفكر. إننا نواجه في القرآن الكريم حديثاً عن تقليد المستضعفين للمستكبرين، والمسألة المطروحة، هي أنَّ المستضعفين عندما يجدون أكثر من فرصة للانتفاض على ضعفهم، فإنهم لن يكونوا معذورين.. الضّعف أمام الآخر لا يبرّر لك أن تجعل فكرك ينحني أمام فكره.
من هنا، لاحظنا أنَّ المسألة في القرآن تؤكِّد أنَّ الإنسان يتحمّل مسؤوليّة فكره، من خلال أنّ الله يريد له أن يعيش أصالة فكره، وحركيّة فكره، حتى تنطلق المسألة من خلال حركة الذّات في خطّ المسؤوليّة.
إنّ مسألة مسؤولية الفكر لدى الإنسان، هي أنّ الله يريد للإنسان أن يكون إنساناً في صلابة عقله وإرادته وموقفه، أن لا تكون الصّدى، أن لا تكون الظلّ، أن لا تكون كميّة مهملة لا أثر لها.
لا إكراه في الدّين
ثم ننطلق نحو الفكرة، في الإسلام: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. الله يريد لنا أن لا نكره أيّ إنسان على أيّ قناعة مصدرها الفكر، يريد أن يوحي إلينا أنَّ مسألة الدّين والإيمان ليست من المسائل الّتي يمكن أن تخضع للضَّغط، باعتبار أنَّ قصّة دينك هي قصَّة وجدانك، فيما تختزنه من كلّ المفردات الدينيّة التي يختزنها العقل.. أنا قد أستطيع أن أضغط عليك، ولكني لا أستطيع أن أضغط على عقلك. إنَّ مسألة الإيمان تتصل بالإنسان نفسه، ولا يمكن لإنسان أن يكره إنساناً على الإيمان أو الكفر، ولهذا لاحظنا المسألة في القرآن: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. ولذلك، أعفى الله نبيّه من كلّ مسؤوليّة كفر الكافرين، لأنّ النبيّ لا يملك عقل الناس، بل يملك العناصر التي يمكن أن تفتح آفاق العقل.
قد يقول قائل إنَّ هناك ضغطاً على الناس أن يسلموا، أو الّذين أسلموا أن لا يعودوا عن دينهم! هذا ليس إكراهاً في الدّين، هذا إكراه في السّلطة. ماذا تفعل كلّ الحكومات أمام المواطنين الذين يتمرَّدون على النظام؟ إنها تواجههم بالعنف، لأنها تريد أن تطبِّق عليهم ما يصلح أمور الناس. إنّ كلّ الأمور التي يُتحدَّث عنها لإخضاع النّاس في الإسلام، تمثّل خطّاً يتّفق مع كلّ الخطوط الموجودة في العالم عندما يراد لسلطة فكر أن تنتشر. ولذلك، فرّق الإسلام بين الإسلام والإيمان؛ الإسلام هو الخضوع للخطّ، والإيمان هو القناعة {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
كيف نؤمن؟!
إذاً، كيف نؤمن؟ لا بدَّ من المنهج الذي يحرِّك الفكرة نحو كلّ مفردات الإيمان. إنّنا نلاحظ أنَّ القرآن الكريم ركَّز في بعض مفرداته على عناوين، هناك عنوان البرهان، والبرهان هو الدَّليل الذي يؤكّد الفكر الذي يلتزمه هذا الإنسان؛ إنه يعتبره أساساً في مسألة السَّلب أو الإيجاب. وعلينا أن نعرف أنّ الإنسان الذي يرفض، لا بدّ له من دليل على الرّفض، كما لا بدّ للإنسان الذي يؤيّد من دليل. ومن هنا، ليس هناك ملحدون في العالم، هناك شاكّون، هناك "لا أدريّون" يقولون لا ندري، ينطلقون في حالتهم السلبيَّة من واقعٍ يعيشونه في فكرهم، على أساس أنهم لا يجدون دليلاً على ما يطرحه الآخرون، وقد احترم الإسلام حالة الشّكّ عندما يكون الإنسان مخلصاً في شكّه لينطلق نحو الحقيقة.
فالذين ينكرون وجود الله، لا يملكون أساساً لهذا الإنكار، حيث لا يملكون الإحاطة بكلّ المسائل حول هذا الإنكار، وعندما يكون الإنسان محدوداً في إمكاناته، في استقرائه، فكيف له أن يُنكر؟.
والإسلام أيضاً يستخدم دائماً كلمة "الجدال"، ويراد به حركة الصّراع الفكريّ. ولم ينكر القرآن للإنسان أن يجادل، بل أراد له أن يجادل من موقع علم وهدى وثقافة.
خطّان يقودان إلى المعرفة
في هذا المجال، إنَّ طريق المعرفة يتحرّك في خطَّين؛ الخطّ الأوَّل هو الخطّ العقليّ، الذي ينطلق من خلال معطيات العقل وحركيّته في الأفكار التي تمثّل الأفكار العقليّة، أو ما يسمّيه العقلانيّون الإسلاميّون الأفكار الأوليّة الفطرية التي لا تحتاج إلى أيّ مسبّقات، لأن الإنسان يدركها بالفطرة. وهذه الطريقة هي الطّريقة الفلسفيّة التي يحلِّق الإنسان فيها في عالم العقل، ومن موقع الفرضيّات.
وهناك الخطّ الثاني، وهو الخطّ العلميّ.. الطريقة التجريبيّة الاستقرائيّة، هي أنّك تحاول أن تتعرّف الكثير من الأفكار الاجتماعيّة والصحيّة وغيرها من خلال عمليّة استقراءٍ للمفردات، وملاحقة الظّاهرة، لتنطلق من خلال ذلك في مسألة التأمّل التي تجمع كلّ مفردات الظّاهرة، ليكون الحكم منطلقاً من التّحديق في الواقع، وهذه هي الطريقة التجريبيّة.
وقد أخذ المسلمون بهاتين الطّريقتين، لأنَّ القرآن الكريم ركّز عليهما معاً. فقد أراد الله أن يركّز التوحيد من خلال المسألتين العقليّة والحسيّة معاً: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}. والقرآن يركّز المسألة التوحيديّة من خلال رصد الظّاهرة ورصد نتائجها.. ومعنى ذلك، أنَّ الكون يتحوّل إلى كتاب إيمان.. ادرس الظّواهر الكونيّة، واستنتج بعد ذلك كيف يمكن للأشياء الخاضعة لتفاصيل دقيقة في نظامها، أن تكون منفصلةً عن القوَّة التي تحرّكها وتنظِّمها؟!
وهذا يجعل الإنسان يتحرّك في خطّين؛ خطّ ينتج له المسألة العقلية، وخطّ ينتج له المسألة العلميّة.. تعرّف السّرّ في الظواهر، لتأخذ منها النتائج التي تستفيد منها في حياتك، ثم تفكّر عقليّاً: لا يمكن للشّيء المعقول أن يكون منطلقاً من غير قوّة تعقله، أو من غير قوّة تنظّمه، ولا يمكن أن يكون الشّيء مستمراً مادامت ليس هناك قوّة تنظّم وترعى استمراره.. الدّنيا لا بدَّ لها في حركتها وسكونها، من قوّة تنظّم لها هذه الحركة وهذا السكون.
ولذلك، نجد في القرآن إلحاحاً على الجانب التّجريبي الّذي يرصد الظّاهرة ليستفيد منها، والجانب العقليّ الّذي يرصد الظاهرة ليحاكمها، أو ليقارنها بظاهرة أخرى.. ثم أن تدرس الظّاهرة لتأخذ منها درساً {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.. وهكذا يتحدَّث لنا عن التجربة التاريخيّة، كيف يمكن أن نستفيد منها.. وهذه كلمة توحي بمتابعة الظّاهرة، سواء كانت تجربة الآخر أو تجربتنا بالذّات.
القرآن يعتبر أنَّ للحسّ دوراً في عملية المعرفة، كما للعقل دور في ذلك، وبذلك يجمع بين المنهجين العلميّ والعقليّ. ونحن عندما ندرس حركة الإسلام في حركة المسلمين، نجد أنَّ المجتمع الإسلامي استطاع في أقلّ من مئة عام، أن يأخذ بأسباب المعرفة والعلم والترجمة والجدال، وبذلك انطلق لعدّة تيارات عقليّة وفلسفيّة، وهكذا رأينا أنَّ العلماء استطاعوا أن يستنتجوا الكثير من الظواهر على المستوى الطبي والكيميائي وما إلى ذلك.
إنَّ مجتمعاً تحوّل بهذه السّرعة إلى مجتمع حضاريّ بعد أن كان بدائيّاً، فإنَّ سرّ ذلك هو القرآن، وعندما كففنا نحن كمسلمين عن تحريك العقل، أخذ الآخرون طريقهم، وعدنا نحن إلى البدائيّة؛ قرآنٌ للبركة، للاستخارة، ولكنه ليس قرآناً للمعرفة، هذا القرآن لا يستطيع أن يقدِّم لنا شيئاً بعيداً عن الإنسان، لأنَّ قصَّة القرآن هو إنسان القرآن، ولا يزال القرآن يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.
محاضرة لسماحته ألقاها في جمعيّة القرآن الكريم، في حسينيّة بنت جبيل الخيريّة، في سنتر داغر ببئر العبد، تحت عنوان "المنهج العلميّ والعقليّ في القرآن"، وذلك بتاريخ: 10-3-1993.