وفيه مسائل:
ـ قد تقدم منا القول: «
إن الشيوع في المال ليس قدراً مفروضاً على الشركاء، بل إن للشريك إزالته والخروج عنه ساعة يشاء، ما لم يكن قد ارتبط بشرط أو عقد لازم»، وقد عالجنا موضوع فض الشركة فيما سبق في إطار الشركة العقدية من حيث اللزوم والجواز في (
المسألة: 25) وما بعدها، فيما نعالجه هنا في إطار إزالة الشيوع وحل التشارك القائم بين الشركاء من حيث أصله، بغض النظر عن توافقهم على استثمـار المال وعدمـه. وبعدمـا بيَّنا ـ فيما سبق من مسائل ـ أن حل التشارك من أصله لا يكون إلا بالقسمة، وبعدما بيَّنا أنحاء القسمة، صار لزاماً علينا بيان أحكام طلب أحد الشركة القسمة، فنقول:
رغم أن للشريك أن يفرض القسمة على سائـر الشركـاء ـ مـع إمكانهـا ـ ويطلب الانفراد بحصته، فليس له دائماً أن يفرض نحواً محدداً من أنحائها الثلاثة التي تقدمت، بل يختلف حال القسمة من هذه الجهة بين ما يصطلح عليها بـ (قسمة الإجبار) وبين ما يصطلح عليها بـ (قسمة التراضي):
أما قسمة الإجبار فلها ثلاثة موارد:
الأول: ما إذا كانت العين صالحة لقسمة الإفراز دون قسمة التعديل، أو معها، ولم يكن فيها ضرر على الآخر، فإذا طلب قسمة الإفراز وجبت إجابته وأجبر الممتنع.
الثاني: ما إذا كانت العين صالحة لقسمة التعديل دون الإفراز، ولم يكن فيها ضرر على الآخر، فتجب إجابة طالبها، ويجبر عليها الممتنع.
الثالث: ما إذا صلحت العين لقسمتي الإفراز والتعديل، وكان في الإفراز ضرر على طالب التعديل دون أن يكون في التعديل ضرر على المطلوب منه، فتجب إجابة طالب التعديل ويجبر الممتنع.
وأما قسمة التراضي فلها ثلاثة موارد ـ أيضاً ـ:
الأول: ما إذا كانت العين صالحة لقسمة الرد، فإذا طلبها أحد الشريكين لم يجب على الآخر إجابته، سواءً انحصرت بها القسمة أو لم تنحصر، وسواءً ترتب على الآخر ضرر منها أو لم يترتب.
الثاني: ما إذا كانت العين صالحة لقسمة التعديل دون غيرها، أو لقسمة الإفراز كذلك، وكان فيها ضرر على المطلوب منه، لم تجب عليه إجابة شريكه إليها.
الثالث: ما إذا كانت العين صالحة لقسمتي الإفراز والتعديل، ولم يكن في كليهما ضرر على أحدهما، فإذا طلب قسمة التعديل بخصوصها لم يجب عليه إجابته.
فيحق للشريك المطلوب منه أن يمتنع في هذه الموارد الثلاثة عن تلبية رغبة شريكه؛ وحينئذ فإن تراضيا على حل كان خيراً، وإن لم يتراضيا، جاز للطالب رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، سواءً كان متضرراً من ترك القسمة أو غير متضرر، فإن رضيا عنده كان خيراً، وإلاأجبرهما الحاكم على ما هو المقبول في نظر العقلاء، دون أن تصل النوبة إلى إجبارهما على بيعها واقتسام ثمنها، إذ إنهما لايلزمان به إلا في صورة عدم إمكان قسمة العين، كما سيأتي.
وبعبارة جامعة:
كلما كانت القسمة لا تستلزم الرد ولم يكن فيها ضرر على أحدهما، وانحصرت بها، صح إجباره على ما انحصرت به إفرازاً أو تعديلاً إذا طلبه الآخر؛ كما يصح إجباره على الإفراز دون التعديل مع إمكانهما وعدم تضرر الآخر من الإفراز، وإلا أُجبر الشريك على التعديل إذا طلبه الآخر؛ وهذه هي موارد قسمة الإجبار.
وكلما كانت القسمة مستلزمة للرد، أو كانت إفرازاً أو تعديلاً وكانت بحيث يتضرر بها المطلوب منه، أو كانت تعديلاً مع إمكان الإفراز دون ضرر على أحدهما، لم يلزم الشريك بالقسمة إلا أن يتراضيا عليها؛ فإن لم يتراضيا جاز لطالب القسمة رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، فإن أرضاهما كان خيراً، وإلا صح منه إجبار الممتنع على ما هو المقبول في نظر العقلاء، وبخاصة مع عدم تضرره وتضرر الطالب، وهو يشمل ما تنحصر قسمته بالرد، وموارد عدم إمكان قسمة العين ولجوئهما إلى بيع العين لتقاسم ثمنها، كما سيأتي بيانه.
وبهذه العبارة الجامعة يمكننا استخلاص ما يلي: إن كون القسمة بالإجبار أو التراضي يتقوم بعنصرين:
الأول: توافق طريقة القسمة مع طبيعة العين المشتركة، من كونها بالإفراز أو التعديل أو الرد.
الثاني: تضرر المطلوب منه بها وعدمه.
ـ قد يدخـل في كـون القسمة بالإجبـار أو التراضـي ـ إضافة إلى العنصرين المذكوين في خاتمة المسألة السابقة ـ عنصر ثالث هو: تناسب القسمة المطلوبة مع (العنوان) و(الهيئة) التي تكون عليها العين؛ ففي مثل البستان المزروع شجراً تكون قسمته بالإجبار إذا كانت العين غير صالحة إلا للتعديل ولم يكن المطلوب منه متضرراً بها، لكن لو كان مطلوبه هو قسمة الأرض وحدها والأشجار وحدها لم يُجبر شريكه عليها، لمنافاتها لعنوان البستانية الذي صارت فيه الأرض والأشجار وحدة تامة لا تنفصل، فيما يبقى مجبوراً عليها لو طلب شريكه قسمة الأرض مع الأشجار لتناسبها مع عنوان البستانية، وهكذا ما يشبهه من سائر الموارد.
ـ إنما يجبر الشريك على القسمة إذا لم يكن قد اشترط على طالبها تأجيلها إلى وقت معين، أو كان قد اشترط ومضى الأجل، فإن كان قد اشترط عليه تأجيلها إلى مدة معينة لم يكن له جبره أثناءها حتى تنقضي مدة التأجيل.
ـ المراد من الضرر المانع من الإجبار على القسمة هو النقص الواقع في العين أو القيمة بسبب القسمة، وذلك بمقدار لا يتسامح فيه في العادة وإن لم يسقط به المال عن قابلية الانتفاع بالمرة. كذلك فإن تأثير الضرر في عدم الإجبار إنما هو حيث يرغب المتضرر في تجنبه، أما لو فرض تعلق رغبته في موضوع الضرر لغرض صحيح ولم يكن الآخر متضرراً صح منه إجباره حينئذ، ومن موارده ما لو كان شريكاً في عُشر دارٍ، وكان من الصغر بحيث لا يصلح للسكن إذا استقل به، فإنه ـ رغم تضرره منها من هذه الجهة ـ يجب على شريكه إجابته إذا طلب القسمة بغرض صحيح، فيما ليس لشريكه إجباره على القسمة إذا امتنع عنها لتضرره بها.
ـ تكتنـف عمليـة القسمـة ـ غالبـاً ـ صعوباتٌ كثيرةٌ، بحيث لا يستغنى عندها عن تدخل أهل الخبرة ومساهمتهم فيها، سواءً من حيث تحديد نوع القسمة أو من حيث إقناع الأطراف بحل مُرضٍ بعد استعراض الخيارات الممكنة؛ بل كثيراً ما يتعاسر الشركاء ويختلفون فيما بينهم، فيحتاج فض النزاع وإصلاح ذات البين إلى تدخل الحاكم الشرعي؛ ورغم وضوح ما سبق ذكره من أنواع القسمة وموارد الإجبار عليها أو التراضي، ورغم صلاح ذلك قاعدة يمكن تطبيقها على مواردها، فإنه لا غنى عن تطبيق ذلك على بعض مواردها التي جرى ذكرها في كتب الفقهاء، وذلك في فرعين:
الفرع الأول: في قسمة الدور وشبهها، وله موارد:
الأول: الأبنية السكنية ذات الطبقات المتعددة، فإنها إذا كانت متماثلة مساحة وهندسة وقيمة انقسمت جبراً قسمة إفراز مع تساوي الحصص إذا طلبها أحد الشركاء، فيتراضون بينهم على أن يكون توزيع الحصص: إما أفقياً، بأن يأخذ كل شريك طابقاً بشقتين ـ مثلاً ـ، أو يكون توزيعها عمودياً، بأن يأخذ كل شريك شقة في كل طابق صعوداً.
وأما إذا اختلفت الطوابق مساحةً وهندسةً وقيمةً، واقتضى ذلك تعديل السهام ما بين كل طابق وطابق وما بين كل شقة وشقة، بحيث انحصرت قسمتها بالتعديل، وطلب بعض الشركاء قسمتها كذلك، وجبت إجابته.
وفي كلا الحالتين يناط الجبر بعدم الضرر، وخاصة لجهة الإجراءات القانونية التي يخضع لها نظام الطبقات، وأيضاً لجهة كون كل وحدة سكنية كياناً متماسكاً غير قابل لأن تفرز كل غرفة فيه بين الشركاء، فلا تصلح بعدها لانفراد كل واحد منهم بحصته.
الثاني: الدار الواحدة ذات الطبقتين المتكاملتين، كالقصر وما أشبهه، فإن أمكن قسمته بالإفراز أفقياً وعمودياً، بحيث يأخذ كل واحد منهما حصة مساوية للآخر من كل طبقة؛ وأمكن ـ أيضاً ـ قسمته بالتعديل أفقياً وعمودياً، بأن يأخذ كل واحد منهما حصة معدلـة من كل طبقة، وأمكن ـ أيضـاً ـ قسمته بالتعديل أفقياً، بأن يأخذ أحدهما تمام الطبقة العليا والآخر تمام السفلى؛ كانت قسمتها جبراً بالإفراز مع طلبها من قبل أحد الشركاء وعدم تضرر الآخر؛ ومع عدم إمكانها بالإفراز، أو مع تضرر الآخر بها، وانحصارها بقسمتي التعديل والرد مع إمكانهما معاً،يجبر الممتنع إذا طلب شريكه قسمتها بالتعديل مع عدم الضرر عليه، دون ما لو طلب قسمتها بالرد، إلا أن تنحصر القسمة بها ويطلبها الشريك ولا يكون فيها ضرر على الآخر فيجب عليه إجابته.
الثالث: المنشآت ذات الغرف المتعددة، ومنها الدور التي يُرغب في اقتسامها ولو غرفة غرفة، وكذا الفندق والمدرسة الداخلية والمحلَّات التجارية، فإنه ـ حيث لا يترتب ضرر ـ يجبر الشركاء على تقاسم كل غرفة فيها فيما بينهم قسمة إفراز إذا طلبها أحد الشركاء، وهي مقدَّمة على قسمة التعديل التي يهدف منها إلى استقلال كل منهم بغرفة تامة أو دكان مع اختلافها في الصفات والقيمة؛ وإن كان الغالب في مثله قسمته قسمة تعديل لتعلق الرغبة بها وتحقّق الضرر من قسمة كل غرفة منها قسمة إفراز، إلا في حالات قليلة تكون الغرفة فيها واسعة جداً ومرغوبة بذاتها. هذا، ولكن حيث تكون الغرف متساوية في الصفات والقيمة، وحيث تكون الحصص مستوعبة لها بدون تجزأة، فإنها تنقسم جبراً قسمة إفراز، فيعطى كل واحد غرفة أو أكثر، تماماً كما لو كان عندهم عشر سيارات متماثلة ومتساوية القيمة، وذلك كما أسلفنا القول في المورد الأول.
الرابع: المطبخ أو الحمام أو ما أشبههما من المنشآت ذات التجهيز الخاص، فإنه لما كان غيرَ قابل للقسمة الخالية من الضرر، لا يجبر الممتنع على قسمته إلا إذا كان واسعاً بحيث يصلح قَسيمُه ليكون مطبخاً بعد إحداث التجهيز المناسب فيه، فتجب إجابته ـ حينئذ ـ وتكون قسمته قسمة تعديل غالباً، وبخاصة ما لو اكتفى طالب القسمة به بدون صفته مطبخاً أو حماماً.
الفرع الثاني: في قسمة الأرضين والزُرُوع، وله موردان:
الأول: البستان المشتمل على أشجار؛ وهو ينقسم قسمة إجبـار ـ بالتعديل أو الإفراز ـ إذا طلب أحد الشركاء قسمته مع أشجاره، لأن ذلك هو الأنسب والأقرب للوضـع الطبيعـي لعنـوان البستـان؛ وينقسم بالتراضي ـ بالتعديـل أو الإفـراز أو الـرد ـ إذا طلب أحد الشركاء قسمة الأرض وحدها والأشجار وحدها، لأنه على خلاف الوضع الطبيعي، وبخاصة ما لو كانت رغبته اقتسام أحدهما دون الآخـر؛ وذلك ـ طبعاً ـ بالإضافة إلى العناصر الأخرى التي لها دخالة في كون القسمة بالإجبار أو التراضي، مما سبق ذكره. أنظر (
المسألة: 32).
الثاني: الأرض المزروعـة حباً؛ وهي ـ على عكس البستان ـ تنقسم جبراً بالتعديل أو الإفراز إذا طلب أحد الشريكين قسمة الأرض وحدها والزرع وحده إذا كان قصيلا أو سنبلاً، وتنقسم مع الزرع بالتراضي، إلا أن تنحصر القسمة الخالية من الضرر بقسمتهما معاً فيجبر عليها الممتنع إذا طلبها شريكه؛ أما إذا كان الزرع ما يزال حباً لم ينبت، أو كان ما يزال خَضِراً لم يَقْصل، بحيث لم يمكن تعديل السهام معه، فإنه يصح ـ حينئذ ـ تقسيم الأرض وحدها بما يناسبها من أنحاء القسمة، جبراً أو مع التراضي، واعتبار وجود الزرع كعدمه من هذه الجهة؛ كما تصح قسمتها مع الزرع بنفس النحو بحيث يعتبر الزرع تابعاً لها؛ فيما لا تصح قسمة الزرع وحده وهو على تلك الحال، لجهالته.
ـ لا تصح قسمة الديون المشتركة قبل استيفائها، فلو رغب الشريكان في قسمة ما لهما من ديون مشتركة على الناس بسبب يوجب الشركة، كالميراث أو الهبة، فاتفقا ـ مثلاً ـ على أنَّ ما هو دين على أهل الحي الفلاني لزيد، وما هو دين على أهل الحي الآخر لسعيد، لم يملك كل منهما ما عُيِّن له، فإذا استوفى أحدهما شيئاً كان لهما معاً. ومن ذلك ما لو كان لهما دين على شخص واحد، فقصد الدائن والمدين أن يكون ما يدفعه لشريكه من الدين هو من حصته من الدين المشترك، فـإن المدفـوع هنا ـ أيضاً ـ لا يتعين له بل يبقى مشتركاً بينهما.
ـ في كل مورد لا تصلح فيه العين للقسمة، كمثل الكتاب والسيارة والقلم ونحوها، فقسمته ببيعه واقتسام ثمنه؛ فإذا طلبها الشريك وجب على الآخر إجابته، ومع امتناعه يجبر عليها ولو برفع الأمر إلى الحاكم الشرعي؛ ثم ينظر في الثمن من حيث ما يناسب طبيعته من طرق القسمة، بين ما يكون موزوناً أو معدوداً أو ممسوحاً، وبين ما يكون متساوياً في القيمة أو غير متساوٍ، فيتقاسمانه حتى كأنهما ـ في الأصل ـ كانا شريكين فيه.
ـ رغم كون العين الموقوفة قابلة بطبيعتها للقسمة بالنحو الذي سلف فإنه لا تصح قسمتها بين الموقوف عليهم بالوقف الخاص، بنحو يختص كل واحد منهم بحصته من العين، إلا إذا اشترطها الواقف عند وقوع النزاع بينهم، أو مطلقاً. وكنا قد ذكرنا فروعاً أخرى لهذه المسألة في مباحث الوقف من الجزء الثاني، فانظر فيه (
المسألة: 559).