ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الإمام الرّضا(ع) سراج الله في خلقه
ولاية العهد
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33].
في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام سنة148 هـ، كانت ولادة الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع)؛ هذا الإمام الّذي عاش حياةً متحرّكةً، وقد تميّز في حياته، بأنّ المأمون العباسيّ فرض عليه ولاية العهد من بعده، لأنّه كان يريد نقل الخلافة من بني العباس إلى بني عليّ وفاطمة(ع)، انطلاقاً مما حدث بين المأمون وأخيه الأمين في الصّراع على الخلافة، حتى قتل المأمون أخاه الأمين، وحاول أن يطلب من الإمام الرّضا(ع) أن يكون وليّاً لعهده. ولكنّ الإمام(ع) كان يعرف أنّ هذا الموقف من المأمون كان انفعاليّاً فقط، تفرضه الأوضاع السلبيّة التي تحيط ببني العبّاس الذين كانوا يرفضون نقل الخلافة منهم إلى غيرهم. ويروي الرواة، أنّه في نهاية حياة الإمام الرّضا(ع)، انقلب المأمون عليه، وعندما عاد الإمام إلى عائلته سالماً، دسّ المأمون إليه السّمّ، كما يقول المؤرّخون.
ونحن في هذه الذّكرى، نحاول أن نقف بعض الوقفات في الحديث عن شخصيّة الإمام الرّضا(ع)، وقد ورد في تاريخ سيرته، أنّه عندما أُعلنت ولايته بالعهد، جاء إليه الشّعراء، ومنهم الشّاعر المعروف أبو نواس، الّذي يقال إنه كان شيعيّاً، فأنشد حينها كما يُروى:
قيل لي أنت أشعرُ النّاسِ طُرّاًفي نظامٍ من الكلام النّبيهِ
لك من جوهر القريظِ نظامٌيُثمرُ الدرَّ في يدي مجتنيه
فلماذا تركتَ مدح ابن موسىوالخصالَ التي تجمّعْنَ فيه
قلْتُ لا أستطيعُ مدحَ إمـامٍكانَ جبريلُ خادماً لأبيه
علم الإمام(ع)
ونحن عندما نقرأ تاريخ الإمام الرّضا(ع) في المدينة، نجد أنّه كان يجلس في المسجد الحرام، وكان يفتي النّاس ويعلّمهم ويدرّسهم، حتى أحصى بعض أصحابه الرّوايات الّتي رويت عنه بثمانية عشر ألف رواية، كان يجيب بها عن سؤال السّائلين في أكثر من موقعٍ من مواقع العلم. وكان يجلس في المسجد النّبويّ والعلماء الآخرون يجلسون هناك، فإذا أعجزتهم مسألةٌ، أشاروا إليه.
محبّة النّاس له
وكان الإمام الرّضا(ع) الشَّخصيّة الّتي أعطت التّاريخ الإسلاميّ الكثير من المستوى العلميّ والمعرفيّ والإيمانيّ والرّوحيّ، وعندما كان في مسيرته في سفره من المدينة إلى خراسان، كان النّاس الّذين يلتقيهم في المدن الّتي يمرّ بها، يهرعون إليه ويغتنمون فرصة مروره ببلدهم؛ ليسألوه وليتعلّموا منه. وكان(ع) يؤكّد ـ كما أكّد ذلك آباؤه والأنبياء من قبله مما ذكره القرآن ـ مسألة التّوحيد لله، بأن لا يشرك النّاس بالله، وأن ينطلقوا على أساس صفاء التّوحيد وعمقه وعظمة الالتزام بوحدانيّة الله تعالى.
حديثُ الإمام حديثُ رسول الله(ص)
ويروي الرّواة عنه، أنّه عندما مرّ بمدينة مرو، اجتمع إليه العلماء والنّاس كافّةً وقالوا: حدّثْنا يا بن رسول الله، فكان حديثه يرتكز على أساس التزام النّاس بتوحيد الله، لأنّ التّوحيد هو الذي يؤصّل الالتزام الإسلاميّ، ويقرّب الإنسان إلى الله، وقد أشرف على النّاس من محمله، وقال: "حدّثني أبي موسى بن جعفر قال، حدثني أبي جعفر بن محمّد قال، حدثني أبي محمّد بن عليّ قال، حدثني أبي علي بن الحسين قال، حدّثني أبي الحسين بن عليّ قال، حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب قال، إنّه سمع جبريل يقول لرسول الله(ص): "إنّ الله تعالى أوحى إليك أنّ كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي".
العالِم بزمانه
ونقل بعض أصحاب الإمام الرّضا(ع) بعضاً من صفاته الّتي كان يتّصف بها، وكيف كان يمثّل الأخلاق الإسلاميّة والقيم الرّوحيّة. وورد عن إبراهيم بن العبّاس الصّوليّ قوله: ما رأيت الرّضا سُئل عن شيءٍ إلا علمه، ولا رأيتُ أعلم منه بما كان في الزّمان إلى وقته وعصره ـ كان يعيش عصره وزمانه، ولم يكن منفصلاً عن المرحلة الّتي كان يعيش فيها، فكان يعرف ماذا يحدث في العصر، وكان يعالج كلَّ الأمور التي كان النّاس يتحرّكون فيها. وهذا درسٌ لا بدّ للعلماء من أن يتعلّموه، وهو أنّ على الإنسان العالِم إذا عاش في زمن من الأزمنة، أن يفهم عصره، وأن يعرف تطلّعات عصره وعقل النّاس في عصره وأساليبهم، وما يمكن أن يفتح عقولهم، انطلاقاً من قول النبيّ(ص): "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم" ـ وكان المأمون يمتحنه بالسّؤال عن كلّ شيءٍ فيُجيب عنه، وإنّ جوابه كلّه كان انتزاعاتٍ من القرآن". وكان يعطي النّاس ما يتدبّرون به من القرآن، حتى يعرفوا ما يتّصل بحياتهم من خلال القرآن الكريم.
أنيس القرآن
وكان(ع) يختم القرآن في كلّ ثلاث، وكان يقول: "لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث، ولكنّني ما مررت بآيةٍ قطّ إلا فكّرت فيها وفي أيّ شيءٍ نزلت". كان القرآن الكريم ثقافته، فقد كان يقف عند كلّ آيةٍ من آياته، ليعرف ما هو مدلولها ومعناها، وما هي إيحاءاتها وفي أيّ شيءٍ نزلت، وأيّ مشكلةٍ كانت تعالجها، وهو ما لا بدَّ لنا من أن نتعلّمه، في أن نقرأ القرآن قراءة تدبّر وتفكّر.
آداب الإمام(ع)
وورد في روايةٍ أخرى عن ابن العبّاس الصوليّ أنّه قال: "ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرّضا، وشهدتُ منه ما لم أشاهد من أحد ـ فقد كان(ع) المبرَّز والمقدَّم، حتى إنّ المأمون جمع إليه من جميع الأديان، وطلب منهم أن يسألوه، وكان(ع) يجيبهم ويلقي عليهم الحجّة، حتى لم يعد أحدٌ من هؤلاء يملك أن يعترض عليه أو يوجّه إليه أيّ شبهة ـ وما رأيته قَطَعَ على أحدٍ كلامه حتَّى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجةٍ قدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا رأيته يشتم أحداً من مواليه ومماليكه ـ كان له خدمٌ ومماليك في ذلك الوقت، فكان رفيقاً بهم، ولم يُسمع عنه أنّه شتم أحداً منهم ـ ولا رأيته تفل قطّ ـ كان إذا أراد أن يتفل، لا يظهر ذلك أمام النّاس ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونُصبتْ الموائد، أجلس على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسّائس. وكان قليل النّوم في اللّيل، كثير الصّوم، لا يفوته صيام ثلاثة أيّام في الشّهر، ويقول: "إن ذلك يعدل صيام الدّهر"، وكان كثير المعروف والصّدقة، وأكثر ذلك منه لا يكون إلا في اللّيالي المظلمة، فمن يزعم أنّه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه".
وقال رجاء بن أبي الضّحاك الّذي بعثه المأمون لمرافقة الرّضا(ع): "والله، ما رأيت رجلاً كان أتقى لله، ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته منه، ولا أشدّ خوفاً لله عزّ وجلّ... وكان لا ينـزل بلداً إلا قصده النّاس يستفتونه في معالم دينهم، فيُجيبهم، ويحدّثهم الكثير عن أبيه عن آبائه عن عليّ(ع) عن رسول الله(ص)، فلمّا وردْتُ به على المأمون، سألني عن حاله في طريقه، فأخبرته بما شاهدت منه في ليله ونهاره، وظعنه وإقامته، فقال: بلى يا بن أبي الضّحاك، هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم".
تواضع الإمام
وروى الكليني في الكافي، بسنده عن رجلٍ من أهل بلخ، قال: "كنت مع الرّضا في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدةٍ له، فجَمَعَ عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقال له بعض أصحابه: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال(ع): "إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال".
وقال عليّ بن شعيب: دخلت على أبي الحسن الرّضا(ع) فقال لي: "يا عليّ، مَن أحسن النّاس معاشاً؟" ـ البعض يعتقد أنّ أحسن النّاس معاشاً هو من يملك الرّصيد الكبير من المال، والبيت الواسع، والجاه العريض ـ قلت: يا سيّدي، أنت أعلم به مني. فقال: "يا عليّ، مَن حَسُنَ معاش غيره في معاشه ـ من لا يكون أنانيّاً لا يعيش إلا لذاته، بل يحاول أن يرفع مستوى النّاس من حوله ـ يا عليّ، مَن أسوأ النّاس معاشاً؟"، قلت: أنت أعلم. قال: "مَنْ لم يعشْ غيرُه في معاشه".
قبسات من أحاديث الإمام
وورد عن الإمام الرّضا(ع): "صديقُ كلِّ امرئٍ عقلُه، وعدوُّه جهلُه"، لأنّ العقل هو الّذي يدفع الإنسان ليميّز الحسن من القبيح، والجاهل يسيء إلى نفسه في حياته قبل أن يسيء إلى النّاس. وورد عنه(ع): "التّودّد إلى النّاس نصف العقل"، وقال(ع): "ليس العبادة كثرة الصّيام والصّلاة، وإنما العبادة كثرة التّفكّر في أمر الله". فالعبادة لا بدّ من أن تعيش في عقل الإنسان، وكلّما اشتدّت معرفة الإنسان لربّه، قرب إلى الله تعالى. وورد عنه(ع): "عونك للضّعيف من أفضل الصّدقة"، لأنّك بذلك تمنحه الكرامة والعزّة.
لقد ملأ الإمام الرّضا(ع) العالم الإسلاميّ كلَّه، وكان في الوقت نفسه يريد للنّاس أن يرتفعوا في علمهم ووعيهم، وأن ينطلقوا إلى الحياة ليعرفوا الله أكثر، وليتقرّبوا إليه أكثر، وليخلصوا له أكثر؛ وهذه هي سيرة أئمة أهل البيت(ع)، الذين أراد الله لهم أن يعملوا ليرفعوا مستوى النّاس.
والسّلام على الإمام الرّضا(ع)، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى جوار ربّه، ويوم يبعث حيّاً.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
التخلّي العربيّ عن فلسطين
في المشهد الفلسطينيّ، يستمرّ العدوان الإسرائيليّ على المسجد الأقصى، كجزءٍ من استمرار العدوان على الشّعب الفلسطينيّ، والأمّة العربيّة والإسلاميّة، في محاولةٍ صهيونيّة لفرض أمرٍ واقعٍ جديد، تغيب معه كلّ عناصر الهويّة الإسلاميّة والعربيّة عن فلسطين، فلا يجد العرب والمسلمون، ولا المفاوضون الفلسطينيّون، إذا ما استفاقوا يوماً من سباتهم الحضاريّ، ما يُطالبون به، أو يفاوضون عليه.
إنّه لمن المعيب، أن تُترك الصّدور الفلسطينيّة العارية تدافع وحدها عن المسجد الأقصى، بعد أن اتّسع نطاق العدوان عليه في الأيّام القليلة الماضية، وكأنّ هناك استقالةً عربيّةً وإسلاميّةً من فلسطين، ومن كلّ قضايا المصير المتّصلة بها، فلم يعد هناك إلا بيانات الشّجب أو الاستنكار أو الأسف، ولم يعد أمام الأنظمة العربيّة والإٍسلاميّة إلا الانشغال بصراعاتٍ ثنائيّةٍ وخلافاتٍ داخليّةٍ في بلادهم الّتي حوّلوها إلى سجنٍ كبير لشعوبهم، بما يُشبه التآمر الذي يتوزّع الأدوار في اللّعبة الدوليّة التي تريد إنضاج واقعٍ يقضي فيه الصهاينة على القضيّة الفلسطينيّة كلّها بظروفٍ سياسيّةٍ مؤاتية.
تهاوي المؤسّسات العربيّة
وهكذا، تهاوت الجامعة العربيّة، وتساقطت منظّمة المؤتمر الإسلامي، وغابت لجنة القدس عن السّمع، وأُريد للعرب والمسلمين أن يختنقوا في مشاكلهم الداخليّة، وأن يغرقوا في دوّامة البحث عن حلولٍ لأوضاعهم الاجتماعيّة، ولأرقام الفقر المتصاعدة بينهم بفعل سياسة البطش والتّجويع التي اعتمدتها السّلطات التي تستولد نفسها ورموزها في محطّاتٍ سياسيةٍ وانتخابيةٍ مدروسةٍ ومحسوبةٍ.
السّلطة الفلسطينيّة: إدارة الظّهر للعدوّ
وإنّنا نشعر بالخطورة الكبيرة أمام انخراط الداخل الفلسطينيّ في المساجلات السياسية، وعمليات التخوين والاتهام المتبادلة، في الوقت الذي يواصل العدوّ زحفه على آخر المعاقل الدينية والسياسية الفلسطينية، ونستغرب كيف تعمد سلطةٌ تحضّر للانتخابات، أن تنهال على شعبها، أو فريقٍ كبير منه، بسيلٍ من المفردات القاسية والجارحة، فيما تتحدّث بلغةٍ سياسيّةٍ عاديّةٍ وهادئةٍ عندما تثير الحديث عن العدوّ، في مشهدٍ يغيب معه احترام الإنسان لذاته أمام العدوّ الذي يُمعن فيها إهانةً وإذلالاً.
إنّنا نقول لهؤلاء، ولكلّ من ألقى السّمع وهو شهيد: إنّ الوضع الفلسطينيّ بكامله هو أمانة في أعناقكم جميعاً، وإنّ هذا اللّون من الخطاب، وهذا الإصرار على إدارة الظّهر للعدوّ وللقضايا الكبرى، والاستغراق في إثارة الأمور بطريقةٍ انفعاليّةٍ في المسائل الهامشيّة، سوف يقود إلى تدمير القضيّة الفلسطينيّة وإسقاط الهيكل على رؤوس الجميع في الدّاخل والخارج. ولذلك، لا بدّ من العودة إلى جادة الحوار والصّواب، حيث لا خيار لكم إلاّه.
العراق: الجرح النّازف
وليس بعيداً من فلسطين، نجد أنّ العراق الذي كانت الأمّة تتطلّع إليه كموقعٍ داعمٍ لقضاياها، وللمسألة الفلسطينيّة على وجه التّحديد، أُريد له، من خلال محاور دوليّة، وجهاتٍ إقليميّة، وفئاتٍ تكفيريّة ترتبط بها، أن يتحوّل إلى جرحٍ نازف، ومأساة متنقّلة تصرف الأنظار عن إجرام اليهود المحتلّين بحقّ الفلسطينيين، كجزءٍ من تهيئة الجوّ أمام العدوّ لاستكمال مخطّطه العدوانيّ.
ولذلك، فإنّنا نعتبر أنّ الاعتداء على الأبرياء والمدنيّين في أيّ بلد عربيّ أو إسلاميّ، كما في عمليّات التفجير الآثم التي حصلت في العراق وفي بيشاور باكستان، والتي سقط فيها المئات بين قتيل وجريح، وبصرف النّظر عن انتمائهم المذهبي أو العرقي أو الطائفي، هو اعتداء على كلّ قضايا المسلمين، وفي مقدّمها القضيّة الفلسطينيّة. ونحن نصنّف الجهات التي نفذّت الانفجارات الّتي قتلت وجرحت حوالي الألف في بغداد مؤخّراً، بأنّها جهاتٌ متواطئة مع العدوّ، وتخدم أهدافه ومخطّطاته، سواء التفتت إلى ذلك أو لم تلتفت، إضافةً إلى ما توعّد الله تعالى به كلّ {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض} من عذابٍ أليم.
الموقف التّركيّ الشّجاع
إنّنا أمام هذا المشهد القاتم الذي يلفّ الأمّة، ويتهدّدها في كثيرٍ من مواقعها، بفعل حالات الاحتراب والاقتتال والفتن المتحرّكة؛ من اليمن، إلى الصّومال، إلى باكستان والعراق، وأفغانستان التي تحوّلت إلى مقبرةٍ للغزاة الذين يواصلون مجازرهم ضدّ المدنيّين الأفغان، لا يسعنا إلا أن نشير بكثيرٍ من التّقدير إلى المواقف الصّادرة عن مسؤولين أتراك، وعن قادة حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً تلك التي دافعوا فيها عن الشّعب الفلسطينيّ، وأدانوا فيها الجرائم الإسرائيليّة بصراحة ووضوح، إضافةً إلى دفاع رئيس الوزراء التركيّ عن الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وإشارته إلى أنّ تعامل الغرب مع إيران "غير نزيه"، لأنّ الدول التي تتّهم إيران بالسّعي لامتلاك أسلحة نوويّة، هي دولٌ تملك بُنى نوويّة قويّة جدّاً، كما قال. إنّ هذه الوقفة الإسلاميّة التّركية الرسميّة، والتي تزامنت مع الوقفة الشعبيّة المهمّة في الشارع التركي، تمثل انطلاقةً مهمّةً لإعادة الاعتبار إلى المواقع الإسلاميّة، وما يمكن أن تشكّله هذه المواقع من حمايةٍ لقضايا الأمّة، وعلى الأخصّ منها قضيّة فلسطين.
لبنان: البقاء في دائرة الاهتزاز السياسيّ
أمّا لبنان الّذي يستمع المسؤولون فيه إلى تهديدات وزير حرب العدوّ، بأنّ جيشه أصبح جاهزاً لحربٍ جديدةٍ ضدّه، ويتابعون المناورات الإسرائيليّة ـ الأمريكيّة الجارية على مقربةٍ منهم على طريقة النّعامة التي تدفن رأسها في الرّمال، ولا يقيمون وزناً للأخطار التي تطلّ برأسها من البوّابة الجنوبيّة، وينتظرون «الإنجاز الكبير» بولادة حكومةٍ جديدةٍ بعد ما يزيد على الأربعة أشهر من الانتظار... لبنان هذا سيبقى في دائرة الاهتزاز السياسيّ، وسيبقى ساحةً مفتوحةً للتجسّس الإسرائيليّ، من دون مساءلةٍ من الأمم المتّحدة التي يعمل ناظر قرارها 1701 "لارسن" على التأسيس في تقاريره المنحازة إلى العدوّ لمزيدٍ من الخرق الصّهيونيّ للقرار، والاستباحة المتواصلة للسّيادة اللّبنانيّة، لتستمر النّظرة الدوليّة إلى البلد من زاوية الأمن الإسرائيليّ. أمّا أمن اللّبنانيّين وسلامهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، فسيبقى مرتهناً لقرارات الخارج، وإهمال الدّاخل.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الإمام الرّضا(ع) سراج الله في خلقه
ولاية العهد
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33].
في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام سنة148 هـ، كانت ولادة الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع)؛ هذا الإمام الّذي عاش حياةً متحرّكةً، وقد تميّز في حياته، بأنّ المأمون العباسيّ فرض عليه ولاية العهد من بعده، لأنّه كان يريد نقل الخلافة من بني العباس إلى بني عليّ وفاطمة(ع)، انطلاقاً مما حدث بين المأمون وأخيه الأمين في الصّراع على الخلافة، حتى قتل المأمون أخاه الأمين، وحاول أن يطلب من الإمام الرّضا(ع) أن يكون وليّاً لعهده. ولكنّ الإمام(ع) كان يعرف أنّ هذا الموقف من المأمون كان انفعاليّاً فقط، تفرضه الأوضاع السلبيّة التي تحيط ببني العبّاس الذين كانوا يرفضون نقل الخلافة منهم إلى غيرهم. ويروي الرواة، أنّه في نهاية حياة الإمام الرّضا(ع)، انقلب المأمون عليه، وعندما عاد الإمام إلى عائلته سالماً، دسّ المأمون إليه السّمّ، كما يقول المؤرّخون.
ونحن في هذه الذّكرى، نحاول أن نقف بعض الوقفات في الحديث عن شخصيّة الإمام الرّضا(ع)، وقد ورد في تاريخ سيرته، أنّه عندما أُعلنت ولايته بالعهد، جاء إليه الشّعراء، ومنهم الشّاعر المعروف أبو نواس، الّذي يقال إنه كان شيعيّاً، فأنشد حينها كما يُروى:
قيل لي أنت أشعرُ النّاسِ طُرّاًفي نظامٍ من الكلام النّبيهِ
لك من جوهر القريظِ نظامٌيُثمرُ الدرَّ في يدي مجتنيه
فلماذا تركتَ مدح ابن موسىوالخصالَ التي تجمّعْنَ فيه
قلْتُ لا أستطيعُ مدحَ إمـامٍكانَ جبريلُ خادماً لأبيه
علم الإمام(ع)
ونحن عندما نقرأ تاريخ الإمام الرّضا(ع) في المدينة، نجد أنّه كان يجلس في المسجد الحرام، وكان يفتي النّاس ويعلّمهم ويدرّسهم، حتى أحصى بعض أصحابه الرّوايات الّتي رويت عنه بثمانية عشر ألف رواية، كان يجيب بها عن سؤال السّائلين في أكثر من موقعٍ من مواقع العلم. وكان يجلس في المسجد النّبويّ والعلماء الآخرون يجلسون هناك، فإذا أعجزتهم مسألةٌ، أشاروا إليه.
محبّة النّاس له
وكان الإمام الرّضا(ع) الشَّخصيّة الّتي أعطت التّاريخ الإسلاميّ الكثير من المستوى العلميّ والمعرفيّ والإيمانيّ والرّوحيّ، وعندما كان في مسيرته في سفره من المدينة إلى خراسان، كان النّاس الّذين يلتقيهم في المدن الّتي يمرّ بها، يهرعون إليه ويغتنمون فرصة مروره ببلدهم؛ ليسألوه وليتعلّموا منه. وكان(ع) يؤكّد ـ كما أكّد ذلك آباؤه والأنبياء من قبله مما ذكره القرآن ـ مسألة التّوحيد لله، بأن لا يشرك النّاس بالله، وأن ينطلقوا على أساس صفاء التّوحيد وعمقه وعظمة الالتزام بوحدانيّة الله تعالى.
حديثُ الإمام حديثُ رسول الله(ص)
ويروي الرّواة عنه، أنّه عندما مرّ بمدينة مرو، اجتمع إليه العلماء والنّاس كافّةً وقالوا: حدّثْنا يا بن رسول الله، فكان حديثه يرتكز على أساس التزام النّاس بتوحيد الله، لأنّ التّوحيد هو الذي يؤصّل الالتزام الإسلاميّ، ويقرّب الإنسان إلى الله، وقد أشرف على النّاس من محمله، وقال: "حدّثني أبي موسى بن جعفر قال، حدثني أبي جعفر بن محمّد قال، حدثني أبي محمّد بن عليّ قال، حدثني أبي علي بن الحسين قال، حدّثني أبي الحسين بن عليّ قال، حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب قال، إنّه سمع جبريل يقول لرسول الله(ص): "إنّ الله تعالى أوحى إليك أنّ كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي".
العالِم بزمانه
ونقل بعض أصحاب الإمام الرّضا(ع) بعضاً من صفاته الّتي كان يتّصف بها، وكيف كان يمثّل الأخلاق الإسلاميّة والقيم الرّوحيّة. وورد عن إبراهيم بن العبّاس الصّوليّ قوله: ما رأيت الرّضا سُئل عن شيءٍ إلا علمه، ولا رأيتُ أعلم منه بما كان في الزّمان إلى وقته وعصره ـ كان يعيش عصره وزمانه، ولم يكن منفصلاً عن المرحلة الّتي كان يعيش فيها، فكان يعرف ماذا يحدث في العصر، وكان يعالج كلَّ الأمور التي كان النّاس يتحرّكون فيها. وهذا درسٌ لا بدّ للعلماء من أن يتعلّموه، وهو أنّ على الإنسان العالِم إذا عاش في زمن من الأزمنة، أن يفهم عصره، وأن يعرف تطلّعات عصره وعقل النّاس في عصره وأساليبهم، وما يمكن أن يفتح عقولهم، انطلاقاً من قول النبيّ(ص): "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم" ـ وكان المأمون يمتحنه بالسّؤال عن كلّ شيءٍ فيُجيب عنه، وإنّ جوابه كلّه كان انتزاعاتٍ من القرآن". وكان يعطي النّاس ما يتدبّرون به من القرآن، حتى يعرفوا ما يتّصل بحياتهم من خلال القرآن الكريم.
أنيس القرآن
وكان(ع) يختم القرآن في كلّ ثلاث، وكان يقول: "لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث، ولكنّني ما مررت بآيةٍ قطّ إلا فكّرت فيها وفي أيّ شيءٍ نزلت". كان القرآن الكريم ثقافته، فقد كان يقف عند كلّ آيةٍ من آياته، ليعرف ما هو مدلولها ومعناها، وما هي إيحاءاتها وفي أيّ شيءٍ نزلت، وأيّ مشكلةٍ كانت تعالجها، وهو ما لا بدَّ لنا من أن نتعلّمه، في أن نقرأ القرآن قراءة تدبّر وتفكّر.
آداب الإمام(ع)
وورد في روايةٍ أخرى عن ابن العبّاس الصوليّ أنّه قال: "ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرّضا، وشهدتُ منه ما لم أشاهد من أحد ـ فقد كان(ع) المبرَّز والمقدَّم، حتى إنّ المأمون جمع إليه من جميع الأديان، وطلب منهم أن يسألوه، وكان(ع) يجيبهم ويلقي عليهم الحجّة، حتى لم يعد أحدٌ من هؤلاء يملك أن يعترض عليه أو يوجّه إليه أيّ شبهة ـ وما رأيته قَطَعَ على أحدٍ كلامه حتَّى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجةٍ قدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا رأيته يشتم أحداً من مواليه ومماليكه ـ كان له خدمٌ ومماليك في ذلك الوقت، فكان رفيقاً بهم، ولم يُسمع عنه أنّه شتم أحداً منهم ـ ولا رأيته تفل قطّ ـ كان إذا أراد أن يتفل، لا يظهر ذلك أمام النّاس ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونُصبتْ الموائد، أجلس على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسّائس. وكان قليل النّوم في اللّيل، كثير الصّوم، لا يفوته صيام ثلاثة أيّام في الشّهر، ويقول: "إن ذلك يعدل صيام الدّهر"، وكان كثير المعروف والصّدقة، وأكثر ذلك منه لا يكون إلا في اللّيالي المظلمة، فمن يزعم أنّه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه".
وقال رجاء بن أبي الضّحاك الّذي بعثه المأمون لمرافقة الرّضا(ع): "والله، ما رأيت رجلاً كان أتقى لله، ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته منه، ولا أشدّ خوفاً لله عزّ وجلّ... وكان لا ينـزل بلداً إلا قصده النّاس يستفتونه في معالم دينهم، فيُجيبهم، ويحدّثهم الكثير عن أبيه عن آبائه عن عليّ(ع) عن رسول الله(ص)، فلمّا وردْتُ به على المأمون، سألني عن حاله في طريقه، فأخبرته بما شاهدت منه في ليله ونهاره، وظعنه وإقامته، فقال: بلى يا بن أبي الضّحاك، هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم".
تواضع الإمام
وروى الكليني في الكافي، بسنده عن رجلٍ من أهل بلخ، قال: "كنت مع الرّضا في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدةٍ له، فجَمَعَ عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقال له بعض أصحابه: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال(ع): "إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال".
وقال عليّ بن شعيب: دخلت على أبي الحسن الرّضا(ع) فقال لي: "يا عليّ، مَن أحسن النّاس معاشاً؟" ـ البعض يعتقد أنّ أحسن النّاس معاشاً هو من يملك الرّصيد الكبير من المال، والبيت الواسع، والجاه العريض ـ قلت: يا سيّدي، أنت أعلم به مني. فقال: "يا عليّ، مَن حَسُنَ معاش غيره في معاشه ـ من لا يكون أنانيّاً لا يعيش إلا لذاته، بل يحاول أن يرفع مستوى النّاس من حوله ـ يا عليّ، مَن أسوأ النّاس معاشاً؟"، قلت: أنت أعلم. قال: "مَنْ لم يعشْ غيرُه في معاشه".
قبسات من أحاديث الإمام
وورد عن الإمام الرّضا(ع): "صديقُ كلِّ امرئٍ عقلُه، وعدوُّه جهلُه"، لأنّ العقل هو الّذي يدفع الإنسان ليميّز الحسن من القبيح، والجاهل يسيء إلى نفسه في حياته قبل أن يسيء إلى النّاس. وورد عنه(ع): "التّودّد إلى النّاس نصف العقل"، وقال(ع): "ليس العبادة كثرة الصّيام والصّلاة، وإنما العبادة كثرة التّفكّر في أمر الله". فالعبادة لا بدّ من أن تعيش في عقل الإنسان، وكلّما اشتدّت معرفة الإنسان لربّه، قرب إلى الله تعالى. وورد عنه(ع): "عونك للضّعيف من أفضل الصّدقة"، لأنّك بذلك تمنحه الكرامة والعزّة.
لقد ملأ الإمام الرّضا(ع) العالم الإسلاميّ كلَّه، وكان في الوقت نفسه يريد للنّاس أن يرتفعوا في علمهم ووعيهم، وأن ينطلقوا إلى الحياة ليعرفوا الله أكثر، وليتقرّبوا إليه أكثر، وليخلصوا له أكثر؛ وهذه هي سيرة أئمة أهل البيت(ع)، الذين أراد الله لهم أن يعملوا ليرفعوا مستوى النّاس.
والسّلام على الإمام الرّضا(ع)، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى جوار ربّه، ويوم يبعث حيّاً.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
التخلّي العربيّ عن فلسطين
في المشهد الفلسطينيّ، يستمرّ العدوان الإسرائيليّ على المسجد الأقصى، كجزءٍ من استمرار العدوان على الشّعب الفلسطينيّ، والأمّة العربيّة والإسلاميّة، في محاولةٍ صهيونيّة لفرض أمرٍ واقعٍ جديد، تغيب معه كلّ عناصر الهويّة الإسلاميّة والعربيّة عن فلسطين، فلا يجد العرب والمسلمون، ولا المفاوضون الفلسطينيّون، إذا ما استفاقوا يوماً من سباتهم الحضاريّ، ما يُطالبون به، أو يفاوضون عليه.
إنّه لمن المعيب، أن تُترك الصّدور الفلسطينيّة العارية تدافع وحدها عن المسجد الأقصى، بعد أن اتّسع نطاق العدوان عليه في الأيّام القليلة الماضية، وكأنّ هناك استقالةً عربيّةً وإسلاميّةً من فلسطين، ومن كلّ قضايا المصير المتّصلة بها، فلم يعد هناك إلا بيانات الشّجب أو الاستنكار أو الأسف، ولم يعد أمام الأنظمة العربيّة والإٍسلاميّة إلا الانشغال بصراعاتٍ ثنائيّةٍ وخلافاتٍ داخليّةٍ في بلادهم الّتي حوّلوها إلى سجنٍ كبير لشعوبهم، بما يُشبه التآمر الذي يتوزّع الأدوار في اللّعبة الدوليّة التي تريد إنضاج واقعٍ يقضي فيه الصهاينة على القضيّة الفلسطينيّة كلّها بظروفٍ سياسيّةٍ مؤاتية.
تهاوي المؤسّسات العربيّة
وهكذا، تهاوت الجامعة العربيّة، وتساقطت منظّمة المؤتمر الإسلامي، وغابت لجنة القدس عن السّمع، وأُريد للعرب والمسلمين أن يختنقوا في مشاكلهم الداخليّة، وأن يغرقوا في دوّامة البحث عن حلولٍ لأوضاعهم الاجتماعيّة، ولأرقام الفقر المتصاعدة بينهم بفعل سياسة البطش والتّجويع التي اعتمدتها السّلطات التي تستولد نفسها ورموزها في محطّاتٍ سياسيةٍ وانتخابيةٍ مدروسةٍ ومحسوبةٍ.
السّلطة الفلسطينيّة: إدارة الظّهر للعدوّ
وإنّنا نشعر بالخطورة الكبيرة أمام انخراط الداخل الفلسطينيّ في المساجلات السياسية، وعمليات التخوين والاتهام المتبادلة، في الوقت الذي يواصل العدوّ زحفه على آخر المعاقل الدينية والسياسية الفلسطينية، ونستغرب كيف تعمد سلطةٌ تحضّر للانتخابات، أن تنهال على شعبها، أو فريقٍ كبير منه، بسيلٍ من المفردات القاسية والجارحة، فيما تتحدّث بلغةٍ سياسيّةٍ عاديّةٍ وهادئةٍ عندما تثير الحديث عن العدوّ، في مشهدٍ يغيب معه احترام الإنسان لذاته أمام العدوّ الذي يُمعن فيها إهانةً وإذلالاً.
إنّنا نقول لهؤلاء، ولكلّ من ألقى السّمع وهو شهيد: إنّ الوضع الفلسطينيّ بكامله هو أمانة في أعناقكم جميعاً، وإنّ هذا اللّون من الخطاب، وهذا الإصرار على إدارة الظّهر للعدوّ وللقضايا الكبرى، والاستغراق في إثارة الأمور بطريقةٍ انفعاليّةٍ في المسائل الهامشيّة، سوف يقود إلى تدمير القضيّة الفلسطينيّة وإسقاط الهيكل على رؤوس الجميع في الدّاخل والخارج. ولذلك، لا بدّ من العودة إلى جادة الحوار والصّواب، حيث لا خيار لكم إلاّه.
العراق: الجرح النّازف
وليس بعيداً من فلسطين، نجد أنّ العراق الذي كانت الأمّة تتطلّع إليه كموقعٍ داعمٍ لقضاياها، وللمسألة الفلسطينيّة على وجه التّحديد، أُريد له، من خلال محاور دوليّة، وجهاتٍ إقليميّة، وفئاتٍ تكفيريّة ترتبط بها، أن يتحوّل إلى جرحٍ نازف، ومأساة متنقّلة تصرف الأنظار عن إجرام اليهود المحتلّين بحقّ الفلسطينيين، كجزءٍ من تهيئة الجوّ أمام العدوّ لاستكمال مخطّطه العدوانيّ.
ولذلك، فإنّنا نعتبر أنّ الاعتداء على الأبرياء والمدنيّين في أيّ بلد عربيّ أو إسلاميّ، كما في عمليّات التفجير الآثم التي حصلت في العراق وفي بيشاور باكستان، والتي سقط فيها المئات بين قتيل وجريح، وبصرف النّظر عن انتمائهم المذهبي أو العرقي أو الطائفي، هو اعتداء على كلّ قضايا المسلمين، وفي مقدّمها القضيّة الفلسطينيّة. ونحن نصنّف الجهات التي نفذّت الانفجارات الّتي قتلت وجرحت حوالي الألف في بغداد مؤخّراً، بأنّها جهاتٌ متواطئة مع العدوّ، وتخدم أهدافه ومخطّطاته، سواء التفتت إلى ذلك أو لم تلتفت، إضافةً إلى ما توعّد الله تعالى به كلّ {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض} من عذابٍ أليم.
الموقف التّركيّ الشّجاع
إنّنا أمام هذا المشهد القاتم الذي يلفّ الأمّة، ويتهدّدها في كثيرٍ من مواقعها، بفعل حالات الاحتراب والاقتتال والفتن المتحرّكة؛ من اليمن، إلى الصّومال، إلى باكستان والعراق، وأفغانستان التي تحوّلت إلى مقبرةٍ للغزاة الذين يواصلون مجازرهم ضدّ المدنيّين الأفغان، لا يسعنا إلا أن نشير بكثيرٍ من التّقدير إلى المواقف الصّادرة عن مسؤولين أتراك، وعن قادة حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً تلك التي دافعوا فيها عن الشّعب الفلسطينيّ، وأدانوا فيها الجرائم الإسرائيليّة بصراحة ووضوح، إضافةً إلى دفاع رئيس الوزراء التركيّ عن الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وإشارته إلى أنّ تعامل الغرب مع إيران "غير نزيه"، لأنّ الدول التي تتّهم إيران بالسّعي لامتلاك أسلحة نوويّة، هي دولٌ تملك بُنى نوويّة قويّة جدّاً، كما قال. إنّ هذه الوقفة الإسلاميّة التّركية الرسميّة، والتي تزامنت مع الوقفة الشعبيّة المهمّة في الشارع التركي، تمثل انطلاقةً مهمّةً لإعادة الاعتبار إلى المواقع الإسلاميّة، وما يمكن أن تشكّله هذه المواقع من حمايةٍ لقضايا الأمّة، وعلى الأخصّ منها قضيّة فلسطين.
لبنان: البقاء في دائرة الاهتزاز السياسيّ
أمّا لبنان الّذي يستمع المسؤولون فيه إلى تهديدات وزير حرب العدوّ، بأنّ جيشه أصبح جاهزاً لحربٍ جديدةٍ ضدّه، ويتابعون المناورات الإسرائيليّة ـ الأمريكيّة الجارية على مقربةٍ منهم على طريقة النّعامة التي تدفن رأسها في الرّمال، ولا يقيمون وزناً للأخطار التي تطلّ برأسها من البوّابة الجنوبيّة، وينتظرون «الإنجاز الكبير» بولادة حكومةٍ جديدةٍ بعد ما يزيد على الأربعة أشهر من الانتظار... لبنان هذا سيبقى في دائرة الاهتزاز السياسيّ، وسيبقى ساحةً مفتوحةً للتجسّس الإسرائيليّ، من دون مساءلةٍ من الأمم المتّحدة التي يعمل ناظر قرارها 1701 "لارسن" على التأسيس في تقاريره المنحازة إلى العدوّ لمزيدٍ من الخرق الصّهيونيّ للقرار، والاستباحة المتواصلة للسّيادة اللّبنانيّة، لتستمر النّظرة الدوليّة إلى البلد من زاوية الأمن الإسرائيليّ. أمّا أمن اللّبنانيّين وسلامهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، فسيبقى مرتهناً لقرارات الخارج، وإهمال الدّاخل.