ما هو الإنسان؟!

ما هو الإنسان؟!

ما هو الإنسان؟

الجواب عن هذا السّؤال ضروري؛ لأنّه يحدّد لنا الرّؤية التي على ننظر بها إلى وجودنا في هذه الحياة، ويحدِّد - تبعًا لذلك - الطريق الذي يجب علينا سلوكه فيها، والطريقة التي نعيش بها حياتنا، والحدود التي يجب أن نضعها كخطوط حمراء لا نتجاوزها.

كثيرون منّا قد يجدون أنفسهم في الحياة، فلا يتعبون أنفسهم بالتوقّف للحظة وأخذ مسافة من وجودهم، وإنّما يُلقون أنفسهم في تيّارها الجارف، وفي ماكينتها الكبيرة، ولذلك يتقولبون بقالبها، ويسيرون في اتجاهاتها، غير مُدركين أنّهم إذا فعلوا ذلك، فإنّما يحكمون أنفسهم برؤى آخرين للإنسان والحياة؛ أولئك الذين باتوا يتحكّمون بنتاج العصر، في اجتماعياته واقتصاده وسياساته، وبالتالي، يوجّهون اهتمام الإنسان نحو أمور محكومة سلفًا برؤية وفلسفة، ولا تركنُ إلى فراغ!

رؤيتان إلى الإنسان

ما هي هذه الرؤية؟

هناك رؤيتان في النظر إلى الإنسان في هذه الحياة:

الأولى: تلك التي تنظر إلى الإنسان على أنّه وجود مادّي فقط، وبالتّالي، سيكون الإنسان عبارة عن جسدٍ فقط، بكلّ ما يشتمل عليه الجسد من تفاعلات كيميائيّة تفرض على الإنسان الحركة والسكون، والفعل وردّ الفعل، وطبيعة الاستجابة للمثيرات الخارجيّة التي يحتكُّ بها.

من الطبيعي أنّ هذه النظرة تغمس الإنسان في متطلّبات الجسد وحاجاته، فيصبح المعنى المنطقي لحياته أن يستجيب للغريزة والشهوة، ويقبعُ الإنسان حينئذٍ في لذّته الفردانيّة، وتصبحُ الحياة الدُّنيا هي أقصى ما يحصل عليه.

الثانية: تلك التي تنظر إلى الإنسان على أنّه مركَّبٌ من بُعديْن: مادّي وروحي، وبالتالي، هو جسدٌ وما هو أبعدُ من ذلك؛ بل يكتسبُ البُعد الروحي أولوية على الجسد؛ لأنّ الجسد يتحوّل - في هذه النظرة - إلى الوسيلة التي تتحرّك فيها الروح وتحيا حياتها، فينشأ جرّاء ذلك تفاعلٌ عضويّ بين الروح والجسد، يؤثّر كلٌّ منهما في الآخر. وعند هذه النظرة ينشأ التجاوز، حيث يمكن للروح - بقواها من العقل والإرادة وغيرها - أن تتجاوز ظروف الجسد إلى ما هو أبعدُ من ذلك، فتتواصل مع المطلق، وتستطيع أن تقوم بعمليّة تجريد لواقعها أو منه، أو لوقائع الحياة، بما يُكسبُ الإنسان معنًى عظيمًا جدًّا سنشير إليه في السطور الآتية بإذن الله. كما أنَّ حياة الإنسان هنا تصبح أبعدَ من حدود الدُّنيا، أو - بتعبير آخر - هذه النظرة تؤسّس لتوسعة مدى الحياة، لتكون عبارة عن دُنيا وآخرة، أو عن حياة آنيّة وحياة خالدة بعد الموت.

ومن الواضح أنّ هذه النظرة لا تجعل الجسد مجرّد قشرة لا قيمة لها، بل الجسد هو جزء معنى الإنسان، وبالتالي له حيثيّته وتأثيره، ولا يعود من المنطقيّ إهماله، على طريقة بعض الطُّرق الصوفيّة التي تنظّر لسلامة الروح وارتقائها، بعيدًا عمّا يفعل الجسدُ ويسير في هذه الحياة.

الرؤية المختارة

النظرة الدينية هي الثانية، وذلك فيما قصّه الله علينا من قصّة بدء الخلق، فقال تعالى: {إنّي خالقٌ بشرًا من طينٍ* فإذا سوّيتُهُ ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. تبيّن هاتان الآيتان طبيعة الإنسان، وهي أنّه بشرٌ من طينٍ، وأنّه نفخة من روح الله، ومن اللافت أنّ الأمر الموجّه إلى الملائكة بالسُّجود لمخلوق لم يكن لطينيّته، وإنّما جاء بعد نفخ روح الله فيه، وهو الذي اكتسبَ فيه الإنسان قابليّة أن يخاطبه الله تعالى بعد ذلك بأن يسرح في الجنّة ويأكل منها ما شاء رغدًا، وأن يأمره وينهاه، وأنه يشترك مع الملائكة في امتلاكه القدرة على تحقيق الهدف الإلهي على الأرض، وأنّه يتجاوز الملائكة في قدراته، فيستطيع القيام بما لم تهيَّأ هي له، ومن خلال ذلك، يتواصل معه إبليسُ المخلوق الآخر المندرج تحت عنوان الجنّ.

أيًّا يكن تفسيرُنا لمفردات تلك القصّة، ومن دون الدّخول في الجدل حول حقيقتها الوجوديّة المحسوسة، أو كونها رموزًا لحركة القوى المتحكّمة بحياة الإنسان، فإنَّ المعاني الرمزيّة التي تشتمل عليها ممّا لا مفرّ منه، وفي نظري، أنّها تمثّل المعاني التأسيسية لطبيعة الإنسان والرؤية التي تحكم وجوده.

ملخص تلك القصّة، أنّ الله أباح لآدم وحوّاء كلّ الجنّة، ونهاهما عن شجرة واحدة منها، فوسوس إليه الشيطان الذي أصبح عدوًّا له بعد رفضه أمر الله بالسجود لآدم، وزرع في ذهن آدم وحوّاء فكرة تحليليّة عن سبب النّهي، وهو أنّ المنع سببه حرمان آدم من الخلد والملك، واستحوذت هذه الفكرة على آدم وحوّاء، حتّى نسي الشّجر الكثير الحلال، وأصبحت حياته مساويةً للأكل من هذه الشّجرة، فإمّا أن يكون أو لا يكون.. عند هذه اللحظة، أزلَّ الشيطان آدم وحوّاء، فأكلا منها، فخرجا من الجنّة.

في رمزيّة القصّة، وبالمقارنة مع الشريعة في صورتها العامّة، نجد أنَّ نسبة الحرام إلى الحلال في الشّريعة، كنسبة الشجرة إلى الجنّة، حيث نجد - على سبيل المثال - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}[1]، وفي مقابل ذلك، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}[2]، وكذلك الآيات التي نهت عن شرب الخمر؛ فلو قسنا المحرَّمات إلى ما هو حلالٌ لوجدناها كمًّا ضئيلًا. وأمّا نوعًا فكذلك؛ لأنَّ الحرام هو ما ضرّ الإنسان في نفسه وجسده. ومع ذلك، فالإنسان يستغرق في الحرام ولا ينظر إلى الحلال. كذلك كثير من الانتقادات التي يتعرّض لها المتديّنون: لماذا لا تأكل لحم الخنزير؟ لماذا لا تشرب الخمر؟ لماذا تصلّي؟ لماذا تصومُ شهر رمضان؟ لماذا تذهب إلى الحجّ؟ لماذا تغطّي المرأة المسلمة رأسها بالخمار عندما تخرج إلى الحيّز العام؟ لماذا لا تتعاملون بالرّبا؟

كلّ هذه الأسئة في الحقيقة تشير إلى التجربة ذاتها التي خاضها إبليس مع آدم وحوّاء، وردّ الفعل الإنسانية غالبًا ما تكون الاستغراق في الخيار الجزئي، والغفلة عن سعة الخيارات الأخرى..

دور المهمّة الشيطانيّة في الوجود الإنساني

لو رجعنا إلى عنوان المهمّة التي أخذها إبليس على نفسه تجاه بني آدم، فهي التزيين كما يبيّنه قول الله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[3]، والتزيين له دور تحويل النظر إلى الزينة بالنحو الذي يستثير الانفعالات النفسيّة، من السّرور والإعجاب والفرح والسّعادة، حتّى إذا استغرق الإنسان بمشاعره، انصرفَ ذهنُهُ عن كلّ ما عداه، مهما كان أفضلَ خيارًا، أو أصلحَ نتيجةً، أو مساويًا في ما يثيره من مشاعر للشيء المزيَّن.

أمّا المنفذ الذي ينفذ إبليس من خلاله، فهو نقاط ضعف الإنسان، تمامًا كما هي التجربة الأولى للبشريّة عندما كان آدم في الجنّة، فأزلّه الشيطان من خلال غريزتي حبّ البقاء وحبّ التملّك {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى}[4]، وهاتان الغريزتان متأصّلتان في كيان الإنسان، حتّى لتختصران كلّ نشاطه الحياتي الدنيوي. واستطاع إبليس من خلال بساطة التجربة الإنسانيّة الأولى التي جعلته يتجاوز الأمر الإلهيّ، الذي هو في قناعة الإنسان منطوٍ على المصلحة له، ودفعته إلى ارتكاب النّهي الذي هو في قناعته مشتملٌ على المفسدة له.

ومن هنا، نفهم أنّ مرحلة ما بعد هبوط آدم إلى الأرض، هي مرحلة تعزيز قدرات بني آدم في مواجهة الشّيطان وتزيينه؛ قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[5]، حيث كلّ الرّسل والرّسالات هي من أجل إمداد الإنسان بالهداية اللازمة للمواجهة. ولذلك، كانت العبادات لأجل ذلك، وكان الأمر بالإنفاق إلى جانب الصَّلاة؛ لأنّ الإنفاق يوازنُ حبَّ التملّك في الإنسان، والصَّلاة تربط الإنسان بالله تعالى في مدى الزّمن، وكان الصَّومُ لأجل ذلك، حيث يقوم بدور المقوّي للإرادة أمام الحلال الممنوع في الصّوم، فيكون على الامتناع عن المحرّمات أقدر؛ وهكذا.. حتّى حديث القرآن عن العفو وعن الابتعاد عن الحسد وإرادة الشرّ، والاتجاه نحو العفو والمغفرة، وعن الانخراط في مجتمع التواصي بالحقّ والصبر والمرحمة وما إلى ذلك ممّا يزخر به القرآن الكريم؛ كلُّه لأجل أن تقوى النفس من داخلها، وتنزع عنها كلّ ما يتوافق مع وسائل الشيطان في النوعيّة، من مشاعر الشرّ وانفعالاته، والتأثّر بسطحيّة الأشياء وبهرجتها، حتّى تلك الأمور المرتبطة بصحّة الجسد، من النظافة وعدم الإسراف في الأكل والشّرب والجنس[6] وغير ذلك... كلُّ ذلك يصبُّ في هذا الهدف الكبير، وهو المناعة ضدّ الشّيطان.

نستطيع أن نشبّه الأمر بالدّور الذي تلعبُهُ برامج الحماية الكمبيوتريّة تجاه الفيروسات التي يمكن أن تصيب الأجهزة الرقمية، فكلّما كانت البرامج أقوى، كانت قدرة الفيروسات أضعف على اختراق تلك الأجهزة.. وإذا تمّ تحديثُها بشكل دائم، تمامًا كما يجدّد الإنسان إيمانه بشكل دائم، فإنّ الشيطان بكلّ فيروساته لن يستطيع أن يفعل شيئًا مع قوّة عقل الإنسان وإرادته وحضور الله في قلبه ووجدانه.

قيود الشّريعة ومهمّة المواجهة

استنادًا إلى ما تقدّم، لنا أن نفهم أنَّ القيود التي تضعها الشّريعة على الإنسان، سواء كانت من سنخ الواجبات أو المحرَّمات، فإنّما تستهدف تمكين الإنسان من السيطرة على نوازعه وشهواته وغرائزه، هي قيودٌ على البُعد المادّي والانفعاليّ، أي على الجسد، لأجل أن تبقى السيادة للبُعد الروحي في وجوده وكيانه.

إنّ حرمان الجسد المدروس هو نوعٌ من التّدريب الدّائم على ترشيد حركته تجاه الرّوح، فهو يمدُّها بالطّاقة النظيفة، لتعبّر عن الوجود الأرقى للإنسان، في الوقت الذي لا يُترك الجسد لينغمس في شهواته إلى مستوى الإسراف، فإنَّ ذلك يُثقل حركة الجسد، وتنعكس بالتالي على حركة الروح؛ لأنّ الإنسان ليس عبارة عن غرفتين؛ واحدة للروح وأخرى للجسد، يفتح إحداهما ويغلق الأخرى، بل الروح والجسد متفاعلان يؤثّر أحدهما في الآخر.

ولذلك أيضًا، نجد بوضوح وقوف الإسلام ضدّ حرمان الجسد بما يقتل فيه الطّاقة؛ فإنّ ذلك إفقار للروح وتعبيراتها؛ فإنّ الرّوح المجرّدة لا معنى لها في المنظومة الإسلامية من دون تعبيراتها التي ترتبط بالسلوك والعمل والإنتاج الحركي في ميادين الحياة.

إنّ الهدف بالتالي هو تحقيق التوازن بين الروح والجسد، وهذا هو الذي يبقى الروح متّقدة وحيّة وفعّالة ومحرّكة للإنسان، والأهمّ يبقيها مسيطرة على الجسد بكلّ متعلّقاته وتعبيراته.

ومن جهة أخرى، فإنّ هذا التوازن هو الذي يحقّق للإنسان حقيقة وجوده، فالإنسان هو هو كما يريد، وليس كما يريد الآخرون، تحكمُهُ رؤيته وأهدافه التي يضعها بشكل يستند إلى قناعته بما هو الحقّ والعدل وسائر منظومة القيم، والإنسان لا تفرض عليه الظّروف المكانية والزمانية والمجتمعية شيئًا خلاف ما يتوافق مع معتقده[7].

القيود في البُعد المجتمعي

أخيرًا، نريد الإشارة إلى نقطة، وهي أنّ القيود إذا كانت تفعيلًا لمنطق الحرّية والاستقلاليّة[8]، فإنّ ذلك لا يقتصر على المجال الذي يمارس فيه الفردُ حياته، وإنَّما يتعدّى إلى ما له صلة بتفعيل الحريّة والاستقلاليّة في السياسة والاقتصاد والأمن، ممّا يرتبط بالدّول والشّعوب، حيث كلّما كانت الدول والشّعوب أكثر قدرةً على التحكّم بحاجاتها، وتفعّل جانب العقلانيّة والقيم المستندة إلى رؤيتها الخاصّة في تحديد خياراتها، كانت أقدر على مواجهة حالات الهيمنة والاستعمار التي تسعى إليها الدّول الأخرى ضمن خطوط الصّراع السياسي والاقتصادي والأمني وما إلى ذلك.

بل نستطيع هنا أن نرصد تمظهر مفهوم الشّيطان ووسائله التي ركّزها القرآن الكريم، في حركة الدّول، حيث تستغلّ الدّول المستكبرة نقاط ضعف الدّول الأخرى، وتحاول الضغط عليها في حاجاتها، بل تخلق لها حاجات انطلاقًا من التسويق - الذي هو معنًى آخر من معاني التزيين -، وتدفعها إلى الاستغراق في انفعالات الخوف والرهبة والرغبة، وتعمل على تخريب منظومة القيم لديها، وقلب الحقائق، وتشويه المفاهيم، وإيجاد عوامل الفساد... كلُّ ذلك لأجل أن تنكشف الجبهة الدّاخلية للدولة المرصودة، أو للمجتمع المرصود، فيسهل بالتالي اختراقه، وتحويله إلى منفعة الدولة المستكبرة بعيدًا من مصالح الشّعوب.

بذلك، يمكن لنا أن نقول إنّ الإيمان لا يقتصر دوره على تفعيل منظومة طقوسٍ شكليّة، بل هو رؤية عميقة لحركة الإنسان، استنادًا إلى حقيقة الاعتقاد بوجود قوّة عليا مطلقة، تحقّق له سكينته النفسية في حركة الوجود، وتمدّه بالطاقة الروحيّة باستمرار، وتؤمّن له توازنه في كيانه، والاستقرار في التعبير عن وجوده في مجالات الحياة.


[1] سورة البقرة: 168.

[2]  سورة المائدة: 3.

[3] سورة الحجر: 39.

[4]  سورة طه: 120.

[5]  سورة البقرة: 38- 39.

[6] ورد بعنوان القدرة على التعفّف: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، أو في التدريب على ذلك في محرّمات الصوم: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ...}، حيث منع الصّائم من الجنس نهارًا.

[7] هذه إحدى الأمور البالغة الأهمّية في ما يعني علم الاجتماع، حيث يلعبُ الإيمان، من حيث ربط الإنسان دائمًا بالمطلق، أي من هو فوق الزمان والمكان والظروف، يلعبُ دورًا تجاوزيًّا، أعني تجاوز القيود التي يفرضها الزمان والمكان والمجتمع، وهو في حركة دائمة لاختبار القيد الاجتماعي، ما يفتح للإنسان إمكانيّة التغيير على ضوء القيم، كما إمكانية التغيير للقيم ذاتها المدرَكة من قبلِهِ، حيث يُشرع له أن يتساءَل على ضوء تطوّر خبراته وتجربته عن مدى صحّة نسبة هذه القيم لله، وبذلك يرتقي السؤال بالبحث إلى بُعد أبستمولوجي لا ينغلق على المعرفة.

[8]  يمكن للقارئ الكريم مراجعة كتاب "الحريّة الفكريّة" ضمن سلسلة "تأمّلات قرآنية"، للوقوف على تنظير المؤلّف لفكرة الارتباط بين الحرية الحقيقية والقيود المفروضة على الجسد.

ما هو الإنسان؟

الجواب عن هذا السّؤال ضروري؛ لأنّه يحدّد لنا الرّؤية التي على ننظر بها إلى وجودنا في هذه الحياة، ويحدِّد - تبعًا لذلك - الطريق الذي يجب علينا سلوكه فيها، والطريقة التي نعيش بها حياتنا، والحدود التي يجب أن نضعها كخطوط حمراء لا نتجاوزها.

كثيرون منّا قد يجدون أنفسهم في الحياة، فلا يتعبون أنفسهم بالتوقّف للحظة وأخذ مسافة من وجودهم، وإنّما يُلقون أنفسهم في تيّارها الجارف، وفي ماكينتها الكبيرة، ولذلك يتقولبون بقالبها، ويسيرون في اتجاهاتها، غير مُدركين أنّهم إذا فعلوا ذلك، فإنّما يحكمون أنفسهم برؤى آخرين للإنسان والحياة؛ أولئك الذين باتوا يتحكّمون بنتاج العصر، في اجتماعياته واقتصاده وسياساته، وبالتالي، يوجّهون اهتمام الإنسان نحو أمور محكومة سلفًا برؤية وفلسفة، ولا تركنُ إلى فراغ!

رؤيتان إلى الإنسان

ما هي هذه الرؤية؟

هناك رؤيتان في النظر إلى الإنسان في هذه الحياة:

الأولى: تلك التي تنظر إلى الإنسان على أنّه وجود مادّي فقط، وبالتّالي، سيكون الإنسان عبارة عن جسدٍ فقط، بكلّ ما يشتمل عليه الجسد من تفاعلات كيميائيّة تفرض على الإنسان الحركة والسكون، والفعل وردّ الفعل، وطبيعة الاستجابة للمثيرات الخارجيّة التي يحتكُّ بها.

من الطبيعي أنّ هذه النظرة تغمس الإنسان في متطلّبات الجسد وحاجاته، فيصبح المعنى المنطقي لحياته أن يستجيب للغريزة والشهوة، ويقبعُ الإنسان حينئذٍ في لذّته الفردانيّة، وتصبحُ الحياة الدُّنيا هي أقصى ما يحصل عليه.

الثانية: تلك التي تنظر إلى الإنسان على أنّه مركَّبٌ من بُعديْن: مادّي وروحي، وبالتالي، هو جسدٌ وما هو أبعدُ من ذلك؛ بل يكتسبُ البُعد الروحي أولوية على الجسد؛ لأنّ الجسد يتحوّل - في هذه النظرة - إلى الوسيلة التي تتحرّك فيها الروح وتحيا حياتها، فينشأ جرّاء ذلك تفاعلٌ عضويّ بين الروح والجسد، يؤثّر كلٌّ منهما في الآخر. وعند هذه النظرة ينشأ التجاوز، حيث يمكن للروح - بقواها من العقل والإرادة وغيرها - أن تتجاوز ظروف الجسد إلى ما هو أبعدُ من ذلك، فتتواصل مع المطلق، وتستطيع أن تقوم بعمليّة تجريد لواقعها أو منه، أو لوقائع الحياة، بما يُكسبُ الإنسان معنًى عظيمًا جدًّا سنشير إليه في السطور الآتية بإذن الله. كما أنَّ حياة الإنسان هنا تصبح أبعدَ من حدود الدُّنيا، أو - بتعبير آخر - هذه النظرة تؤسّس لتوسعة مدى الحياة، لتكون عبارة عن دُنيا وآخرة، أو عن حياة آنيّة وحياة خالدة بعد الموت.

ومن الواضح أنّ هذه النظرة لا تجعل الجسد مجرّد قشرة لا قيمة لها، بل الجسد هو جزء معنى الإنسان، وبالتالي له حيثيّته وتأثيره، ولا يعود من المنطقيّ إهماله، على طريقة بعض الطُّرق الصوفيّة التي تنظّر لسلامة الروح وارتقائها، بعيدًا عمّا يفعل الجسدُ ويسير في هذه الحياة.

الرؤية المختارة

النظرة الدينية هي الثانية، وذلك فيما قصّه الله علينا من قصّة بدء الخلق، فقال تعالى: {إنّي خالقٌ بشرًا من طينٍ* فإذا سوّيتُهُ ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. تبيّن هاتان الآيتان طبيعة الإنسان، وهي أنّه بشرٌ من طينٍ، وأنّه نفخة من روح الله، ومن اللافت أنّ الأمر الموجّه إلى الملائكة بالسُّجود لمخلوق لم يكن لطينيّته، وإنّما جاء بعد نفخ روح الله فيه، وهو الذي اكتسبَ فيه الإنسان قابليّة أن يخاطبه الله تعالى بعد ذلك بأن يسرح في الجنّة ويأكل منها ما شاء رغدًا، وأن يأمره وينهاه، وأنه يشترك مع الملائكة في امتلاكه القدرة على تحقيق الهدف الإلهي على الأرض، وأنّه يتجاوز الملائكة في قدراته، فيستطيع القيام بما لم تهيَّأ هي له، ومن خلال ذلك، يتواصل معه إبليسُ المخلوق الآخر المندرج تحت عنوان الجنّ.

أيًّا يكن تفسيرُنا لمفردات تلك القصّة، ومن دون الدّخول في الجدل حول حقيقتها الوجوديّة المحسوسة، أو كونها رموزًا لحركة القوى المتحكّمة بحياة الإنسان، فإنَّ المعاني الرمزيّة التي تشتمل عليها ممّا لا مفرّ منه، وفي نظري، أنّها تمثّل المعاني التأسيسية لطبيعة الإنسان والرؤية التي تحكم وجوده.

ملخص تلك القصّة، أنّ الله أباح لآدم وحوّاء كلّ الجنّة، ونهاهما عن شجرة واحدة منها، فوسوس إليه الشيطان الذي أصبح عدوًّا له بعد رفضه أمر الله بالسجود لآدم، وزرع في ذهن آدم وحوّاء فكرة تحليليّة عن سبب النّهي، وهو أنّ المنع سببه حرمان آدم من الخلد والملك، واستحوذت هذه الفكرة على آدم وحوّاء، حتّى نسي الشّجر الكثير الحلال، وأصبحت حياته مساويةً للأكل من هذه الشّجرة، فإمّا أن يكون أو لا يكون.. عند هذه اللحظة، أزلَّ الشيطان آدم وحوّاء، فأكلا منها، فخرجا من الجنّة.

في رمزيّة القصّة، وبالمقارنة مع الشريعة في صورتها العامّة، نجد أنَّ نسبة الحرام إلى الحلال في الشّريعة، كنسبة الشجرة إلى الجنّة، حيث نجد - على سبيل المثال - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}[1]، وفي مقابل ذلك، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}[2]، وكذلك الآيات التي نهت عن شرب الخمر؛ فلو قسنا المحرَّمات إلى ما هو حلالٌ لوجدناها كمًّا ضئيلًا. وأمّا نوعًا فكذلك؛ لأنَّ الحرام هو ما ضرّ الإنسان في نفسه وجسده. ومع ذلك، فالإنسان يستغرق في الحرام ولا ينظر إلى الحلال. كذلك كثير من الانتقادات التي يتعرّض لها المتديّنون: لماذا لا تأكل لحم الخنزير؟ لماذا لا تشرب الخمر؟ لماذا تصلّي؟ لماذا تصومُ شهر رمضان؟ لماذا تذهب إلى الحجّ؟ لماذا تغطّي المرأة المسلمة رأسها بالخمار عندما تخرج إلى الحيّز العام؟ لماذا لا تتعاملون بالرّبا؟

كلّ هذه الأسئة في الحقيقة تشير إلى التجربة ذاتها التي خاضها إبليس مع آدم وحوّاء، وردّ الفعل الإنسانية غالبًا ما تكون الاستغراق في الخيار الجزئي، والغفلة عن سعة الخيارات الأخرى..

دور المهمّة الشيطانيّة في الوجود الإنساني

لو رجعنا إلى عنوان المهمّة التي أخذها إبليس على نفسه تجاه بني آدم، فهي التزيين كما يبيّنه قول الله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[3]، والتزيين له دور تحويل النظر إلى الزينة بالنحو الذي يستثير الانفعالات النفسيّة، من السّرور والإعجاب والفرح والسّعادة، حتّى إذا استغرق الإنسان بمشاعره، انصرفَ ذهنُهُ عن كلّ ما عداه، مهما كان أفضلَ خيارًا، أو أصلحَ نتيجةً، أو مساويًا في ما يثيره من مشاعر للشيء المزيَّن.

أمّا المنفذ الذي ينفذ إبليس من خلاله، فهو نقاط ضعف الإنسان، تمامًا كما هي التجربة الأولى للبشريّة عندما كان آدم في الجنّة، فأزلّه الشيطان من خلال غريزتي حبّ البقاء وحبّ التملّك {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى}[4]، وهاتان الغريزتان متأصّلتان في كيان الإنسان، حتّى لتختصران كلّ نشاطه الحياتي الدنيوي. واستطاع إبليس من خلال بساطة التجربة الإنسانيّة الأولى التي جعلته يتجاوز الأمر الإلهيّ، الذي هو في قناعة الإنسان منطوٍ على المصلحة له، ودفعته إلى ارتكاب النّهي الذي هو في قناعته مشتملٌ على المفسدة له.

ومن هنا، نفهم أنّ مرحلة ما بعد هبوط آدم إلى الأرض، هي مرحلة تعزيز قدرات بني آدم في مواجهة الشّيطان وتزيينه؛ قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[5]، حيث كلّ الرّسل والرّسالات هي من أجل إمداد الإنسان بالهداية اللازمة للمواجهة. ولذلك، كانت العبادات لأجل ذلك، وكان الأمر بالإنفاق إلى جانب الصَّلاة؛ لأنّ الإنفاق يوازنُ حبَّ التملّك في الإنسان، والصَّلاة تربط الإنسان بالله تعالى في مدى الزّمن، وكان الصَّومُ لأجل ذلك، حيث يقوم بدور المقوّي للإرادة أمام الحلال الممنوع في الصّوم، فيكون على الامتناع عن المحرّمات أقدر؛ وهكذا.. حتّى حديث القرآن عن العفو وعن الابتعاد عن الحسد وإرادة الشرّ، والاتجاه نحو العفو والمغفرة، وعن الانخراط في مجتمع التواصي بالحقّ والصبر والمرحمة وما إلى ذلك ممّا يزخر به القرآن الكريم؛ كلُّه لأجل أن تقوى النفس من داخلها، وتنزع عنها كلّ ما يتوافق مع وسائل الشيطان في النوعيّة، من مشاعر الشرّ وانفعالاته، والتأثّر بسطحيّة الأشياء وبهرجتها، حتّى تلك الأمور المرتبطة بصحّة الجسد، من النظافة وعدم الإسراف في الأكل والشّرب والجنس[6] وغير ذلك... كلُّ ذلك يصبُّ في هذا الهدف الكبير، وهو المناعة ضدّ الشّيطان.

نستطيع أن نشبّه الأمر بالدّور الذي تلعبُهُ برامج الحماية الكمبيوتريّة تجاه الفيروسات التي يمكن أن تصيب الأجهزة الرقمية، فكلّما كانت البرامج أقوى، كانت قدرة الفيروسات أضعف على اختراق تلك الأجهزة.. وإذا تمّ تحديثُها بشكل دائم، تمامًا كما يجدّد الإنسان إيمانه بشكل دائم، فإنّ الشيطان بكلّ فيروساته لن يستطيع أن يفعل شيئًا مع قوّة عقل الإنسان وإرادته وحضور الله في قلبه ووجدانه.

قيود الشّريعة ومهمّة المواجهة

استنادًا إلى ما تقدّم، لنا أن نفهم أنَّ القيود التي تضعها الشّريعة على الإنسان، سواء كانت من سنخ الواجبات أو المحرَّمات، فإنّما تستهدف تمكين الإنسان من السيطرة على نوازعه وشهواته وغرائزه، هي قيودٌ على البُعد المادّي والانفعاليّ، أي على الجسد، لأجل أن تبقى السيادة للبُعد الروحي في وجوده وكيانه.

إنّ حرمان الجسد المدروس هو نوعٌ من التّدريب الدّائم على ترشيد حركته تجاه الرّوح، فهو يمدُّها بالطّاقة النظيفة، لتعبّر عن الوجود الأرقى للإنسان، في الوقت الذي لا يُترك الجسد لينغمس في شهواته إلى مستوى الإسراف، فإنَّ ذلك يُثقل حركة الجسد، وتنعكس بالتالي على حركة الروح؛ لأنّ الإنسان ليس عبارة عن غرفتين؛ واحدة للروح وأخرى للجسد، يفتح إحداهما ويغلق الأخرى، بل الروح والجسد متفاعلان يؤثّر أحدهما في الآخر.

ولذلك أيضًا، نجد بوضوح وقوف الإسلام ضدّ حرمان الجسد بما يقتل فيه الطّاقة؛ فإنّ ذلك إفقار للروح وتعبيراتها؛ فإنّ الرّوح المجرّدة لا معنى لها في المنظومة الإسلامية من دون تعبيراتها التي ترتبط بالسلوك والعمل والإنتاج الحركي في ميادين الحياة.

إنّ الهدف بالتالي هو تحقيق التوازن بين الروح والجسد، وهذا هو الذي يبقى الروح متّقدة وحيّة وفعّالة ومحرّكة للإنسان، والأهمّ يبقيها مسيطرة على الجسد بكلّ متعلّقاته وتعبيراته.

ومن جهة أخرى، فإنّ هذا التوازن هو الذي يحقّق للإنسان حقيقة وجوده، فالإنسان هو هو كما يريد، وليس كما يريد الآخرون، تحكمُهُ رؤيته وأهدافه التي يضعها بشكل يستند إلى قناعته بما هو الحقّ والعدل وسائر منظومة القيم، والإنسان لا تفرض عليه الظّروف المكانية والزمانية والمجتمعية شيئًا خلاف ما يتوافق مع معتقده[7].

القيود في البُعد المجتمعي

أخيرًا، نريد الإشارة إلى نقطة، وهي أنّ القيود إذا كانت تفعيلًا لمنطق الحرّية والاستقلاليّة[8]، فإنّ ذلك لا يقتصر على المجال الذي يمارس فيه الفردُ حياته، وإنَّما يتعدّى إلى ما له صلة بتفعيل الحريّة والاستقلاليّة في السياسة والاقتصاد والأمن، ممّا يرتبط بالدّول والشّعوب، حيث كلّما كانت الدول والشّعوب أكثر قدرةً على التحكّم بحاجاتها، وتفعّل جانب العقلانيّة والقيم المستندة إلى رؤيتها الخاصّة في تحديد خياراتها، كانت أقدر على مواجهة حالات الهيمنة والاستعمار التي تسعى إليها الدّول الأخرى ضمن خطوط الصّراع السياسي والاقتصادي والأمني وما إلى ذلك.

بل نستطيع هنا أن نرصد تمظهر مفهوم الشّيطان ووسائله التي ركّزها القرآن الكريم، في حركة الدّول، حيث تستغلّ الدّول المستكبرة نقاط ضعف الدّول الأخرى، وتحاول الضغط عليها في حاجاتها، بل تخلق لها حاجات انطلاقًا من التسويق - الذي هو معنًى آخر من معاني التزيين -، وتدفعها إلى الاستغراق في انفعالات الخوف والرهبة والرغبة، وتعمل على تخريب منظومة القيم لديها، وقلب الحقائق، وتشويه المفاهيم، وإيجاد عوامل الفساد... كلُّ ذلك لأجل أن تنكشف الجبهة الدّاخلية للدولة المرصودة، أو للمجتمع المرصود، فيسهل بالتالي اختراقه، وتحويله إلى منفعة الدولة المستكبرة بعيدًا من مصالح الشّعوب.

بذلك، يمكن لنا أن نقول إنّ الإيمان لا يقتصر دوره على تفعيل منظومة طقوسٍ شكليّة، بل هو رؤية عميقة لحركة الإنسان، استنادًا إلى حقيقة الاعتقاد بوجود قوّة عليا مطلقة، تحقّق له سكينته النفسية في حركة الوجود، وتمدّه بالطاقة الروحيّة باستمرار، وتؤمّن له توازنه في كيانه، والاستقرار في التعبير عن وجوده في مجالات الحياة.


[1] سورة البقرة: 168.

[2]  سورة المائدة: 3.

[3] سورة الحجر: 39.

[4]  سورة طه: 120.

[5]  سورة البقرة: 38- 39.

[6] ورد بعنوان القدرة على التعفّف: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، أو في التدريب على ذلك في محرّمات الصوم: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ...}، حيث منع الصّائم من الجنس نهارًا.

[7] هذه إحدى الأمور البالغة الأهمّية في ما يعني علم الاجتماع، حيث يلعبُ الإيمان، من حيث ربط الإنسان دائمًا بالمطلق، أي من هو فوق الزمان والمكان والظروف، يلعبُ دورًا تجاوزيًّا، أعني تجاوز القيود التي يفرضها الزمان والمكان والمجتمع، وهو في حركة دائمة لاختبار القيد الاجتماعي، ما يفتح للإنسان إمكانيّة التغيير على ضوء القيم، كما إمكانية التغيير للقيم ذاتها المدرَكة من قبلِهِ، حيث يُشرع له أن يتساءَل على ضوء تطوّر خبراته وتجربته عن مدى صحّة نسبة هذه القيم لله، وبذلك يرتقي السؤال بالبحث إلى بُعد أبستمولوجي لا ينغلق على المعرفة.

[8]  يمكن للقارئ الكريم مراجعة كتاب "الحريّة الفكريّة" ضمن سلسلة "تأمّلات قرآنية"، للوقوف على تنظير المؤلّف لفكرة الارتباط بين الحرية الحقيقية والقيود المفروضة على الجسد.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية