إذا كنّا نعتزّ ونفخر بأنّنا نملك تراثاً فقهيّاً ومعرفيّاً بالغ الثراء، تكوّن خلال حقب زمنيَّة طويلة، حصيلة اجتهادات مفكّرين وفقهاء عظام قدّموا زاداً فقهيّاً وعلميّاً ومعرفيّاً بلغ أوجه في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية وتألقها، ونؤمن بأهميّة الحفاظ على هذا التراث الفقهي واستمرار ديمومته وحياته، كأمر لازم لإغناء المصادر الفكرية التي تعوزها الأمّة في مسيرة معالجة مشاكلها وقضاياها الراهنة والمستقبلية، فإنه من الضّرورة بمكان وضع منهجيّة جديدة للتعامل مع الواقع المعاش ومع التراث الفقهي، وفي الوقت ذاته، مراجعة نقديّة لهذا التراث.
إنَّ قيمة الاجتهاد في الفقه الإسلاميّ تنبع من كونه عمليَّة فكريَّة يتواصل معها الحاضر والماضي، وتتقاطع عندها قيمومة الدّين وعبقريّة البشر، في حوارٍ مستمرّ لا يكاد ينتهي. وفي وقت تتزايد المشكلات وتتعاظم التحديات، تبرز الحاجة إلى الاجتهاد وتعميق دوره وإحياء حركته، في سبيل استنهاض القيم الصالحة كلها، من قيم عقيدية وأخلاقية وتشريعية، في محاولة لبناء الذات، بعيداً عن القيمومة الخارجية. ولكن من دون (مراجعة نقدية) لهذه العملية، لا يمكن لنا الوصول إلى الغاية المطلوبة. ويمكن عرض هذه المراجعة النقدية في النقاط التالية:
1- سيطرة الدّراسات التقليديّة في علم الأصول وضرورة تطويرها
يعتبر علم أصول الفقه الإسلاميّ الوسيلة الأساسيّة لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادر التشريع (القرآن والسنّة). وقد كان ظهور علم الأصول كعلم مستقل، على يد الإمام الشافعي (150 - 204هـ)، ويعتبر كتاب الرسالة أوَّل مصنَّف علميّ في علم الأصول، وُوظِّف بشكل جيّد من قبل الفقهاء في حينه، إلا أن التراجع في العملية الاجتهادية في القرون التالية، جعل علم الأصول أيضاً خارج دائرة التجديد والتطوير، أو أنّه وظِّف في أهداف ومجالات غير فقهيّة.
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدّين: "إنَّ علم الأصول، باعتباره أساساً من مكوّنات الاجتهاد، يجب أن يستجيب لرؤية فقهيّة أوسع من الرؤية السائدة الآن، وهذا يقتضي أن يفحص الفقهاء والأصوليّون عن أوجه النقص في علم الأصول في وصفه الحاضر. فمثلاً، طوّر الأصوليون الإمامية علم الأصول في القرنين الأخيرين تطويراً مهمّاً في اتِّجاه العمق، خرج به في كثير من الأبحاث عن مجاله الأصليّ، وهو الشّريعة، ليجعل منه بحثاً فلسفيّاً كلاميّاً تجريديّاً، من دون أن يساهم في توسيع مجال الاستنباط الفقهي".
لذلك، أدعو إلى تطوير مجالات الاجتهاد وتوسيعها، وتطوير علم الأصول ليخدم التوجّه الفقهيّ، أي أن يتّسع ليستوعب مشكلات المجتمع والأمّة. هناك ضرورة لتجديد مناهج دراسة العلوم الأصوليّة، وما تمَّ تحديثه هو الأسلوب الجديد، وليس التَّغيير في المنهج، إنّه منهج قديم أُعيدت صياغته، والكلام في منهج التّفكير. الكلام في التجديد ليس هو تجديد مصادر التشريع، أي القرآن والسنّة، واكتشاف مصدر جديد، لأنّه خروج عن الشريعة. المشكلة تكمن في التعامل مع علم الأصول، فعلم الأصول ليس كتاباً ولا سنّة، إنما هو وسيلة لتنظيم التفكير والاستدلال، وهو وسيلة لفهم المنطق الداخليّ والعلاقات الداخلية للنصّ التشريعيّ في الكتاب والسنّة.
إنَّ الخلل في علم الأصول هو تأثّره في وقت مبكر بعلم الكلام والفلسفة، فأصبح مقصداً بذاته، بينما هو آلة ومنهج ووسيلة، فدخلت الأبحاث الفلسفيّة في علم الأصول، وأصبحت غاية بحدّ ذاتها، وهذه ناحية خطيرة شلّت الفقه الإسلامي، لأننا نتعامل مع نصّ تشريعي في الكتاب والسنّة، وفقاً لمنهج لا يتناسب مع الغاية ولا مع طبيعة الكتاب والسنّة.
إنّ علم الأصول مثلاً، تطوّر عند الشيعة الإماميّة تطوّراً كبيراً كمّاً وكيفاً، وهذا صحيح في الاهتمامات والأبحاث، ولكن هذا التطوّر بقي شكليّاً من حيث النتائج. إن أيّ تبديل في المنهج يؤدّي إلى تبديل في النتائج، ولو نسبيّاً، إما في نوعية الإنتاج، أو في كمّها وفي مساحة النتائج، وهذا يقتضي أن يظهر أثر هذا التطوّر في مجال الاجتهاد والاستنباط، لكنّنا لا نجد لهذا التطوّر تأثيراً كبيراً عندما نراجع كتب الفقه المعاصرة والماضية، وليست هناك فروق أساسية، المشكلة هي عدم تطوّر المنهج، لذلك النتائج واحدة.
إنَّ في أصول الفقه المتداولة طغياناً لطرق الاستنباط الخاصّة بالعبادات على حساب المعاملات، ومع غياب واضح لدائرة الاجتماعيّات والتنظيمات، أي إدخال ما يسمّى بعلم الأصول بالتعبّد الشّرعيّ، واعتباره معياراً عامّاً في جميع الحقول. إنهم يعتبرون النصوص الواردة في السنَّة غير قابلة للتحريك، وغير قابلة للفحص والمقارنة والتّنظير، لأنها تعبديّة، إنّ التعبّد في العبادات أمر لا ريب فيه ومسلَّم به، وأما في مجالات إدارة المجتمع والفقه العام، فلا بدّ من أن تنزل الأمور وفقاً للأدلّة العليا والقواعد العامّة للشّريعة، وعلى مقاصد الشّريعة والمناطات. إن تعميم مقولة التعبد الشرعي وعدم الفحص عن مناخ النص وزمانه ومكانه، وعن طبيعة الجماعة السائلة، أو الشخص السائل، قد يكون غير صحيح. إذاً، نحن بحاجة إلى تأصيل علم أصول جديدة، وتحديث الأصول الموجودة. وكما سعى العلماء السلف في تطوير علم الأصول لكي يواكب الظروف التشريعية في حينها، فإنّ وظيفة الفقهاء المعاصرين متابعة هذه المسيرة بروح من الأصالة والتّجديد، وليس المتابعة والتقليد فقط، حتى يمكن التعامل مع تلك المنهجيّة والاستفادة منها والبناء عليها، لتتابع ما تجدّد من ظروف ومتغيّرات وإمكانات وحاجات وتحدّيات.
إننا نواجه فراغات في المنهج الأصولي، والمطلوب ليس تجديد المنهج، وإنما إعادة فحص المنهج لسدّ النواقص الموجودة فيه، وتنقيته من التأثيرات الفلسفية والكلامية والمذهبية.
2- كيفيّة التعامل مع القرآن والسنّة، ثبات النصّ وحركيّة المضمون
إنَّ الإشكال الآخر عند بعض الأصوليّين والفقهاء، هو نظرتهم إلى النص التشريعيّ، باعتباره نصّاً مطلقاً من جميع الجهات. وإذا أخذنا برأي من يعتقد أنّ النصّ القرآني نصّ مطلق وليس نسبيّاً، إلا أنّ المسلّم به هو أنّ أبعاده الزمنيّة وإطلاقه الزمني، مرتبط بتغيرات الزمان والمكان ووضع المجتمع الإسلامي، أما النص الوارد في السنّة الصحيحة، فهو مطلق أحياناً، ونسبي أحياناً أخرى.
كذلك، فإنَّ النصّ القرآنيّ ثابت على كلّ الأزمان، ولكنّ نصّ السنّة يمكن أن يكون ثابتاً، وهو ما يعبّر عنه الأصوليّون بالحكم الشّرعيّ، بينما هناك نصوص في السنّة لا تتضمن أحكاماً شرعيّة، بل أحكاماً إداريّة وتنظيميّة أو إرشاديّة، ولكن جرى العرف عند الفقهاء على اعتبار هذا النّوع من الحديث أيضاً من مجموع الأحكام شرعيّة أيضاً، وهذا الإشكال جاء من ذلك المنهج الأصولي الذي اعتبر أن كلّ ما جاء في السنّة ورد لبيان الحكم الشرعي. يقول السيّد محمد حسين فضل الله: "إنّ النصّ وإن كان ثابتاً، وهو ثابت، إلا أنّ مضمونه متحرك، لأنه يتحدّث عن فكرة وتشريع ومنهج، ومن الطبيعيّ أن الفكرة والتشريع والمنهج لا يمكن أن يحكم عليهم بالتجمّد، بل إنّه يتحرك بأفق واسع. ولذلك يملك الفقيه الذي يعالج النص الشرعي الثابت حرية الحركة، وملاحقة الواقع الذي يرافق هذا التشريع من حيث حركته في الموضوعات المتغيرة، فقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" في الإسلام، وأيضاً "ما جعل عليكم في الدّين من حرج"؛ تختزنان حركية ومرونة تشريعية اجتماعية كبيرة، لأنّ الضّرر لا يمكن له أن يتجمّد في عنوان دون آخر، وكذلك الحرج، فإنّه يختلف بحسب اختلاف الأزمان والأشخاص والأوضاع والحيثيّات".
لذلك، لا يمكن لثبات النصّ أن يلغي حركيّة المضمون. وبعبارة أخرى: إن كان النصّ لما يحتويه من ألفاظ ثابتة، فإنه يختزن مضموناً متحرّكاً لا يقف عند حدٍّ من حدود الزّمان والمكان، إن كان في حيثيّاته ما يوحي بالشّمول والعموم طبعاً. وهذه الحركيّة تفرض على الفقيه واقعاً مريراً ومعاناة كبيرة، لملاحقة الواقع واكتشاف قدرات النصّ المتحركة التي لا يمكن اكتشافها بسهولة، إلا بعد استنطاق النصّ وقراءته وفقاً لآليات معقّدة يدرسها الفقيه لغرض معالجة النصّ. إنّ المشكلة التي تواجه الفقيه هي مشكلة تعارض النصوص التي تعالج قضية واحدة، وكذلك مشكلة توثيق هذه النصوص، فضلاً عن عملية الاستيحاء والاستنطاق، ممّا يجعل الفقيه في حالة استنفار دائم.
وعن إمكانيَّة الوصول إلى القواعد الفقهية عبر استنطاق القرآن الكريم، يعتقد السيّد فضل الله أنّ عمليّة الاجتهاد محكومة بالرّجوع إلى مصادر، بعضها متّفق عليها وبعضها مختلف فيها. والسؤال المطروح: هل يمكن تأمين وتأسيس أكبر عدد من القواعد الفقهية والأصوليّة؟ يمكننا من خلال الرّجوع إلى القرآن أن نحصل على جملة قواعد فقهية عامة، قد تغطي مساحات واسعة في حياة المسلمين، وكذلك هناك في السنّة بعض التجارب المماثلة للطريقة القرآنيّة التي تحدثت عن الخطوط العامة والعريضة لحياة الإنسان، ولكنّها دون مستوى القرآن. إنّ استنطاق القرآن الكريم كفيل بتزويدنا بعدد كبير من القواعد الفقهيّة، ومثال ذلك، مسألة الضّرر التي تحدّث عنها القرآن الكريم بصدد حديثه عن علاقة الرجل بالمرأة في آية: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. إننا نواجه قاعدةً ترسم حدوداً للتعامل في عملية نقل المال وتملّكه والتصرف فيه، وهي قاعدة تمتلك من المرونة ما يجعلها متحركة وفاعلة ومنفتحة على المستقبل. كذلك الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، إننا نواجه قاعدةً عامّة مفادها: أن كلّ ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام. وكذلك قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان}، يرسم قاعدة عامّة تحدّد علاقة الرجل بالمرأة، بحيث لا يملك الرجل أن يجمّد حياة المرأة. كذلك آية: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، يمكن أن نستخلص منها قاعدة نفي الضّرر بشكل أساس. ولكنّ المشكلة أنّ أسلوب الاجتهاد الفقهي السّائد لدى الكثير من الفقهاء، يتعاطى بأسلوب ضيّق جدّاً، إذ إنهم ينظرون إلى كلّ نصّ في مورد خاصّ، بحيث تبدو لكلّ نصّ شخصيّة خاصّة تختلف عن شخصيّة النصّ الآخر.
3- قدسيّة النصّ القرآنيّ فقط أم قدسيّة التراث الفقهيّ أيضاً!
يغلب الاعتقاد أنّ النصّ القرآني والسنّة الصحيحة نصوص مقدّسة، ولها مرجعيتها التشريعية وثباتها المصدريّ، إلا أنّ الكم الهائل من تراثنا الفقهي والتاريخي وعلم التفسير والكلام، التي لها تأثير كبير في الاجتهاد في الفقه، ليست نصوصاً مقدّسة، وإنما هي اجتهادات بشرية لفقهاء الإسلام في فترات مختلفة جاءت ضمن ظروفها الزمانية والمكانية، وهي ليست مقدّسة حتى تكون أرفع من التطوير والتجديد، ومن حقّ العلماء والمجتهدين أن يخضعوها للدراسة والمراجعة والتجديد، كما حدث ذلك من قبل. إن هناك صعوباتٍ تواجه تلك المراجعة، وثقلاً في مسؤولية مواجهة هذا الكم الهائل من التراث في العقائد والتصورات والاجتهادات الفقهية، ولكنها أصبحت ضرورية وملحة، لكي نعيد للإسلام علوّه وسموّه وصفاءه.
إن إضفاء القدسية على أقوال علماء السلف، وإلحاق أقوالهم واجتهاداتهم بالوحي وبالسنّة، هو قصور منهجيّ، ويخالف اعتقادنا أن لا قداسة إلا للوحي.
ويعتبر البعض أنّ النقد الموجّه إلى الفقه أو علم الأصول، يقلّل من قيمة الفقه ومركزه القانوني في حياة المسلمين، ولكن من المؤكد أن الفقيه لا يملك الحقيقة المطلقة، حتى لا يمكن نقده، وليس الخروج على الفقه هو خروج على أصول الدين أو كلام الرسول(ص)، ذلك أن الفقيه يستهدي القواعد والمناهج التي توثّق النصوص من جهة، أو تفسّرها له من جهة أخرى، وهي فتوى ورأي شخصي، ولكنّها رأي يطرح في دائرة الملتزمين بالأحكام الشرعيّة، ولذلك يمكن انتسابها إلى دائرة الشّريعة، ولكن يبقى من حقّ الفقهاء الآخرين مناقشتها على ضوء القواعد والمناهج الأصوليّة.
إنَّ المدخل للمراجعة النقديّة هو التّمييز بين القيم والأصول الإسلاميّة الثابتة، كالقرآن والقيم، والأصول الإسلاميّة المنصوص عليها، أو المستوحاة من القرآن والسنّة الصّحيحة، وبين الفكر والتراث العلمي الإسلامي للمسلمين، من فقه وتفسير وعلم أصول وأخلاق وتاريخ، وضرورة التفريق بين قدسية النصوص الإسلامية، وضرورة اعتبارها أصولاً ذات قابلية للتفسير والانطباق مع الواقع المعاصر، وعدم قدسية اجتهاد الفقهاء والعلماء والفلاسفة وتراثهم، وعدم اعتبارها أصولاً ثابتة وإمكانية تجاوزها ونقدها والتجديد فيها، كما فعل فقهاء وعلماء السلف. من هنا، لا بدَّ من طرح فكرة المراجعة النقدية والجذرية لعلوم كعلم أصول الفقه، كما فعل فقهاؤنا السابقون، والخروج بالفقه الإسلامي من دائرة الأحكام الفردية إلى الدائرة الاجتماعية، وتحويل الاجتهاد من عمل فردي يقوم به فقيه واحد، إلى عمل جماعيّ متخصّص ومؤسّسي تقوم به مجموعة من الفقهاء، حتى يمكن لنا البحث عن إجابات مناسبة للأسئلة المعاصرة.
إنّ الاجتهاد الإسلامي تشريع ضمن مصلحة الأمّة، وهو جهد بشريّ نسبيّ، وليس حقيقة حاسمة كالحقيقة الدينية المعصومة. إنَّ الاجتهاد الفقهيّ خاضع لمؤثّرات بيئية وثقافية معينة، ولذلك، فإن حركة الاجتهاد لا تختلف عن حركة التقنين والتشريع الوضعي لاكتشاف مصالح الشعوب.
*إنّ الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.