بسم الله الرحمن الرحيم
خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
في ذكرى الإمام الصادق(ع): أهل البيت سفينة العلم والتقوى والحرية |
تراث الإمام الصادق(ع) العلمي
يقول الله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب:33)، من أئمة أهل البيت(ع)، الإمام جعفر الصادق(ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر شوال، والحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) حديث طويل، واسع سعة الإسلام، لأن الإمام الصادق(ع) في تراثه العلمي والأخلاقي والفقهي والفكري والإنساني، وفي انفتاحه على كل الواقع الثقافي في الواقع الإسلامي، يمثل ظاهرةً ثقافيةً في مستوى حركة الإمامة ومسؤوليتها عن إغناء حياة الناس بالإسلام، على الطريقة التي انطلق بها رسول الله(ص)، وتحرك بها الإمام علي بن أبي طالب(ع)، وانفتح الأئمة قبله من خلالها.
ومن خصوصيات الأسلوب الذي تحرك به الإمام جعفر الصادق(ع)، أنه كان يريد للشيعة من أتباع أئمة أهل البيت(ع)، أن يتثقفوا بالثقافة الإسلامية، بحيث لا يحتاجون أن يسألوا أحداً، فقد كانت وصية أبيه الإمام محمد الباقر(ع) إليه، أن يرعى الشيعة، وكان سلوك الإمام الصادق(ع)، أنّه لم يترك أيّ واحد من المسلمين بحاجة إلى أن يسأل أحداً، ذلك لأنّهم يمثلون الغنى العلمي والثقافي في كل شأن من شؤون الإسلام، من خلال العلم الذي كان يمنحهم النبيّ(ص) إياه.
وقد نقل عنه(ع) قوله: "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام". وهكذا عمل الإمام الصادق(ع) على أساس إغناء الحياة العلمية للمسلمين جميعاً، بعيداً عن الجانب المذهبي، فقد كان يستقبل تلاميذ وطلاباً من غير المذهب الإمامي، ممن كانوا لا يلتزمون بإمامة الأئمة من أهل البيت(ع)، ومنهم إمام المذهب الحنفي، وهو أبو حنيفة النعمان، حيث ينقل عنه قوله: "لولا السنتان ـ اللتان تلمّذ بهما على الإمام الصادق(ع)، حيث استطاع أن يكتسب منه علماً أغنى علمه، ووسّع ثقافته، وأعطاه الفكرة الأصيلة في الخط الإسلامي الأصيل ـ لهلك النعمان"، ومنهم إمام المذهب المالكي، مالك بن أنس.
وامتدت مدرسة الإمام الإسلامية، الفقهية، الكلامية، الثقافية، المفاهيمية، إلى مختلف مواقع العالم الإسلامي، حتى كان شيوخ الثقافة الإسلامية ينطلقون من قاعدة واحدة في أحاديثهم، وهي القاعدة الثقافية التي انطلق بها الإمام جعفر الصادق(ع)، فيحدث بعض الرواة ويقول: "أدركت في هذا المسجد ـ وكانت المساجد هي المدارس، حيث كانت ملتقى العلماء مع الناس ـ تسعمائة شيخ ـ أستاذ ـ كلٌّ يقول: حدَّثني جعفر بن محمد"، فكان هؤلاء العلماء ينشرون مذهب الإمام جعفر الصادق(ع) في كل القضايا الإسلامية المتنوعة، وهم ليسوا بأجمعهم ممن ينتمون إلى المذهب الإمامي الإثني عشري. وقد ذكر بعض المؤلفين، أن الرواة الذين نقلوا العلم عن الإمام جعفر الصادق(ع) هم أربعة آلاف راو من رواة الحديث، كانوا ينشرون علمه(ع) في الناس.
وهناك نقطة كان يتميز بها الإمام جعفر الصادق(ع)، وهي انفتاحه(ع) على الاتجاهات الفكرية والثقافية المتنوعة، حتى تلك الإلحادية التي يتميز أصحابها بالزندقة والكفر والإلحاد، حيث كانوا يجتمعون إلى الإمام جعفر الصادق(ع) في المسجد الحرام في أيام الحج، ويحاورونه في كثير من القضايا العقيدية: في وجود الله، وفي القضايا الأساسية التي تمثّل أصول الدين وفروعه، وكان يجيبهم بكل رحابة صدر، حتى إن بعضهم كانوا يتجرّأون في التعليق على الطائفين حول البيت الحرام ويسألون: "إلى كم تدوسون البيدر؟"، فكأنهم كانوا يقولون امنعوا الناس عن ذلك، ووصفوا مكان الطواف بالبيدر، وكان الإمام يردّ على أسئلتهم بالحجة والبرهان القوي دون أن يعنف معهم، حتى قال بعضهم: "ما رأيت رجلاً يستحق اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد"، وقال بعضهم الآخر (من الزنادقة): "إن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً ـ تشعر به كما لو كان روحاً مجردةً ـأو يتروّح إذا شاء باطناً ـ يصبح إنساناً مادياً ـفهو هذا".
كان الإمام(ع) يؤمن بأن على الإنسان عندما يختلف مع شخص آخر، أن لا يضطهده ولا يقهره ولا يعنف معه، بل عليه أن يوسّع صدره لكل أفكاره وأسئلته، وأن يدخل معه في حوار، لأن دور الدعاة إلى الإسلام، منذ الأنبياء(ع)، والرسول(ص) والأئمة(ع)، هو أن يستمعوا إلى الناس في كل ما يفكرون فيه، حتى لو كانت الأفكار أفكاراً سلبية، حتى يقنعوهم بخطأ تفكيرهم انطلاقاً من رحابة صدرهم، وبكل كلمات طيبة. وهكذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله(ص) بقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159).
منهج الإمام الصادق(ع) في الدعوة
والإمام الصادق(ع) في حركته الإصلاحية، لم يكن يجد أنّ هناك فرصةً للثورة على الحكم الطاغي الذي تمثل في بني العباس، وكان يرى رسالته في أن يصنع مجتمعاً مسلماً مثقفاً واعياً ومنفتحاً، يعرف فيه الناس الانحراف الذي يتمثل في هذا الحكم أو ذاك، وقد عالج الإمام الصادق(ع) في أحاديثه النظام الأخلاقي والروحي والاجتماعي في الإسلام، وأطل على بعض الجوانب السياسية في توجيهاته. ومن جملة القضايا التي أكدها، مما نحتاجه الآن في كل التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين، هي قضية الحرية، فقد أراد(ع) للإنسان أن يكون حراً في فكره وعقله وإرادته ومواقفه، وأن يصبر على هذه الحرية، فلا يتراجع ولا يهتز ولا يسقط أمام كل التحديات التي تواجهه في الحياة.
إن الإمام الصادق(ع) أراد أن يؤكد أنّ الحرية تأتي من الداخل لا من الخارج، فهي لا تصدر بمرسوم أميري أو غيره، بل تنطق من أعماق الإنسان، كما كان الإمام علي(ع) يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". وقد ربط الإمام(ع) بين الصبر والحرية، لأن الحرية تؤكد موقف الإنسان في القضايا الصعبة وفي مواجهة التحديات الكبرى، لأنها تكلّفه جهداً كبيراً وتضحيةً عظيمةً، ولذلك لا بد للإنسان من أن يصبر حتى يؤكد ثباته على حريته. وقد ورد في حديثه(ع): "إن الحرّ حرّ على جميع أحواله ـ لن يكون العبد حراً في أي حالة من الحالات ـ إن نابته نائبة ـ أصابته مصيبة أو واجهته التحديات ـ صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ـ أي أنّ المصائب لا تكسر ثباته ـ وإن أُسر وقُهر ـ حتى لو أسروه وسجنوه أو قهروه من خلال الضغط عليه ـ واستبدل باليسر عسراً"، بحيث تحولت حاله من السعة إلى الضيق في حياته.
الحرية والصبر الإنساني
ثم يذكر الإمام جعفر الصادق(ع) نموذجاً من نماذج الإنسان الحر الذي تداكّت عليه المصائب واستعبد ولكنه لم يسقط، بل بقي حراً حتى في أقسى الحالات التي أطبقت عليه: "كما كان يوسف الصدِّيق الأمين(صلوات الله عليه)، لم يضرر حريته أن استعبد ـ لأنه بيع كما يباع العبيد من قبل الناس الذين عثروا عليه في البئرـ وقهر وأسر ـ من قبل هؤلاء الذين تملّكوه ـ ولم تضرره ظلمة الجب ـ البئر ـ ووحشته ـ فهو بقي حراً في داخل البئر مع أنه كان في أول الشباب، أي في طور اللعب، ومع ذلك عندما وضعه أخوته في البئر ظلّ يعيش حريته، فلم يسقط ولم يصرخ ولم يبكِ ولم يتوسّل أخوته أو أي أحد آخر ـ وما ناله أن منّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبداً ـ فهو كان عبداً للجبار من الناحية الرسمية القانونية، فأصبح الجبار عبداً له ـ بعد إذ كان مالكاً، فأرسله ورحم به أمةً، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".
وكان الإمام الصادق(ع) يؤكد على الصبر باعتباره شرطاً للحرية: "الصبر رأس الإيمان"، وأيضاً في حديث آخر: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان".
ويصوّر الإمام(ع) الصبر بما يمثّله من سلامة للإنسان عندما ينزل في قبره، فيقول فيما يروى عنه(ع): "إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبر ـ أعمال الخير ـ مظلّ عليه، ويتنحى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته ـ منكر ونكير ـ قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه ـ فإذا كان في الصلاة أو الزكاة أو البر خلل ـ فأنا دونه"، أستطيع أن أنقذه.
الخصال الإيمانية
وفي نهاية المطاف، يحدد الإمام الصادق(ع) صفة الإنسان المؤمن: "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهزاهز ـ عندما تحدث الفتن بين الناس ويهتز المجتمع من خلالها، يبقى على وقاره، فلا يهتز ولا يسقط ـ صبوراً عند البلاء ـ فلا يتبرم عند نزول البلاء ـ شكوراً عند الرخاء ـ يشكر الله عندما يوسّع عليه من نعمه ـقانعاً بما رزقه الله ـ لأن الله لا يريد له إلا الخير ـ لا يظلم الأعداء ـ فعداوته لهم لا تبرّر إنكار حقهم إن كان لهم حق ـولا يتحامل للأصدقاء ـ لا يتكلّف لهم ويجاملهم على حساب الحق ـ بدنه منه في تعب ـ من مسؤولياته التي كلّفه الله بها ـ والناس منه في راحة ـ فلا يصدر منه للناس إلا الخير والسير في قضاء حوائجهم ـ إن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره ـ سعة الصدر، لأن المؤمن يستعين به في تسيير شؤونه في دينه ودنياه، فلا يغضب ـ والعقل أمير جنوده ـ فهو يتحرّك في كل حياته وأفعاله وتروكه بالعقل الذي يفرّق بين الخير والشر، وبين الحسن والقبيح، وبذلك يدفع عنه جنود الشيطان ـ والرفق أخوه ـ لأن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ـ والبر والده".
أهل البيت سفينة العلم والتقوى والكرامة
أيها الأحبة، إني أدعو جميع المثقفين في العالم، ولاسيما المسلمين منهم، إلى دراسة الإمام الصادق(ع) دراسةً علميةً، منفتحةً، لأن تراث الإمام الصادق يمثّل تراثاً موسوعياً يتّسع بما يتّسع به الإسلام في كل حاجات الإنسان المسلم. وهكذا، لا بد من أن ننفتح على أئمة أهل البيت(ع) من خلال تراثهم، لأن المشكلة لدى جماهير التشيع، أنهم حولوا الأئمة في وجدانهم إلى مأساة للبكاء، ولم يحولوهم إلى حركة للعلم والثقافة والوعي والتقدم.
إن علينا أن نبقى مع أئمة أهل البيت(ع) لندرس تراثهم، لأنهم هم السفينة، سفينة العلم والتقوى والخير والقوة والحرية والكرامة، التي أراد الله لنا أن نركبها من أجل أن نرتفع إلى المستوى الذي يحبه الله سبحانه ويرضاه.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالصبر القوي أمام كل التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين والمستضعفين من قبل الاستكبار العالمي، وحاولوا أن تأخذوا بأسباب الوحدة حتى تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ... فماذا هناك؟
إسرائيل: خطة تهويد فلسطين
لا يزال فريق التفاوض الإسرائيلي يُدخل الجانب الفلسطيني في متاهات سياسيّة، ويُريد من الفلسطينيّين تطبيق خريطة الطريق بكاملها، في حين تنتقي إسرائيل ما تريده من الخارطة لتطبيقه على ضوء مصالحها، ولاسيّما أنّها أضافت إليها شروطاً تمنع الفلسطينيّين من الحصول على نتائج كُبرى ممّا يطرحونه في شعاراتهم الوطنيّة.
وفي جانبٍ آخر، يطرح نائب رئيس وزراء العدوّ ضرورة إجراء تبادل سكّاني يضمن غالبيّة يهوديّة للكيان العبري، متمسّكاً ببقاء شرقي القُدس والحرم الشريف تحت السيادة الإسرائيليّة، ويعترض على حقّ اللاجئين في العودة، وعلى فتح الممرّ الآمن بين الضفّة والقطاع، ودعا إلى أن تؤكّد التسوية الطابع اليهودي والصهيوني لإسرائيل، وهذا ممّا وافق عليه الرئيس الأمريكي في مرحلة سابقة.
وعلى هذا الأساس، انطلقت الخطّة الإسرائيلية لتدعو كلّ يهود العالم إلى المجيء إلى فلسطين، من أجل أن لا يبقى للشعب الفلسطيني أيّ فرصة للامتداد في أرضه، أو للعودة إلى قُراه ومدنه.
والسؤال الموجّه إلى العرب الذين يبشّر بعضهم، ممّن يقيم علاقات دبلوماسيّة مع الكيان الغاصب، بانعقاد المؤتمر الدولي: ما هي الأوراق التي يملكها هؤلاء، وغيرهم، التي يُمكن أن تقوّي موقعهم في مفاوضات المؤتمر، في الوقت الذي يعرفون أنّ مبادرتهم "البيروتيّة" لا تمثّل شيئاً لدى إسرائيل وأمريكا كقاعدةٍ للحلّ وكمنطلق للسلام، وأنّ الأهداف التي تعلن عنها السلطة الفلسطينيّة في تحقيق دولتها، لا تمثّل دولةً قابلةً للحياة أمام المستوطنات الكبرى والجدار العازل ومصادرة القدس والسيطرة على المياه؟!
التشكيك في صدقية المؤتمر
ومن الطريف أنّ بعض المسؤولين العرب الذين لم يصالحوا العدوّ حتّى الآن، ويعلنون أنّهم سيحضرون المؤتمر، يبرّرون حضورهم بأنّه كحضورهم في الأمم المتّحدة وفي المؤتمرات الدوليّة ممّا لا يمثّل تطبيعاً مع العدوّ، ولكنّهم يعرفون أنّهم يخدعون أنفسهم قبل أن يخدعوا الناس بهذا الوهم السياسي، لأنّ هذا المؤتمر خاص باللقاء مع الكيان العبري لإيجاد حالة توافقيّة تطبيعيّة ولو من حيث المبدأ، ولكن من دون أن يحصلوا على أيّ مكسب سياسي لمصلحة القضية العربيّة والفلسطينيّة.
لذلك، فإنّنا نكرّر تحذيرنا للعرب من حضور هذا المؤتمر، ولاسيّما بعد أن سمعنا بعض المسؤولين الكبار يشكّك في نجاحه، لأنّ الشروط المطلوبة للنجاح غير موجودة في داخله، ما يجعل الحضور العربيّ خاضعاً للضغط الأمريكي والابتزاز الإسرائيلي.
ومن جانب آخر، لا تزال إسرائيل تمارس العقاب الجماعي ضدّ الشعب الفلسطيني، ولاسيّما المدنيّين في غزّة، وتمنع عنهم ـ جزئيّاً أو كليّاً ـ المحروقات والكهرباء؛ وقد انطلقت الاعتراضات على ذلك من أكثر من دولة أوروبّية وغير أوروبّية، ما عدا الدول العربيّة، ولكن من دون أيّ محاولة للضغط عليها لإيقافها عند الحدود الإنسانيّة في الحقوق المدنيّة.
انتهاكات إسرائيلية وحشية وصمت عربي
ويتساءل بعض العرب: لماذا لم تبادر الحكومة المصريّة لإنقاذ الشعب الفلسطيني في غزّة بتزويده بالمحروقات والكهرباء والحاجات الضروريّة؟ وكيف تفسّر مثل هذا الجمود الإنساني العربي؟
هذا كلّه فضلاً عن القصف الصاروخي، بالمدفعية والطيران، للمواطنين في غزّة، إضافةً إلى الاعتقالات والاغتيالات في الضفّة.
وعلى صعيد آخر، بدأ العدوّ مناورات واسعة في منطقة الجليل قرب الحدود مع لبنان، يُشارك فيها كلّ فروع جيشه وأسلحته، ممّا يُخشى من أنّها تخطّط لحربٍ قادمة على لبنان وسوريا، ولا سيّما أنّه لم يصدر عن مجلس الأمن قرار بوقف إطلاق النار، بل اكتفى القرار 1701 بوقف الأعمال العسكريّة، ولم تحرّك القوّات الدوليّة أو الدولة اللبنانيّة ساكناً، أو تبدي استعداداً حذِراً أمام ذلك. ومع ذلك، يبقى الصراخ لدى بعض اللبنانيّين الذين يتحدّثون عن الحرّية والسيادة والاستقلال، بالدعوة إلى نزع سلاح المقاومة، بحجّة أنّها تسيء إلى موقع الدولة التي لا تملك خطّة استراتيجيّة للدفاع عن لبنان، ولاسيّما أن الولايات المتحدة الأمريكية ترفض تسليح الجيش اللبناني بالمستوى الذي يملك فيه موقع القوّة.
توازن إيراني في معالجة الملف النووي
ويبقى الملفّ النووي الإيراني يثير الجدل على المستوى الدولي، في المطالبة الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية بإيقاف تخصيب اليورانيوم؛ بحجّة أنّ هناك خطراً من تخطيط إيراني لصنع القنبلة النوويّة، في الوقت الذي تؤكّد وكالة الطاقة الذرّية أنّه لا دليل على أنّ إيران تهدف إلى صنعها، وهذا ممّا لم يرتح له أعداء إيران الذين يرفضون أيّ كلامٍ جدّي حقيقيّ حول الواقع الذي يتمثّل بالخطّ السلمي للملفّ النووي؛ لأنّ المسألة التي تهمّ الغرب، هي منع إيران والمنطقة من امتلاك القوّة التي تساهم في تطوير اقتصادها، وفي تقوية قدرتها للدفاع عن نفسها من خلال الخبرة العلميّة الذاتيّة التي تجعلها في غير حاجة إلى دول أخرى.
ومن الطريف أن كيان العدوّ الذي يملك أكبر ترسانة نووية تهدّد المنطقة العربية والإسلامية، يقوم بأكثر من جولة في روسيا والصين وأوروبا، من أجل تحريكها ضدّ الملف النووي الإيراني وفرض العقوبات الاقتصاديّة، كما لو كانت إسرائيل دولة سلام.
وقد حاولت إيران أن تواجه الحملة عليها بطريقة عقلانيّة متوازنة، على لسان وزير خارجيّتها، بأنّ هناك خيارين بالنسبة إلى واشنطن، الأوّل هو التفاهم، والثاني هو المواجهة، وأنّ إيران تفضّل الخيار الأوّل، وكذلك المجتمع الدولي، معتبراً أنّ العقوبات الأمريكية الأخيرة لن تحلّ مشكلات واشنطن، وستجعل الولايات المتحدة أكثر عزلةً.
لبنان: هل الانتخابات الرئاسية تنهي الأزمة؟!
أمّا لبنان، فإنّ الخلافات الداخليّة عميقة، والمواقف المعلنة التي توحي بأنّ الخارج ينتظر التوافق بين اللبنانيّين، ما هي إلاّ أقنعة للمواقف الحقيقيّة التي تضع العراقيل أمام توافق اللبنانيين، وتجبرهم على انتظار التوافق الإقليمي والدولي حول ملفّات عدّة في الشرق الأوسط، والتي تتجاوز الاستحقاق الرئاسي. وليس أصعب من التوافق الداخلي سوى التوافق الخارجي.
ولعلّ المشكلة في لبنان، أنّ الأزمة الحاضرة، في كلّ تفاصيلها وتعقيداتها؛ سواء في حكومة الوحدة الوطنيّة، أو في الاستحقاق الرئاسي، أو في الحوار المسيحي المسيحي، والمسيحي الإسلامي، أو في استعادة الثقة بين الأحزاب والشخصيّات السياسية والطائفيّة، دلّت على أنّ اللبنانيّين لا يستطيعون حلّ مشاكلهم بعيداً عن الوصاية الخارجيّة التي يعترف بها البعض، ويُنكرها البعض الآخر. هذا، مع ملاحظة، وهي أنّ حصول انتخاب الرئيس في موعده لن يحلّ الأزمة، فهناك الكثير من الأزمات المعقّدة التي لا يملك الرئيس الجديد ولا المؤسّسات الأخرى، النجاح في حلّها على أساس استقرار الوطن كلّه، بل سوف يبقى الاهتزاز السياسي الذي قد تتحرّك أزمة المنطقة لتحوّله إلى اهتزاز أمنيّ، لا سمح الله.
ويبقى الوضع الاقتصادي والمعيشي للناس يعاني أكثر من مشكلة خانقة، في ظل الأزمة الاقتصاديّة والماليّة، وارتفاع الأسعار، وانخفاض المداخيل، وسقوط الطبقة المتوسّطة، وفقدان التوازن في التعويض على الناس الذين هُدّمت بيوتهم، واهتزّت أو دمّرت مصانعهم وتجاراتهم بفعل العدوان الإسرائيلي، حيث نجد هناك حركةً سلحفاتيّةً في عمليّة الحلّ لهذه المشكلة، إضافةً إلى بعض التعقيدات السياسية. فهل يجد الناس الفرح في الرئيس الجديد، أو أنّ الأزمة سوف تستمرّ معه كما كانت دونه؟