أجرت صحيفة الزمن الكويتية حواراً مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ونشرته في عددها (120) الصادر بتاريخ 16/ذو القعدة/1421هـ،الموافق:10-2-2001م وهذا نصه:
بيروت ـ عصمت طوقان
الحديث مع سماحة العلامة محمد حسين فضل الله، أشبه بسباحة في بحر متلاطم الموج، لكن النتيجة في كل حين مضمونة، الوصول إلى مرفأ آمن وهادىء ومستقرب يرسمه بملامح وجهه والكلمات، فهو يعتبر أن العالم العربي يمر في حالة فوضى اقتصادية ـ سياسية جامحة.. عدا الأجهزة الأمنية التي هي سيدة كل شيء وهو يرى أن خروج العرب من التخلف ودخولهم العصر يتطلب حكماً وأنظمة على مستوى العصر، وهذا لن يحدث ما لم تكف الشعوب العربية عن تقديس من لا يملكون القداسة، وما لم يكن "الغضب العقلي" جزءاً من خطتهم لا أن يكون هو الخطة كلها، أما في ما يتعلق بأزمة الإسلام، فسببها رجال الدين والسياسيون المتخلفون فكرياً، والذين ما زالوا يعيشون في ذهنية القرون الوسطى. وللعلامة رأي خاص بولاية الفقيه، إذ هو "لا يلتقي معها بالمطلق"، بل يرى أن قضيتها تتوقف على مسألة حفظ النظام التي لا تفترض بالضرورة تولية ولي الفقيه. وماذا عن العولمة؟ إنها مرفوضة لأنها مشروع امبريالي أمريكي "يريد إلغاء اقتصاداتنا القومية وثقافاتنا الوطنية والدينية". ثم إن الإسلام نفسه عولمة، ويستغرب فضل الله كيف يمكن لدول الخليج التي تمتلك وحدها دون غيرها في العالم العربي شخصية واحدة لا تصل إلى الوحدة الاقتصادية، وعن مصير "حزب الله ـ اللبناني" يرى أن ذلك رهن بطبيعة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية وعلى قدرته مواكبة هذه المتغيرات والضغوطات التي ترافقها، وأخيراً يرى العلامة أنه من الصعب جداً إنهاء الصراعات والخلافات بين السنة والشيعة، لأن الوحدة الإسلامية ممنوعة غربياً وربما شرقياً أيضاً..
س: سماحة العلامة، آخر التقارير الاقتصادية تشير إلى أن المنطقة العربية باتت في المرتبة ما قبل الأخيرة في العالم من حيث الإنتاج (أفريقيا الأخيرة) وبأنها أصبحت مستوردة لكل شيء تقريباً، من الغذاء إلى الأسلحة، برأيكم ما أسباب هذا الانحدار المريع؟
ج: المشكلة في المنطقة العربية أنها لا تملك القرار السياسي، الأجهزة المسيطرة على كل أوضاعها هي الأجهزة المخابراتية أو حالات الطوارىء، ما يترك تأثيره على البنية العامة لهذه الدولة أو تلك، باعتبار أنها تحدد لكل الفئات العالمية التجارية أو المستثمرة حركتها على المستوى الاقتصادي.
هذا من جهة القرار، أما من جهة الحكم، فهناك فساد إداري وسياسي واقتصادي في الحكم المتمثل في الشخص ـ الحكم، وحتى في البلدان التي قد يكون لها مجال قيادي أو مؤسسات، فإنها تصوغ هذه المؤسسات على صورة الحاكم، بحيث تكون مجرد صوت ناطق أو مجرد ديكور ديموقراطي، وكما هو ملاحظ أيضاً في هذا المضمار، ليس هناك أي محاسبة للحكم، وحتى إذا ما حدثت بعض المحاسبات فإنها لا تتحرك على المستوى المطلوب، فإذا كان القرار السياسي والحكم الفاسد قد ساهما في وضع المنطقة في المرتبة ما قبل الأخيرة في الإنتاج، فلا ننسى الحروب التي استنزفت الاقتصاد العربي، وخصوصاً حرب الخليج الأولى والثانية، والمسألة الفلسطينية والمشاكل الداخلية في حروب أهلية تحدث هنا وهناك، فالحروف استطاعت أن تستنزف الاقتصاد العربي أكثر من أي شيء آخر، وتحول الدول الغنية إلى دول مدينة، كل هذه ا لأمور المعقدة منعت من وجود تخطيط لسياسة اقتصادية على أساس التصنيع والزراعة، إلى جانب التبعية، وهذه النقطة الأخيرة مسألة مهمة جداً، حيث أن الأجهزة والحكومات الغربية، وبالتالي الشركات الاحتكارية، تحاول أن تنفذ من خلال هذا المنفذ العربي أو ذاك للسيطرة على السوق العربية، نتيجة كل هذا الواقع الذي تحدثنا عنه، لا نشعر بوجود اقتصاد عربي حر، حتى أن الدول العربية لم تستطع إلى الآن أن تصل إلى مستوى السوق العربي أو التعاون بين اقتصاديات هذه الدولة أو تلك، ربما نجد أن المشاكل الاقتصادية بين بلد عربي وآخر أكثر بكثير مما بين بلد أوروبي أو أمريكي أو ما شابه، ولكن الجهة الوحيدة التي ليس لديها فوضى هي الجهة الأمنية وهي سيدة كل هذه المسائل(...).
الحاكم والعصـر
س: التقارير نفسها تشير إلى بطء المنطقة الشديد في دخول عصر تكنولوجيا المعلومات والبيوتكنولوجيا، هذا ناهيك على أنها مستهلكة هنا أيضاً وليست منتجة، فهل كتب علينا أن نتأخر دوماً في ركب التقدم التكنولوجي؟
ج: لعل المشكلة في دخولنا إلى عالم التكنولوجيا والمعلوماتية حاجتنا لأن نرتفع إلى مستوى العصر وإلى حكم في مستوى العصر، نحن عندما ندرس الدول المتقدمة في أوروبا أو في أمريكا نجد حكومات تخاف شعوبها، وشعوباً تحاسب حكوماتها وحكوماتٍ تعيش طموح الارتفاع بدولها إلى المستوى الذي تستطيع فيه أن تستقل اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وأن تنافس الحكومات الأخرى، أمام في العالم العربي والعالم الثالث، فالأنظمة تعيش طموحات أشخاصها ولا تعيش طموحات شعوبها، فمن الطبيعي أن الشعب الذي يعيش مشاكل أمنية يبتعد عن الاستقرار، فيقع في مشاكل سياسية تجعله ينشغل بحاجاته اليومية وتمنعه من أن يراقب، بعض الحكومات أسست مجالس برلمانية، لكن هذه المجالس إذا ما تعدت الحدود المرسومة لها، فإنها بقدرة قادر تحل، وتجري انتخابات جديدة، ويتأدب المرشحون بالآداب المرسومة لهم.
خلاصة القول، نحن بحاجة إلى حكم على مستوى العصر للدخول إلى عالم التطور..
الشارع العربي
س: أحد الكتاب الغربيين دعا "الشارع العربي" إلى التحرك ضد أنظمته بسبب الاستبداد وسيادة المفاهيم التبعية والاستهلاك، ماذا في وسع هذا الشارع فعلاً أن يفعل؟
ج: نحن نحتاج في البداية لأن يعي هذا الشارع وأن يكف عن تقديس من لا يملكون القداسة، وكذلك عن كل هذا الاستهلاك في المدائح لهذا الحاكم أو ذاك، يجب أن يعي الشارع مشكلته أو أزمته ولا يعيش الفردية في ذاته، وأن لا يتحرك بفعل الحماسة والانفعال، لأن الكثير من الأوضاع التي تحركت في الواقع العربي في مواجهة الحاكم هنا وهناك سقطت في الارتجال الذي يسيطر عليه الانفعال، والحماسة. نحن قد نحتاج إلى الحماسة، ولكن بشرط ألا تكون هي الخطة، بل أن تكون جزءاً من الخطة، وهذا ما أسميه "الغضب العقلي"، إنني أتصور أن وعي الشعب لواقعه وأزمته ولمشاكله هو الخطوة الأولى لعملية التغيير، لماذا؟
إن عملية التغيير في العالم العربي والعالم الثالث كانت تأتي من الخارج، نتيجة صراع الآخرين. في البدايات، في الخمسينات والستينات، كان الصراع فرنسياً ـ بريطانياً ثم أمريكياً ـ سوفيتياً. اليوم الصراع أمريكي ـ أوروبي، إذاً الانقلابات في العالم العربي لم تكن انقلابات ناشئة من داخل القرار العربي الشعبي، ولكن كانت هذه الدول تحاول أن تستفيد من بعض السلبيات التي يعيشها شعبٌ ما ضد الحاكم، فتوظف ذلك لتغيير الحكم، ولكن ليس لحساب الشعب بل لحسابات وسياسات أخرى. فحرب الخليج الأولى والثانية كانتا حربين أمريكيتين ولم تكن حرباً عراقية ـ إيرانية أو حرباً عراقية ـ كويتية.
علتنا هي الديكتاتورية
س: لكن من برأيكم يجب أن يقوم بدور توعية الشارع العربي؟
ج: الأحزاب هي التي تلعب دور التوعية، لكن مشكلة الأحزاب العربية أنها على صورة الأنظمة، فهناك ديكتاتورية داخل الأحزاب في الغالب ـ لا نقصد كل الأحزاب ـ ولذلك من الصعب جداً أن يسمح بحرية الرأي داخل الحزب، ثم نخشى أن تكون بعض الأحزاب خاضعة لخلفية سياسية خارجية.
نحن لا نريد أن نقلل من دور الأحزاب، ونعتقد أنه عندما تكون هناك حزبية حضارية، غير مغلقة أو تقوم على العصبية، فالتغيير يصبح وارداً.
كما أن هناك دور يقوم به علماء الدين الواعين الذي لا يتحركون بذهنية طائفية، بل بالذهنية الإسلامية إذا كانوا مسلمين، أو بذهنية مسيحية إذا كانوا مسيحيين، من خلال القيم الإسلامية والمسيحية الإنسانية. نحن نعتقد أن هؤلاء مجتمعين يمكن أن يشاركوا في عملية التوعية.
إن علتنا هي الديكتاتورية المتخلفة والمغلقة، هناك ديكتاتوريات قد تكون واعية، ولكن المشكلة في الديكتاتوريات العربية أنها مغلقة، وقد تكون عشائرية أو شخصانية أو شبه ذلك.
الماضي كالحاضر ليس مقدساً
س: يقول الاقتصادي والمؤرخ الأمريكي الشهير، بول كينيدي، أن الإسلام لا يزال متأخراً عن الحداثة، بسبب خوفه المرضي على هويته وإن هذا الخوف قد يدمره في النهاية، هل توافقون على هذا التحليل؟
ج: نحن نقول إن مشكلة الإسلام وأزمته هي في المتخلفين فكرياً الذين يعيشون ذهنية القرون الوسطى، ولا يحركون الإسلام في أصالته ونقائه نحو الهواء الطلق، إن الذين يخافون من حركة الإسلام في الجانب الثقافي والفكري هم الذين لا يملكون الثقافة التي من خلالها يستطيعون مواجهة التحديات الفكرية والثقافية.
وقد مرّ الإسلام في كل تاريخه في تحديات ثقافية على المستوى الديني والمادي والسياسي، واستطاع أن يظل قوياً، وأن يؤصل فكره وأن ينفتح.
لكن أين تكمن المشكلة؟ إنها تكمن في سيطرة المتخلفين، سواء كانوا من علماء دين أو من سياسيين أو من بعض القوى الشعبية المسيطرة على الفكر الإسلامي، فكل هذه العوامل جعلت الفكر الإسلامي يتجمد.
هنا، نحن لا نقول إن علينا أن نتجدد ، لاانطلاقاً من عقدة التجديد، بل ندعو إلى قراءة جديدة من خلال المعطيات التي اكتسبها الإنسان المعاصر في الجانب الثقافي ليضم ما اجتهدهالأقدمون إلى اجتهاداتنا فنقارن ما بينها ونستبقي ما يمكن أن يمتد للحياة.
إن المشكلة أن الكثيرين من المسلمين يعطون القداسة لمن لا قداسة لهم، والعصمة للذين لا عصمة لهم من الأعلام المجتهدين هنا وهناك. والجميع يتفقون فكرياً أن المجتهد قد يخطىء وقد يصيب، فإذا أصاب له أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد. ولكن الواقع العلمي الآن هو واقع التقديس للماضي، وعلينا أن نعرف أن الماضي كالحاضر، قد يخطىء أو يتقدم، ولذلك علينا ألا نتجمد فيه.
خلاصة القول: إن العقل ليس مشكلة الإسلام، لأن الإسلام دين الله ودين الحياة، والإسلام هو دين العقل والعلم، ويعتبر أن العقل هو حجة الله على عباده، وأن العقل هو حجة الناس على بعضهم البعض، والعلم هو القيمة {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، {وقل رب زدني علماً}، ويقول الإمام علي(ع): "قيمة كل امرء ما يحسنه". كذلك الإسلام يرى في العقل الأساس لإنسانية الإنسان ولأخلاقيته يرى في العلم القيمة الإنسانية الكبرى، فهذه هي المقومات التي يريد الإسلام أن يحركها وينتجها، فالإسلام لا يملك أي حالة مرضية، ولكن المرض يكمن في الإعلام والمثقفين والشعوب المتخلفة، إن المتخلف يفهم الفكر الذي يلزمه من خلال موازين التخلف، وهذا ليس ذنب الفكر، لكن التخلف الذي يسيطر على الذين يمارسون الفكر.
إيران وتركيا، الدين والسياسة
س: ثمة من يعتقد أن المخاض العسير في كل من إيران وتركيا سببه ليس الصراع بين العلمانية والعلم، وبين الدين واللاهوت، بل بسبب هذين القطبين، على عكس ما جرى في التوفيق بين رغبة الجماعة الإسلامية في الغرب، حيث انتصرت العلمانية بإعلان ثورة على الدين، هل توافقون على هذا التحليل؟
ج: لا أوافق على ذلك مع التحفظات في بعض المفردات هنا وهناك. لأن المسألة في أوروبا أن الدين وقف في مواجهة العلم، وأن الدين صادر العقل، بينما نجد أن الإسلام احترم العقل حتى أن هناك كلمة مأثورة أو حديث مأثور يقول: "العقل رسول من الداخل والرسول عقل من الخارج"، وهناك حديث يقول إن الله عندما خلق العقل قال له: "أقبِل، فأقبل، ثم قال له: أدبِر، فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت أعز علي منك، إياك آمر وإياك أنهي وبك أجيب وبك أعقل".
حتى ورد عندنا في بعض الحديث أن الله يصيب الإنسان بقدر عقله، يعني أن قيمة العقل الذي يقدمه الإنسان بقيمة وعيه. فإذا كان الإنسان يملك العقل، فيكون عمله كبيراً ويعطيه أجر العمل الكبير، بينما إذا كان الإنسان بغير وعي لعمله، فإن عمله يصغر ويعطيه الله الثواب على مقدار هذا العمل.
لذلك نقول: إن الإسلام استطاع أن يعطي الإنسان حضارة عندما دخل تجربة الحياة، ونحن نعرف أن العلماء المسلمين المتخصصين في أكثر من تخصص علمي، سواء في العلوم الإنسانية أو الطبيعية أو غيرها، هم الذين أدخلوا أساس التطور في أوروبا أمثال ابن رشد وغيره، وهم الذين أدخلوا مسألة التجربة باعتبار التجربة أساس المعرفة كما التأمل. فأوروبا دخلت حركة ا لتطور من خلال الإسلام ومن خلال العلوم التي اكتسبتها منه كما أنها إلى عهد قريب، درست ابن سينا وابن خلدون وابن طفيل وغيرهم، حتى أننا قرأنا لـ"نهرو"، وهو من الرؤساء المثقفين يقول في كتابه "لمحات من تاريخ العالم" أن الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات الحديثة.
إذن الإسلام ليس ضد العلم، وليس هناك في الإسلام نظرية علمية يعتبرها علماء الإسلام مقدسة ويفرضونها على العلماء، ويقفون ضد العلماء الذين يكتشفون أسرار الكون، والإسلام قدّم المنهج، وقال للناس ليتفكروا في خلق السموات والأرض ولم يفرض نظرية خاصة، ومع ذلك، فإن بعض العلماء المسلمين يحاولون أن يفسروا القرآن في العلوم الطبيعية، وهناك تيار يرفض ذلك، لماذا؟ لأن مسألة العلوم هي نظريات علمية متحركة، والذي يمكن أن يكون علماً الآن يكون خطاً غداً، لذلك لا يمكن أن نفسر القرآن بذلك، لأن القرآن قد يعطي أحاديث لبعض العلوم ولكن لا يفرض أي نظرية.
فالإسلام واكب التطور العلمي واستطاع أن يحدث العالم الذي تحرك فيه، لذلك هناك فرق بين الدين المتمثل في وعي علماء الإسلام، وبين الدين المتمثل بالمسيحية وفي وعي العلماء المسيحيين.
في القرون الوسطى، الإسلام لم يعش التجربة التي عاشها الدين المسيحي في أوروبا، لذلك استطاع العالم الإسلامي أن يصنع حضارة برعاية الإسلام وبروحيته. أما التخلف الذي حدث، فلم يحدث من خلال الدين، إنما من عناصر التخلف التي عاشتها أوروبا بالسابق بفعل المعطيات الموجودة.
إذن، عملية التقدم أو التخلف عملية نسبية، فالحضارة الموجودة في العالم الغربي فيها تخلف في أكثر من جانب من جوانب الحياة، لذلك لا نستطيع أن نقول: إن الغرب متقدم مئة في المئة، كما أننا لا نستطيع أن نقول إن العالم الإسلامي حتى في هذا الواقع متخلف مئة في المئة.
من هنا، علينا أن نفرق بين التجربة الدينية في حركة الإسلام والتجربة الدينية في حركة المسيحية، نقصد "المسيحية الرسمية"، فالعلماء المسلمون لم يحرقوا العلماء الذين كانوا يكتشفون كـ"غاليليو" ربما كان بعض الخلفاء قد تبنوا بعض النظريات وفرضوها، ولكن هذا أمر شخصي ولا يمثل خط الإسلام في المعنى العام للإسلام.
السياسة من صلب الإسلام
س: أوليفييه روا، المفكر الفرنسي، يرى أن السياسة وليس الدين هي المنتصرة في إيران، وذلك منذ انتصار الإمام الخميني، وأن ما يجب أن يحدث الآن هو أن يثور الدين لكي يستقل عن السياسة، ما رأيكم؟
ج: الجدل بين السياسة والدين هو جدل ينطلق من نظرية غربية تقول إن الدين هو العلاقة بين العبد وربه، وأن لا علاقة له بالحياة وأن السياسة شيء والدين شيء آخر. ولكن في الإسلام الأمر يختلف، لأنه يعتبر أن أساس الديانات إقامة العدل، ونحن نعرف أن العدل ليس شيئاً مطلقاً في الهواء، فالعدل يمثل حركة في تحديد حقوق الإنسان على الإنسان وحتى حقوق الإنسان على الله وحقوقه على نفسه.
إذن من الطبيعي أننا لا نستطيع أن نقيم العدل إلا على أساس قانون عادل ومجتمع عادل، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالسياسة، كيف تحقق العدل في الدول لو لم يكن هناك قانون يؤكد حقوق الناس ويؤكد على العلاقة بين الحاكم والمحكوم وطريقة الحاكم.
لذلك نقول بأن السياسة بمعنى إقامة العدل بين الناس هي من صلب الإسلام، كما أن الإسلام يختلف عن المسيحية لأنه يملك ثروة قانونية في كل شؤون الحياة من خلال النصوص واجتهادات المجتهدين. ولذلك رأينا من خلال ما يقارب أربعة عشر قرناً أن المجتمعات الإسلامية لم يحكمها إلا الإسلام، حيث لم يكن لديها قانون غيره، وكان الإسلام هو الذي يرعى حركة الحرب والسلم والاقتصاد والاجتماع والأحوال الشخصية وما إلى ذلك من خلال اجتهادات المجتهدين.
فالإسلام خاض تجربة الحكم والسياسة ومن الطبيعي أن يخطىء الذين مارسوا السياسة في بعض التجارب وأن يصيبوا في بعض تجاربهم ككل التيارات التي خاضت التجربة السياسية على أساس الأيديولوجية في مسألة الخطأ والصواب.
إن الصراع الذي يتحدثون عنه في إيران هو صراع سياسي يخضع لمفاهيم إسلامية ويختلف الاجتهاد حول هذا الجانب أو ذاك، ولكننا نستطيع أن نؤكد حقيقة، بقطع النظر عن السلبيات الموجودة في داخل التجربة ، بأن إيران أول دولة إسلامية معاصرة تملك حياة سياسية. هناك حرية في الرأي قد تتعذر في بعض الحالات وتحصل مضايقات، ولكن تبقى المسألة في إطار الحياة السياسية المتحركة التي لا تجد في المنطقة أي حياة سياسية لأي بلد آخر في هذا المجال.
إن الديموقراطية الموجودة في إيران غير موجودة في أي بلد آخر من البلدان، حتى البلدان الديموقراطية، ولقد لاحظنا أن الدستور في حياة الإمام الخميني جرى عليه استفتاء شعبي، كما أن ولاية الفقيه تخضع للاستفتاء الشعبي، ولكن بدرجتين، وأن عملية الاستفتاء الشعبي لا تتم بهذه الحرية في أكثر البلدان الأخرى.
إن علينا أن ندرس التجربة الإسلامية في إيران كتجربة إسلامية معاصرة في سلبياتها وإيجابياتها، ولا يجوز أن ننظر إلى السلبيات كما ينظر إليها الآخرون، لذلك هناك صراع سياسي، ولكنه من خلال تنوعات في الاجتهاد.
ولايـة الفقيـه
س: قيل إن سماحتكم تعارضون ولاية الفقيه، هل هذا صحيح؟
ج: صحيح من جهة، وغير صحيح من جهة أخرى، فحسب اجتهادي، خصوصاً في الاجتهادات المتأخرة عندي، لا أرى أن النصوص الدينية في الكتاب والسنة تدل على ولاية الفقيه، بل أن المسألة خاضعة لحفظ النظام.
نحن نؤمن أن الإسلام يريد حفظ النظام للناس في اقتصادهم وسياستهم وأمنهم، وعلى هذا الضوء، فإن قاعدة حفظ النظام هي التي تحكم طريقة الحكم، فإذا توقف حفظ النظام على ولاية الفقيه طبعاً بالشكل الدستوري، لا بالشكل المطلق الذي يحوله إلى حاكم مطلق، فلتكن ولاية الفقيه. لكن إذا رأينا أن النظام لا يتوقف على ولاية الفقيه، بل يمكن أن يحكم أهل الخبرة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب والسلم، كلٌ في موقعه في الدولة مع وجود مستشارين فقهاء يراقبون العملية الإسلامية، ونرى مطابقتها للحكم الإسلامي، أو عدم مطابقتها، فتكون هناك لجنة رقابة على الدستور أو رقابة على الخطوط الإسلامية.
لذلك لا ألتقي مع ولاية الفقيه بالمطلق، بل أرى أن القضية تتوقف على حفظ النظام، فإذا كان حفظ النظام لا يفرض أن يكون الشخص الأول في الدولة ولي الفقيه، فيمكن أن يمارس الناس دورهم في هذا المجال، مع التأكيد والتركيز على الخطوط الإسلامية لسلامة النظام الإسلامي.
العولمة وتكافؤ الفرص
س: ما موقفكم من العولمة؟
ج: العولمة انطلقت كمشروع أمريكي غربي من أجل سيطرة الشركات الكبرى في العالم على مقدرات العالم الثالث، وعلى مقدرات الدول الفقيرة. فعلى دول العالم الثالث أن تنسق مع دول العالم الأول، إذا صح التعبير، لتنمية اقتصادها ليكون جزءاً من الاقتصاد العالمي، ولكن نحن نعرف أن المسألة إذا دخلت حيز التطبيق، فإنه لا يمكن التنسيق، لماذا؟
لأن اقتصاداً متخلفاً فقيراً لا يملك أي خبرة، لا يستطيع أن يقيم علاقة عادلة مع اقتصاد متقدم يملك كل عناصر التفوق والتقدم والخبرة وما إلى ذلك. لهذا، لم يكن المشروع مشروعاً عالمياً إنسانياً، بل كان مشروعاً أمريكياً غربياً احتكارياً عندما نريد أن نتحدث عن نظام عالمي، فلا بد ن يكون هناك تكافؤ فرص، ولا بد أن يكون هناك حرية واقعية موضوعية في هذا المجال.
إننا مسلمون ونعتبر أن الإسلام ديناً عالمياً يريد أن يوحّد العالم على أساس فكره وحقوقه وحركته وتجربته، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}
العولمة كمشروع، نحن ضده، لأنه سوف يعمل على إلغاء اقتصادياتنا القومية والإقليمية وثقافتنا الوطنية والإقليمية والدينية لحساب ثقافات أخرى، لا لإيجاد نوع من التفاعل والتكامل الحضاري بين ثقافة وثقافة، واقتصاد واقتصاد، وسياسة وسياسة، المسألة في التطبيق وليست في النظرية، ونحن أصبحنا نخاف من كثرة النظريات التي ترسم الخطوط. فالقضية ليست مسألة كلمات، ولكن ما وراء الكلمات.
السوق العربية المشتركة
س: لكن العولمة باتت قدراً لا مفر منه على الأقل على الصعد التكنولوجية، وبات معروفاً أن الوسيلة الوحيدة أمام المنطقة العربية لدخول العولمة تكمن في السوق العربية المشتركة، ومع ذلك لم يحدث حتى الآن أي تحرك جدي في هذا الاتجاه، لماذا؟
ج: لأنه ليس هناك عالم عربي، هناك عالم قطري، والقطرية لدى الناس والذين يعيشون في هذا القطر أو ذاك هي أعمق من الشخصية العربية، ولذلك نجد أن الإنسان متأثر بخصوصيات القطرية كما بخصوصياته العائلية أكثر من أن يتأثر بخصوصياته العربية، لنعط مثالاً، عندما يختلف قطر مع قطر آخر، فإن العصبيات تثور أكثر مما يختلف العالم العربي مع إسرائيل، ونحن نعرف أن هناك عملاً استكبارياً هدفه إلغاء العالم العربي من التداول في القضايا السياسية. وهذا الأمر واضح، فعندما عقد مؤتمر مدريد، لم يوافقوا على أن تحضر الجامعة العربية بصفة مراقب، في حين سمح الاتحاد المغربي، الذي ولد ميتاً ولا يزال، ومجلس التعاون الخليجي أن يحضر بصفة مراقبين، كما اعتبر فيه كل من الاتحاد الأوروبي وكذلك الأمم المتحدة مراقباً، لماذا؟
لأنهم لا يريدون أن يكون هناك عالم عربي، لذلك رفضت إسرائيل ومعها أمريكا مفاوضة عرب الطوق مجتمعين، بل طلبت أن تقوم المفاوضات مع كل طرف على حدة حتى أن الوفد الفلسطيني الذي لم تكن له شخصية سياسية آنذاك ألحق بالوفد الأردني.
نعود إلى ما أشرنا إليه، بأنه ليس هناك عالم عربي، بل هناك عاطفة عربية، لكن سرعان ما تخمد، وهنا تكمن المشكلة. فدول الخليج التي تملك شخصية واحدة على المستوى الإقليمي، لم تستطع إلى الآن أن تصل إلى الوحدة الاقتصادية أو إلى السوق الخليجية المشتركة، لماذا؟
نتيجة الخصوصيات الموجودة في هذا البلد أو ذاك، فكيف إذن مع العالم العربي الذي مزقته الخلافات، ولا سيما ما حدث في حرب الخليج أو في العالم العربي كله؟ إن مسألة الدخول إلى عالم التقدم التكنولوجي لا يمكن أن تتم إلا على أساس تعاون مختلف الأطراف العربية، وهذا ليس واقعاً في المستقبل المنظور.
بيان الألف في سوريا
س:ما رأيكم بوثيقة الألف مثقف سوري؟
ج:من الطبيعي أن يكون من حق المثقفين السوريين التعبير عن آرائهم، كما المثقفين في العالم العربي، لذلك فإن هناك فرقاً بين أن نوافق على كل مفردة من مفرداتها، وبين أن نوافق على حقهم في حرية رفع الصوت، وأعتقد أن من إيجابيات العهد الجديد في سورية بأنه أعطى هؤلاء المثقفين الحرية بأن يجتمعوا وأن يعدوا بيانهم.
س: بعد الانتخابات الأخيرة في لبنان، قيل إن الطائفية والمذهبية انتصرتا مجدداً وأن مشروع الدولة انهزم مجدداً؟
ج: نؤكد على ذلك، لأن الذين يحرثون الطائفية والمذهبية لا يزالون يعملون أكثر على تعميقها في نفوس اللبنانيين لإبعادهم عن لبنانيتهم.
س:سماحتكم انتقدتم من يطرح تصحيح العلاقات اللبنانية ـ السورية واعتبرتموه جزءاً من ضغوط إسرائيلية وأمريكية، ألا تعتقدون أن هناك خللاً فعلاً في هذه العلاقة؟
ج: من الطبيعي أن هناك خللاً في الممارسات الأمنية، ولعل هذا الخلل يشترك فيه لبنانيون. تنسيق العلاقة اللبنانية ـ السورية لا يعني أننا نوافق على كل الممارسات السورية في الواقع اللبناني.
السنّة والشيعة
س:أي مستقبل تتوقعون لحزب الله بعد انتهاء دوره المقاوم؟
ج: إن حزب الله حزب سياسي لبناني، يملك تاريخاً كبيراً على مستوى قدرته على الانتصار على إسرائيل، يملك رشداً سياسياً يستطيع من خلاله الاستمرار في التجربة، ومن الطبيعي أن أي حزب سياسي يخضع لطبيعة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وتتوقف قوته وفاعليته على مواكبة هذه المتغيرات وعلى الضغوطات التي تأتي من هنا وهناك.
س: كيف تتصورون دور الشيعة في بناء الدولة في لبنان وكيف ترون سلوكيات بعض التيارات السياسية الشيعية داخل الدولة الآن؟
ج: نحن الشيعة مواطنون لبنانيون ومتجذرون في لبنان منذ القدم، ربما أكثر من بعض الطوائف اللبنانية. ومن الطبيعي أن الواقع الشيعي مرتبط بتطورات كثيرة، وأعتقد أنه ليس للشيعة مشروع خاص في لبنان، بل هم يريدون أن يتكاملوا مع كل أفراد الشعب اللبناني في إنتاج الدولة العادلة التي تحفظ للمواطنين حقوقهم من خلال مواطنيتهم لا من خلال طائفيتهم.
إن الدعوة التي يتحرك فيها المسلمون الشيعة في لبنان هي كيف تكون المواطنة، لأن المواطنة هي الأساس في ممارسة المواطن لحقوقه، وحصوله على حقوقه. بذلك، أي ممارسة أو محاولة ممارسة تجعل للشيعة كياناً خاصاً في مقابل أن يكون لهم دولتهم، فإننا نعارضها، لأننا نريد أن نتكامل مع كل فئات الشعب اللبناني.
س: كيف يمكن إعلان انتهاء الصراعات والخلافات بين السنة والشيعة؟
ج: من الصعب جداً إنهاء الصراعات والخلافات بين السنة والشيعة أمام الخطط الدولية الاستخباراتية، والتي تنتج المشاكل بين السنة والشيعة، وتستعيد بين الفينة والأخرى التاريخ الدامي المتخلف بينهم، كما تنتج التخلف في أذهان كثير من علماء السنة والشيعة، باعتبار أن الوحدة الإسلامية ممنوعة غربياً وربما شرقياً، لأن المسلمين إذا توحدوا استطاعوا أن يكونوا قوة عالمية في مواجهة القوى العالمية.
لقد سمعنا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عن بعد لوجود حلف أطلسي، وذلك باعتبار أن هناك عدواً جديداً هو الإسلام، فعلينا في هذه الحالة أن نوظف الحلف الأطلسي في مواجهة الإسلام الذي يمثل الخطر الأكبر على المصالح الغربية في العالم الثالث.
لا توظفوا الوطن لأشخاص
س:إذا ما طلب منكم أن تقدموا نصيحةً ما إلى اللبنانيين والعرب، فماذا ستقولون؟
ج: أقول لهم بأن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، وأن يعتبروا أن العالم يتجه في المرحلة الحاضرة وفي ما بعدها إلى متغيرات كبيرة على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، لذلك عليهم ألا يستغرقوا في الجزئيات التي تأكل الكليات وفي القضايا الخاصة التي تأكل القضايا العامة.
كما أقول لهم أيضاً ألا يوظفوا الوطن والأمة لأشخاص، بل أن يوظفوا الأشخاص للأمة وللمستقبل.